الملك وجلالة قدره قصدًا للشهوات وإيثار اللذات، والدخول في معاصي الله تعالى وأمنًا لمكره، فسلبهم الله تعالى العز ونقل عنهم النعمة.
قال عبيد الله بن مروان، ومروان هذا هو المعروف بمروان الحمّار، وهو آخر ملوك بني أمية قتل في أرض مصر في كورة بوصير: لما زال ملكنا وهربت إلى أرض النوبة فيمن تبغي من أصحابي، فسمع ملك النوبة بخبري فقعد على الأرض ولم يقعد على فراش افترشته، فقلت له: ألا تقعد على ثيابنا؟ قال: لا. قلت: ولم؟ قال: لأني ملك وحق على كل ملك أن يتواضع لله سبحانه إذ رفعه، ثم قال لي: لم تشربون الخمر وهي محرمة عليكم، ولم تطئون الزرع بدوابكم والفساد محرم عليكم، ولم تستعملون الذهب والفضة وتلبسون الديباج والحرير وهو محرم عليكم؟ فقلت: زال عنا الملك فقل أنصارنا وانتصرنا بقوم من الأعاجم دخلوا ديننا، ولنا عبيد وأتباع فعلوا ذلك على كره منا، فأطرق مليًا يقلب كفيه وينكث في الأرض، ثم قال: ليس كما ذكرت بل أنتم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم، وظلمتم في ما ملكتم فسلبكم الله تعالى العز بذنوبكم، ولله فيكم نعمة لم تدرك غايتها، وأخاف أن يحل بكم العذاب وأنتم ببلدي فيصيبني معكم، وإنما الضيافة ثلاثة أيام، فتزودوا ما احتجتم إليه وارتحلوا عن بلدي.
وسئل بزرجمهر: ما بال ملك بني ساسان صار إلى ما صار إليه، بعدما كان فيه من قوة السلطان وشدة الأركان؟ فقال: ذلك لأنهم قلدوا كبار الأعمال صغار الرجال. وعن هذا قالت الحكماء: موت ألف من العلية أقل ضررًا من ارتفاع واحد من السفلة. وفي الأمثال: زوال الدول باصطناع السفل. وقال الشافعي ﵀: أظلم الناس لنفسه اللئيم، إذا ارتفع جفا أقاربه وأنكر معارفه، واستخف بالأشراف وتكبر على ذوي الفضل. وسئل بعض الملوك بعد زوال ملكه: ما الذي سلبك ملكك؟ قال: بإعطائنا من بطر وضعف ورفع عمل اليوم إلى الغد.
وسئل بعض الملوك بعد أن سلبوا المملكة: ما الذي سلب عزكم وهدم ملككم؟ فقال: شغلتنا لذاتنا عن التفرغ لمهماتنا ووثقنا بكفاتنا، فآثروا مرافقهم علينا، وظلم عمالنا رعيتنا فانفسدت نياتهم لنا وتمنوا الراحة منا، وحمل على أهل خراجنا فقل دخلنا فقل دخلنا وبطل إعطاؤنا عبيدنا، فزالت الطاعة منهم لنا، وقصدنا عدونا فقل ناصرنا، وكان أعظم ما زال به ملكنا استتار الأخبار عنا. وقالت الحكماء: أسرع الخصال في هدم السلطان وأعظمها في إفساده وتفريق الجمع عنه إظهار المحاباة لقوم دون قوم، والميل إلى قبيلة دون قبيلة، فمتى أعلن بحب قبيلة فقد برئ من قبائل. وقديمًا قيل: المحاباة مفسدة. وقال مهبوز الموبذان: من زوال السلطان تقريب من ينبغي أن يباعد، ومباعدة من ينبغي أن يقرب وحينئذ حان أوان الغدر.
وقيل لملك بعد زوال ملكه: ما الذي أذهب ملككم؟ قال: ثقتي بدولتي واستبدادي بمعرفتي، وإغفالي استشارتي وإعجابي بشدتي وإضاعتي الحيلة في وقت حاجتي والتأني عند عجلتي. ولما أحيط بمروان الجعدي وهو آخر ملوك بني أمية. قال: والهفاه على دولة ما نصرت وكف ما ظفرت ونعمة ما شكرت! فقال له خادمه بسيل وكان من أشراف أولاد الروم: من أغفل الصغير حتى يكبر والقليل حتى يكثر، والخفي حتى يظهر أصابه مثل هذا. وسئل بعض العلماء: ما الذي ذهب بملك بني مروان؟ قال: تحاسد الأكفاء وانقطاع الأخبار. وذلك أن يزيد بن عمر كان يحب أن يضع من نصر بن سيار وكان لا يمده بالرجال، ولا يرفع إلى السلطان ما يورد عليه من أخيار خراسان، فلما رأى ذلك نصر
1 / 55