واضح أو جور فاضح، هذا يوجب له الرحمة وهذا يوجب له اللعنة.
فصل:
وأما القسم الثاني من العدل وهو السياسة الاصطلاحية، وإن كان أصلها على الجور فيقوم بها أمر الدنيا، وكأنها تشاكل مراتب الإنصاف على نحو ما كانت عليه ملوك الطوائف في أيام الفرس، وكانوا كفارًا بالله تعالى يعبدون النيران ويتبعون هواجس الشيطان، فتواضعوا بينهم سننًا وأسسوا لهم أحكامًا، وأقاموا لهم مراتب في النصفة بين الرعايا واستجباء الخراجات، وتوظيف المكوس على التجار، كل ذلك بعقولهم على وجوه ما أنزل الله بها من سلطان ولا نصب عليها من برهان، بيد أنه لما جاءت الشريعة من عند الله تعالى على لسان نبيه صاحب المعجزة محمد ﷺ، فمنها ما أقرته في نصابه ومنها نسخته وأبطلت حكمه، فعادت الحكمة البالغة أمر الله تعالى والحكم بما أنزل الله وبطل ما سواه، وكان ملكهم محفوظًا برعايتهم للقوانين المألوفة بينهم، فانقطع بذلك حبل الهمل فكانوا يقيمون بها واجب الحقوق، ويتعاطون بها ما لهم وعليهم.
وعن هذا كان يقال: إن السلطان الكافر الحافظ لشرائط السياسة الاصطلاحية، أبقى وأقوى من السلطان المؤمن العدل في نفسه المضيع للسياسة النبوية العدلية، والجور المرتب أبقى من العدل المهمل، إذ لا شيء أصلح للسلطان من ترتيب الأمور ولا شيء أفسد له من إهمالها. واعلم أن درهمًا يؤخذ من الرعية على وجه الإهمال والخرق، وإن كان عدلًا أفسد لقلوبها من عشرة تؤخذ منها بسياسة على زمام معروف ورسم مألوف، وإن كان جورًا، فلا يقوم السلطان لأهل الإيمان ولا لأهل الكفر إلا بإقامة العدل النبوي، أو ما يشبهه من الترتيب الاصطلاحي. وقال ابن المقفع: الملوك ثلاثة: ملك دين وملك حزم وملك هوى، فأما ملك الدين فإنه إذا أقام لأهل المملكة دينهم كانوا راضين وكان الساخط فيهم بمنزلة الراضي، وأما ملك الحزم فيقوم به الأمر ولا يسلم من الطعن والسخط ولن يضر طعن الذليل مع حزم القوي، وأما ملك الهوى فلعب ساعة ودمار دهر.
ولقد بلغنا أن ملكًا من ملوك الهند نزل به صمم، فأصبح مسترجعًا مهتمًا بأمور المظلومين وأنه لا يسمع استغاثتهم، فأمر مناديه أن لا يلبس أحد في مملكته ثوبًا أحمر إلا مظلوم، وقال: لئن منعت سمعي لم أمنع بصري، فكان كل من ظلم لبس ثوبًا أحمر ووقف تحت قصره، فيكشف عن ظلامته. قال شيخنا: وأخبرني أبو العباس الحجازي، وكان ممن دخل الصين بسيرة عجيبة غريبة لملوكها في سياستهم، وذلك أنللبيت الذي يكون فيه الملك ناقوسًا موصولًا بسلسلة وطرف سلسلة في خارج الطريق، وعليها أمناء للسلطان وحفظة، فيأتي المظلوم فيحرك السلسلة فيسمع الملك صوت الناقوس، فيأمر بإدخال المظلوم، فكل من حرك تلك السلسلة تمسكه تلك الحفظة حتى يدخل على السلطان.
الباب الثاني عشر: في التنصيص على الخصال التي زعم الملوك أنها هدمت دولتهم وأزالت سلطانهم
أيها الملك احرص كل الحرص أن تكون خبيرًا بأمور عمالك، فإن المسيء يفرق من خبرتك به قبل أن تصيبه عقوبتك، والمحسن يستبشر بعلمك به قبل أن يأتيه ثوابك. وقال أبو جعفر المنصور: ما زال أمر بني أمية مستقيمًا حتى أفضى أمرهم إلى أبنائهم المترفين، فكانت همتهم من عظيم شأن
1 / 54