ويشكروها، وبلغوا ذكر خواص الأذية التي دخلت على خواص الخالق.
ومثاله أيضًا مثال الرياح التي يرسلها الله تعالى نشرًا بين يدي رحمته، فيسوق بها السحاب ويجعلها إلقاحًا للثمرات وأرواحًا للعباد، يتنسمون منها ويتقلبون فيها، فتجري بها مياههم وتقد بها نيرانهم وتسير بها في البحر أفلاكهم، وقد تضر بكثير من الناس في برهم وبحرهم وتخلص إلى أنفسهم فيشكر بها الشاكرون، وقد يتأذى بها كثير من الناس فلا يخرجها ذلك عن منزلتها من أقوام عماده وتمام نعمته.
ومثاله أيضًا مثال الشتاء والصيف اللذين جعل الله تعالى حرهما وبردهما صلاحًا للحرث والنسل، ونتاجًا للأنعام والثمر يجمعها البرد بإذن الله تعالى ويخرجها الحر بإذن الله تعالى، فتصبح على اعتدال إلى غير ذلك من منافعهما، وقد يكون الأذى في حرهما وبردهما وشمسهما وزمهريرهما، وهما مع ذلك لا ينسبان إلا إلى الصلاح والخير وقد غمر صلاحهما أذيتهما.
ومثاله أيضًا مثل الليل الذي جعله الله تعالى سكنًا ولباسًا ونومًا وراحة وسباتًا، وقد يستوحش له أخو الفقر ويسارع فيه أهل الدعارة والفساد واللصوص، وتعدو فيه السباع وتنشر فيه المهام والحية وذوات السموم القاتلة، ثم لا ينسى العباد نعمة الله عليهم به ولا يزري صغير ضره بكبير نفعه. ومثاله أيضًا مثال النهار الذي جعله الله ضياءً ونورًا ونشورًا واكتسابًا، وقد تكون فيه الحروب والغارات والتعب والنصب والشخوص والخصومات، فيستريح الخلق منه إلى الليل ثم يتبين للعباد نعمة الله عليهم وهكذا كل جسيم من أمور الدنيا يكون ضرره خاصًا ونفعه عامًا فهو نعمة عامة، وكل شيء يكن نفعه خاصًا فهو بلاء عام، ولو كانت نعم الدنيا صفوًا من غير كدر وميسورها من غير عسير، لكانت هي الجنة التي لا تعب فيها ولا نصب. قال الشاعر:
لا ترج شيئًا خالصًا نفعه
فالغيث لا يخلو من العيب
الباب التاسع: في بيان معرفة السلطان من الرعية
اعلموا أرشدكم الله أن منزلة الشيطان من الرعية بمنزلة الروح من الجسد، فإذا صفت الروح من الكدر سرت إلى الجوارح سليمة، فقرت في جميع أجزاء الجسد فأمن الجسد من التغيير، فاستقامت الجوارح والحواس وانتظم أمر الجسد. وإن تكدرت الروح وفسد مزاجها فيا ويح الجسد! فيسري إلى الحواس والجوارح فتصير الحواس والجوارح كدرة منحرفة عن الاعتدال، فأخذ كل عضو وحاسة بقسطه من الفساد، فمرضت الجوارح وتعطلت فتعطل نظام الجسد وجر إلى الفساد والهلاك.
ومثال السلطان أيضًا مثل النار، ومثال الخلق مثل الخشب، فما كان منها معتدلًا لم يحتج إلى النار، وما كان منها متأودًا احتاج إلى النار ليقام أوده ويعدل عوجه، فإن أفرط النار احترق الخشب قبل أن يستقيم أوده، وإن قصر النار لم يكن الخشب قابلًا للاعتدال فيبقى متأودًا، وإذا كانت النار معتدلة اعتدل الخشب، كذلك السلطان في أطواره إن أفرط أهلك الخلق، وإن فرط لم يستقيموا وإن اعتدل اعتدلوا.
ومثاله أيضًا مثال عين خرارة في أرض خوارة، فإن حلا مشربه وعذب طعمه وسلمت من الكدر والفساد أوصافه، تخلج في الأرض فابتلعته صافيًا صرفًا ثم شربته عروق الأشجار فاغتذت به كذلك، فغلظ سوقها وفرعت أغصانها وامتدت أفنانها، ثم أخرجت أوراقها وأبرزت أزهارها ثم قذفت
1 / 49