﷾، ومن علاماته على توحيده، لأنه كما لا يمكن استقامة أمر العالم واعتداله بغير مدبر ينفرد بتدبيره، كذلك لا يتوهم وجوده وتدبيره وما فيه من الحكمة ودقائق الصنعة بغير خالق خلقه وعالم أتقنه وحكيم دبره، وكما لا يستقيم سلطانان في بلد واحد لا يستقيم إلهان للعالم، والعالم بأسره في سلطان الله تعالى كالبلد الواحد في يد سلطان الأرض.
ولهذا قال علي بن أبي طالب: أمران جليلان لا يصلح أحدهما إلا بالتفرد، ولا يصلح الآخر إلا بالمشاركة وهما الملك والرأي، فكما لا يستقيم الملك بالشركة لا يستقيم الرأي بالانفراد به. ومثال السلطان القاهر لرعيته ورعية بلا سلطان مثال بيت فيه سراج منير، وحوله قيام من الناس يعالجون صنائعهم، فبينما هم كذلك إذ طفئ السراج فقبضوا أيديهم في الوقت وتعطل جميع ما كانوا فيه، فتحرك الحيوان الشرير وتخشخش الهوام الخسيس، فذبت العقرب من مكمنها وفسقت الفأرة من حجرها وخرجت الحية من معدنها، وجاء اللص بحيلته وهاج البرغوث مع حقارته، فتعطلت المنافع واستطالت فيهم المضار. كذلك السلطان إذا كان قاهرًا لرعيته وكانت المنفعة به عامة، وكانت الدماء به في أهبها محقونة والحرم في خدورهن مصونة، والأسواق عامرة والأموال محروسة، والحيوان الفاضل ظاهر والمرافق حاصلة، والحيوان الشرير من أهل الفسوق والدعارة خامل، فإذا اختل أمر السلطان دخل الفساد على الجميع، ولو جعل ظلم السلطان حولًا في كفة كان هرج الناس ساعة أرجح وأعظم من ظلم السلطان حولًا، وكيف لا وفي زوال السلطان أو ضعف شوكته سوق أهل الشر ومكسب الأجناد، ونفاق أهل العيارة والسوقة واللصوص والمنابهة؟ قال الفضيل: جور ستين سنة خير من هرج ساعة، فلا يتمنى زوال السلطان إلا جاهل مغرور أو فاسق يتمنى كل محذور، فحقيق على كل رعية أن ترغب إلى الله تعالى في إصلاح السلطان، وأن تبذل له نصحها وتخصه بصالح دعائها، فإن في صلاحه صلاح العباد والبلاد، وفي فساده فساد العباد والبلاد. وكان العلماء يقولون: إن استقامت لكم أمور السلطان فأكثر واحمد الله تعالى واشكره، وإن جاءكم منه ما تكرهون وجهوه إلى ما تستوجبونه منه بذنوبكم وتستحقونه بآثامكم، فأقيموا عذر السلطان بانتشار الأمور عليه، وكثرة ما يكابده من ضبط جوانب المملكة واستئلاف الأعداء ورضاء الأولياء، وقلة الناصح وكثرة المدلس والفاضح.
وفي كتاب التاج: هموم الناس صغار وهموم الملوك كبار، وألباب الملوك مشغولة بكل شيء وألباب السوقة مشغولة بما ليس بشيء، والجاهل منهم يعذر نفسه عندما هو عليه من الوشل، ولا يعذر سلطانه مع شدة ما هو عليه من المؤنة، ومن هناك يعز الله سلطانه ويرشده وينصره. وعن هذا قالت الحكماء من العجم: لا توطنن إلا ببلد فيه سلطان قاهر قاض عادل، وسوق قائمة وطبيب عالم ونهر جار.
الباب الثامن: في منافع السلطان ومضاره
قالت حكماء العرب والعجم: مثل مضار السلطان في جنب منافعه مثل الغيث الذي هو سقيًا لله تعالى، وبركات السماء وحياة الأرض ومن عليها، وقد يتأذى به المسافر ويتداعى له البنيان وتكون فيه الصواعق، وتدر سيوله فيهلك الناس والدواب والذخائر، ويموج له البحر فتشتد بليته على أهله، ولا يمنع ذلك الخلق إذا نظروا إلى آثار رحمة الله تعالى في الأرض التي أحيى والنبات الذي أخرج، والرزق الذي بسط والرحمة التي نشر أن يعظموا نعمة ربهم
1 / 48