ما بقيت! ومن المشهور في أرض المغرب أن السلطان بلغه أن امرأة لها حديقة فيها القصب الحلو، وأن قصبة منها تعصر قدحًا، فعزم على أخذها منها، ثم أتاها وسألها عن ذلك فقالت: نعم! ثم إنها عصرت قصبة فلم تبلغ نصف قدح، فقال لها: أين الذي كان يقال؟ فقالت: هو الذي بلغك إلا أن يكون السلطان قد عزم على أخذها مني فارتفعت بركتها. فتاب السلطان وأخلص نيته لله أن لا يأخذها أبدًا، ثم أمرها فعصرت ملء القدح.
وحدثني بعض الشيوخ ممن كان يروي الأخبار بمصر قال: كان بصعيد مصر نخلة تحمل عشرة أرداب تمرًا لم يكن في الزمان نخلة تحمل نصف ذلك، فغصبها السلطان فلم تحمل في ذلك العام شيئًا ولا ثمرة واحدة. قال شيخنا ﵀: قال لي شيخ من أشياخ الصعيد: أعرف هذه النخلة في الناحية الغربية يجنى منها عشرة أرداب ستين ويبة، وكان صاحبها يبيعها في سني الغلاء كل ويبة بدينار. وقال الشيخ ﵁: وشهدت أنا بالإسكندرية والصيد في الخليج مطلق للرعية والسمك فيه يغلي كثرة يصيده الأطفال بالخرق، ثم حجره الوالي ومنع الناس من صيده فذهب السمك حتى لا يكاد يرى فيه إلا الواحدة إلى يومنا هذا. وهكذا بتعدي سرائر الملوك وعزائمهم ومكنون ضمائرهم في الرعية، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
وروى أصحاب التواريخ في كتبهم قالوا: كان الناس إذا أصبحوا في زمان الحجاج وتلاقوا يتساءلون: من قتل البارحة ومن صلب ومن جلد ومن قطع؟ وأمثال ذلك. وكان الوليد صاحب ضياع واتخاذ مصانع، فكان الناس يتساءلون في زمانه عن البنيان والمصانع والضياع وشق الأنهار وغرس الأشجار. ولما ولي سليمان بن عبد الملك، وكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يتحدثون ي الأطعمة الرفيعة ويتوسعون في الأنكحة والسراري، ويغمرون مجالسهم بذكر ذلك. ولما ولي عمر بن عبد العزيز كان الناس يتساءلون: كم تحفظ من القرآن وكم وردك في كل ليلة، وكم يحفظ فلان ومتى يختم وكم يصوم من الشهر؟ وأمثال ذلك.
الباب السادس: في أن السلطان مع رعيته مغبون غير غابن وخاسر غير رابح
اعلموا أرشدكم الله أن السلطان خطره عظيم وبليته عامة، وقد يطرقه من الآفات ويحتوشه من الأمور المهلكات، ما يجب على كل ذي لب أن يستعيذ بالله مما حمله ويشكره على ما عصمه، لا يهدأ فكره ولا تسكن خواطره، ولا يصفو قلبه ولا يستقر لبه، الخلق في شغل عنه وهو مشغول بهم، والرجل يخاف عدوًا واحدًا وهو يخاف ألف عدو، والرجل يضيق بتدبير أهل بيته وإيالة ضيعته وتدبير معيشته، وهو مدفوع لسياسة جميع أهل مملكته، وكلما رتق فتقًا من حواشي مملكته انفتق آخر، وكلما رم منها شعثًا رث آخر، وكلما قمع عدوًا أرصد له أعداء إلى سائر ما يعانيه من أخلاق الناس، ويقاسيه من خصوماتهم، ونصب الولاة والقضاة وبعث الجيوش وسد الثغور، واستجباء الأموال ودفع المظالم؛ ثم من العجب العجاب أن له نفسًا واحدة وإنما يرزأ من الدنيا قوته مثل ما يرزأ آحاد الرعايا، ثم يسأل غداة غد عن جميعهم ولا يسألون عنه.
فيا، لله ويا للعجب من رجل يرضى أن ينال رغيفًا ويحاسب منها على آلاف آلاف، ويأكل في معاء واحد ويحاسب على آلاف آلاف معاء، ويستمتع بنفس واحدة ويحاسب على آلاف آلاف من الأنفس! وعلى هذا النمط في جميع أحواله يحمل أثقالهم ويريح أسرارهم، ويجاهد عدوهم ويسد ثغورهم، ويدفع مناويهم ومناصيهم، ويعصي ربه فيهم ويخالف
1 / 46