وحفظ حريمك وحراسة مالك عن البغاة أعم نفعًا لك إن عقلت. وليس لله في الأرض سلطان إلا وقد أخذ عليه شرائط العدل، ومواثيق الإنصاف وشرائع الإحسان، وكما أنه ليس فوق رتبة السلطان العادل رتبة كما أن خيره يعم، كذلك ليس دون رتبة السلطان الشرير الجائر رتبة لشرير لأن شره يعم. وكما أن بالسلطان العادل تصلح البلاد والعباد، وتنال الزلفى إلى الله تعالى والفوز بجنة المأوى.
كذلك بالسلطان الجائر تفسد البلاد والعباد وتقترف المعاصي والآثام وتورث دار البوار، وذلك أن السلطان إذا عدل انتشر العدل في رعيته وأقاموا الوزن بالقسط، وتعاطوا الحق فيما بينهم، ولزموا قوانين العدل فمات الباطل وذهبت رسوم الجور، وانتعشت قوانين الحق فأرسلت السماء غياثها، وأخرجت الأرض بركاتها، ونمت تجارتهم وزكت زروعهم وتناسلت أنعامهم، ودرت أرزاقهم ورخصت أسعارهم وامتلأت أوعيتهم، فواسى البخيل وأفضل الكريم، وقضيت الحقوق وأعيرت المواعين، وتهادوا فضول الأطعمة والتحف فهان الحطام لكثرته وذل بعد عزته، وتماسكت على الناس مروآتهم وانحفظت عليهم أديانهم. وبهذا تبين لك أن الوالي مأجور على ما يتعاطاه من إقامة العدل، ومأجور على ما يتعاطاه الناس بسببه.
وإذا جار السلطان انتشر الجور في البلاد وعم العباد، فرقت أديانهم واضمحلت مروآتهم وفشت فيهم المعاصي وذهبت أماناتهم، وتضعضعت النفوس وقنطت القلوب، فمنعوا الحقوق وتعاطوا الباطل، وبخسوا المكيال والميزان وجوزوا البهرج، فرفعت منهم البركة وأمسكت السماء غياثها، ولم تخرج الأرض زرعها أو نباتها، وقل في أيديهم الحطام وقنطوا وأمسكوا الفضل الموجود، وتناجزوا على المفقود، فمنعوا الزكوات المفروضة وبخلوا بالمواساة المسنونة، وقبضوا أيديهم عن المكارم وتنازعوا المقدار اللطيف وتجاحدوا القدر الخسيس، ففشت فيهم الأيمان الكاذبة والحيل والبيع والخداع في المعاملة، والمكر والحيلة في القضاء والاقتضاء، ولا يمنعهم من السرقة إلا العار ومن الزنا إلا الحياء، فيظل أحدهم عاريًا عن محاسن دينه متجردًا عن جلباب مروءته، وأكثر همته قوت دنياه وأعظم مسراته أكله من هذا الحطام، ومن عاش كذلك فبطن الأرض خير له من ظهرها.
قال وهب بن منبه ﵁: إذا هم الوالي بالجور أو عمل به أدخل الله النقص في أهل مملكته في الأسواق والزرع والضرع وكل شيء، وإذا هم بالخير والعدل أو عمل به أدخل الله البركة في أهل مملكته كذلك. وقال عمر بن عبد العزيز: تهلك العامة بعمل الخاصة، ولا تهلك الخاصة بعمل العامة، والخاصة هم الولاة. وفي هذا المعنى قال الله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ (الأنفال: ٢٥) .
قال الوليد بن هشام: إن الرعية لتفسد بفساد الوالي وتصلح بصلاحه. وقال سفيان الثوري لأبي جعفر المنصور: إني لأعلم رجلًا إن صلح صلحت الأمة وإن فسد فسدت الأمة، قال: ومن هو؟ قال: أنت! وقال ابن عباس: إن ملكًا من الملوك خرج يسير في مملكته مستخفيًا بمكانه، فنزل على رجل له بقرة فراحت البقرة فحلبت له قدر حلاب ثلاثين بقرة، فتعجب الملك لذلك وحدثته نفسه بأخذها، فلما راحت عليه من الغد حلبت على النصف مما حلبت بالأمس، فقال له الملك: ما بال حلابها نقص، أرعت في غير مرعاها بالأمس؟ قال: لا، ولكني أظن أن ملكنا هم بأخذها فنقص لبنها، فإن الملك إذا ظلم أو هم بالظلم ذهبت البركة. فعاهد الملك الله ﷾ في نفسه أن لا يأخذها، فراحت من الغد فحلبت حلاب ثلاثين بقرة، فتاب الملك وعاهد ربه: لأعدلن
1 / 45