زم الأمور فأعطته مقاودها
وسخر الناس بالتشديد واللين
حتى إذا ظن أن لا شيء غالبه
ومكنت قدماه أي تمكين
راحت عليه المنايا روحة تركت
ذا الملك والعز تحت الماء والطين
وأنشدني أبو محمد التميمي ببغداد:
لمن أبني لمن أسم المطايا
لمن استأنف الشيء الجديد؟
إذا ما صار إخواني رفاتًا
وصرت لفقدهم فردًا وحيدًا
أعانق معشرًا لهم شكول
وأشكالي قد اعتنقوا اللحود!
وممن زهد في الدنيا وأبصر عيوبها من أبناء الملوك أبو عقال علوان بن الحسن، من بني الأغلب وهم ملوك المغرب، وكان ذا نعمة وملك وله فتوة ظاهرة، فتاب إلى ربه ورجع عن ذلك رجوعًا فاق نظراءه، فرفض المال والأهل وهجر النساء والوطن، وبلغ من العبادة مبلغًا أربى فيه على المجتهدين، وعرف بإجابة الدعوة، وكان عالمًا أديبًا قد صحب عدة من أصحاب سحنون وسمع منهم، ثم انقطع إلى بعض السواحل فصحب رجلًا يكنى أبا هارون الأندلسي منقطعًا متبتلًا إلى الله. فلم ير منه كبير اجتهاد في العمل.
فبينا أبو عقال يتهجد في بعض الليالي وأبو هارون نائم إذ غالبه النوم فقال لنفسه: يا نفس هذا عابد جليل القدر ينام الليل كله وأنا أسهر الليل كله، فلو أرحت نفسي! فوضع جنبه فرأى في منامه شخصًا فتلا عليه: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً﴾ (الجاثية: ٢١) إلى آخر الآية. فاستيقظ فزعًا وعلم أنه المراد فأيقظ أبا هارون وقال له: سألتك بالله هل أتيت كبيرة قط؟ قال: لا يا ابن أخي ولا صغيرة عن تعمد والحمد لله. فقال أبو عقال: لهذا تنام ولا يصلح لمثلي إلا الكد والاجتهاد. ثم رحل إلى مكة ولزم بيت الله الحرام وحج مرارًا وأربى على عباد المشرق.
وكان يعمل بالقربة على ظهره لقوته ومات بمكة وهو ساجد في صلاة الفريضة بالمسجد الحرام سنة ست وتسعين ومائتين. وقال له رجل كان يصحبه يومًا: لي إليك حاجة. فقال بعد الجهد به: حاجتك مقضية. قال: إن كانت لك شهوة أخبرني بها. قال: نعم أشتهي أن آكل رأسًا. فاشتريت له رأسين ولففتهما في رقاق وجئته بهما، ثم سألته بعد ذلك بأيام: هل طاب لك الرأسان؟ قال: لا، ما هو إلا أن فتحتهما فإذا هما محشوان دودًا ليس فيهما لحم البتة إلا الدود! فأتيت الرواس فأخبرته فأطرق متعجبًا ثم قال: ما كنت أظن أن في زماننا أحدًا يحتمي من الحرام هذه الحماية، تلك الرؤوس كانت من غنم انتهبها بعض العمال. ثم أعطاني رأسين من غير تلك الغنم فأتيت بهما أبا عقال فأكلهما، وأخبرته بما قاله الرواس فبكى ثم قال: يا رب ما كان يستحق عبدك أبو عقال مثل هذه الحماية، ولكنه يا رب فضلك وكرمك فلك علي يا رب أن لا آكل طعامًا بشهوة أشتهيها حتى ألقاك إن شاء الله! وكانت له أخت متعبدة، فلما مات لحقت قبره بمكة وكتبت عليه هذه الأبيات:
ليت شعري ما الذي عاينته
بعد دوم الصوم مع نفي الوسن؟
مع عزوب النفس عن أوطارها
والتخلي عن حبيب وسكن
يا شقيقًا ليس في وجدي به
علة تمنعني من أن أجن
وكما تبلى وجوه في الثرى
فكذا يبلى عليهن الحزن
1 / 22