سراج الملوك
الناشر
من أوائل المطبوعات العربية
مكان النشر
مصر
يا نبي الله تعالى هل رأيت أقل عقلًا من هذا؟ نصب هذا الفخ ليصيدني فيه وأنا أنظر إليه. فقال: فذهب عنه ثم رجع فإذا الطائر في الفخ. فقال له: عجبًا لك! أولست القائل آنفًا كذا وكذا؟ فقال: يا نبي الله إذا جاء الحين لم تنفع أذن ولا عين. وقال رجل من الخوارج لعلي بن أبي طالب ﵁: أرأيت من جنبني سبيل الهدى وسلك بي سبيل الردى أحسن إلي أم أساء؟ فقال له علي ﵁: إذا كنت استوجبت عليه حقًا فقد أساء وإذا كنت لم تستوجب عليه حقًا فهو يفعل ما يشاء. وقال مأمون بن مهران لغيلان القدري: سل فأقوى ما تكونون إذا سألتم. فقال غيلان: أشاء الله أن يعصى؟ فقال ميمون: أيعصى كارهًا؟ فانقطع غيلان. وروي أن رجلًا قال لبزرجمهر: تعال نتناظر في القدر. فقال: وما نصنع بالمناظرة في القدر؟ رأيت ظاهرًا استدللت به على الباطن، ورأيت أحمق مرزوقًا وعاقلًا محرومًا، فعلمت أن التدبير ليس للعباد. وقال بعضهم:
يخيب الفتى من حيث يرزق صاحبه
ويعطى المنا من حيث يحرم طالبه
ولما قدم موسى بن نصير بعد فتح الأندلس على سليمان بن عبد الملك، فقال له يزيد بن المهلب: أنت أدهى الناس وأعلمهم فكيف طرحت نفسك في يد سليمان؟ فقال موسى: إن الهدهد يهندس الماء في الأرض الفيفاء، ويبصر القريب منه من البعيد على بعده في التخوم، ثم ينصب له الصبي الفخ بالدودة والحية فلا يبصره حتى يقع فيه. وفي الإسرائيليات: أن الهدهد كان رائد سليمان بن داود ﵉ إلى الماء فيتقدم عسكره ثم ينظر إلى الأرض فيقول: الماء هنا على ألف قامة أو أقل أو أكثر. فتبادره الجن تحفره فلا يلحق سليمان ﵇ إلا وقد استعد الماء. واعلموا أن الهارب مما هو مقضي مقدر كالمتقلب في كف الطالب. وأنشد بعضهم:
وإذا خشيت من الأمور مقدرًا
وفررت منه فنحوه تتوجه
وقال بشار:
طبعت على ما في غير مخبر
هوائي ولو خيرت كنت مهذبا
أريد فلا أعطى وأعطى فلم أرد
وقصار علي أن ينال المغيبا
وأصرف عن قصدي وعلمي مقصرا
وأمسي وما أعطيت إلا التعجبا
ولما وقع الطاعون في الكوفة فر بن أبي ليلى على حمار له يطلب النجاة فسمع منشدًا ينشد:
لن يسبق الله على حمار
ولا على ذي منعة طيار
ويأتي الحتف على مقدار
قد يصبح الله أمام الساري
فكر راجعًا إلى الكوفة وقال: إذا كان الله أمام الساري فلات حين مهرب. وأنشد بعضهم:
أقام على المسير وقد أنيخت
مطاياه وغرد حادياها
وقال: أخاف عادية الليالي
على نفسي أن ألقى رداها
ومن كتبت منيته بأرض
فليس يموت في أرض سواها
ولما قتل كسرى بزرجمهر وجد في منطقته كتابًا فيه: إذا كان القدر حقًا فالحرص باطل، وإذا كان الغدر في الناس طباعًا فالثقة بكل أحد عجز، وإذا كان الموت بكل أحد نازلًا فالطمأنينة إلى الدنيا حمق. وقال ابن عباس وجعفر بن محمد وحسن البصري رحمهم الله تعالى في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا﴾ (الكهف: ٨٢) إنما كان الكنز لوحًا من ذهب مكتوب فيه بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يوقن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يوقن بالرزق كيف يتعب، وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح،
1 / 184