ـ[السيرة الحلبية = إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون]ـ
المؤلف: علي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي، أبو الفرج، نور الدين ابن برهان الدين (المتوفى: ١٠٤٤هـ)
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت
الطبعة: الثانية - ١٤٢٧هـ
عدد الأجزاء: ٣
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
صفحة غير معروفة
الجزء الأول
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تقديم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على صاحب أزكى سيرة محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد.
فهذا كتاب «إنسان العيون في سيرة الأمين والمأمون» المعروف ب «السيرة الحلبية» لمؤلفه الشيخ علي الحلبي؛ ذكر فيه أن أحسن ما ألّف فيه هو كتاب «عيون الأثر» للحافظ أبي الفتح ابن سيّد الناس؛ غير أنه أطال بذكر الإسناد. ثم ذكر سيرة الشمس الشامي فقال: «وأما سيرة الشمس الشامي فهو وإن أتى فيها بما يعدّ في صفائح وجوه الصحائف حسنات، لكنه أتى فيها بما هو في أسماع ذوي الأفهام كالمعادات؛ ولا يخفى أن السير تجمع الصحيح والسقيم والضعيف والبلاغ والمرسل والمنقطع والمعضل دون الموضوع» «١» اهـ. فرأى أن يلخص هاتين السيرتين مع الضميمة إليهما بإشارة الشيخ أبي المواهب محمد البكري، ثم ذكر شيئا من أبيات القصيدة الهمزية للبوصيري وتائية السبكي من ديوانه المسمى ب «بشرى اللبيب بذكر الحبيب» «٢» .
وقبل تقديم الكتاب إلى القرّاء لا بدّ من ترجمة موجزة للمؤلف، فنقول:
هو علي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي، أبو الفرج نور الدين ابن برهان الدين:
مؤرخ أديب. أصله من حلب، وولد بمصر سنة ٩٧٥ هـ (١٥٦٧ م) وتوفي بها سنة ١٠٤٤ هـ (١٦٣٥ م) .
له- عدا «إنسان العيون» وهو الكتاب الذي بين أيدينا- تصانيف كثيرة، منها:
- زهر المزهر. اختصر به مزهر السيوطي.
- مطالع البدور؛ في قواعد العربية.
- غاية الإحسان فيمن لقيته من أبناء الزمان.
_________
(١) انظر مقدمة المؤلف في أول هذا الكتاب.
(٢) انظر كشف الظنون (ص ١٨٠) .
1 / 3
- أعلام الطراز المنقوش في محاسن الحبوش.
- حاشية على شرح المنهج؛ في فقه الشافعية.
- فرائد العقود العلوية في حلّ ألفاظ شرح الأزهرية؛ في النحو.
- النصيحة العلوية؛ في الطريقة الأحمدية.
- عقد المرجان فيما يتعلق بالجان.
- ملح الشيخ الأكبر.
- النفحة العلوية.
وغير ذلك «١» .
_________
(١) انظر الأعلام للزركلي (٤/ ٢٥١، ٢٥٢) .
1 / 4
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[المقدّمة]
حمدا لمن نضر وجوه أهل الحديث، وصلاة وسلاما على من نزل عليه أحسن الحديث، وعلى آله وأصحابه أهل التقدم في القديم والحديث، صلاة وسلاما دائمين ما سارت الأئمة في جمع سير المصطفى السير الحثيث.
وبعد: فيقول أفقر المحتاجين، وأحوج المفتقرين، لعفو ذي الفضل والطول المتين، علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي: إن سيرة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام من أهم ما اهتم به العلماء الأعلام، وحفاظ ملة الإسلام، كيف لا وهو الموصل لعلم الحلال والحرام، والحامل على التخلق بالأخلاق العظام، وقد قال الزهري ﵀: في علم المغازي «خير الدنيا والآخرة» وهو أول من ألف في السير.
قال بعضهم: أول سيرة ألفت في الإسلام سيرة الزهري، وعن سعد بن أبي وقاص ﵁ أنه قال: كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله ﷺ وسراياه فيقول:
يا بنيّ هذه شرف آبائكم فلا تنسوا ذكرها، وأحسن ما ألف في ذلك وتداولته الأكياس، سيرة الحافظ أبي الفتح ابن سيد الناس، لما جمعت من تلك الدراري والدرر، ومن ثم سماها «عيون الأثر» غير أنه أطال بذكر الإسناد الذي كان للمحدثين به مزيد الاعتداد، وعليه لهم كثير الاعتماد، إذ هو من خصائص هذه الأمة، ومفتخر الأئمة، لكنه صار الآن لقصور الهمم لا تقبله الطباع، ولا تمتد إليه الأطماع. وأما سيرة الشمس الشامي، فهو وإن أتى فيها بما يعد في صفائح وجوه الصحائف حسنات، لكنه أتى فيها بما هو في أسماع ذوي الأفهام كالمعادات.
ولا يخفى أن السير تجمع الصحيح والسقيم، والضعيف والبلاغ، والمرسل والمنقطع والمعضل دون الموضوع، ومن ثم قال الزين العراقي ﵀:
وليعلم الطالب أن السيرا ... تجمع ما صح وما قد أنكرا
وقد قال الإمام أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة: إذا روينا في الحلال والحرام
1 / 5
شددنا وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا. وفي الأصل: والذي ذهب إليه كثير من أهل العلم الترخص في الرقائق، وما لا حكم فيه من أخبار المغازي وما يجري مجرى ذلك، وأنه يقبل منها ما لا يقبل في الحلال والحرام، لعدم تعلق الأحكام بها، فلما رأيت السيرتين المذكورتين على الوجه الذي لا يكاد ينظر إليه لما اشتملتا عليه، عنّ لي أن ألخص من تينك السيرتين أنموذجا لطيفا يروق للأحداق، ويحلو للأذواق، يقرأ مع ما أضمه إليه بين يدي المشايخ على غاية الانسجام، ونهاية الانتظام، ولا زلت في ذلك أقدم رجلا وأؤخر أخرى، لكوني لست من أهل هذا الشأن، ولا ممن يسابق في ميدانه على خيل الرهان، حتى أشار عليّ بذلك، وبسلوك تلك المسالك، من إشارته واجبة الاتباع، ومخالفة أمره لا تستطاع. ذو البديهة المطاوعة، والفضائل البارعة، والفواضل الكثيرة النافعة، من إذا سئل عن أي معضلة أشكلت على ذوي المعرفة والوقوف، لا تراه يتوقف، ولا يخرج عن صوب الصواب ولا يتعسف، ولا أخبر في كثير من الأوقات عن شيء من المغيبات وكاد أن يتخلف، وهو الأستاذ الأعظم والملاذ الأكرم، مولانا الشيخ أبو عبد الله وأبو المواهب محمد فخر الإسلام البكري الصديقي كيف لا وهو محل نظر والده، من نشر ذكره ملأ المشارق والمغارب، وسرى سره في سائر المساري والمسارب، ولي الله، والقائم بخدمته في الأسرار والإعلان، والعارف به الذي لم يتمار في أنه القطب الفرد الجامع اثنان مولانا: الأستاذ أبو عبد الله، وأبو بكر محمد البكري الصديقي.
ولا بدع فإنه نتيجة صدر العلماء العاملين، وأستاذ جميع الأستاذين، والمعدود من المجتهدين، صاحب التصانيف المفيدة في العلوم العديدة، مولانا الأستاذ «محمد أبو الحسن» تاج العارفين البكري الصديقي، أعاد الله تعالى عليّ وعلى أحبابي من بركاتهم، وجعلنا في الآخرة من جملة أتباعهم، فلما أشار عليّ ذلك الأستاذ بتلك الإشارة ورأيتها منه أعظم بشارة، شرعت معتمدا في ذلك على من يبلغ كل مؤمل أمله، ولم يخيب من قصده وأمله وقد يسر الله تعالى ذلك على أسلوب لطيف، ومسلك شريف، لا تمله الأسماع، ولا تنفر منه الطباع، والزيادة التي أخذتها من سيرة الشمس الشامي على سيرة أبي الفتح ابن سيد الناس، الموسومة ب «عيون الأثر» إن كثرت ميزتها بقولي في أولها قال، وفي آخرها انتهى: وإن قلت أتيت بلفظة أي وجعلت في آخر القولة دائرة هكذا بالحمرة وربما أقول وفي السيرة الشامية، وربما عبرت عن الزيادة القليلة بقال، وعن الكثيرة بأي، وما ليس بعده تلك الدائرة فهو من الأصل، أعني «عيون الأثر» غالبا، وقد يكون من زيادتي على الأصل والشامي كما يعلم بالوقوف عليهما، وربما ميزت تلك الزيادة بقولي في أولها أقول، وفي آخرها والله أعلم، وقد يكون من الزيادة ما أقول. وفي السيرة الهشامية بتقديم الهاء على
1 / 6
الشين: وحيث أقول قال في الأصل أو ذكر في الأصل أو نحو ذلك فالمراد به عيون الأثر، ثم عنّ لي أن أذكر من أبيات «القصيدة الهمزية» المنسوبة لعالم الشعراء وأشعر العلماء وهو الشيخ شرف الدين البوصيري ناظم القصيدة المعروفة «بالبردة» ما تضمنته تلك الأبيات، وأشارت إليه من ذلك السياق، فإنه أحلى في الأذواق، وربما أحل ذلك النظم بما يوضح معناه، ويظهر تركيب مبناه، وربما أذكر أيضا من أبيات «تائية الإمام السبكي» ما يناسب المقام، وربما أذكر أيضا بعض أبيات من كلام صاحب الأصل من قصائده النبوية المجموعة بديوانه المسمى، ب «بشرى اللبيب بذكرى الحبيب» . وقد سميت مجموع ذلك: «إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون» .
وأسأل من لا مسؤول إلا إياه، أن يجعل ذلك وسيلة لرضاه آمين.
1 / 7
باب: نسبه الشريف ﷺ
هو محمد ﷺ (ابن عبد الله) ومعنى عبد الله: الخاضع الذليل له تعالى، وقد جاء «أحب أسمائكم» وفي رواية: «أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن» وجاء «أحب الأسماء إلى الله ما تعبد به» وقد سمي ﷺ بعبد الله في القرآن، قال الله تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجنّ: الآية ١٩] وعبد الله هذا هو (ابن عبد المطلب) ويدعى شيبة الحمد لكثرة حمد الناس له: أي لأنه كان مفزع قريش في النوائب وملجأهم في الأمور، فكان شريف قريش وسيدها كمالا وفعالا من غير مدافع. وقيل: قيل له شيبة الحمد، لأنه ولد وفي رأسه شيبة: أي وفي لفظ كان وسط رأسه أبيض، أو سمي بذلك تفاؤلا بأنه سيبلغ سن الشيب قيل اسمه عامر، وعاش مائة وأربعين سنة: أي وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية وكان مجاب الدعوة، وكان يقال له الفياض لجوده، ومطعم طير السماء لأنه كان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رؤوس الجبال. قال:
وكان من حلماء قريش وحكمائها، وكان نديمه حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف والد أبي سفيان، وكان في جوار عبد المطلب يهودي فأغلظ ذلك اليهودي القول على حرب في سوق من أسواق تهامة، فأغرى عليه حرب من قتله، فلما علم عبد المطلب بذلك ترك منادمة حرب، ولم يفارقه حتى أخذ منه مائة ناقة دفعها لابن عم اليهودي حفظا لجواره، ثم نادم عبد الله بن جدعان انتهى ملخصا.
وقيل له عبد المطلب، لأن عمه المطلب لما جاء به صغيرا من المدينة أردفه خلفه: أي وكان بهيئة رثة: أي ثياب خلقة، فصار كل من يسأل عنه ويقول من هذا؟
يقول عبدي أي حياء أن يقول ابن أخي، فلما دخل مكة أحسن من حاله وأظهر أنه ابن أخيه وصار يقول لمن يقول له عبد المطلب: ويحكم إنما هو شيبة ابن أخي هاشم لكن غلب عليه الوصف المذكور فقيل له عبد المطلب: أي وقيل لأنه تربى في حجر عمه المطلب، وكان عادة العرب أن تقول لليتيم الذي يتربى في حجر أحد هو عبده وكان عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيئات الأمور.
وكان يقول: لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم منه وتصيبهم عقوبة إلى أن هلك رجل ظلوم من أهل الشام لم تصبه عقوبة، فقيل لعبد المطلب في ذلك، ففكر وقال: والله إن وراء هذه الدار دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته: أي فالمظلوم شأنه في الدنيا ذلك، حتى إذا خرج من الدنيا ولم تصبه
1 / 9
العقوبة فهي معدة له في الآخرة، ورفض في آخر عمره عبادة الأصنام، ووحد الله ﷾. وتؤثر عنه سنن جاء القرآن بأكثرها، وجاءت السنة بها: منها الوفاء بالنذر، والمنع من نكاح المحارم، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموؤدة، وتحريم الخمر والزنا، وأن لا يطوف بالبيت عريان كذا في كلام سبط ابن الجوزي (ابن هاشم) وهاشم: هو عمرو العلا أي لعلو مرتبته، وهو أخو عبد شمس وكانا توأمين، وكانت رجل هاشم أي أصبعها ملصقة بجبهة عبد شمس، ولم يكن نزعها إلا بسيلان دم، فكانوا يقولون سيكون بينهما دم، فكان بين ولديهما أي بين بني العباس وبين بني أمية سنة ثلاث وثلاثين ومائة من الهجرة، ووقعت العداوة بين هاشم وبين ابن أخيه أمية بن عبد شمس، لأن هاشما لما ساد قومه بعد أبيه عبد مناف حسده أمية ابن أخيه، فتكلف أن يصنع كما يصنع هاشم فعجز، فعيرته قريش وقالوا له أتتشبه بهاشم، ثم دعا هاشما للمنافرة فأبى هاشم ذلك لسنه وعلو قدره، فلم تدعه قريش، فقال هاشم لأمية: أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق تنحر بمكة، والجلاء عن مكة عشر سنين، فرضي أمية بذلك، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي وكان بعسفان، فخرج كل منهما في نفر، فنزلوا على الكاهن، فقال قبل أن يخبروه خبرهم «والقمر الباهر» والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من منجد وغائر، لقد سبق هاشم أمية إلى المفاخر فنصر هاشم على أمية، فعاد هاشم إلى مكة ونحر الإبل، وأطعم الناس، وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين، فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية، وتوارث ذلك بنوهما، وكان يقال لهاشم وإخوته عبد شمس والمطلب ونوفل أقداح النضار: أي الذهب، ويقال لهم المجيرون لكرمهم وفخرهم وسيادتهم على سائر العرب.
قال بعضهم: ولا يعرف بنو أب تباينوا في محالّ موتهم مثلهم، فإن هاشما مات بغزة: أي كما سيأتي، وعبد شمس مات بمكة، وقبره بأجياد، ونوفلا مات بالعراق، والمطلب مات ببرعاء من أرض اليمن: أي وقيل له هاشم، لأنه أول من هشم الثريد بعد جده إبراهيم، فإن ابراهيم أول من فعل ذلك: أي ثرد الثريد وأطعمه المساكين وفيه أن أول من ثرد الثريد، وأطعمه بمكة بعد إبراهيم جد هاشم قصي.
ففي الإمتاع: وقصي أول من ثرد الثريد وأطعمه بمكة. وفيه أيضا هاشم عمرو العلا، أول من أطعم الثريد بمكة، وسيأتي أن أول من فعل ذلك عمرو بن لحي، فليتأمل.
وقد يقال: لا منافاة لأن الأولية في ذلك إضافية، فأولية قصي لكونه من قريش وأولية عمرو بن لحي لكونه من خزاعة، وأولية هاشم باعتبار شدة مجاعة حصلت لقريش وإلى ذلك يشير صاحب الأصل بقوله:
وأطعم في المحل عمرو العلا ... فللمسنتين به خصب عام
1 / 10
وقال أيضا:
عمرو العلا ذو الندى من لا يسابقه ... مر السحاب ولا ريح تجاريه
جفانه كالجوابي للوفود إذا ... لبوا بمكة ناداهم مناديه
أو أمحلوا أخصبوا منها وقد ملئت ... قوتا لحاضره منهم وباديه
وقد قيل فيه:
قل للذي طلب السماحة والندى ... هلا مررت بآل عبد مناف
الرائشون وليس يوجد رائش ... والقائلون هلمّ للأضياف
وعن بعض الصحابة قال: رأيت رسول الله ﷺ وأبا بكر رضي الله تعالى عنه على باب بني شيبة فمر رجل وهو يقول:
يا أيها الرجل المحوّل رحله ... ألا نزلت بآل عبد الدار
هبلتك أمك، لو نزلت برحلهم ... منعوك عن عدم ومن إقتار
فالتفت رسول الله ﷺ إلى أبي بكر ﵁ فقال: أهكذا قال الشاعر؟
قال: لا والذي بعثك بالحق، ولكنه قال:
يا أيها الرجل المحول رحله ... ألا نزلت بآل عبد مناف
هبلتك أمك لو نزلت برحلهم ... منعوك من عدم ومن اقراف
الخالطين غنيهم بفقيرهم ... حتى يعود فقيرهم كالكافي
فتبسم رسول الله ﷺ وقال: هكذا سمعت الرواة ينشدونه، وكان هاشم بعد أبيه عبد مناف على السقاية والرفادة، فكان يعمل الطعام للحجاج، يأكل منه من لم يكن له سعة ولا زاد، ويقال لذلك الرفادة.
واتفق أنه أصاب الناس سنة جدب شديد فخرج هاشم إلى الشام، وقيل بلغه ذلك وهو بغزة من الشام، فاشترى دقيقا وكعكا وقدم به مكة في الموسم، فهشم الخبز والكعك ونحر الجزر وجعله ثريدا، وأطعم الناس حتى أشبعهم، فسمي بذلك هاشما. وكان يقال له أبو البطحاء وسيد البطحاء.
قال بعضهم: لم تزل مائدته منصوبة لا ترفع في السراء والضراء.
قال ابن الصلاح: روينا عن الإمام سهل الصعلوكي ﵁ أنه قال في قوله ﷺ: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» أراد فضل ثريد عمرو العلا، الذي عظم نفعه وقدره، وعم خيره وبره، وبقي له ولعقبه ذكره. وقد أبعد سهل في تأويل الحديث.
1 / 11
والذي أراه أن معناه تفضيل الثريد من الطعام على باقي الطعام، لأن سائر بمعنى باقي أي فالمراد أي ثريد لا خصوص ثريد عمرو العلا حتى يكون أفضل من ثريد غيره. وكان هاشم يحمل ابن السبيل، ويؤمن الخائف.
قال: وقد ذكر أنه كان إذا هل هلال ذي الحجة قام صبيحته وأسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها ويخطب ويقول في خطبته: يا معشر قريش إنكم سادة العرب، أحسنها وجوها، وأعظمها أحلاما أي عقولا، وأوسط العرب: أي أشرفها أنسابا، وأقرب العرب بالعرب أرحاما. يا معشر قريش إنكم جيران بيت الله تعالى، أكرمكم الله تعالى بولايته، وخصكم بجواره دون بني إسمعيل، وإنه يأتيكم زوار الله يعظمون بيته فهم أضيافه وأحق من أكرم أضياف الله أنتم فأكرموا ضيفه وزواره، فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد على ضوامر كالقداح فأكرموا ضيفه وزوار بيته، فو رب هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه، وأنا مخرج من طيب مالي وحلاله ما لم يقطع فيه رحم، ولم يؤخذ بظلم، ولم يدخل فيه حرام؟ فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعل، وأسألكم بحرمة هذا البيت أن لا يخرج رجل منكم من ماله لكرامة زوار بيت الله وتقويتهم إلا طيبا، لم يؤخذ ظلما، ولم يقطع فيه رحم، ولم يؤخذ غصبا، فكانوا يجتهدون في ذلك، ويخرجونه من أموالهم فيضعونه في دار الندوة انتهى.
وقيل في تسمية شيبة الحمد عبد المطلب غير ما تقدم. فقد قيل: إنما سمي شيبة الحمد عبد المطلب، لأن أباه هاشما قال للمطلب الذي هو أخو هاشم وهو بمكة حين حضرته الوفاة أدرك عبدك يعني شيبة الحمد بيثرب، فمن ثم سمي عبد المطلب كذا في المواهب وقدمه على ما تقدم.
وفيه أنه حكى غير واحد أن هاشما خرج تاجرا إلى الشام، فنزل على شخص من بني النجار بالمدينة وتزوج بنته على شرط أنها لا تلد ولدا إلا في أهلها: أي ثم مضى لوجهه قبل أن يدخل بها ثم انصرف راجعا فبنى بها في أهلها ثم ارتحل بها إلى مكة، فلما أثقلت بالحمل خرج بها فوضعها عند أهلها بالمدينة ومضى إلى الشام فمات بغزة، قيل وعمره حينئذ عشرون سنة، وقيل أربع، وقيل خمس وعشرون.
وولدت شيبة الحمد فمكث بالمدينة سبع سنين وقيل ثمان، فمر رجل على غلمان يلعبون أي ينتضلون بالسهام وإذا غلام فيهم إذا أصاب قال أنا ابن سيد البطحاء، فقال له الرجل: ممن أنت يا غلام؟ فقال أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف، فلما قدم الرجل مكة وجد المطلب جالسا بالحجر فقص عليه ما رأى، فذهب إلى المدينة، فلما رآه عرف شبه أبيه فيه ففاضت عيناه وضمه إليه خفية من أمه.
وفي لفظ أنه عرفه بالشبه وقال لمن كان يلعب معه: أهذا ابن هاشم؟ قالوا
1 / 12
نعم، فعرفهم أنه عمه، فقالوا له: إن كنت تريد أخذه فالساعة قبل أن تعلم به أمه، فإنها إن علمت بك لم تدعك وحالت بينك وبينه، فدعاه المطلب وقال يا ابن أخي أنا عمك وقد أردت الذهاب بك إلى قومك، وأناخ ناقته فجلس على عجز الناقة، فانطلق به ولم تعلم به أمه حتى كان الليل فقامت تدعوه، فأخبرت أن عمه قد ذهب به وكساه حلة يمانية، ثم قدم به مكة، فقالت قريش: هذا عبد المطلب: أي فإن هذا السياق يدل على أن عبد المطلب إنما ولد بعد موت أبيه هاشم بغزة، وكون عمه المطلب كساه حلة لا ينافي ما سبق أنه دخل به مكة وثيابه رثة خلقة، لأنه يجوز أن تكون هذه الحلة ألبست له عند أخذه ثم نزعت عنه في السفر: أي أو أن هذه الحلة اشتراها بمكة كما يصرح به كلام بعضهم. وما وقع هنا من تصرف الراوي على أنه يجوز أن يكون اشترى له حلتين واحدة ألبسها له بالمدينة وأخرى اشتراها بمكة وألبسها له.
وفي السيرة الهشامية أن أم عبد المطلب كانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشرطوا لها أن أمرها بيدها، إذا كرهت رجلا فارقته: أي وإنها لا تلد ولدا إلا في أهلها كما تقدم، وأن عمه المطلب لما جاءه لأخذه قالت له لست بمرسلته معك، فقال لها المطلب: إني غير منصرف حتى أخرج به معي، إن ابن أخي قد بلغ وهو غريب في غير قومه، ونحن أهل بيت شرف في قومنا، وقومه وعشيرته وبلده خير من الإقامة في غيرهم، فقال شيبة لعمه: إني لست بمفارقها إلا أن تأذن لي، فأذنت له ودفعته إليه، فأردفه خلفه على بعيره. ويحتاج إلى الجمع بين هذا وما قبله، فقالت قريش عبد المطلب ابتاعه: أي ظنا منهم أنه اشتراه من المدينة فإن الشمس أثرت فيه وعليه ثياب أخلاق، فقال لهم: ويحكم إنما هو ابن أخي هاشم. ولا يخالف هذا ما سبق، من أنه صار يقول لمن يسأله عنه من هذا؟ فيقول عبدي، لأنه يجوز أن يكون بعض الناس قال من عند نفسه هذا عبد المطلب ظنا منه، وبعضهم سأله فأجابه بقوله هذا عبدي كما تقدم، ولما دخل مكة قال لهم ويحكم إلى آخره. وهاشم (بن عبد مناف) وعبد مناف اسمه المغيرة. أي وكان يقال له قمر البطحاء لحسنه وجماله، وهذا هو الجد الثالث لرسول الله ﷺ، وهو الجد الرابع لعثمان بن عفان، والجد التاسع لإمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنهما.
ووجد كتاب في حجر: أنا المغيرة بن قصي، أوصي قريشا بتقوى الله جل وعلا، وصلة الرحم، ومناف أصله مناة اسم صنم كان أعظم أصنامهم، وكانت أمه جعلته خادما لذلك الصنم. وقيل وهبته له لأنه كان أول ولد لقصي على ما قيل، لأن عبد مناف بن قصي أي ويسمى قصي زيدا.
وعن إمامنا الشافعي ﵁ أن اسمه يزيد، ويدعى مجمعا أيضا. وقيل
1 / 13
له قصي لأنه قصي: أي بعد عن عشيرته إلى أخواله بني كلب في ناديهم. وقيل بعد إلى قضاعة مع أمه لأنها كانت منهم.
أقول: لا مناقاة، لجواز أن تكون أم قصي من بني كلب وأبوها من قضاعة، وأنها رحلت بعد موت عبد مناف إلى بني كلب، ثم لما تزوجت من قضاعة رحلت إليها، ولعل قضاعة كانت جهة الشام، فلا يخالف ما قيل.
وقيل له قصي لأنه بعد مع أمه إلى الشام، لأن أمه تزوجت بعد موت أبيه وهو فطيم بشخص يقال له ربيعة بن حزام. وقيل حزام بن ربيعة العذري، فرحل بها إلى الشام وكان قصي لا يعرف له أبا إلا زوج أمه المذكور، فلما كبر وقع بينه وبين آل زوج أمه شرا: أي فإنه ناضل رجلا منهم فنضله قصي أي غلبه، فغضب ذلك الرجل وعير قصيا بالغربة وقال له: ألا تلحق بقومك وببلادك فإنك لست منا.
وفي لفظ: لما قيل له ذلك، قال ممن أنا؟ قيل له سل أمك فشكا ذلك إلى أمه، فقالت له: بلادك خير من بلادهم، وقومك خير من قومهم، أنت أكرم أبا منهم، أنت ابن كلاب بن مرة، وقومك بمكة عند البيت الحرام تفد إليه العرب، وقد قالت لي كاهنة رأتك صغيرا إنك تلي أمرا جليلا، فلما أراد الخروج إلى مكة قالت له أمه: لا تعجل حتى يدخل الشهر الحرام فتخرج مع حجاج قضاعة، فإني أخاف عليك، فشخص مع الحجاج، فقدم قصي مكة على قومه مع حجاج قضاعة، فعرفوا له فضله وشرفه، فأكرموه وقدموه عليهم، فساد فيهم ثم تزوج بنت حليل بالحاء المهملة المضمومة الخزاعي وكان أمر مكة والبيت إليه، وهو آخر من ولي أمر البيت والحكم بمكة من خزاعة، فجاء منها بأولاده الآتي ذكرهم، فلما انتشر ولده وكثر ماله وعلم شرفه مات حليل، فرأى قصي أنه أولى بأمر مكة من خزاعة، لأن قريشا أقرب إلى إسمعيل من خزاعة، فدعا قريشا وبني كنانة إلى إخراج خزاعة من مكة فأجابوه إلى ذلك وانضم له قضاعة، جاء بهم أخو قصي لأمه فأزاح قصي يد خزاعة وولي أمر مكة.
وقيل إن حليلا جعل أمر البيت لقصي. ولا منافاة لجواز أن تكون خزاعة لم ترض بما فعله حليل من أن يكون أمر البيت لقصي فحاربهم وأخرجهم من مكة.
وقيل إن حليلا أوصى بذلك لأبي غبشان بضم الغين المعجمة بعد أن أوصى بذلك لابنته زوج قصي وقالت له لا قدرة لي على فتح البيت وإغلاقه، وأن قصيا أخذ ذلك منه بزق خمر، فقالت العرب: أخسر صفقة من أبي غبشان.
وقيل إن أبا غبشان أعطى ذلك لبنت حليل زوج قصي، وأعطاه قصي أثوابا وأبعرة، فكان أبو غبشان آخر من ملك أمر مكة والبيت من خزاعة.
1 / 14
ولا يخالف ذلك ما تقدم من أن حليلا آخر من ولي أمر البيت والحكم بمكة، لجواز أن يكون المراد آخر من ولي ذلك، واستمر كذلك إلى أن مات. قال بعضهم:
وكان أبو غبشان خالا لقصي، وكان في عقله شيء، فخدعه قصي فاشترى منه أمر مكة والبيت بأذواد من الإبل.
والجمع بين هذه الروايات من أن قصيا أخذه من أبي غبشان بزق خمر، وبين أنه أخذ ذلك بأثواب وأبعرة، وبين أنه أخذ ذلك بأذواد من الإبل ممكن، لجواز أن يكون جمع بين الخمر والأثواب والإبل فوقع الاقتصار على بعضها من بعض الرواة تأمل. ثم جمع قصي قريشا بعد تفرقها في البلاد وجعلها اثنتي عشرة قبيلة كما سيأتي، ومن ثم قيل له مجمع. وفي كلام بعضهم: ولذلك سماه النبي ﷺ مجمعا، وإلى ذلك يشير قول الشاعر:
قصي لعمري كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر
وهذا البيت من قصيدة مدح بها عبد المطلب مدحه بها حذافة بن غانم، فإن ركبا من جذام فقدوا رجلا منهم غالته بيوت مكة، فلقوا حذافة فأخذوه فربطوه ثم انطلقوا به، فتلقاهم عبد المطلب مقبلا من الطائف معه ابنه أبو لهب يقوده وقد ذهب بصره، فلما نظر إليه حذافة هتف به، فقال عبد المطلب لأبي لهب: ويلك ما هذا؟
قال: هذا حذافة بن غانم مربوطا مع ركب، قال الحقهم واسألهم ما شأنهم، فلحقهم فأخبروه الخبر، فرجع إلى عبد المطلب، فقال ما معك؟ قال: والله ما معي شيء، قال: الحقهم لا أم لك وأعطهم ما بيدك وأطلق الرجل، فلحقهم أبو لهب فقال: قد عرفتم تجارتي ومالي، وأنا أحلف لكم لأعطينكم عشرين أوقية ذهبا وعشرا من الإبل وفرسا، وهذا ردائي رهنا بذلك، فقبلوه منه وأطلقوا حذافة فأقبل به، فلما سمع عبد المطلب صوت أبي لهب قال: وأبي إنك لعاص؟ ارجع لا أم لك، قال: يا أبتاه هذا الرجل معي، فناداه يا حذافة أسمعني صوتك فقال: ها أنا ذا بأبي أنت يا ساقي الحجيج أردفني، فأردفه خلفه حتى دخل مكة، فقال حذافة هذه القصيدة ومطلعها:
بنو شيبة الحمد الذي كان وجهه ... يضيء ظلام الليل كالقمر البدر
وهي قصيدة جيدة.
فإن قيل: كيف قبل القوم من أبي لهب رهن ردائه على ما ذكره لهم في أن يخلوا عن الرجل مع أن رداءه لا يقع موقعا من ذلك؟
أجيب: بأن سنة العرب وطريقتهم أن الواحد منهم إذا رهن غيره ولو شيئا حقيرا على أمر جليل لا يقدر، بل يحرص على وفاء ما رهن عليه، ومن ثم لما أجدبت أرض تميم بدعاء النبي ﷺ عليهم ذهب سيدهم حاجب بن زرارة والد عطارد
1 / 15
رضي الله تعالى عنه إلى كسرى ليأخذ منه أمانا لقومه لينزلوا ريف العراق لأجل المرعى، فقال له كسرى: أنتم قوم غدر، وأخاف على الرعايا منكم، فقال له حاجب: أنا ضامن أن لا تفعل قومي شيئا من ذلك، فقال له كسرى: ومن لي بوفائك؟ قال: هذه قوسي رهينة، فحمقه كسرى وجلساؤه وضحكوا منه، فقيل له:
العرب لو رهن أحدهم شيئا لا بد أن يفي به، فلما أخصبت أرض تميم بدعاء النبي ﷺ لهم لما وفد إليه جماعة منهم وأسلموا ومات حاجب، أمر عطارد ﵁ قومه بالذهاب إلى بلادهم، وجاء عطارد ﵁ إلى كسرى فطلب قوس أبيه، فقال: إنك لم تسلم إليّ شيئا فقال: أيها الملك، أنا وارث أبي وقد وفينا بالضمان، فإن لم تدفع إلي قوس أبي صار عارا علينا وسبة، فدفعها له وكساه حلة، فلما وفد عطارد على النبي ﷺ وأسلم دفعها للنبي ﷺ، فلم يقبلها وقال «إنما يلبس هذه الحلة من لا خلاق له» فكانت بنو تميم تعد ذلك القوس من مفاخرهم، وإلى هذا أشار بعض الشعراء وقد أحسن وأجاد وتلطف بقوله:
تزهو علينا بقوس حاجبها ... تيه تميم بقوس حاجبها
وصار قصي رئيسا لقريش على الإطلاق حين أزاح يد خزاعة عن البيت، وأجلاهم عن مكة بعد أن لم يسلموا لقصي في ولاية أمر البيت، ولم يجيزوا ما فعل حليل وأبو غبشان على ما تقدم، وذلك بعد أن اقتتلوا آخر أيام منى بعد أن حذرتهم قريش الظلم والبغي، وذكرتهم ما صارت إليه جرهم حين ألحدوا في الحرم بالظلم، فأبت خزاعة، فاقتتلوا قتالا شديدا، وكثر القتل والجراح في الفريقين إلا أنه في خزاعة أكثر، ثم تداعوا للصلح واتفقوا على أن يحكموا بينهم رجلا من العرب، فحكموا يعمر بن عوف وكان رجلا شريفا، فقال لهم: موعدكم فناء الكعبة غدا، فلما اجتمعوا قام يعمر، فقال: ألا إني قد شدخت ما كان بينكم من دم تحت قدميّ هاتين، فلا تباعة لأحد على أحد في دم. وقيل قضى بأن كل دم أصابته قريش من خزاعة موضوع، وأن ما أصابته خزاعة من قريش فيه الدية، وقضى لقصيّ بأنه أولى بولاية مكة، فتولاها. قيل: وكان يعشر من دخل مكة من غير أهلها، أي بتجارة، وكانت خزاعة قد أزالت يد جرهم عن ولاية البيت، فإن مضاض بن عمرو الجرهمي الأكبر ولي أمر البيت بعد ثابت بن إسمعيل ﵊، فإنه كان جدا لثابت وغيره من أولاد إسمعيل لأمهم، واستمرت جرهم ولاة البيت والحكام بمكة لا ينازعهم ولد إسمعيل في ذلك لخؤولتهم، وإعظاما لأن يكون بمكة بغي.
ثم إن جرهما بغوا بمكة، وظلموا من يدخلها من غير أهلها، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها، حتى إن الرجل منهم كان إذا أراد أن يزني ولم يجد مكانا دخل البيت فزنى فيه، فأجمعت- أي عزمت- خزاعة لحربهم وإخراجهم من مكة،
1 / 16
ففعلوا ذلك بعد أن سلط الله تعالى على جرهم دواب تشبه النغف بالغين المعجمة والفاء: وهو دود يكون في أنوف الإبل والغنم، فهلك منهم ثمانون كهلا في ليلة واحدة سوى الشباب. وقيل سلط الله عليهم الرعاف فأفنى غالبهم: أي وجاز أن يكون ذلك الدم ناشئا عن ذلك الدود فلا مخالفة، وذهب من بقي إلى اليمن مع عمرو بن الحرث الجرهمي آخر من ملك أمر مكة من جرهم، وحزنت جرهم على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنا شديدا وقال عمرو أبياتا منها:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
وكنا ولاة البيت من بعد ثابت ... نطوف بذاك البيت والخير ظاهر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والدهور البواتر
ومن غريب الاتفاق ما حكاه بعضهم قال: كنت أكتب بين يدي الوزير يحيى بن خالد البرمكي أيام الرشيد فأخذه النوم، فنام برهة ثم انتبه مذعورا فقال: الأمر كما كان، والله ذهب ملكنا، وذل عزنا، وانقضت أيام دولتنا. قلت: وما ذاك أصلح الله الوزير؟ قال: سمعت منشدا أنشدني: كأن لم يكن بين الحجون البيت، وأجبته من غير روية: بلى نحن كنا أهلها البيت، فلما كان اليوم الثالث وأنا بين يديه على عادتي إذ جاءه إنسان وأكب عليه، وأخبره أن الرشيد قتل جعفرا الساعة قال: أو قد فعل؟
قال نعم، فما زاد أن رمى القلم من يده وقال: هكذا تقوم الساعة بغتة.
ومما يؤثر عن يحيى هذا: ينبغي للإنسان أن يكتب أحسن ما يسمع، ويحفظ أحسن ما يكتب، ويحدث بأحسن ما يحفظ. وقال: من لم يبت على سرور الوعد لم يجد للصنيعة طعما.
وصارت خزاعة بعد جرهم ولاة البيت والحكام بمكة كما تقدم، وكان كبير خزاعة عمرو بن لحي، وهو ابن بنت عمرو بن الحارث الجرهمي آخر ملوك جرهم المتقدم ذكره. وقد بلغ عمرو بن لحي في العرب من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله ولا بعده في الجاهلية.
وهو أول من أطعم الحج بمكة سدائف الإبل ولحمانها على الثريد.
والسدائف: جمع سديف، وهو شحم السنام، وذهب شرفه في العرب كل مذهب حتى صار قوله دينا متبعا لا يخالف.
وفي كلام بعضهم: صار عمرو للعرب ربا، لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة، لأنه كان يطعم الناس ويكسوهم في الموسم، وربما نحر لهم في الموسم عشرة آلاف بدنة وكسا عشرة آلاف حلة.
وهو أول من غير دين إبراهيم: أي فقد قال بعضهم: تظافرت نصوص العلماء
1 / 17
على أن العرب من عهد إبراهيم استمرت على دينه: أي من رفض عبادة الأصنام إلى زمن عمرو بن لحي، فهو أول من غير دين إبراهيم، وشرع للعرب الضلالات، فعبد الأصنام وسيب السائبة وبحر البحيرة.
وقيل أول من بحر البحيرة رجل من بني مدلج كانت له ناقتان فجدع أذنيهما وحرم ألبانهما، فقال رسول الله ﷺ: «رأيته في النار يخبطانه بأخفافهما، ويعضانه بأفواههما» .
وعمرو أول من وصل الوصيلة، وحمى الحامي، ونصب الأصنام حول الكعبة وأتى بهبل من أرض الجزيرة ونصبه في بطن الكعبة فكانت العرب تستقسم عنده بالأزلام على ما سيأتي. وأول من أدخل الشرك في التلبية، فإنه كان يلبي بتلبية إبراهيم الخليل ﵊، وهي «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك» فعند ذلك تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه، فلما قال عمرو لبيك لا شريك لك، قال له ذلك الشيخ: إلا شريكا هو لك، فأنكر عمرو ذلك، فقال له ذلك الشيخ: تملكه وما ملك، وهذا لا بأس به، فقال ذلك عمرو، فتبعته العرب على ذلك: أي فيوحدونه بالتلبية، ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده، قال تعالى توبيخا لهم وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) [يوسف: الآية ١٠٦] وهو أول من أحل أيضا أكل الميتة، فإن كل القبائل من ولد إسمعيل لم تزل تحرم أكل الميتة حتى جاء عمرو بن لحي فزعم أن الله تعالى لا يرضى تحريم أكل الميتة، قال:
كيف لا تأكلون ما قتل الله وتأكلون ما قتلتم؟.
وروى البخاري أن رسول الله ﷺ قال: «رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا، ورأيت عمرا يجر قصبه في النار» وفي رواية «أمعاءه» أي وهي المراد بالقصب بضم القاف. وفي رواية «رأيته يؤذي أهل النار بريح قصبه» ويقال للأمعاء الأقتاب واحدها قتب بكسر القاف وسكون المثناة الفوقية آخره باء موحدة، ومن ذلك قوله ﷺ «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار» والاندلاق: الخروج بسرعة.
وقال ﷺ لأكثم بن الجون الخزاعي واسمه عبد العزى وأكثم بالثاء المثلثة: وهو في اللغة واسع البطن «يا أكثم رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، فما رأيت رجلا أشبه من رجل منك به ولا بك منه، فقال أكثم: فعسى أن يضرني شبهه يا رسول الله، قال لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غير دين إسمعيل فنصب الأوثان» أي ودين إسماعيل هو دين إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فإن العرب من عهد إبراهيم ﵊ استمرت على دينه لم يغيره أحد إلى عهد عمرو المذكور كما تقدم. وفي كلام بعضهم أن أكثم هذا هو أبو معبد زوج أم معبد التي مرّ بها رسول الله ﷺ عند الهجرة، وأكثم هذا هو الذي قال له رسول الله ﷺ «رأيت
1 / 18
الدجال، فإذا أشبه الناس به أكثم بن عبد العزى، فقام أكثم فقال: أيضرني شبهي إياه؟ فقال: لا، أنت مؤمن وهو كافر» ورده ابن عبد البر حيث قال: الحديث الذي فيه ذكر الدجال لا يصح إنما يصح ما قاله في ذكر عمرو بن لحي.
وإنما كان عمرو بن لحي أول من نصب الأوثان، لأنه خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره فرأى بأرض البلقاء العماليق ولد عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، ورآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم، ما هذه؟ قالوا هذه أصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب؟ فأعطوه صنما يقال له هبل، فقدم به مكة فنصبه في بطن الكعبة على بئرها، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه فكان الرجل إذا قدم من سفره بدأ به قبل أهله بعد طوافه بالبيت وحلق رأسه عنده، وكان عند هبل سبع قداح: قدح فيه مكتوب العقل اذا اختلفوا فيمن يحمله منهم ضربوا به فعلى من خرج حمله. وقدح مكتوب فيه نعم.
وقدح مكتوب فيه لا وذلك للأمر الذي يريدونه، وقدح فيه منكم. وقدح فيه ملصق من غيركم إذا اختلفوا في ولد هل هو منهم أو لا. وقدح فيه بها. وقدح فيه ما بها إذا أرادوا أرضا يحفرونها للماء وكان هبل من العقيق على صورة إنسان.
وعاش عمرو بن لحي هذا ثلاثمائة سنة وأربعين سنة، ورأى من ولده وولد ولده ألف مقاتل: أي ومكث هو وولده من بعده في ولاية البيت خمسمائة سنة، وكان آخرهم حليل الذي تزوج قصيّ ابنته كما تقدم.
وقيل: وكان لعمرو تابع من الجن، فقال له: اذهب إلى جدة وائت منها بالآلهة التي كانت تعبد في زمن نوح وإدريس عليهما الصلاة والسلام، وهي ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فذهب وأتى بها إلى مكة ودعا إلى عبادتها، فانتشرت عبادة الأصنام في العرب، فكان ود لكلب، وسواع لهمدان، وقيل لهذيل، ويغوث لمذحج بالذال المعجمة على وزن مسجد أبو قبيلة من اليمن، ويعوق لمراد. وقيل لهمدان، ونسر لحمير أي وكانوا هؤلاء على صور عباد ماتوا، فحزن أهل عصرهم عليهم فصوّر لهم إبليس اللعين أمثالهم من صفر ونحاس ليستأنسوا بهم، فجعلوها في مؤخر المسجد، فلما هلك أهل ذلك العصر قال اللعين لأولادهم: هذه آلهة آبائكم تعبدونها، ثم إن الطوفان دفنها في ساحل جدة فأخرجها اللعين.
وفي كلام بعضهم أن آدم كان له خمسة أولاد صلحاء، وهم ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فمات ودّ فحزن الناس عليه حزنا شديدا، واجتمعوا حول قبره لا يكادون يفارقونه، وذلك بأرض بابل، فلما رأى إبليس ذلك من فعلهم جاء إليهم في صورة إنسان وقال لهم: هل لكم أن أصور لكم صورته إذا نظرتم إليها ذكرتموه؟
قالوا نعم، فصوّر لهم صورته، ثم صار كلما مات واحد منهم صور صورته وسموا
1 / 19
تلك الصور بأسمائهم، ثم لما تقادم الزمان وماتت الآباء والأبناء وأبناء الأبناء قال لمن حدث بعدهم إن الذين كانوا قبلكم يعبدون هذه الصور فعبدوها، فأرسل الله لهم نوحا، فنهاهم عن عبادتها فلم يجيبوه لذلك، وكان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق. فأول ما حدثت عبادة الأصنام في قوم نوح، فأرسله الله تعالى إليهم فنهاهم عن ذلك.
ويقال إن عمرو بن لحي هو الذي نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديد، وكانت الأزد يحجون إليه ويعظمونه، وكذلك الأوس والخزرج وغسان.
وذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني في تفسيره لبعض الآيات القرآنية عند قوله تعالى وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرعد: الآية: ١٥] أن أصل وضع الأصنام إنما هو من قوة التنزيه من العلماء الأقدمين، فإنهم نزهوا الله تعالى عن كل شيء وأمروا بذلك عامتهم، فلما رأوا أن بعض عامتهم صرح بالتعطيل وضعوا لهم الأصنام وكسوها الديباج والحلي والجواهر، وعظموها بالسجود وغيره ليتذكروا بها الحق الذي غاب عن عقولهم، وغاب عن أولئك العلماء أن ذلك لا يجوز إلا بإذن من الله تعالى، هذا كلامه.
وكان في زمان جرهم رجل فاجر يقال له إساف فجر بامرأة يقال لها نائلة في جوف الكعبة أي قبلها فيها كما في تاريخ الأزرقي.
وقيل زنى بها فمسخا حجرين، فأخرجا منها ونصبا على الصفا والمروة ليكونا عبرة، فلما كان زمن عمرو بن لحي أخذهما ونصبهما حول الكعبة أي على زمزم وجعلا في وجهها وصار من يطوف يتمسح بهما يبدأ بإساف ويختم بنائلة، وذلك قبل أن يقدم عمرو بهبل وبتلك الأصنام، وكانت قريش تذبح ذبائحها عندهما.
وذكر أنه ﷺ لما كسر نائلة عند فتح مكة خرجت منها امرأة سوداء شمطاء تخمش وجهها وهي تنادي بالويل والثبور، وكان عمرو يخبر قومه بأن الرب يشتي بالطائف عند اللات ويصيف عند العزى، فكانوا يعظمونهما وكانوا يهدون إلى العزى كما يهدون إلى الكعبة.
وقصي هو الذي أمر قريشا أن يبنوا بيوتهم داخل الحرم حول البيت وقال لهم إن فعلتم ذلك هابتكم العرب ولم تستحل قتالكم، فبنوا حول البيت من جهاته الأربع وجعلوا أبواب بيوتهم جهته لكل بطن منهم باب ينسب الآن إليه، كباب بني شيبة، وباب بني سهم، وباب بني مخزوم، وباب بني جمع، وتركوا قدر الطواف بالبيت، فبنى قصي دار الندوة وهي أول دار بنيت بمكة، واستمر الأمر على أنه ليس حول الكعبة إلا قدر المطاف، وليس حوله جدار زمنه ﷺ وزمن ولاية الصديق رضي الله
1 / 20
عنه فلما كان زمن ولاية عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه اشترى تلك الدور من أهلها وهدمها وبنى المسجد المحيط بها، ثم لما كان زمن ولاية عثمان ﵁ اشترى دورا آخر وغالى في ثمنها وهدمها وزاد في سعة المسجد، ثم إن ابن الزبير ﵄ زاد في المسجد زيادة كثيرة، ثم إن عبد الملك بن مروان رفع جداره وسقفه بالساج وعمره عمارة حسنة ولم يزد فيه شيئا، ثم إن الوليد بن عبد الملك وسع المسجد وحمل إليه أعمدة الرخام، ثم زاد فيه المهدي والد الرشيد مرتين، واستقر بناؤه على ذلك إلى الآن.
وكانت قريش قبل ذلك: أي قبل بناء منازلهم في الحرم يحترمون الحرم ولا يبيتون فيه ليلا، وإذا أراد أحدهم قضاء حاجة الإنسان خرج إلى الحل.
وقد جاء أنه ﷺ لما كان بمكة إذا أراد حاجة الإنسان خرج إلى المغمس بكسر الميم أفصح من فتحها، وهو على ثلثي فرسخ من مكة، وهابت قريش قطع شجر الحرم التي في منازلهم التي بنوها، فقد كان بمكة شجر كثير من العضاه والسلم، وشكوا في ذلك إلى قصي فأمرهم بقطعها، فهابوا ذلك، فقالوا نكره أن ترى العرب أنا استخففنا بحرمنا، فقال قصي: إنما تقطعونه لمنازلكم وما تريدون به فسادا، بهلة الله: أي لعنته على من أراد فسادا، فقطعها قصي بيده وبيد أعوانه.
وفي كلام السهيلي عن الواقدي: الأصح أن قريشا حين أرادوا البنيان قالوا لقصي كيف نصنع في شجر الحرم، فحذرهم قطعها وخوفهم العقوبة في ذلك، فكان أحدهم يحدق بالبنيان حول الشجرة حتى تكون في منزله.
قال: وأول من ترخص في قطع شجر الحرم للبنيان عبد الله بن الزبير حين ابتنى دورا بقعيقعان، لكنه جعل فداء كل شجرة بقرة فليتأمل الجمع.
وأنزل قصي القبائل من قريش: أي فإنه جعلها اثنتي عشرة قبيلة كما تقدم في نواحي مكة بطاحها وظواهرها، ومن ثم قيل لمن سكن البطاح قريش البطاح، ولمن سكن الظواهر قريش الظواهر، والأولى أشرف من الثانية، ومن الأولى بنو هاشم، وإلى ذلك يشير صاحب الأصل في وصفه ﷺ بقوله:
من بني هاشم بن عبد مناف ... وبنو هاشم بحار الحباء
من قريش البطاح من عرف النا ... س لهم فضلهم بغير امتراء
قال بعضهم: كان قصي أول رجل من بني كنانة أصاب ملكا ولما حضر الحج قال لقريش: قد حضر الحج وقد سمعت العرب بما صنعتم وهم لكم معظمون، ولا أعلم مكرمة عند العرب أعظم من الطعام، فليخرج كل إنسان منكم من ماله خرجا ففعلوا، فجمع من ذلك شيئا كثيرا، فلما جاء أوائل الحج نحر على كل طريق من
1 / 21
طرق مكة جزورا ونحر بمكة وجعل الثريد واللحم، وسقي الماء المحلى بالزبيب وسقي اللبن. وهو أول من أوقد النار بمزدلفة ليراها الناس من عرفة ليلة النفر.
ومما يؤثر عن قصي: من أكرم لئيما أشركه في لؤمه. ومن استحسن قبيحا نزل إلى قبحه. ومن لم تصلحه الكرامة أصلحه الهوان. ومن طلب فوق قدره استحق الحرمان. والحسود العدو الخفي.
ولما احتضر قال لأولاده: اجتنبوا الخمرة، فإنها تصلح الأبدان وتفسد الأذهان.
وحاز قصي شرف مكة كله، فكان بيده السقاية والرفادة والحجابة والندوة واللواء والقيادة.
وكان عبد الدار أكبر أولاد قصي وعبد مناف أشرفهم: أي لأنه شرف في زمان أبيه قصي، وذهب شرفه كل مذهب، وكان يليه في الشرف أخوه المطلب، كان يقال لهما البدران، وكانت قريش تسمي عبد مناف الفياض لكثرة جوده، فأعطى قصي ولده عبد الدار جميع تلك الوظائف التي هي السقاية والرفادة والحجابة والندوة واللواء والقيادة: أي فإنه قال له: أما والله يا بني لألحقنك بالقوم يعني أخويه عبد مناف والمطلب وإن كانوا قد شرفوا عليك، لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها له: أي بسبب الحجابة للبيت، ولا يعقد لقريش لواء لحربها إلا أنت بيدك: أي وهذا هو المراد باللواء، ولا يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك، وهذا هو المراد بالسقاية، ولا يأكل أحد من أهل الموسم إلا من طعامك: أي وهذا هو المراد بالرفادة ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا في دارك يعني دار الندوة: أي ولا يكون أحد قائد القوم إلا أنت وذلك بسبب القيادة.
فلما مات عبد الدار وأخوه عبد مناف أراد بنو عبد مناف وهم هاشم وعبد شمس والمطلب، وهؤلاء إخوة لأب وأم، أمهم عاتكة بنت مرة، ونوفل أخوهم لأبيهم، أمه واقدة بنت حرمل أن يأخذوا تلك الوظائف من بني عمهم عبد الدار، وأجمعوا على المحاربة: أي وأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند باب الكعبة ثم غمس القوم أيديهم فيها، وتعاقدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم، فسموا المطيبين: أي أخرجتها لهم أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب عمة النبي ﷺ وتوأمة أبيه، ووضعتها في الحجر وقالت: من تطيب بهذا فهو منا، فتطيب منها مع بني عبد مناف بنو زهرة وبنو أسد بن عبد العزى وبنو تميم بن مرة وبنو الحارث بن فهر، فالمطيبون من قريش خمس قبائل. وتعاقد بنو عبد الدار وأحلافهم، وهم: بنو مخزوم وبنو سهم وبنو جمح وبنو عدي بن كعب، على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا،
1 / 22