EDITOR|
صلة تاريخ الطبري لعريب بن سعد القرطبى من سنة 291 - 320 ه منشورات مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان ص.
ب 7120
صفحة ١
بسم الله الرحمن الرحيم
ثم دخلت سنة 291 ذكر ما دار في هده السنة من أخبار بنى العباس
فيها كتب الوزير القاسم بن عبيد الله إلى محمد بن سليمان الكاتب وكان المكتفى قد ولاه حرب القرمطى صاحب الشامة وصير إليه أمر القواد والجيوش فأمره بمناهضة صاحب الشامة والجد في أمره وجمع القواد والرجال على محاربته فسار إليه محمد بن سليمان بجميع من كان معه وأهل النواحى التى تليه من الاعراب وغيرهم حتى قربوا من حماة وصار بينهم وبينها نحو اثنى عشر ميلا فلقوا أصحاب القرمطى هنالك يوم الثلاثاء لست خلون من المحرم وكان القرمطى قد قدم بعض أصحابه في ثلاثة آلاف فارس وكثير من الرجالة في مقدمته وتخلف هو في جماعة منهم ردءا لهم وجعل السواد وراءه وكان معه مال جمعه فالتقى رجال السلطان بمن تقدم من القرامطة لحربهم والتحم القتال بينهم وصبر الفريقان ثم انهزم أصحاب القرمطى وأسر من رجالهم بشر كثير وقتل منهم عدد عظيم وتفرق الباقون في البوادى وتبعهم أصحاب السلطان ليلة الاربعاء يقتلونهم ويأسرونهم فلما رأى القرمطى ما نزل بأصحابه من الانهزام والتفرق والقتل والاسر حمل أخا له يقال له
صفحة ٢
أبو الفضل مالا وتقدم إليه أن يلحق بالبوادي ويستتر بها إلى أن يظهر القرمطى بموضع فيصير إليه أخوه بالمال وركب هو وابن عمه المسمى بالمدثر وصاحبه المعروف بالمطوق وغلام له رومى وأخذ دليلا وسار يريد الكوفة عرضا في البرية حتى انتهى إلى موضع يعرف بالدالية من أعمال طريق الفرات فنفد ما كان معهم من الزاد والعلف فوجه بعض من كان معه ليأخذ لهم ما احتاجوا إليه فدخل الدالية لشراء حاجته فانكر زيه وسئل عن أمره فاستراب وارتاب وأعلم المتولي لمسلحة تلك الناحية بخبره وكان على المعاون رجل يعرف بأبى خليفة بن كشمرد فركب في جماعة وسأل هذا الرجل عن خبره فأعلمه أن صاحب الشامة بالقرب منه في ثلاثة نفر وعرفه بمكانه فمضى صاحب المعاون إليهم وأخذهم ووجه بهم إلى المكتفى وهو بالرقة ورجعت الجيوش من طلب القرامطة بعد أن أفنوا أكثرهم قتلا وأسرا وكتب محمد بن سليمان الكاتب إلى الوزير القاسم بن عبيد الله بمحاربته القرامطة وما فتح الله له عليهم وقتله وأسره لاكثرهم وأنه تقدم في جمع الرؤس وهو باعث منها بعدد عظيم وفى يوم الاثنين لاربع بقين من المحرم أدخل صاحب الشامة إلى الرقة ظاهرا للناس على فالج وعليه برنس حرير ودراعة ديباج وبين يديه المدثر والمطوق على جملين ثم إن المكتفى خلف عساكره مع محمد بن سليمان وشخص هو في خاصته وغلمانه وخدمه وشخص معه القاسم بن عبيد الله الوزير من الرقة إلى بغداد وحمل معه القرمطى والمدثر والمطوق وجماعة ممن أسر في الوقعة وذلك في أول صفر فلما صار إلى بغداد عزم على أن يدخل القرمطى مدينة السلام مصلوبا على دقل والدقل على طهر فيل فأمر بهدم طاقات الابواب التى يجتاز بها الفيل بالدقل ثم استسمج ذلك فعمل له دميانة غلام يا زمان كرسيا وركبه على ظهر الفيل في ارتفاع ذراعين ونصف وأقعد فيه القرمطى صاحب الشامة ودخل
صفحة ٣
المكتفى مدينة السلام صبيحة يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الاول وقد قدم بين يديه الاسرى مقيدين على جمال عليهم دراريع الحرير وبرانس الحرير والمطوق وسطهم وهو غلام ما نبتت لحيته بعد قد جعل في فيه خشبة مخروطة وألجم بها في فمه كهيئة اللجام ثم شدت إلى قفاه وذلك أنه لما دخل الرقة كان يشتم الناس إذا دعوا عليه ويبزق في وجوههم فجعل له هذا لئلا يتكلم ولا يشتم ثم أمر المكتفى ببناء دكة في المصلى العتيق بالجانب الشرقي في ارتفاعها عشرة أذرع لقتل القرامطة وكان خلف المكتفى وراءه محمد بن سليمان الكاتب بجملة من قواد القرامطة وقضاتهم ووجوههم فقيد جميعهم ودخلوا بغداد بين يديه يوم الخميس لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الاول وقد أمر القواد بتلقيه والدخول معه فدخل في أتم ترتيب حتى إذا صار بالثريا نزل بها وخلع عليه وطوق بطوق من ذهب وسور بسوارين من ذهب وخلع على ميع القواد القامين معه وطوقوا وسووا ثم صفوا إلى منازلهم وأمر بالاسرى إلى السجن وذكر عن صاحب الشامة أنه أخذ وهو في حبس المكتفى سكرجة من المادة التى كانت تخل عليه وكغرها وأخذ شظية منها فقطع بها بعض عروقه وخرج منه دم كثير حتى شدت يده وقطع دمه وترك أياما حتى رجعت إليه قوته ولما كان يوم الاخرنين لسبع بقين من ربيع الاول أمر المكتفى القواد والغلمان بحضور الدكة في المصلى العتيق وخرج من الناس خلق كثير وحضر الواثقي وهو يلى الشرطة بمدينة السلام ومحمد بن سليمان كاتب الجيش فقعدوا على الدكة في موضع هيئ لهم وحمل الاسرى الذين جاء بهم المكتفى والذين جاء بهم محمد بن سليمان ومن كان في السجن من القرامطة وقوم من أهل بغداد ذكر أنهم على مذاهبهم وقوم من سائر البلدان من غير القرامطة حبسوا لجنايات مختلفة فأحضر جميعهم الدكة ووكل بكل رجل منهم عونان وقيل إنهم كانوا في نحو ثلثمائة وستين
صفحة ٤
ثم أحضر صاحب الشامة والمدثر والمطوق وأقعدوا في الدكة وقدم أربعة وثلاثون رجلا من القرامطة فقطعت أيديهم وأرجلهم وضربت أعناقهم واحدا بعد واحد وكانت ترمى رؤسهم وجثثهم وأيديهم وأرجلهم كل ما قطع منها إلى أسفل الدكة فلما فرغ من قتل هؤلاء قدم المدثر فقطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه ثم المطوق ثم قدم صاحب الشامة فقطعت يداه ورجلاه وأضرمت نار عظيمة وأدخل فيها خشب صليب وكانت توضع الخشبة الموقدة في خواصره وبطنه وهو يفتح عينيه ويغمضهما حتى خشى عليه أن يموت فضربت عنقه ورفع رأسه في خشبة وكبر من كان على الدكة وكبر سائر الناس في أسفلها ثم ضربت أعناق باقى الاسرى وانصرف القواد ومن حضر ذلك الموضع وقت العشاء فلما كان بالغد حملت الرؤس إلى الجسر وصلب بدن القرمطى في الجسر الاعلى ببغداد وحفرت لابدان القتلى آبار إلى جانب الدكة فطرحوا فيها ثم أمر بعد ذلك بأيام بهدم الدكة ففعل ذلك واستأمن على يدى القاسم بن سيما رجل من القرامطة يسمى إسماعيل ابن النعمان ويكنى أبا محمد لم يكن بقى منهم بنواحي الشأم غيره وغير من انضوى إليه وكان هذا الرجل من موالى بنى العليص فرغب في الدخول في الطاعة خوفا على نفسه فأومن هو ومن معه وهم نيف وستون رجلا ووصلوا إلى بغداد وأجريت لهم الارزاق وأحسن إليهم ثم صرفوا مع القاسم بن سيما إلى عمله وأقاموا معه مدة فهموا بالغدر به فوضع السيف فيهم وأباد جميعهم * وفى آخر جمادى الاولى من هذه السنة ورد كتاب من ناحية جبى بان سيلا أتاها من الجبل غرق فيه نحو من ثلاثين فرسخا وذهب فيه خلق كثير وخربت به المنازل والقرى وهلكت المواشى والغلات وأخرج من الغرقى ألف ومائتان سوى من لم يوجد منهم.
وفى يوم الاحد غرة رجب خلع المكتفى على محمد بن سليمان كاتب الجيش وعلى وجوه القواد
صفحة ٥
وأمرهم بالسمع والطاعة لمحمد بن سليمان وبرز محمد إلى مضربه بباب الشماسية وعسكر هنالك ثم خرج بالجيوش إلى جانب دمشق لقبض الاعمال من هارون ابن خمارويه إذ تبين ضعفه وذهب رجاله في حرب القرامطة ورحل محمد بن سليمان في زهاء عشرة آلاف وذلك لست خلون من رجب وأمر بالجد في المسير * ولثلاث بقين من رجب قرئ على الناس كتاب لاسماعيل بن أحمد بأن الترك قصدوا المسلمين في جيش عظيم وأن في عسكرهم سبعمائة قبة تركية لرؤساء منهم خاصة فنودى في الناس بالنفير وخرج مع صاحب العسكر خلق كثير فوافى الترك غارين فكبسوهم ليلا وقتل منهم خلق كثير وانهزم الباقون واستبيح عسكرهم وانصرف المسلمون سالمين غانمين وورد أيضا الخبر من الثغور بأن صاحب الروم وجه إليها عسكرافيه عشرة صلبان ومائة ألف رجل فأغاروا وكبسوا وأحرقوا ثم ورد كتاب أبى معد بأن الاحبار اتصلت من طرسوس بأن غلام زرافة خرج إلى مدينة أنطاكية على ساحل البحر فافتتحها عنوة وقتل بها خمسة آلاف رجل من الروم وأسر نحو هذه العدة منهم واستنقذ من أسارى المسلمين أربعة آلاف إنسان ووجد للروم ستين مركبا فغرقها وأخذ ما كان فيها من الذهب والفضة والمتاع والآنية وأن كل رجل حضر هذه الغزاة أصاب في فيئه ألف دينار فاستبشر المسلمون بذلك (وحج بالناس) في هذه السنة الفضل بن عبد الملك ابن عبد الله بن العباس بن محمد
ثم دخلت سنة 292 ذكر ما دار في هذه السنة من أخبار بنى العباس
ففيها وجه صاحب البصرة إلى السلطان رجلا ذكر أنه أراد الخروج عليه وصار إلى واسط مخالفا بها فأقصد إليه من يقبض عليه وعلى قوم ذكروا أنهم
بايعوه ووجه بهم إلى بغداد فحمل هذا الرجل على فالج وبين يديه ابن له صبى على جمل ومعه سبعة وثلاثون رجلا على جمال عليهم برانس الحرير وأكثرهم يستغيث ويبكى ويحلف أنه برئ فأمر المكتفى بحبسهم (وفى هذه السنة) أغارت الروم على مرعش ونواحيها فنفر أهل المصيصة وطرسوس وأصيبت جماعة من المسلمين فيهم أبو الرجال بن أبى بكار (وفيها) انتهى محمد بن سليمان الكاتب إلى أحواز مصر لحرب هارون ووجه إليه المكتفى في البحر دميانة وأمره بدخول النيل وقطع المواد عمن بمصر من الجند فمضى وقطع عن أهل مصر الميرة وزحف إليهم محمد ابن سليمان على الظهر حتى دنا من الفسطاط وكاتب القواد الذين بها فخرج إليه بدر الحمامى وكان رئيس القوم ثم تتابع قواد مصر بالخروج إليه والاستئمان له فلما رأى ذلك هارون ومن بقى معه خرجوا محاربين لمحمد بن سليمان وكانت بينهم وقعات ثم إنها وقعت بين أصحاب هارون في بعض الايام عصبية اقتتلوا فيها فخرج إليهم هارون ليسكنهم فرماه بعض المغاربة بسهم فقتله وبلغ محمد بن سليمان الخبر فدخل هو ومن معه الفسطاط واحتووا على دور آل طولون وأموالهم وتقبض على جميعهم وهم بضعة عشر رجلا فقيدهم وحبسهم واستصفى أموالهم وكتب بالفتح إلى المكتفى وكانت هذه الوقيعة في صفر وكتب إلى محمد بن سليمان في إشخاص آل طولون إلى بغداد وألا يبقى منهم أحدا بمصر ولا الشأم ففعل ذلك (ولثلاث) خلون من ربيع الاول سقط الحائط من الجسر الاول على جثة القرمطى وهو مصلوب فطحنه ولم يبق منه شئ.
صفحة ٦
وفى شهر رمضان ورد الخبر على السلطان بأن قائدا من القواد المصريين يعرف بالخليجى ويسمى بابراهيم تخلف عن محمد بن سليمان في آخر حدود مصر مع جماعة استمالهم من الجند وغيرهم ومضى إلى مصر مخالفا للسلطان وكان معه في طريقه جماعة أحبوا الفتنة حتى كثر جمعه فلما صار
إلى مصر أراد عيسى النوشرى محاربته فعجز عن ذلك لكثرة من كان مع ابن الخليجى فانحاز عنه إلى الاسكندرية وأخلى مصر فدخلها الخليجى (وفيها) ندب السلطان لمحاربة الخليجى واصلاح أمر المغرب فاتكا مولى المعتضد وضم إليه بدرا الحمامى وجعله مشيرا عليه فيما يعمل به وندب معه جماعة من القواد وجندا كثيرا وخلع على فاتك وعلى بدر الحمامى لسبع خلون من شوال وأمرا بسرعة الخروج وتعجيل السير فخرجا لاثنتى عشرة ليلة خلت من شوال (وللنصف) من شوال دخل رستم مدينة طرسوس واليا عليها وعلى الثغور الشأمية (وفيها) كان الفداء بين المسلمين والروم لست بقين من ذى القعدة ففودى من المسلمين ألف ومائتا نفس ثم غدر الروم وانصرفوا ورجع المسلمون بمن في أيديهم من أسارى الروم (وحج) بالناس في هذه السنة الفضل بن عبد الملك بن عبد الله بن العباس بن محمد
ثم دخلت سنة 293 ذكر ما دار في هذه السنة من أخبار بنى العباس
صفحة ٧
ففيها ورد الخبر بأن الخليجى المتغلب على مصر واقع أحمد بن كيغلغ وجماعة من القواد بالقرب من العريش فهزمهم الخليجى أقبح هزيمة فندب السلطان للخروج إليه جماعة من القواد المقيمين بمدينة السلام فيهم ابراهيم بن كيغلغ وغيره وفى شهر ربيع الاول من هذه السنة ورد الخبر بأن أخا للحسين بن زكرويه ظهر بالدالية من طريق الفرات في نفر من أصحابه ثم اجتمع إليه جماعة من الاعراب والمتلصصة فسار بهم نحو دمشق في جمادى الاولى وحارب أهلها فندب السلطان للخروج إليه الحسين بن حمدان بن حمدون في جمع كثير من الجند ثم ورد الخبر بأن هذا القرمطى سار إلى طبرية فامتنع أهلها من ادخاله فحاربهم حتى دخلها
فقتل عامة من بها من الرجال والنساء ونهبها وانصرف إلى ناحية البادية وذكر من حضر مجلس محمد بن داود بن الجراح وقد أدخل إليه قوم من القرامطة بعد قتل الحسين بن زكرويه المصلوب بجسر بغداد فقال الرجل كان زكرويه أبو حسين المقتول مختفيا عندي في منزلي وقد أعد له سرداب تحت الارض عليه باب حديد وكان لنا تنور فإذا جاءنا الطلب وضعنا التنور على باب السرداب وقامت امرأة تسخنه فمكث زكرويه كذلك أربع سنين في أيام المعتضد ثم انتقل من منزلي إلى دار قد جعل فيها بيت وراء باب الدار فإذا فتح الباب انطبق على باب البيت فيدخل الداخل فلا يرى باب البيت الذى هو فيه فلم تزل هذه حاله حتى مات المعتضد فحينئذ أنفذ الدعاة واستهوى طوائف من أهل البادية وصار أهل قرية صوار يتفلونه على أيديهم ويسجدون له واعترف لزكرويه جميع من رسخ حب الكفر في قلبه من عربي ومولى ونبطى وغيرهم بأنه رئيسهم وكهفهم وملاذهم وسموه السيد والمولى وساروا به وهو محجوب عن أهل عسكره والقاسم يتولى الامور دونه يمضيها على رأيه.
صفحة ٨
وذكر محمد بن داود أن زكرويه ابن مهرويه هذا أقام رجلا كان يعلم الصبيان بقرية تدعى زابوقة من عمل الفلوجة يسمى عبد الله بن سعيد ويكنى أبا غانم فتسمى بنصر ليعمى أمره ويخفى خبره فاستهوى طوائف من الاصبغيين والعلصيين وصعاليك من بطون كلب وقصدهم ناحية الشأم وكان عامل السلطان على دمشق والاردن أحمد بن كيغلغ وكان مقيما بمصر على حرب الخليجى فاغتنم ذلك عبد الله بن سعيد المتسمى بنصر وسار إلى مدينة بصرى فحارب أهلها ثم آمنهم فلما استسلموا له قتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم واستاق أموالهم ثم نهض إلى دمشق فخرج إليه من كان بقى بها مع صالح بن الفضل خليفة أحمد بن كيغلغ فقتل صالحا وفض عسكره ولم يطمع في مدينة دمشق إذ دافعهم أهلها عنها ثم قصد القرمطى ومن معه مدينة طبرية فقتلوا طائفة من أهلها وسبوا النساء والذرية بها فحينئذ أنفذ السلطان لمحاربتهم الحسين بن حمدان في جماعة من القواد والرجال فوردوا دمشق وقد دخل القرامطة طبرية فلما اتصل بهم خروج القراد إليهم عطفوا نحو السماوة تبعهم الحسين بن حمدان وهم ينتقلون من ماء إلى ماء ويعورون ما وراءهم من المياه فانقطع الحسين عن اتباعهم لما عدم الماء وعاد إلى الرحبة وقصدت القرامطة إلى هيت فصبحوهها ولم يصلوا إلى المدينة لحصانة سورها لسبع بقين من شعبان مع طلوع الشمس فنهبوا ربضها وقتلوا من قدروا عليه من أهلها وأحرقت المنازل وأنهبت السفن التى في الفرات وقتل من أهل البلد نحو مائتي نفس وأوقروا ثلاثة آلاف بعير بالامتعة والحنطة ثم رحلوا إلى البادية ثم شخص بأثرهم محمد ابن كنداج إليهم فلما كان بقربة منهم هربوا منه وعوروا المياه بينهم وبينه فأنفذت إليه الابل والروايا والزاد وكتب إلى الحسين بن حمدان بالنفوذ إليهم من جهة الرحبة والاجتماع مع محمد بن كنداج على الايقاع بهم فلما أحس الكلبيون الذين كانوا مع عبد الله بن سعيد القرمطى المتسمى بنصر وثبوا عليه وقتلوه وتقربوا برأسه إلى محمد بن كنداج واقتتلت القرامطة حتى وقعت بينهما الدماء ثم أنفذ زكرويه داعية له يسمى القاسم بن أحمد إلى أكرة سواد فاستهواهم ووعدهم بأن ظهوره قد حضر وانه قد بايع له بالكوفة نحو أربعين ألف رجل وفى سوادها أربعمائة ألف رجل وأن يوم موعدهم الذى ذكره الله يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى وأمرهم بالمسير إلى الكوفة ليفتتحوها في غداة يوم النحر وهو يوم الخميس فإنهم لا يمنعون منها فتوجه القاسم بن أحمد بأهل السواد ومن يجتمع إليه من الصعاليك حتى وافوا باب الكوفة في ثمانمائة فارس عليهم الدروع والجواشن والآلة الحسنة ومعهم جماعة من الرجالة على الرواحل وقد
صفحة ٩
انصرف الناس عن مصلاهم فأوقعوا بمن لحقوه من العوام وقتلوا منهم زهاء عشرين نفسا وخرج إليهم إسحاق بن عمران عامل الكوفة ومن كان معه من الجند فصافوا القرامطة الحرب إلى وقت العصر وكان شعار القرامطة يا أحمد يا محمد وهم يدعون يا لثارات الحسين يعنون المصلوب بجسر بغداد وأظهروا الاعلام البيض وضربوا على القاسم بن أحمد قبة وقالوا هذا ابن رسول الله فاقتتلوا قتالا شديدا ثم انهزمت القرامطة نحو القاسية وأصلح أهل الكوفة سورهم وخندقهم وحرسوا مدينتهم وكتب اسحاق بن عمران إلى السلطان يستمده فندب إليه جماعة فيهم طاهر بن على بن وزير ووصيف بن صوارتكين والفضل بن موسى ابن بغا وبشر الخادم وجنى الصفوانى ورائق الخزرى وضم إليهم جماعة من غلمان الحجر وأمر القاسم بن سيما ومن ضم إليه من رؤساء البوادى بديار ربيعة وطريق الفرات وغيرهم بالنهوض إلى القرامطة إذ كان أصحاب السلطان متفرقين في نواحى الشأم ومصر فنفذت الكتب بذلك إليهم * وفى يوم الجمعة لاثنتى عشرة ليلة خلت من رجب قرئ على المنبر ببغداد كتاب بأن أهل صنعاء وسائر أهل اليمن اجتمعوا على الخارجي وحاربوه وفلوا جموعه فانحاز إلى بعض النواحى باليمن فخلع السلطان على مظفر بن حاج وعقد له على اليمن وخرج إليها لخمس خلون من ذى القعدة فاقام بها حتى مات (ولتسع) بقين من رجب أخرجت مضارب المكتفى إلى باب الشماسية فضربت هنالك ليخرج إلى الشأم ويحاصر ابن الخليجى فورد كتاب من قبل فاتك القائد وأصحابه يذكرون محاربتهم له وظفرهم به وأنهم موجهون له إلى مدينة السلام فردت مضارب المكتفى وصرفت خزائنه وقد كانت جاوزت تكريت ثم أدخل مدينة السلام للنصف من شهر رمضان ابن الخليجى واحد وعشرون رجلا معه على جمال وعليهم برانس ودراريع حرير
فحبسوا ثم خلع المكتفى على وزيره العباس بن الحسن خلعا لحسن تدبيره في أمر هذا الفتح * ثم لخمس خلون من شوال أدخل بغداد رأس القرمطى المتسمى بنصر الذى انتهب مدينة هيت منصوبا في قناة (ولسبع) خلون من شوال ورد الخبر مدينة السلام بأن الروم أغاروا على قورس وقتلوا مقاتلتهم ودخلوا المدينة وأخربوا مسجدها وسبوا من بقى فيها وقتلوا رؤساء بنى تميم المنضوين إليها (وحج) بالناس في هذه السنة الفضل بن عبد الملك الهاشمي
صفحة ١٠
ثم دخلت سنة 294 ذكر ما دار في هذه السنة من أخبار بنى العباس
ففيها دخل ابن كيغلغ طرسوس غازيا في أول المحرم وخرج معه رستم وهى غزاة رستم الثانية فبلغوا حصن سلندوا وافتتحوه وقتلوا من الروم مقتلة عظيمة وأسروا وسبوا نحوا من خمسة آلاف رأس وانصرفوا سالمين (ولاحدى) عشرة ليلة خلت من المحرم ورد الخبر بأن زكرويه القرمطى ارتحل من نهر المثنية يريد الحاج وأنه وافى موضعا بينه وبين بعض مراحلهم أربعة أميال وذكر محمد بن داود أنهم مضوا في جهة المشرق حتى صاروا بماء سليم وصار ما بينهم وبين السواد مفازة فأقام بموضعه ينتظر قافلة الحاج حتى وافته لسبع خلون من المحرم فأنذرهم أهل المنزل بارتصاد القرامطة لهم وأن بينهم وبين موضعهم أربعة أميال فارتحلوا ولم يقيموا وكان في هذه القافلة ابن موسى وسيما الابراهيمي فلما أمعنت القافلة في السير صار القرمطى إلى الموضع الذى انتقلت عنه القافلة وسأل أهل القيروان عنها فأخبروه أنها تنقلت ولم تقم فاتهمهم بإنذار القافلة وقتل من العلافين بها جماعة وأحرق العلف ثم ارتصد أيضا زكرويه قافلة خراسان فأوقع بأهلها وجعل أصحابه ينخسون الجمال بالرماح ويبعجبونها بالسيوف فنفرت
صفحة ١١
وأختلطت القافلة وأكب أصحاب زكرويه على الحاج فقتلوهم كيف شاء واوسبوا النساء واحتووا على ما في القافلة ثم وافى عليهم أهل القافلة الثانية وفيها المبارك القمى وأحمد بن نصر العقيلى وأحمد بن على بن الحسين الهمذانى وقد كان رحل القرامطة عن محلتهم وعوروا مياهها وملاوا بركها بحيف الابل والدواب التى كانت معهم وانتقلوا إلى منزل العقبة فوافاهم بها أهل القافلة الثانية ودارت بينهم حرب شديدة حتى أشرف أهل القافلة على الظفر بالقرامطة وكشفوهم ثم إن الفجرة تمكنوا في ساقتهم من غرة فركبوها ووضعوا رماحهم في جنوب إبلهم وبطونها فطرحتهم الابل وتمكنوا منهم فقتلوهم عن آخرهم إلا من استفدوه وسبوا النساء واكتسحوا ؟ ؟ الاموال والامتعة وقتل المبارك القمى والمظفر ابنه وقتل أبو العشائر ثم قطعت يداه ورجلاه ثم ضربت عنقه وأفلت من الجرحى قوم وقعوا بين القتلى فتحاملوا في الليل ومضوا فمنهم من مات في الطريق ومنهم من نجاوهم قليل وكان نساء القرامطة وصبيانهم يطوفون بين القتلى ويعرضون عليهم الماء فمن كان فيه رمق أو طلب الماء أجهزوا عليه وقيل إنه كان في القافلة من الحاج نحو عشرين ألف رجل فقتل جميعهم غير نفر يسير وذكر أن الذى أخذوا من المال والامتعة في هذه القافلة قيمة ألفى ألف دينار وورد الخبر على السلطان بمدينة السلام عشية يوم الجمعة لاربع عشرة ليلة بقيت من المحرم بما كان من فعل القرامطة بالحاج فعظم ذلك عليه وعلى الناس وندب السلطان محمد بن داود ابن الجراح الوزير للخروج إلى الكوفة والمقام بها وانفاذ الجيوش إلى القرمطى فخرج من بغداد لاحدى عشرة ليلة بقيت من المحرم وحمل معه أموالا كثيرة لاعطاء الجند ثم صار زكويه إلى زبالة فهو لها وبث الطلائع أمامه ووراءه خوفا من أصحاب السلطان وارتصادا لورود القافلة
صفحة ١٢
الاخرى التى كانت فيها الاثقال وأموال التجار وجوهر نفيس للسلطان وبها من القواد نفيس المولدى وصالح الاسود ومعه الشمسة والخزانة وكان المعتضد قد جعل في الشمسة جوهرا نفيسا ومعهم أيضا إبراهيم بن أبى الاشعث قاضى مكة والمدينة وميمون بن إبراهيم الكاتب والفرات بن أحمد بن الفرات والحسن بن اسماعيل وعلى بن العباس النهيكى فلما صارت هذه القافلة بفيد بلغهم خبر القرامطة فأقاموا أياما ينتظرون القوة من قبل السلطان وأقبل القرامطة إلى موضع يعرف بالخليج فلقوا القافلة وحاربوا أهلها ثلاثة أيام ثم عطش أهل القافلة وكانوا على غير ماء فلم يتمكنوا منها فاستسلموا فوضع القرامطة فيهم السيف ولم يفلت منهم إلا اليسير وأخذ القرامطة جميع ما في القافلة وسبوا النساء واكتسحوا الاموال ثم توجه زكرويه بمن معه إلى فيدوبها عامل السلطان فتحصن منه وجعل زكرويه يراسل أهل فيد بأن يسلموا إليه عاملهم فلم يجيبوه إلى ذلك ثم تنقل إلى النباج ثم إلى حفير أبى موسى الاشعري وفى أول شهر ربيع الاول أنهض المكتفى وصيف بن سوارتكين ومعه جماعة من القواد إلى القرامطة فنفذوا من القادسية على طريق خفان والتقى وصيف بالقرامطة يوم السبت لثمان بقين من ربيع الاول فاقتتلوا يومهم ذلك حتى حجز بينهم المساء ثم عاودهم الحرب في اليوم الثاني فظفر جيش السلطان بالقرامطة وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وخلصوا إلى زكرويه فضربه بعض الجند ضربة بالسيف اتصلت بدماغه وأخذ أسيرا وأخذ معه ابنه وزوجته وكتبه وجماعة من خاصته وقربته واحتوى الجند على جميع ما في عسكره وعاش زكرويه خمسة أيام ثم مات فشق بطنه وحمل كذلك وانطلق من كان بقى في يديه من أسرى الحاج (وفيها) غزا ابن كيغلغ من طرسوس فأصاب من العدو أربعة آلاف رأس سبى وواب ومواشي كثيرة ومتاعا
واسلم على يده بطريق من البطارقة (وفيها) كتب اندرونقس البطريق وكان على حرب أهل الثغور من قبل صاحب الروم إلى السلطان يطلب الامان فأجيب إلى ذلك وخرج بنحو مائتي نفس من المسلمين كانوا عنده أسرى وأخرج ماله ومتاعه إلى طرسوس وفى جمادى الآخرة ظفر الحسين بن حمدان بجماعة من أصحاب زكرويه كانوا هربوا من الوقعة فقتل أكثرهم وأسر نساءهم وصبيانهم (وفيها) وافى رسل ملك الروم باب الشماسية بكتاب إلى المكتفى يسأله الفداء بمن معهم من المسلمين لمن في أيدى الاسلام من الروم فدخلوا بغداد ومعهم هدية كبيرة وعشرة من أسارى المسلمين (وفيها) أخذ قوم من أصحاب زكرويه أيضا ووجهوا إلى باب السلطان (وفيها) كانت وقعة بين الحسين بن حمدان وأعراب كلب والنمر وأسد وغيرهم كانوا خرجوا عليه فهزموه حتى بلغوا به باب حلب (وفيها) هزم وصيف بن سوارتكين الاعراب بفيد ثم رحل سالما بمن معه من الحاج (وحج بالناس) في هذه السنة الفضل بن عبد الملك
ثم دخلت سنة 295 ذكر ما دار في هذه السنة من أخبار بنى العباس
صفحة ١٣
فمن ذلك ما كان من خروج عبد الله بن ابراهيم المسمعى عن مدينة أصبهان إلى قرية من قراها على فراسخ منها وانضمام نحو من عشرة آلاف كردى إليه مظهرا للخلاف على السلطان فأمر المكتفى بدرا الحمامى بالشخوص إليه وضم إليه جماعة من القواد في نحو من خمسة آلاف من الجند (وفيها) كانت وقعة للحر بن موسى على اعراب طيئ فواقعهم على غرة منهم فقتل من رجالهم سبعين وأسر من فرسانهم جماعة (وفيها) توفى اسماعيل بن أحمد في صفر لاربع عشرة ليلة خلت منه وقام ابنه أحمد بن اسماعيل في عمل أبيه مقامه وذكر أن المكتفى قعد
له وعقد بيده لواءه ودفعه إلى طاهر بن على وخلع عليه وأمره بالخروج إليه باللواء (وفيها) وجه منصور بن عبد الله بن منصور الكاتب إلى عبد الله بن ابراهيم المسمعى وكتب إليه يخوفه عاقبة الخلاف فتوجه إليه فما صار إليه ناظره فرجع إلى طاعة السلطان وشخص في نفر من غلمانه واستخلف باصبهان خليفة له ومعه منصور بن عبد الله حتى صار إلى باب السلطان فرضى عنه المكتفى ووصله وخلع عليه وعلى ابنه (وفيها) أوقع الحر بن موسى بالكردي المتغلب على تلك الناحية فتعلق بالجبال فلم يدرك (وفيها) فتح المظفر بن حاج ما كان تغلب عليه بعض الخوارج باليمن وأخذ رئيسا من رؤسائهم يعرف بالحكيمى (وفيها) لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة أمر خاقان المفلحى بالخروج إلى آذربيجان لحرب يوسف بن أبى الساج وضم إليه نحو أربعة آلاف رجل من الجند (ولثلاث عشرة) ليلة بقيت من شهر رمضان دخل بغداد رسول أبى مضر بن الاغلب ومعه فتح الانجحى وهدايا وجه بها معه إلى المكتفى (وفيها) كان الفداء بين المسلمين والروم في ذى القعدة ففدى ممن كان عندهم من الرجال ثلاثة آلاف نفس
ذكر علة المكتفى بالله وما كان من أمره إلى وقت وفاته
صفحة ١٤
وكان المكتفى على بن أحمد يشكو علة في جوفه وفسادا في أحشائه فاشتدت العلة به في شعبان من هذا العام وأخذه ذرب شديدا فرط عليه وأزال عقله حتى أخذ صافى الحرمى خاتمه من يده وأنفذه إلى وزيره العباس بن الحسن وهو لا يعقل شيئا من ذلك وكان العباس يكره أن يلى الامر عبد الله بن المعتز ويخافه خوفا شديدا فعمل في تصيير الخلافة إلى أبى عبد الله محمد بن المعتمد على الله فأحضره داره ؟ ؟ ليلا وأحضر القاضى محمد بن يوسف وحده وكلمه بحضرته وقال له مالى عندك إن سقت هذا الامر إليك فقال له محمد ابن المعتمد لك عندي ما تستحقه من الجزاء والايثار وقرب المنزلة فقال له العباس
صفحة ١٥
أريد أن تحلف لى أن لا تخليني من إحدى حالتين إما أن تريد خدمتي فأنصح لك وأبلغ جهدي في طاعتك وجمع المال لك كما فعلته بغيرك وإما أن تؤثر غيرى فتوقرنى وتحفظني ولا تبسط على يدا في نفسي ومالى ولا على أحد بسببي فقال له محمد بن المعتمد وكان حسن العقل جميل المذهب لو لم تسق هذا إلى ما كان لى معدل عنك في كفايتك وحسن أثرك فكيف إذا كنت السبب له والسبيل إليه فقال له العباس أريد أن تحلف لى على ذلك فقال إن لم أوف لك بغير يمين لم أوف لك بيمين فقال القاضى محمد بن يوسف العباس ارض منه بهذا فإنه أصلح من اليمين قال العباس قد قنعت ورضيت ثم قال له العباس مد يدك حتى أبايعك فقال له محمد وما فعل المكتفى قال هو في آخر أمره وأظنه قد تلف فقال محمد ما كان الله ليراني أمد يدى لبيعة وروح المكتفى في جسده ولكن إن مات فعلت ذلك فقال محمد بن يوسف الصواب ما قال وانصرفوا على هذه الحال ثم إن المكتفى أفاق وعقل أمره فقال له صافى الحرمى لو رأى أمير المؤمنين أن يوجه إلى عبد الله بن المعتز ومحمد بن المعتمد فيوكل بهما في داره ويحبسهما ما فيها فإن الناس ذكروهما لهذا الامر وأرجفوا بهما فقال له المكتفى هل بلغك أن أحدهما أحدث بيعة علينا فقال له صافى لا قال له فما أرى لهما في إرجاف الناس ذنبا فلا تعرض لهما ووقع الكلام بنفسه وخاف أن يزول الامر عن ولد أبيه فكان إذا عرض له بشئ من هذا الامر استجر فيه الحديث وتابع المعنى واهتبل به جدا وعرض لمحمد بن المعتمد في شهر رمضان فالج في مجلس العباس بن الحسن الوزير من غيظ أصابه في مناظرة كانت بينه وبين ابن عمر عمرويه صاحب الشرطة فأمر العباس أن يحمل في قبة من قبابه على أفره بغاله فحمل إلى منزله في تلك الصورة وانصرفت نفسه إلى تأميل غيره ثم اشتدت العلة بالمكتفى في أول ذى القعدة فسأل عن أخيه أبى الفضل جعفر فصح عنده أنه بالغ فأحضر القضاة وأشهدهم بأنه قد جعل العهد إليه من بعده
ذكر وفاة المكتفى
ومات المكتفى بالله على بن أحمد ليلة الاحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذى القعدة سنة 295 ودفن يوم الاثنين في دار محمد بن عبد الله بن طاهر وكانت خلافته ست سنين وتسعة عشر يوما وكان يوم توفى ابن اثنتين وثلاثين سنة وكان ولد سنة 264 وكنيته أبو محمد وأمه أم ولد تركية وكان جميلا رقيق اللون حسن الشعر وافر اللحية وولد أبا القاسم عبد الله المستكفى ومحمد أبا أحمد والعباس وعبد الملك وعيسى وعبد الصمد والفضل وجعفرا وموسى وأم محمد وأم الفضل وأم سلمة وأم العباس وأمة العزيز وأسماء وسارة وأمة الواحد قال وكان جعفر بن المعتضد بدار ابن طاهر التى هي مستقر أولاد الخلفاء فتوجه فيه صافى الحرمى لساعتين بقيتا من ليلة الاحد وأحضره القصر وقد كان العباس بن الحسن فارق صافيا عن أن يجئ بالمقتدر إلى داره التى كان يسكنها على دجلة لينحدر به معه إلى القصر فعرج به صافى عن دار العباس إذ خاف حيلة تستعمل عليه وعد ذلك من حزم صافى وعقله
ذكر خلافة المقتدر
وفيها بويع جعفر بن أحمد المقتدر يوم الاحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذى القعدة سنة 295 وهو يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة وأحد وعشرين يوما وكان مولده يوم الجمعة لثمان بقين من شهر رمضان من سنة 282 وكنيته أبو الفضل وأمه أم ولد يقال لها شغب وكانت البيعة للمقتدر في القصر المعروف بالحسنى فلما دخله ورأى السرير منصوبا أمر بحصير صلاة فبسط له وصلى اربع ركعات وما زال يرفع صوته بالاستخارة ثم جلس على السرير وبايعه الناس ودارت البيعة
صفحة ١٦
على يدى صافى الحرمى وفاتك المعتضدى وحضر العباس بن الحسن الوزير وابنه أحمد حتى تمت البيعة ثم غسل المكتفى ودفن في موضع من دار محمد بن عبد الله بن طاهر وذكر الطبري أنه كان في بيت المال يوم بويع المقتدر خمسة عشر ألف ألف دينار وذكر ذلك الصولى وحكى أنه كان في بيت مال العامة ستمائة ألف دينار وخلع المقتدر يوم الاثنين الثاني من بيعته على الوزير أبى أحمد العباس بن الحسن خلعا مشهورة الحسن وقلده كتابته وأمر بتكنيته وأن تجرى الامور مجراها على يده وقلد ابنه أحمد بن العباس العرض عليه وكتابة السيدة أمه وكتابة هارون ومحمد أخويه وكتب العباس إلى الكور والاطراف بالبيعة كتابا على نسخة واحدة وأعطى الجند مال البيعة للفرسان ثلاثة أشهر وللرجالة ستة أشهر وأمر أصحاب الدواوين على ما كانوا عليه وخلع المقتدر على سوسن مولى المكتفى الذى كان حاجبه وأقره على حجابته وخلع على فاتك المعتضدى ومونس الخازن ويمن غلام المكتفى وابن عمرويه صاحب الشرطة ببغداد وعلى أحمد بن كيغلغ وكان قد قدم يوم مبايعة المقتدر بقوم حاولوا فتق سجن دمشق وإقامة فتنة بها فحملوا على جمال وطوفوا وخلع على كثير من الخدم فمن كان إليه منهم عمل جعلت الخلعة عليه لاقراره وعلى عمله ومن لم يكن إليه عمل كانت الخلعة تشريفا له ورد المقتدر رسوم الخلافة إلى ما كانت عليه من التوسع في الطعام والشراب وإجراء الوظائف وفرق في بنى هاشم خمسة عشر ألف دينار وزادهم في الارزاق وأعاد الرسوم في تفريق الاضاحي على القواد والعمال وأصحاب الدواوين والقضاة والجلساء ففرق عليهم يوم التروية ويوم عرفة من البقر والغنم ثلاثون ألف رأس ومن الابل ألف رأس وأمر بإطلاق من كان في السجون ممن لاخصم له ولاحق لله عز وجل عليه بعد أن امتحن محمد بن يوسف القاضى
صفحة ١٧
أمورهم ورفع إليه أن الحوانيت والمستغلات التى بناها المكتفى في رحبة باب الطاق أضرت بالضعفاء إذ كانوا يقعدون فيها لتجاراتهم بلا أجرة لانها أفنية واسعة فسأل عن غلتها فقيل له تغل ألف دينار في كل شهر فقال وما مقدار هذا في صلاح المسلمين واستجلاب حسن دعائهم فأمر بهدمها وإعادتها إلى ما كانت عليه ولم يل الخلافة من بنى العباس أصغر سنا من المقتدر فاستقل بالامور ونهض بها واستصلح إلى الخاصة والعامة وتحبب إليها ولولا التحكم عليه في كثير من الامور لكان الناس معه في عيش رغد ولكن أمه وغيرها من حاشيته كانوا يفسدون كثيرا من أمره (وفى هذه السنة) كانت وقعة عج بن حاج مع الجند بمنى في اليوم الثاني من أيام منى وقتل بينهم جماعة وهرب الناس الذين كانوا بمنى إلى بستان ابن عامر وانتهب الجند مضرب أبى عدنان وأصاب المنصرفين من الحاج في منصرفهم ببعض الطريق عطش حتى مات منهم جماعة قال الطبري سمعت بعض من يحكى أن الرجل كان يبول في كفه ثم يشربه (وحج) بالناس في هذه السنة الفضل بن عبد الملك
ثم دخلت سنة 296 ذكر ما دار في هذه السنة من أخبار بنى العباس
فمن ذلك ما كان من اجتماع جماعة من القواد والكتاب والقضاة على خلع جعفر المقتدر وكانوا قد تناظروا وتآمروا عند موت المكتفى على من يقدمونه للخلافة وأجمع رأيهم على عبد الله بن المعتز فأحضروه وناظروه في تقلدها فأجابهم إلى تولى الامر على أن لا يكون في ذلك سفك دماء ولا حرب فأخبروه أن الامر يسلم إليه عفوا وأن من وراءهم من الجند والقواد والكتاب قد رضوا به فبايعهم على ذلك سرا وكان الرأس في هذا الامر العباس بن الحسن الوزير ومحمد بن داود
صفحة ١٨
ابن الجراح وأبو المثنى أحمد بن يعقوب القاضى وغيرهم فخالفهم على ذلك العباس ونقض ما كان عقده معهم في أمر ابن المعتز وأحب أن يختبر أمر المقتدر وإن كان فيه محمل للقيام بالخلافة مع حداثة سنه وكيف يكون حاله معه وعلم أن تحكمه عليه سيكون فوق تحكمه على غيره فصدهم عن ابن المعتز وأنفذ عقد البيعة للمقتدر على ما تقدم ذكره ثم إن المقتدر أجرى الامور مجراها في حياة المكتفى وقلد العباس جميعها وزاده في المنزلة والحظوة وصير إليه الامر والنهى فتغير العباس على القواد واستخف بهم واشتد كبره على الناس واحتجابه عنهم واستخفافه بكل صنف منهم وكان قبل ذلك صافى النية لعامة القواد والخدم منصفا لهم في إذنه لهم ولقائه ثم تجبر عليهم وكانوا يمشون بين يديه فلا يأمرهم بالركوب وترك الوقوف على المتظلمين والسماع منهم فاستثقله الخاصة والعامة وكثر الطعن عليه والانكار لفعله والهجاء له فقال بعض شعراء بغداد فيه يا أبا أحمد لا تح * سن بأيامك ظنا واحذر الدهر فكم أه * لك أملاكا وأفنا كم رأينا من وزير * صار في الاجداث رهنا أين من كنت تراهم * درجوا قرنا فقرنا فتجنب مركب الكب * ر وقل للناس حسنا ربما أمسى بعزل * من بإصباح يهنا وقبيح بمطاع الا * مر ألا يتأنا اترك الناس وأيا * مك فيهم تتمنى وكان مما يشنع به الحسين بن حمدان على العباس أنه شرب يوما عنده فلما
سكر الحسين استخرج العباس خاتمه من أصبعه وأنفذه إلى جاريته مع فتى له وقال لها يقول لك مولاك اشتهى الوزير سماع غنائك فاحضرى الساعة ولا تتأخرى فهذا خاتمي علامة اليك قال الحسين وقد كنت خفت منه شيئا من هذا لبلاغات بلغتني عنه وكتب رأيت له إليها بخطه فحفظت الجارية وحذرتها فلم تصغ إلى قول الفتى ولا اجابته وكان الحسين يحلف مجتهدا أنه سمعه يكفر ويستخف بحق الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه قال في بعض ما جرى من القول قد كان أجيرا لخديجة ثم جاء منه ما رأيت قال فاعتقدت فتله من ذلك الوقت واعتقد غيره من القواد فيه مثل ذلك واجتمعت القلوب على بغضته فحينئذ وثب به القوم فقتلوه وكان الذى تولى قتله بدر الاعجمي والحسين بن حمدان ووصيف بن سوارتكين وذلك يوم السبت لاحدى عشرة ليلة بقيت من ربيع الاول من العام المؤرخ
صفحة ١٩
ذكر البيعة لابن المعتز
وفى غد هذا اليوم خلع المقتدر خلعه القواد والكتاب وقضاة بغداد ثم وجهوا في عبد الله بن المعتز وأدخل دار ابراهيم بن أحمد الماذرائى التى على دجلة والصراة ثم حمل منها إلى دار المكتفى بظهر المخرم وأحضر القضاة وبايعوا عبد الله بن المعتز فحضرهم ولقبوه المنتصف بالله وهو لقب اختاره لنفسه واستوزر محمد بن داود بن الجراح واستخلفه على الجيش وكان الناس يحلفون بحضرة القضاة وكان الذى يأخذ البيعة على الناس وعلى القواد ويتولى استحلافهم والدعاء بأسمائهم محمد بن سعيد الازرق كاتب الجيش وأحضر عبد الله بن على بن أبى الشوارب القاضى وطولب بالبيعة لابن المعتز فلجلج وقال ما فعل جعفر المقتدر فدفع في صدره وقتل أبو المثنى لما توقف عن البيعة ولم يشك الناس أن الامر تام له إذ اجتمع اهل الدولة عليه وكان أجل من تخلف عنه سوسن الحاجب فانه بقى بدار المقتدر مثبتا لامره
صفحة ٢٠