وبعد هنيهة جاء الخدم بالطعام، فحاولوا فتح شهوته بلذيذ الألوان وأنواعها وقد وضعت في أطباق من الفضة على مائدة كبيرة من الرخام.
وها قد جاءوا بالتين والعنب والليمون وبضروب من الحلوى، يعقبهم الساقي بمسك الختام؛ بخمر أرمني معتق لا ند له في غير قصر الملك.
جلس نبوخذنصر إلى المائدة والنفس منه في هواجس تضيع عندها الشهوة للطعام، نظر إلى المائدة نظرة الاشمئزاز، ثم رمق الخمر بنظرة العطف والولاء، فأكل قليلا وشرب كثيرا ثم انطرح على ديوان النشوة تحت ستار الرقاد.
فهل يا ترى ينقذه النوم من براثن الهواجس والغضب؟ هلا تشمله وهو نائم تلك السكينة التي تشمل أحقر النيام من العباد؟
خذ الجواب من الخدم والعبيد، اسمعهم وهم يتكلمون: لا راحة له في اليقظة ولا في المنام، هو ذا في عالم الأحلام يجهش ويئن، إنها لأحلام مخيفة، تراه يئن منها ويصيح، تراه يرغي ويزبد كأنه على العرش.
نعم، إن نبوخذنصر لفي عالم الأحلام، وما حلمه ظاهرا بأمر خطير، هو يحلم بشاب فلاح ذبح الفتاة التي أحبها، ذبحها لينقذها من ثالث غير كريم؛ هو يحلم ببالادان الذي ذبح معشوقته زبيبة لينقذها من الملك نبوخذنصر الذي أمر بأن تكون من نساء القصر، وبعث بخصيانه ليجيئوا بها إليه.
ولما أفاق نبوخذنصر من رقاده كانت الشمس قد مالت إلى المغيب، وأذيالها تفيض على الأفق نورا ذهبيا يوشي الضباب اللازوردي، ويحيط بالاثنين هنا وهناك خطوط حمراء من النار، فنهض من مضجعه وصعد على أجنحة هواجسه إلى شرفة عالية يطل منها على المدينة؛ على بابل العظيمة وما فيها من القصور الشاهقة، والمعابد الفخمة، والجنائن المعلقة، ومن التماثيل والجسور والأبراج.
أطل نبوخذنصر على بابل - على بابله - وهتف قائلا: ومن يتجاسر أن يغيظ سيدك الأكبر؟
ثم طوق الشرفة بنظرة من نظراته الملتهبة، فشاهد هناك الورد والياسمين والفل والمنثور نامية زاهرة في أفخر الآنية وأجملها، فتنشق من روائحها المنعشة، ولكنه لم ينتعش، ثم نظر إلى السماء فتجلى له البدر من وراء غيمة فضية الحواشي، فأنار الأرض وما فيها، وما أنار وجه الملك!
وكان بالقرب من هذه الشرفة قاعة كبيرة معدة للرقص والطرب تجيء الغيد بإشارة من الملك فيرقصن فيها رافلات بأثواب مهلهلة، ويضربن على الأعواد والطنابير فيحولن القصر إلى جنة لم يحلم بها غير نبي واحد من الأنبياء.
صفحة غير معروفة