واقترب إذ ذاك من المنضدة يمد يده إلى المسدس فخافت لوسيل وغيرت لهجتها. - يا عزيزي توفيق، أنا في حاجة الآن إلى المال أكثر منك، قد رهنت في الشهر الماضي خاتما هو أعز الأعلاق لدي؛ هو هدية من أمي يوم ميلادي؛ آخر ميلاد قضيته وإياها، وأحب أن أسترجعه؛ فإني منذ رهنته والنحس يكتنفني، فأشفق علي واكتف بما أسلفتك من الحب.
وتناولت منديلا وأخذت تمسح الدموع المتساقطة على وجنتيها الورديتين، ثم قالت: مذ عرفتك حتى الآن لم أسألك دولارا واحدا، بل أنت مدين لي. - يا بنت الخنا، جئت تهينينني في بيتي؟! والله ... - لا، لا، لا أحب أن أذكرك بذلك، ولو كنت تستطيع القيام بمعاشي لما ملت إلى أحد سواك، بل لما قبلت في بيتي غيرك من الناس. والآن جئت أرجوك أن تعيد إلي ما أخذته مني الليلة البارحة، هب أني أسألك قرضا في ساعة ضيقتي؛ فإني لم أدفع أجرة منزلي منذ شهرين - أقسم بالله - وصاحب البيت يهددني بالطرد؛ فإذا كنت لا ترثى لحالي، فما معنى صداقتك، بل ما معنى حبك؟ أخذت مني خمسين دولارا، أعد إلي نصف القيمة على الأقل. - اعلمي أني لم آخذ منك دولارا واحدا، وإذا عدت إلى هذه التهمة أبعثر دماغك برصاصة من هذا المسدس، وإذا كان هذا قصدك من زيارتي فتفضلي.
وأومأ بيده إلى الباب. - يجب أن أدفع أجرة غرفتي. - صاحب البيت ينتظر. - يجب أن أشتري فستانا لأمي. - لست موكلا بأمر أمك. - أتطردني إذن من بيتك؟ - اشكري ربك إذا خرجت سالمة، أنت أول من اتهمني بالسرقة، وقد عفوت عنك. اخرجي ولا تريني وجهك فيما بعد.
اقتربت لوسيل من المنضدة وفي نيتها أن تقبض على المسدس اتقاء للشر، فكان توفيق أسرع منها، فقبض على يدها بيمناه، ولطمها بالأخرى على وجهها. - يا بنت الخنا، تحاولين قتلي أيضا. - تسلبني مالي وتهينني وتضربني وتطردني من بيتك. ستندم يا توفيق زيدون على فعلاتك هذه، ستندم يا لص، يا وحش، يا ...
وخرجت من غرفته مسرعة.
ناداها توفيق، فتح الباب وسألها أن تعود فلم تجبه، لبس قبعته وتبعها، ولكنه لم يرها في الشارع ، راح إلى بيتها فوجد الباب مقفلا، فبات ينتظر أمام الباب علها تعود فخاب أمله، فعاد إلى غرفته يائسا وقد أخذه شيء من الندم على ما فعل.
حدثته نفسه ثانية بالانتحار، فكتب كلمة إلى أخته يودعها ويستغفرها، وأخذ المسدس قائلا: على الدنيا السلام، ولكنه حين رفع آلة الموت إلى رأسه مترددا. دق جرس التليفون فوضع المسدس وفي نفسه بعض الارتياح إلى صدفة وقفته مرة ثانية عن قصده، وراح يجيب للنداء.
الصوت صوت لوسيل. - ماذا تريدين؟ - ندمت على ما بدا مني، اغفر لي، تعال الليلة تسمع ما يسرك. - ماذا جرى؟ - سأخبرك عندما تحضر.
أخذه العجب من أمرها، هل تضمر له الشر؟ هل تدعوه لتغدر به؟ أو هل هي صادقة فيما تقول؟ إن كان الأول فتوفيق زيدون لا يخشى تهديد فتاة أو غدرها، وإن كان الثاني فقد يكون له في شدته سبيل إلى الفرج، ثم عاد إلى نفسه يؤنبها على ما فعل، ندم ندامة حقيقية على معاملته لوسيل تلك المعاملة، فقال يحدث نفسه: خلصتني من الموت مرتين، فينبغي أن أحسن في الأقل معاملتها، ولكنه أخذ العدة لكل ما قد يحدث، فراح يقابلها تلك الليلة والمسدس في جيبه. •••
عادت لوسيل إلى شغلها في المكتب أصيل ذاك النهار برغم ما جرى في منزل توفيق زيدون، عادت إلى شغلها برغم اضطراب ملك نفسها، وبرغم يأس كاد يذهب برشدها - على أنها وقفت هنيهة في باب دائرة الشرطة ولم تدخل، وقفت خائفة وذهبت حائرة - فدخلت المكتب كليمة الفؤاد، مشتتة البال، أسيرة الغم والهواجس، وإذ جلست إلى الآلة الكاتبة لتباشر عملها أحست بصداع شديد غشى بصرها، فبدت صفوف الأحرف أمامها كالأزرار البيضاء وقد ذاب سواد ما نقش فيها، فلم تكد تميز الألف من الباء، ولا الأعداد من أحرف الهجاء.
صفحة غير معروفة