وكانت هذه المجلات والجرائد تعيش في بلادنا، ويربح أصحابها الألوف من الجنيهات، وتستقر لهم بها صناعة يثرون منها مع ما فيها من الأذى، بينما كتابنا المصريون أمثال محمود عزمي يبحثون عن عمل آخر غير الصحافة يستطيعون أن يعيشوا منه؛ لأن صحفنا المصرية كان قد مضى عليها عشرون سنة وهي تعطل ويخرب أصحابها ويشتت محرروها، أما الصحف الأجنبية فلا تعل ولا يمس أصحابها أذى.
وكان علينا جميعا أن نقرأ كل يوم ما يكتبه لنا الصحفيون غير المصريين فيما يجب علينا وما لا يجب أن نتبعه في سياسة بلادنا من الخطط، كأن الصحفي الأجنبي هو الوحيد الذي كان يؤتمن على مصلحة مصر في الصحف، أما المصري فلا يؤتمن على ذلك.
وكان هذا شقاء.
وكان هناك صحفي غير مصري يكتب صباح مقالا افتتاحيا للمصريين عن فوائد الاحتلال البريطاني، وجهالات الوطنيين الذين لا يعرفون ما يقولون، وكان هذا الصحفي يسمي الزعيم مصطفى كامل «شحاذ بردنجوت»، وكان قبل ذلك يكتب في جريدة في الخرطوم، يشتم المصريين ويمدح الانجليز، وكان يكتب كل يوم مقالا عن الأوباش المجرمين الذين يطالبون بتحرير المرأة ومساواتها بالرجل في مصر، ويدعو الرجعيين إلى أن يملئوا صحيفته بآرائهم، فإذا وجد من ذلك فائدة مالية تملأ اليد فذاك، وإلا فإنه يدعو المجددين للكتابة في صحيفة ويحثهم على شتم الرجعيين ، ثم يدعو فيقول إن هذه الوزارة حسنة وتلك سيئة، وإن النظام البريطاني لا يفيد المصريين كثيرا، وإنما يفيدهم بناء الموانئ وصنع السفن إلخ. وعاشت تلك الجريدة طول عمرها تقول إن احتلال الإنجليز لمصر خير من استقلالها، وكانت صحيفة غير مصرية أخرى في الصراع الذي قام بين الخديو توفيق والحزب الوطني تمالئ الخديو وتساعده على الأمة التي نكبت به.
وكان كل هذا مسبة لذكائنا ووطنيتنا وعارا بل فضيحة لتغلب هذه الصحف على صحافتنا.
وهكذا كان أولئك الصحفيون غير المصريين أغنياء، وكنا نحن الصحفيين المصريين فقراء، وليس ذلك لأنهم أذكياء ونحن بلداء؛ لأننا كنا نكتب بضمير وطني، ونغضب عندما نعتقد أن الغضب واجب، وهم يكتبون بضمير غير وطني ولا يغضبون لأية نكبة تنزل بنا، لأن الوطن ليس وطنهم بالعاطفة والقلب.
وكانوا لا يبالون بالأذى يصيب عقولنا، وهم أغنياء يملكون دورا كالقصور، ويعيشون في ترف قد لا يبلغه الوزراء، ولم تكن هذه الجرائد والمجلات غير المصرية تخشى تعطيلا من الحكومة، ولم يكن أحد من التجار يتوقع لها موتا قريبا أو بعيدا؛ ولذلك كانت تنال إعلاناتهم وتستحوذ بذلك على آلاف الجنيهات التي يحرم منها الصحفي المصري لأن التجار لا يثقون بصحفه إذ هي عرضة للتعطيل في كل وقت.
ونترك هذه الصحف غير الوطنية ونقصد إلى حيث كان يعيش الصحفيون المصريون، فكأنك انتقلت من مدينة الأحياء إلى جبانة الأموات. كنت تجد أحدهم قابعا في غرفة أو شقة وقد تأخر علية إيجاره لخمسة أو ستة أشهر، أو كنت تجده يصدر الصحيفة وهو لا يملك المطبعة، أو هو يملك المطبعة ولا يملك الصحيفة، وكنت تقرأ الصحيفة المصرية فلا تجد بها أخبارا لأنها عطلت مرارا حتى تركها المخبرون وبحثوا لهم عن عمل آخر يستطيعون أن يعيشوا منه.
ودار الصحيفة مصنع، تكتسب الخبرة فيه بالتجارب المتكررة ويحظى بعطف التجار بالاستمرار، فالصحيفة إذا عطلت 14 مرة في 10 سنوات، كما عطلت جرائد عبد القادر حمزة ومحمد التابعي وأحمد حافظ عوض وتوفيق دياب، لا تستطيع أن تحظى باعتماد التاجر في إعلانه، بينما كان الصحفي الأجنبي المحايد يمكنه أن يختار أحسن المخبرين ويشتري الورق بالثقة، وكان لا يمكن للصحفي المصري أن يفعل ذلك، كان قد مضى عليه عشرون سنة وهو مزعزع، تقفل داره في أي وقت، ويطرد إلى الشارع في أي وقت؛ ولذلك لم يكن يثق به أحد. عشرون سنة مضت من الاضطهاد للصحافة المصرية قضت علينا وجعلتنا فقراء.
وكانت لنا خصومات داخلية أسدلت على عيوننا غشاوة، فصرنا لا نفقه الحق ولا نستطيع تمييزه من الباطل، حتى بتنا ينبذ بعضنا بعضا بالخيانة، فصار الدستوري لا يقرأ جرائد الوفد، وصار الوفدي لا يقرأ جرائد الدستوريين؛ فانتهت القصة أو المهزلة بأن التجأنا إلى الجرائد المحايدة نقرأها لأنها ليست وفدية ولا دستورية.
صفحة غير معروفة