الفصل الثالث عشر
بين العراق والشام
تحدث الناس في مختلف الأقطار بفعال خالد بن الوليد في العراق العربي، وبانتصار المسلمين على الفرس في جميع المواقع التي التحموا فيها، وكان لهذه الأنباء من الصدى في الشام وفي باديته ما نبه عاهل الإمبراطورية الرومية الشرقية في مستقره بيزنطية وما أثار تفكيره، فالغساسنة الذين يقيمون تحت كنفه بالشام عرب كاللخميين وبني تغلب وإياد والنمر وغيرهم ممن يقيمون على حدود العراق ويتغلغلون بين النهرين فيه، وقبائل بني بكر وبني عذرة وبني عدوان وبني بحرة تقع منازلهم على تخوم الغساسنة وبادية الشام، أليس طبيعيا أن يفكر المسلمون في غزو الشام العربي كما فكروا في غزو العراق العربي؟! هذا أمر يجب الاحتياط له والحذر منه ويجب لذلك تحصين التخوم بين الشام وبلاد العرب وجعلها من المنعة بحيث تصد المسلمين عن التفكير في العدوان على أية ناحية من الإمبراطورية الرومية.
إلى هذا الاتجاه انصرفت سياسة الروم، فانقلبت من الطمأنينة إلى الحذر لقد كان هم المسلمين في عهد الرسول أن يحصنوا تخوم العرب في الشمال مخافة عدوان الروم عليهم بتحريض اليهود والنصارى الذين أجلاهم الدين الجديد عن شبه الجزيرة، أما اليوم فالروم هم الذين يعنون بتحصين تخومهم في الجنوب مخافة عدوان المسلمين عليهم بقوة إيمانهم وبما كفل لهم هذا الإيمان من نصر وفتح ولم يكن هذا الخاطر الذي أثار هواجس هرقل بعيد عن تفكير أبي بكر، بل كان يتردد في نفسه مذ بدأت طلائع النصر تساير أعلام المسلمين في حروب قبل الفراغ من هذه الحروب، خشية انتفاض العرب عليه وثورتهم به كرة أخرى، فلما هون المثنى بن حارثة الشيباني أمر العراق، ولما انطلق خالد بن الوليد يكتسح أمامه الفرس وأهل البادية ويضع يده على الحيرة ويجعلها عاصمته، ازداد أبو بكر تفكيرا في أمر الشام، إن به من قبائل العرب مثل ما بالعراق، وقد انضمت بعض قبائل العراق إلى جيوش المسلمين وحاربت في صفوفهم جيوش كسرى مع بقائها على نصرانيتها، لا جرم أن تفعل قبائل الشام فعلها ، فالروم حكام على الشام، وبينهم وبين قبائل البادية المقيمة به من اختلاف الجنس واللغة ما بين الفرس والعرب على شواطئ دجلة والفرات، فإذا تقدم العرب في الشام وتغلبوا على جنود الروم تنضم عرب الشام إلى أبناء عمومتهم من أهل شبه الجزيرة، ومن شأن هذا الانضمام أن يزيد المسلمين طمأنينة إلى النصر على عدوهم، وأن ينتهي بهم إلى الاستقرار في هذه البلاد الممرعة الخصب مع بني عمومتهم، فإن أسلم هؤلاء يوما كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.
وزال كل تردد في نفس أبي بكر حين سلمت دومة الجندل وفتحت أبوابها للمسلمين، لكن انشغال قوات المسلمين بالعراق وبقتال المرتدين في الجنوب من شبه الجزيرة جعله يؤثر أن يقف من الروم موقف المدافع، فلا يبدؤهم بقتال إلا أن يبدءوه به، ولقد كانت أوامره إلى قواده على تخوم الشام صريحة في هذا المعنى كل الصراحة، ولم تكن الروم من جانبها لتجازف باجتياز تلك التخوم وهم يرون المسلمين ينتصرون في كل مكان، بذلك ظل الفريقان على حذر بعضهم من بعض، وأكبر هم هؤلاء وأولئك ألا يشتبكوا في قتال.
وزاد الروم إيثارا لهذا الموقف أن القوات التي أوفدها أبو بكر عقب بيعته إلى شمال شبه الجزيرة لقتال من ارتد ولحماية التخوم بقيت سليمة لم يصبها أذى فقد عادت القبائل هناك إلى سلطان المدينة دون أن يستحر قتال، اللهم إلا دومة الجندل، إذ أصرت على انتفاضها فقاومت عياضا وظلت متحصنة منه حتى فض ابن الوليد حصونها، وكانت قوات الروم من أهل فلسطين ومن عرب البادية المقيمين على حدود الحضر؛ فلم يكن يدفعها إلى مقاتلة العرب وازع نفساني يحبب إليها الموت انتصارا لحق تعلى كلمته، أو لمثل أعلى تحرص على تحقيقه.
كان قائد المسلمين على هذه التخوم خالد بن سعيد بن العاص قيل: إن أبا بكر لما عقد الألوية لقتال أهل الردة عقد لخالد فيمن عقد، فنهاه عمر بن الخطاب عن تأميره، وقال له: «إنه لمخذول، وإنه لضعيف التروئة؛ وما زال يحرضه على عزله حتى جعله أبو بكر ردءا بتيماء على تخوم الشام ، ولم يجعله على من يقاتلون المرتدين.
ونزل خالد تيماء وقد أمره أبو بكر ألا يبرحها، وأن يدعو القبائل التي حولها إلى الانضمام إليه إلا من ارتد منهم، وألا يقاتل إلا من قاتله حتى يأتيه أمره ونفذ خالد أمر الخليفة، فاجتمعت إليه جموع كثيرة جعلت عسكره عظيما وترامت إلى الروم أنباء هذه الجموع على تخومهم، فلم يبق لدى هرقل ريب في وجوب دفعهم؛ ولهذا الأمر اتخذ عدته وترامت إلى خالد بن سعيد من ذلك أنباء سارع فبعث بها إلى المدينة مشفوعة برأيه أن يأذن الخليفة له في منازلة الروم ومن انضم إليهم من قبائل العرب بالشام، مخافة أن يأخذوه ومن معه على غرة.
فكر أبو بكر في رسالة خالد بن سعيد وطال تفكيره، إن الأنباء الواردة من جنوب شبه الجزيرة حسنة كلها، لقد قضى عكرمة بن أبي جهل والمهاجر بن أبي أمية على المرتدين هناك، وعما قريب يرجع عكرمة بجيوشه ويظل المهاجر أميرا على اليمن ومتى عادت جنود المسلمين كان إرسال المدد إلى الشام يسيرا، لكن أوتكفي هذه الجنود لقتال الروم ولغزو الشام وعند الروم من العدد والعدة ما لا يجهله أبو بكر، وما تغلب هرقل به من قبل على فارس؟ أوليس من الخير أن يستعين بمن بقي على إسلامه من أهل الجنوب ليبعثهم إلى الشام! فإذا ذهبوا فلن يقاوم الروم أكثر مما قاوم الفرس في العراق العربي.
وأصبح يوما دعا إليه عمر وعثمان وعليا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبا عبيدة بين الجراح ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وجلة المهاجرين والأنصار من أهل بدر وغيرهم، فدخلوا عليه، فتحدث إليهم وذكر لهم أن رسول الله كان عول أن يصرف همته إلى الشام فقبضه الله إليه، واختار له ما لديه «والعرب بنو أم وأب وقد أردت أن استنفرهم إلى الروم بالشام، فمن هلك منهم هلك شهيدا، وما عند الله خير للأبرار، ومن عاش منهم عاش مدافعا عن الدين، مستوجبا على الله (عز وجل ) ثواب المجاهدين» ثم طلب إليهم رأيهم؛ فقال عمر: «والله ما استبقنا إلى شيء من الخير قط إلا سبقتنا إليه، قد والله أردت لقاءك بهذا الرأي الذي ذكرت، فما قضى الله أن يكون ذلك حتى ذكرته الآن، فقد أصاب الله بك سبل الرشاد سرب إليهم الخيل في إثر الخيل، وابعث الرجال تتبعها الرجال والجنود تتبعها الجنود؛ فإن الله عز وجل ناصر دينه ومقر الإسلام وأهله ومنجز ما وعد رسوله».
صفحة غير معروفة