مات كما ماتوا، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فشهد قومه كشهادته وعادوا إلى إسلامهم وثبتوا عليه.
لم يثن رجوع بني عبد القيس إلى الإسلام سائر أهل البحرين عن ردتهم، بل اجتمع الذين أصروا على الردة بزعامة الحطم بن ضبيعة أخي بني قيس بن ثعلبة، فردوا الملك في آل المنذر بن النعمان بن المنذر، وكان يسمى الغرور، ثم إنهم حاولوا أن يصرفوا الجارود والذين معه عن إسلامهم، فذهبت محاولتهم سدى، عند ذلك خرج الحطم حتى نزل القطيف وهجر واستغوى من بهما من الأبناء، كما ضم إليه من لم يكن دخل في الإسلام من قبل، وحاصر الجارود ومن معه في ناحية جواثي، مؤيدا من فارس وبلاطها، ولقد ألح عليهم في الحصار حتى اشتد عليهم الجوع وكادوا يهلكون، مع هذا لم يرجع عن إسلامه منهم أحد، وهانت عليهم الحياة في سبيل دينهم الحق.
وفيما هم كذلك كان أبو بكر قد رد العلاء بن الحضرمي إلى البحرين على رأس لواء من الولاية الإحدى عشرة لقتال المرتدين فيها، ولم يذهب العلاء إليها حتى كان خالد بن الوليد قد قضى على مسيلمة وأتباعه، لذلك أسرع من عاد إلى الإسلام من بني حنيفة ينضمون إلى العلاء حين مر باليمامة، لحق به ثمامة بن أثال في المسلمين من قومه، وقيس بن عاصم المنقري كذلك، كما جاء كثير من أهل اليمن ومن سائر القبائل التي شعرت بقوة المسلمين وبأن سلطانهم لا محالة عائد كما كان، ولا عجب! فذلك شأن الناس في كل أمة وعصر، يتبعون القوة؛ لأنهم يحسبون أن الحق يدعمها كما تدعمه، ويرون أنها لا تستطيع أن تقوم وحدها إذا كان أساسها الجور والظلم، ولقد كان قيس بن عاصم قبل أن ينضم مع قومه إلى العلاء، فيمن منعوا الزكاة وردوا الصدقات إلى الناس، فلما مر العلاء باليمامة بعد انتصار خالد، عاد قيس فجمع الصدقات وساقها إليه، ونزع عن الأمر الذي كان هم به وخرج معه إلى قتال أهل البحرين.
وانحدر العلاء بمن معه من الجند، وسلك بهم مفاوز الدهناء إلى غايته، فلما جن الليل أمر الناس بالنزول حتى لا يضلوا في تيه الصحراء، فلما نزلوا نفرت إبلهم وتفرقت في الصحراء بما عليها من الزاد والماء، ولم يجد الجند ما يقتاتون منه أو يطفئون به ظمأهم، هنالك ركبهم من الهم ما ركبهم، وأيقنوا الموت فأوصى بعضهم إلى بعض، وتحدث إليهم العلاء فقال: «ما هذا الذي ظهر فيكم وغلب عليكم؟!» وأجاب الناس: «كيف نلام ونحن إن بلغنا غدا لم تحم شمسه حتى نصير حديثا.» ورد عليهم العلاء ممتلئ القلب إيمانا يقول: «أيها الناس لا تراعوا! ألستم مسلمين؟! ألستم في سبيل الله؟! ألستم أنصار الله؟!» قالوا: «بلى!» قال: «فأبشروا، فوالله لا يخذل الله من كان في مثل حالكم.»
وهنا تجري الرواية بأنهم بعد أن صلوا الفجر نصبوا في الدعاء، حتى إذا بزغت الشمس لمع لهم سراب ثم آخر ثم ثالث، قال رائدهم: إنه الماء، فمشوا حتى نزلوا عليه فشربوا واغتسلوا ونالوا منه ما شاءوا، وتعالى النهار، فإذا إبلهم تعود إليهم من كل صوب وتبرك؛ فقام كل رجل إلى رحله فركبه، ثم إن أبا هريرة وصاحبا له من أهدى العرب بهذه البلاد كرا راجعين إلى المكان الذي كان به الماء فإذا هو لا غدير به ولا أثر للماء فيه، وقال الذي له علم بهذه الأنحاء إنه يعرف هذا المكان وإنه لم ير به ماء ناقعا قبل اليوم، ومن ثم قيل: إنما كان ذلك من آيات الله، وإن الماء إنما كان منا من الله.
ويبدي بعض المستشرقين الشك في هذه الرواية، وسواء أكان لهذا الشك موضع أم لم يكن، فقد ارتحل العلاء وجيشه إبلهم وتابعوا السير حتى بلغوا البحرين، وأرسل العلاء إلى الجارود يشد من عزيمته وعزيمة من معه، ووقف هو من الحطم موقف المتأهب للقتال، لكنه رأى المرتدين في عدد وعدة يجعلان المواجهة والهجوم عسيرين؛ لذلك خندق المسلمون وخندق المرتدون، وجعلوا يتراوحون القتال ثم يرجعون إلى خنادقهم، وأقاموا كذلك شهرا لا يدري أيهم ما يكون المصير، وإنهم لكذلك إذ لاحت للمسلمين ذات ليلة فرصة غنموها، فكانت القاضية على خصومهم قضاء حاسما.
ذلك أنهم سمعوا في عسكر المشركين ضوضاء، شديدة كأنها ضوضاء هزيمة أو قتال، فبعث العلاء من قص له الخبر، وعرف أن القوم أمعنوا تلك الليلة في الشراب، وأنهم سكارى لا يملك أحدهم دفعا عن نفسه، عند ذلك خرج المسلمون من خنادقهم واقتحموا عليهم عسكرهم ووضعوا السيوف فيهم، وجعلوا يقتلون منهم كل من أصابوا، وفر المرتدون هربا، فإذا هم بين مترد في الخندق، ودهش مقتول، ومأسور، وناج لا يعرف لنفسه مستقرا، ومر قيس بن عاصم على الحطم ملقى على الأرض فقتله، وأسر عفيف بن المنذر الغرور، فقال له العلاء: أنت غررت هؤلاء! فأسلم الغرور وهو يقول: إني لست بالغرور، ولكني المغرور! وعفا العلاء عنه.
وفر الذين نجوا من الموت أو الأسر، وركبوا الشراع إلى جزيرة دارين، فتركهم العلاء بها ريثما جاءته الكتب تنبئه بأن من بقي بالبحرين من القبائل قد فاءوا إلى أمر الله، وكان جيشه قد ازداد عدده بمن انضم إليه من أهل البلاد ومن الأبناء الذين بها، عند ذلك أمر الناس بالذهاب إلى دارين حتى لا يبقى لمرتد في الأرض ملجأ.
ودارين جزيرة من جزر الخليج الفارسي، تواجه البحرين، كان بها أديار خمسة لخمس شعب من النصارى، وتجري الرواية بأن العلاء لما أمر المسلمين بالذهاب إليها لم تكن لديهم سفن يركبون البحر عليها، فنهض فيهم فقال: «قد أراكم الله من آياته في البر لتعتبروا بها في البحر؛ فانهضوا إلى عدوكم ثم استعرضوا البحر إليهم فإن الله قد جمعهم.» وأجاب قومه: «نفعل ولا نهاب بعد الدهناء والله هولا ما بقينا!» وارتحلوا، حتى إذا أتوا ساحل البحر اقتحموا على الخيل والبغال والحمير والجمال ودعوا الله، فاجتازوا البوغاز يمشون على مثل رمله ميثاء فوقها ماء يغمر أخفاف الإبل، أفكان ذلك ساعة جزر الخليج الفارسي، أم في الرواية مبالغة وأن الأبناء الذين انضموا إلى المسلمين أعاروهم سفنا عبروا البحر عليها؟ لم تجر الرواية بهذا التصوير الأخير وإن كان في رأي بعض المؤرخين محتملا، وأيا ما يكن الأمر، فقد بلغ المسلمون دارين والتقوا فيها بالفارين فقاتلوهم أشد القتال، حتى أتوا عليهم لم يتركوا منهم مخبرا، وسبوا الذراري وساقوا الأموال التي بلغت كثرتها حدا جعل نفل الفارس ستة آلاف والراجل ألفين.
1
صفحة غير معروفة