ويذكر آخرون أن قتادة ذهب إلى المدينة بعد أن تزوج خالد أم تميم، وأن متمم بن نويرة أخا مالك ذهب معه، فلما بلغا المدينة ذهب أبو قتادة ولا يزال الغضب آخذا منه مأخذه، فلقي أبا بكر فقص أمر خالد وقتله مالكا وزواجه من ليلى، وأضاف أنه أقسم ألا يكون أبدا في لواء عليه خالد، لكن أبا بكر كان معجبا بخالد وانتصاراته، فلم يعجبه أبو قتادة، بل أنكر منه أن يقول في سيف الإسلام ما قال.
أترى الأنصاري هاله غضب الخليفة فأسكته؟ كلا! فقد كانت ثورته على خالد عنيفة كل العنف، لذلك ذهب إلى عمر بن الخطاب فقص عليه القصة وصور له خالدا في صورة الرجل الذي يغلب هواه على واجبه، ويستهين بأمر الله إرضاء لنفسه، وأقره عمر على رأيه وشاركه في الطعن على خالد والنيل منه، وذهب عمر إلى أبي بكر وقد أثارته فعلة خالد أيما ثورة، وطلب إليه أن يعزله؛ وقال: «إن في سيف خالد رهقا
1
وحق عليه أن يقيده.» ولم يكن أبو بكر يقيد من عماله، لذلك قال حين ألح عمر عليه غير مرة: «هبه يا عمر تأول فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد.» ولم يكتف عمر بهذا الجواب ولم يكف عن المطالبة بتنفيذ رأيه، فلما ضاق أبو بكر ذرعا بإلحاحه قال: «لا يا عمر! ما كنت لأشيم
2
سيفا سله الله على الكافرين.»
لكن عمر كان يرى صنيع خالد نكرا، فلم تطب نفسه ولم يسترح ضميره، كيف إذن يسكت، وكيف يذر خالدا في طمأنينته يشعر كأنه لم يأثم ولم يجن ذنبا! لا بد أن يعيد القول على أبي بكر وأن يذكر له في صراحة أن عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله ونزا على امرأته، فليس من الإنصاف في شيء ألا يؤاخذ بصنيعه، ولم يسع أبا بكر إزاء ثورة عمر إلا أن يستقدم خالدا ليسأله ما صنع، وأقبل خالد من الميدان إلى المدينة، ودخل المسجد في عدة الحرب مرتديا قباء له عليه صدأ الحديد وقد غرز في عمامته أسهما ، وقام إليه عمر إذ رآه يخطو في المسجد فنزع الأسهم من رأسه وحطمها وهو يقول: قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته! والله لأرجمنك بالأحجار. وأمسك خالد فلم يعترض ولم يقل شيئا، ولا يظن إلا أن رأي أبي بكر مثل رأي عمر فيه، ودخل على أبي بكر وقص عليه قصة مالك ومناصرته سجاح وتردده بعد ذلك، وجعل يلتمس المعاذير عن قتله، وعذره أبو بكر، وتجاوز عما كان منه في الحرب؛ لكنه عنفه على التزويج من امرأة لم يجف دم زوجها، وكانت العرب تكره النساء في الحرب، وترى الاتصال بهن أثناءها عارا أي عار.
وخرج خالد من عند الخليفة ناجيا بإمارته على الجند، متأهبا للعود إليهم وقيادتهم إلى اليمامة، ومر بعمر - وكان ما زال في المسجد - فالتفت إليه وقال: هلم إلي يا بن أم سلمة! قال هذه العبارة وفي عينيه نظرة الساخر، وفي صوته نبرة المنتصر، وكأنه يقول: استبق أحجارك فارجم بها غيري، وأيقن عمر أن أبا بكر عذره وغفر له وأظهر الرضا عنه، فأمسك بدوره. انقضى ذلك اليوم بينهما عند مبادلة هذه العبارات.
على أن عمر لم يتزحزح عن رأيه فيما صنع خالد، فلما توفي أبو بكر، وبويع عمر خليفة له، كان أول ما صنع أن أرسل إلى الشام ينعي أبا بكر، وبعث مع البريد الذي حمل النعي رسالة يعزل بها خالدا عن إمارة الجيش، وقد عاتبه خالد على ذلك حين رجع إلى المدينة، فكان جواب عمر: «ما عزلتك لريبة فيك، ولكن افتتن بك الناس فخشيت أن تفتتن بالناس.» وهذه حجة لها قيمتها، لكن إجماع المؤرخين منعقد على أن عمر بقي متأثرا برأيه في موقف خالد من مقتل مالك بن نويرة وزواجه امرأته، وأن هذا الرأي كان له أثره من بعد في عزل خالد.
لم يكن نشاط متمم بن نويرة بأقل من نشاط أبي قتادة منذ قدم معه المدينة، فقد طلب إلى أبي بكر دية مالك فوداه، وتحدث إليه في سبيهم فكتب إليه برد السبي، وأقام متمم بالمدينة زمنا طال إلى ما بعد غزوة اليمامة، ثم كان موضع العطف الشديد من عمر لإصرار عمر على رأيه في خالد، وكان متمم قد قال في أخيه مراثي كثيرة لا تزال تعد من عيون الشعر العربي. ذكروا عن السبب في اتصال المعرفة بين متمم وعمر أن ابن الخطاب كان يصلي الصبح يوما، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل قصير أعور متنكبا قوسا وبيده هراوة، فسأل من هذا، وعرف أنه متمم بن نويرة؛ فاستنشده قوله في أخيه، فأنشد إحدى قصائده حتى بلغ قوله:
صفحة غير معروفة