ومنذ ذلك اليوم أصبح عبد القادر لا يستحم ولا يغير ملابسه إلا إذا زار بيته في القاهرة، وقليلا قليلا ما كان يزور بيته في القاهرة.
يشتري أرضا بالمنصورة
كان لا بد أن يكون لعبد القادر أصدقاء، وقد كان له أصدقاء فعلا، وقد أحسن اختيارهم؛ إنهم السماسرة، وقد كان مع السماسرة أمينا في المعاملة لا حبا في الأمانة ولكن حبا في عقد الصفقات الرابحة، وقد كان عبد القادر يعطي السمسار حقه كاملا غير منقوص وغير زائد أيضا بطبيعة الحال. وقد دله سمسار على صفقة مع رجل ألماني يملك أرضا بعزبة قريبة من المنصورة، كان الألماني مهتما بها غاية الاهتمام؛ فقد بنى بها بيتا أرضيته من الخشب الباركيه، وبنى بها بيتا آخر لناظر العزبة، وأجرى الماء فيها داخل قنوات من الإسمنت المسلح، وبها تروللي يمر على كل شبر من الأرض، وقد كانت العزبة تستطيع أن تجد مشتريا خيرا من عبد القادر؛ فعبد القادر لا يعنى بالبيت المنشأ. ولا يهمه في شيء كيف يجري الماء، ولا يهمه أيضا أن يلف العزبة راكبا الترولي فإن قدميه عن الترولي.
ولكن استفاد من وجود هذه الأشياء أن صاحب العزبة كان مهتما بها، والواقع أن في إطلاقنا على الأرض كلمة عزبة ظلما كبيرا لها فهي تفتيش واسع مساحته ألف فدان. والفرصة التي أتيحت لعبد القادر أن صاحب التفتيش يريد أن يبيعه في أسرع وقت وأن يحصل على الثمن كاملا.
فحين قصد السمسار إلى عبد القادر قصد إليه وهو يعلم أنه يكاد يكون الشخص الوحيد الذي يجد معه المبلغ كاملا.
كان الفدان يساوي في ذلك الحين مائتي جنيه، ولكن عبد القادر الذي أدرك الموقف استطاع أن يشتري الفدان بمائة جنيه، والبائع لم يجد حيلة للمناقشة، فأين يجد رجلا يملك مائتي ألف جنيه جاهزة ويريد أن يشتري أرضا؟ لعله كان يجد له لو كان ملك فسحة من الوقت ولكن لا وقت. وهكذا انقض عبد القادر على الصفقة انقضاض النسر. وسافر في سيارة المالك الألماني وطاف بالأرض طوافا سريعا ولم يلق أي اهتمام بالبيتين ولا بالترولي ولا بقنوات الماء. واستطاع أن يخفي فرحته باتساع الأرض؛ فقد كان عبد القادر يملك وجها فريدا في نوعه؛ فإن رأيته خيل إليك أنه يلبس على وجهه قناعا من المطاط الرقيق لا تبين فيه خلجة فرحة ولا نأمة سرور ولا علامة حزن، وإنما هو وجه بلا أي تعبير، ولولا إفرازات عينيه التي لا تنقطع عن جوانبها لتأكد لديك أنه يضع هذا القناع، اللهم إلا إذا أمسكت بوجهه لتتأكد أنه بشرة آدمية لا صناعة فيها، وما أظنك ستفعل؛ فإنه بملابسه التي توحي إليك بمقدار قذارته يمنعك إن كنت ممن يحبون النظافة أن تفعل؛ ولهذا ... لم يكن غريبا على أحد عظماء الصعيد ما كان يفعله مع عبد القادر كلما ذهب لزيارته؛ فقد كان يجلس في آخر الحجرة وما يكاد يلوح عبد القادر عند الباب حتى يعاجله عظيم الصعيد بقوله: عندك وقل ما تريد.
ولم يكن عبد القادر يغضب لكرامته فمسألة الكرامة عنده ليست ذات بال. كان يقف ويقول ما يريد، ويقضيه له العظيم أو لا يقضيه حسب الموضوع المطروح.
وكان عبد القادر يسخر من العظيم في نفسه فهو يملك آلاف الأفدنة بينما العظيم مدين مع غناه؛ لأنه كان ينفق أكثر من إيراده على وجاهته.
وهكذا طاف عبد القادر بالتفتيش وعاد إلى القاهرة. وإياك أن تظن أن معنى عودته إلى القاهرة أن يعود إلى بيته. إنه كان يبيت في لوكاندة بسيدنا الحسين تؤجر فيها الغرفة بعشرة قروش، وكان يستأجر الغرفة كاملة لمبيته وكان يجد هذا أوفر من ذهابه إلى البيت فقد تطالبه زوجته بمال، إنه لن يعطيها ولكن المطالبة نفسها لا يطيقها ثم هو سيواجه على كل حال بهذا الحمام والملابس، وقد كان لا يحب أن يلبس هذه الملابس النظيفة لأنها قد توحي للناس بغناه؛ وهذا في ذاته سبب كاف أن يبقى على نفسه هذه الملابس المهلهلة، ثم بماذا سيتسلى إن لبس النظيف من الثياب وتركه القمل الذي يجمعه آخر الليل إذا خلا به الليل.
عاد إذن إلى القاهرة، وأصبح الصباح فكان هو يستقبل إشراق الشمس مع أن موعده مع البائع كان في الرابعة من بعد الظهر، نزل من اللوكاندة فأفطر وكان إفطاره رغيفا من العيش وبنصف قرش طعمية، ثم دلف إلى مسجد الحسين فتوضأ وصلى الصبح، وظل جالسا بالمسجد لا يصنع شيئا حتى إذا اقترب موعد صلاة الظهر قام قاصدا مسجد السيدة زينب ليصلي الظهر. وهناك وجد متصدقا يوزع العيش والفول النابت على فقراء المسجد، الحمد لله لقد أتانا غداؤنا، ولم يكن الموزع ليجد أصلح من عبد القادر في مظهره ليتصدق عليه مما يتصدق به على الفقراء، وهكذا تناول عبد القادر غداءه، بل وأخذ أيضا خمسة تعريفة كانت ضمن النذر الذي يوزعه المتصدق. وفلسفته بسيطة لا تحتاج إلى نقاش، خير جاء لي من عند ربنا، هل أرده؟
صفحة غير معروفة