وهبته حبي ووفائي ويخون.
طفلة كنت حين تزوجنا وبهرني منه حديث منمق وقوام رشيق ووجه وسيم.
وحين عرفت الحياة وجدته بلا ضمير ووجدت حديثه المنمق طلاء وبلا معنى ولا نبض، وكانت طفلتي قد جاءت؛ فكان لا يمكن أن أتركه، وقبلت أن أعيش معه وهو تافه وسخيف أما أن يصل الأمر إلى الخيانة، ولكن ما لي أغضب لخيانته كل هذا الغضب، ما دمت لا أحبه فما حرصي على وفائه. لعلني حريصة على كرامتي، وما شأن كرامتي ما دام يخفي عني خيانته؛ فكرامتي إذن سالمة لم يمسها أحد فحين كشفت ما كان خافيا حينئذ. - إني محام. - كنت. - وما زلت. - بل كنت. - وللمحامين زبائن . - هل أنت مصمم أن تقول؟ - كل التصميم. - وماذا يضيرك ما دمت لا تتعب. - أرادت هذه الموكلة أن تلتقي بي خارج المكتب فكان لا بد أن ألتقي بها، إن المحامي طبيب نفسي عليه أن يشعر زبائنه دائما أنهم في أمن واطمئنان ما داموا في مكتبه وفي حمايته القانونية.
كل ما بلغك غير هذا كذب، لماذا لا تجيبين؟ أي إنسان لا يجوز أن يخبر الزوجة بما يصنعه زوجها حتى لو كانت هذه الأخبار صحيحة، إن للبيوت قدسية لا يجوز لأحد أن يحطمها، إن هؤلاء الذين كلموك عني إنما يريدون أن يحطموا البيت الذي بنيناه من أحلام طفولتنا ومن ظلال صبانا، ومن أوهام شبابنا ومن حقيقة وجودنا، ألا تذكرين؟ وإنما كنت تحبين أن تسمعي الذكريات وكنت تكملينها ما لك لا تكملين؟
أتذكرين يوم كانت دادة حميدة تلقي بنا معا في البانيو عرايا ولم نكن نجد حرجا في ذلك يومذاك، كنا نضحك وأرشك بالماء وتضحكين، ثم نستحم ونخرج وكأننا طفلان أو طفلتان لا يفرق بيننا جنس مختلف، أنت لا تسمعين لو كنت تسمعين لاحمرت وجناتك فقد كانت وجناتك تحمر دائما كلما ذكرتك ببانيو دادة حميدة، إذا كانت الأيام الطويلة لم تستطع أن تفرق بيننا أتستطيع ألسنة الناس، ألا تعرفين معنى مرور الأيام؟ إنها هذه الأيام التي تلقي الشيب إلى الرءوس وتلقي الغضون على الوجوه والترهل على الأجسام والضعف على الأبدان، هذه الأيام نفسها تمر على العلاقات الصادقة الأصيلة فتزيدها أصالة وتغرسها عميقة في صدر الزمن، فإذا الروحان مثلنا يصبحان حياة واحدة تنطلق أنفاسها من مصدر واحد قد اتحدت آمالها في الحياة واتحدت بينهما مصادر الرزق ومصادر الضيق ومصادر الفرح، لا لن أحدثك عن ابنتنا، إن كانت العلاقة بيننا لا تحتمي إلا بسهير فأنا لا أريد هذه العلاقة، لن أقول لك إن طلاقنا سيكون صدمة لسهير في بيت زوجها، أتصدقين هذه الخرافات وبنتنا الآن متزوجة، أتريني ما زلت شابا أصلح لهذا؟ كنت دائما تحبين سن الخامسة والأربعين لست صغيرا على كل حال. •••
لو علمت لماذا خنتك، لن تتصوري الأسباب، إنك قاسية، إنك تطلبين الكمال من كل من حولك ولا يستطيع من حولك أن يهبوا لك الكمال، أعلم أنك قسوت على نفسك وكنت مثالية في كل ما تصنعين ولهذا أردت من الجميع أن يصبحوا في مثل مثاليتك، عذبت نفسك بالمثالية فلماذا لا تعذبين الآخرين؟ ولكننا نحن الذين حولك بشر نريد أن نخطئ كما يخطئ الناس، وأن نعيش كما يعيش الناس ونتمتع بالحياة بكل الحياة. بما في الحياة من خطأ وما فيها من صلاح، كرهت عنفك ومحاسبتك على كل صغيرة، كرهت هذا فيك وأعجبت به فيك أيضا، أنت مثل أعلى أعبده ولا أريد أن أكون مثله، أتمنى أن أراه ولا أتمنى أن أكونه، ليتك تسمعين هذا الكلام ولكن كيف أقوله، إن فيه اعترافا بما فعلت وقد تحصلين مني على كل شيء، ولكنك لن تحصلي على هذا الاعتراف. •••
وأنت أيضا لست صغيرة، الغيرة لا تتفق مع سنك، أصغر مني أعلم ذلك ولكنك لست صغيرة، لا إجابة، لا إجابة على الإطلاق، إن كنت مصممة على الصمت، فابتسامة أو تكشيرة أو هزة رأس، أي شيء يشعرني أنني هنا إنني أقول شيئا. - لو كنت حيا لأمتعني هذا الحديث، ما زال لحديثك طلاوته، ما زال حديثك يستطيع أن يعيدني إليك. - لو كنت حيا؟! ألست حيا؟! - ألا تعلم أنك مت؟ - مت، ألهذا الحد تكرهينني، هل استطاعت الأقاويل أن تجعلني ميتا في نظرك؟ - لأنك مت. - أنا الآن لست حيا؟! - أتتصور نفسك حيا؟ - أليس هذا حقا؟ - ألا تعرف أنك مت؟ - لا تقولي هذا. - إنها الحقيقة. - ألست جالسا الآن أمامك، ألا تسمعين حديثي وتجيبين. - صوت من العالم الآخر. - فأنا ميت إذن. - هل تشك في ذلك؟ - بل إني واثق أني أعيش، إني حي ولكن لن أحيا معك ما دمت قد هنت عندك إلى هذه الدرجة. - علم الله لم تهن ولكنها الحقيقة. - إنها أمنياتك أنت. - إنها الحقيقة. - سأجعل منها حقيقة بالنسبة إليك؛ لن أعيش معك، لن ترى وجهي بعد اليوم. لن ترى وجهي بعد اليوم.
2
لعلها كانت تختاره من تلقاء نفسها إذا لم تتعرض لما تعرضت له، كيف قبل أبوها هذا، أبوها رجل القانون الذي ظل طول حياته يعلمها أن الحرية هي أثمن ما في الوجود، وأن حرية المرء هي حياته فإذا هي في سنها الباكرة تتنسم الحرية مع الهواء الذي تتنشقه، واثقة أنها تستطيع أن تمارس حريتها في كل صغيرة وكبيرة من حياتها، وقد عاشت منطلقة سعيدة بحريتها سعيدة بثقة أبيها فيها، حريصة أن تؤكد له دائما أنه يضع ثقته بين يدين جديرتين بها؛ فهي نقية دائما، تختار لنفسها أكرم مكان بعيدة كل البعد عن مواطن الشبهات، لا تكترث كثيرا بتضييق أمها عليها؛ فإنها يجب أن تسيطر عليها دائما، وتحب أن تحد من حريتها المنطلقة هذه في طبيعة لا تكلف فيها، وقد عرفت هي هذا في أمها؛ فهي تغفر لها قسوتها وتعيش حياتها كما تحب أن تعيش في حرية نقية صافية.
وهي في جمالها الرائع الأخاذ كفيلة أن تثير لدى الشباب ألوانا من المطاردة، وهي سعيدة بهذه المطاردة وهي أكثر سعادة حين ترى نفسها تردهم جميعا في كبرياء، وتدفعهم في عزة، لا يعنيها ماذا هي مثيرة حولها بكبريائها.
صفحة غير معروفة