وأيا كان المرجع في هذه النظم، فلا الخير ولا العقل يسيغان أن نتصور أن الاستغلال وجد لأن أناسا أرادوه وقالوا لأبناء مجتمعهم: نحن نريد أن نستغلكم، فقال لهم أبناء المجتمع: حبا وكرامة، ها نحن أولاء بين أيديكم، فاستغلونا كما تشاءون!
فما وجد الاستغلال قط؛ لأنه رغبة مستجابة لا معارضة فيها، وإنما وجد لأنه قدرة يستطيعها أناس ويعجز عنها أناس آخرون، وهذه القدرة إما أن تكون قدرة الشجاعة، أو قدرة الخبرة بفنون القتال، أو قدرة القيادة السلمية، أو قدرة البنية القوية التي تخضع من تغلبهم لمشيئتها وتروضهم على طاعتها.
وقلما تكفي البنية القوية وحدها لتمكين أحد من القيادة الدائمة ما لم تكن مقرونة بمزية عقلية أو خلقية تسندها وتدبر لها وسائل دوامها.
ونحن نقرأ في كلام «ماركس» و«إنجلز» أن المجتمعات البدائية انتقلت من عصر المشاعية إلى عصر الرق بعد أن تعودت الإغارة على جيرانها والتعويل على ثمرات أرضهم وكسب أيديهم، ولكنهما يعبران هذا الدور عبورا سريعا، ولا يقولان لنا كيف وجدت الطبقة التي تسترق العبيد من الأسرى الغرباء أو من أبناء القبيلة الضعفاء.
وهنا نرجع إلى الظاهرة النفسية لتفسير هذا السكوت أو هذا العبور السريع، فإن اللعبة كلها لعبة الهدم والنقمة - تبطل لا محالة إذ اعترف «ماركس» وأتباعه بالطبيعة الإنسانية التي تميز أناسا بالشجاعة، وأناسا بالدراية في فنون القتال، وأناسا بالحيلة والذكاء أو «بالشخصية» المطاعة لجملة هذه الصفات مجتمعات، وإذا اعترف «ماركس» بوجود هذه المزايا قبل أن توجدها وسائل الإنتاج لم يستطع أن ينفي كل النفي - على طريقته الجازمة الحاسمة - أن قيام الطبقة الغالبة ممكن بعد انهيار نظام رأس المال، ووصولنا إلى المجتمع الذي لا طبقات فيه، وما دامت الطبيعة الإنسانية قد عملت في إنشاء الطبقة الاجتماعية، فهي عاملة غدا في إنشائها بعد قيام المجتمع المزعوم الذي لا طبقات فيه، وليس في وسع «كارل ماركس» إذن أن يجزم ويعزم ويدمدم على من يناقضونه، ويحولون بينه وبين أمنيته العزيزة التي يضرب حولها السدود، ويأبى جهده أن يحوم حولها الخيال ولو على أبعد احتمال.
إن الثقات من رواة علم الإنسان لم يذكروا لنا مجتمعا في أعرق أطوار الهمجية خلا من الممتازين بمزية النسب أو الدراية أو القدرة، ولو أننا عرضنا قطعان الماشية التي تملكها تلك المجتمعات؛ لوجدنا بين تلك القطعان مزايا القيادة والزعامة وغزارة الدر وكثرة الذرية، فإذا كان الآدميون الذين يملكونها جمهرة من الناس لا تنوع بينهم، فما هم بالمجتمع ولا هم بالبنية الاجتماعية التي لها وظائفها وأعضاؤها وخصائصها ككل بنية حية، وتفصيل هذه الخصائص والمزايا مشروح في كتب علم الإنسان وعلم الأجناس البشرية التي لا نحصيها، ولكنها مجملة في باب الرتبة من كتاب «الجماعة البدائية» لمؤلفه الدكتور «روبرت لوي»
5
حيث يقول:
إن الأفكار المتطرفة في اختلاف الأقدار موجودة في جوانب شتى من العالم وقبائل «المايدو» الشماليون يصلحون نموذجا يقاس عليه، فهنا رئاسة انتخابية مبنية على الثروة والسخاء، ولكن «الشامان» إذا كان بصفة خاصة رئيسا للجماعة السرية له قدر يغطي على قدر الرئيس، والواقع أن انتخاب الرئيس إنما يكون بوساطة «الشامان»، الذي ينقل وحي الأرواح باختياره كما ينقل وحيها بإسقاطه.
ثم يقول:
صفحة غير معروفة