حاضر الشيوعية في منتصف القرن العشرين نتيجة لقرن كامل منذ منتصف القرن التاسع عشر، مضى أكثره في الدعاية والجدل، ومضت البقية منه في التطبيق أو محاولة التطبيق - بعد الحرب العالمية الأولى أي منذ أربعين سنة تزيد على تاريخ جيل كامل بحساب الأجيال البشرية، وتكفي لامتحان فلسفة الحياة التي تطبق في خلالها من المهد إلى عنفوان الشباب.
وقد أتيحت لدعاة المذهب خلال هذا الجيل فرصة لم تكن متاحة قط لمذهب اجتماعي أو عقيدة دينية؛ لأنهم ملكوا أزمة الحكم بين مائتي مليون إنسان، واجتاحوا كل عقبة أو تخيلوا أنها قائمة دون غايتهم، ولو كلفتهم ما لا يحصى من الأرواح واستباحوا من أجلها كل ما لا يستباح.
والحاضر - بعد هذه الفرصة التي دامت لهم أكثر من جيل كامل - أن مبادئ الفلسفة المادية لم تصنع شيئا غير ما يصنعه كل قابض على زمام دولة من الدول الكبار على الخصوص، لأن الاستكثار من الأسلحة والمصنوعات الضخمة سياسة تمت على أيدي النازيين في ألمانيا، والفاشيين في إيطاليا، وهم يناقضون الشيوعية في قواعدها ومقاصدها، ويدينون بالمبادئ التي قامت الفلسفة المادية لمحاربتها وإدحاضها. وهذه السياسة بعينها هي السياسة التي تمت على أيدي الرهط الاستعماري من نبلاء اليابان، فأنشئوا في بلادهم صناعة وافية بأغراض التسليح و«التصنيع» وبذر السلع المصنوعة في أسواق العالم بأيسر الأسعار.
وما أنجزته هذه السياسة في الدول الكبرى قد أنجزته سياسة مثلها في الدول الصغار، وشهدنا نماذج منه في بعض الأقطار الأوربية وما شاكلها من الأقطار البدائية أو الشبيهة بالبدائية في أمريكا الجنوبية، فليس في هذه السياسة فضل خاص للمذاهب الشيوعية أو لفلسفة «كارل ماركس» وأتباعه الروسيين.
وفيما عدا التسليح والتصنيع، يقال على الإجمال: إن التجربة في الدولة الشيوعية الكبرى قد نجحت بمقدار ما تركت من المذهب لا بمقدار ما أخذت منه؛ لأنها تبتعد سنة بعد سنة من عقائد المذهب الذي قامت عليه، ولا استثناء في ذلك لعقيدة واحدة من تلك العقائد، سواء منها ما يعم الحياة الاجتماعية وما يخص الحياة الفردية.
لا «ماركسية» إذا كان هناك دين ووطنية وأسرة وملكية خاصة وطبقة حاكمة، وتفاوت في درجات المعيشة كالتفاوت في مجتمعات رأس المال بين أغنى الأغنياء وأفقر الفقراء.
وكل ما في الدولة الشيوعية، في الوقت الحاضر بعد أربعين سنة - يدل على الاعتراف، ثم المزيد من الاعتراف بتلك المحرمات المحظورات التي قامت الماركسية لمحوها أو للابتعاد منها عاما بعد عام، فلا يكون عامها الأربعون أقرب إلى مجتمعات رأس المال من عامها العاشر أو العشرين.
فالزعماء الملحدون قد اضطروا على الرغم منهم إلى الاعتراف بالكنائس والشعائر الدينية في مجتمع تسلموه منذ أربعين سنة؛ أي في مجتمع ليس فيه أحد من العاشرة إلى الخمسين لم يتتلمذ لهم، ولم يسمع منهم في المدارس والمعاهد والأندية أو المتاحف الموقوفة على نشر الإلحاد والتشهير والزراية بالدين والمتدينين، وما اضطرهم إلى الاعتراف بالكنائس والشعائر الدينية إلا شعورهم بإفلاس الضمائر التي تعول على الفلسفة المادية في هدايتها إلى المثل العليا وآداب الإنسان في معاملته لإخوانه من الناس.
والوطنية قد اعترفوا بها لمثل هذا السبب في معمعة الحرب العالمية الثانية، وهي أول حرب خاضوا غمارها بعد قيام الدولة الشيوعية، وامتحنوا فيها قوة الشجاعة التي يستمدها المادي من عقائده المادية، وقوة المحارب الذي يذهب إلى الميدان ليدافع عن تلك العقائد، أو ليدافع عن وطن يعتقد أنه أخدوعة من أخاديع رأس المال.
وقد رأينا كلامهم في مؤتمر الفلسفة عن الأسرة وقداستها وقيام المجتمع والوطن على دعائمها، وقبل ذلك بسنوات كانوا يبيحون للأسرة في المزارع المشتركة أن تحتجز لها قطعة من الأرض تسكنها وتربي الماشية والدواجن فيها، ويورثها الآباء للأبناء على سنة «الكولاك»، الذين قتلوا منهم الملايين لغير ذنب إلا أنهم كانوا يملكون من الأرض قطعة لا تزيد على القطعة التي يستأثر بها فلاح المزرعة المشتركة في هذه الأيام.
صفحة غير معروفة