الشيوعية والإنسانية في شريعة الإسلام

عباس محمود العقاد ت. 1383 هجري
112

الشيوعية والإنسانية في شريعة الإسلام

تصانيف

فإذا قيل: إن الهياكل المخلدة قربان يرضي الأرباب؛ لتغدق عليهم الوفر والخصب والنتاج، فليست وسائل الإنتاج فعلا هي التي علمتهم الهندسة وبناء الصروح، وإنما هي العقيدة التي صورت لهم أسباب الوفر، كما يؤمنون بها لا كما هي في الأرض الزراعية أو ماء الفيضان.

وإذا قيل: إن الإنسان يؤمن، ثم يخلق له الإيمان حاجته إلى البناء والملاحة، فماذا يبقى من مذهب «الحاجة» في تعليل العقل وشله عن طلب المعرفة إلا من طريق الفم والمعدة والأمعاء؟ •••

ويلوح لنا أننا نقترب من فهم «ميزان» التهجم على الحقائق عند الماديين التاريخيين إذا تذكرنا - ونحن نطالع كتبهم الأولى والأخيرة - أنهم كتبوها بأسلوب أو في حالتين من أحوال الأمل والقنوط، فالأسلوب الغالب عليهم هو أسلوب التهجم على الحقائق كلما استطاعوا، وهو ملحوظ فيما كتبوه أيام الفتنة على أمل في نجاح الانقلابات، أو تفاقم البوادر الأولى واستفحالها في أمد قريب، والأسلوب الآخر هو أسلوبهم كلما خابت ظنونهم، وخابت ظنون الناس في نبوءاتهم، فأعرضوا عنهم، وتعسر إقناعهم بالهجوم على الوعود والتوكيد بغير برهان.

ومما كتبوه على الأكثر في بعض هذه الفترات تلك الآراء التي يفرقون فيها بين العلوم وإمكان تفسيرها بأسبابهم التي يفسرون بها كل ما في الأرض والسماء، ومن هذا القبيل نحسب تقسيمات «إنجلز» للعلوم، وما يطرأ عليها من التحول والتطور على حسب البيئة، فإنه يقسمها في رده على «دهرنج» إلى ثلاث طوائف، لا تتعادل في قابليتها للتأثر بوسائل الإنتاج، وهي طائفة العلوم الطبيعية، وطائفة العلوم البيولوجية، وطائفة العلوم الاجتماعية.

فطائفة العلوم الطبيعية تتعلق بالمادة العضوية كالفلك والرياضة والطبيعة والكيمياء. وطائفة العلوم البيولوجية تتعلق بالمادة العضوية كعلم وظائف الأعضاء وعلم الحياة، وطائفة العلوم الاجتماعية تتعلق بالأحوال التاريخية ومسائل الشريعة والفكر والدين والفلسفة.

فالعلوم الطبيعية والعلوم البيولوجية تبحث في أمور لم يصنعها الإنسان، وليست عرضة للتغير الذي تتعرض له الأحوال الاجتماعية. فلا تتغير وظائف الأعضاء ولا خصائص المواد الطبيعية بين نظام ونظام من النظم الاقتصادية، أو بين عهد وعهد من العهود السياسية، ولا شأن للحقائق المطلقة بهذه العلوم، ولا تزال معرفة الناس بها نسبية؛ أي «غير مطلقة».

أما العلوم التي تتعلق بتاريخ الإنسان كعلوم السياسة والفلسفة والدين والفنون والآداب، فهي عرضة للتغير بين العهود السياسية على حسب اختلاف وسائل الإنتاج، وهي مصطبغة على الدوام بصبغة المنفعة والغرض، متحولة على الدوام مع العلاقات الاقتصادية التي تنشئ المعلومات والمصطلحات، فلا توجد إلا حين توجد مقدماتها ونتائجها.

وللفلسفة بين هذه المعارف البشرية رخصة خاصة عند الماديين التاريخيين في الانفصال من وسائل الإنتاج الحاضرة لجملة أسباب، منها أنها تحمل بقايا الأزمنة الغابرة من قبل التاريخ، إذا كانت الحالة الاقتصادية تنطلق بالإنسان في تيه من الأوهام والخزعبلات، لا تمت إلى الواقع بعلاقة صحيحة، ومنها أنها تتوقف على العلوم الطبيعية، فلا تتقدم إلا تبعا لتقدمها، ولا تصل إلى الواقع إلا إذا كانت تلك العلوم الطبيعية قد وصلت قبلها، ومنها أنها ذات موضوعات لا ترتبط على الدوام بالموضوعات اليومية، وهي مع هذا الانفصال عن الواقع تمثل عصورها الحاضرة في مذهب فيلسوف أو أكثر من فيلسوف، إن لم تكن مذاهبها جميعا ممثلة للعصر الذي تعيش فيه.

هذه الرخصة المسموح بها للفلسفة محظورة على الرياضيات؛ لأن الرياضيات مأخوذة من المشاهدات الحسية مهما يكن من ظواهرها النظرية المجردة.

فلا بد - كما يقول «إنجلز» في الرد على «دهرنج» - من أشياء ذات شكل حتى تكون هناك صورة ورسوم هندسية. والنظريات الرياضية المجردة تبحث في صور لها محل من المكان، وفي علاقات عددية بين أجزاء العالم الواقع؛ أي في علاقات بالعالم المادي جد صحيحة بلا مراء. وإنما تتجرد هذه الصور والعلاقات من الماديات؛ ليتيسر بحثها عقليا وتفريغها من محتوياتها؛ لأنها ليست بالضرورية للوصول إلى النقطة التي لا أبعاد لها، ولا للخط الذي لا عرض له ولا كثافة، ومن ثم نصل للمرة الأولى إلى العلاقات الطليقة والتصورات العقلية والمقادير المتخيلة، واشتقاق المقادير الرياضية بعضها من بعض لا يدل على مصدر مجرد؛ بل على ارتباط بينها في التفكير، وقبل أن نستخرج صورة الأسطوانة من حركة السطح القائم الزوايا على جانب واحد لا بد أن تكون حركات كثيرة من هذا القبيل قد شوهدت في الواقع. وهكذا تكون الرياضيات - كغيرها من العلوم - صادرة من حاجات الإنسان، وهذه الحاجات هي قياس الأرض وفراغ الآنية ومسافات الوقت وإدارة الآلات. غير أنه في طور من الأطوار يحدث لهذه القواعد - التي استمدت من العالم الواقع - أن تنعزل من هذا العالم كما يحدث في كل ميدان من ميادين التفكير، فإذا هي مفروضة كأنها مستقلة عنه تأخذه بموافقتها ومطابقتها، وإنما يحدث هذا في المجتمع وفي الدولة، وتصبح الرياضيات بهذه المثابة دون غيرها صالحة للتطبيق في العالم الخارجي. •••

صفحة غير معروفة