ثم تفوق اللاعبون - بالمعنى المجازي هذه المرة - على المتفرجين، لم تعد القيمة في عصرنا للذي يجلس إلى مكتبه «يفكر»، بل آلت القيمة كلها لذلك الفريق اللاعب الذي ينزل مضمار الحياة العملية، والجانب السياسي منها بوجه خاص. الكلمة العليا في العالم الآن صائرة، أو قد صارت، لصاحب الحركة والعمل. وأما الذي يجلس اليوم على كرسيه «يفكر»؛ فما أجدره أن يفتح فمه كالأبله؛ ليملأه الزمان ترابا.
فلو سألت نفسي بعد هذا: لماذا أخفقت حين نجح سواي؟ كان الجواب: لأنك جلست تتفرج حين لعب سواك. •••
ولو عدنا إلى تشبيه الحياة بالمسرحية الذي بدأنا به الحديث؛ لقلنا إنه لا تتم حياة كاملة بغير لاعبين ومتفرجين في آن معا، بغير عمل ونقد نظري جنبا إلى جنب، والحكمة كل الحكمة أن تجتمع في الفرد الواحد صفتا اللاعب والمتفرج، ليعمل من جهة ويتدبر طريقه ومنهجه من جهة أخرى، وأن تجتمع في الأمة الواحدة فئة العاملين وفئة المفكرين؛ لتتمم كل منهما الأخرى.
الصفر النفيس
يقولون في تاريخ الرياضة إن الصفر كان آخر الأرقام العددية ظهورا، ومع ذلك فهو أهمها على الإطلاق. وإذن؛ فهو أكثرها تحضرا وأرقاها تطورا؛ لتأخر ظهوره في عصور التاريخ من جهة، ولهذه الأهمية التي يمتاز بها من دونها من جهة أخرى، كما يقال عن الإنسان - مثلا - إنه أرقى ضروب الحيوان؛ لأنه جاء في مراحل التطور بعدها، ولأنه كذلك أهمها وأخطرها في آن معا.
أما أن الصفر قد كان آخر الأرقام العددية ظهورا؛ فذلك معقول، لأن الإنسان في مراحل همجيته يبدأ بعد الأشياء الموجودة فعلا، ولا يأبه كثيرا أو قليلا بحساب ما هو معدوم ليس له وجود، وهو يريد أن يعرف كم بقرة له: واحدة هي أم اثنتان أم ثلاث؟ وكم زوجة يملك؟ يريد أن يعد الثمار المخزونة والطرائد التي صيدت، والأسرى الذين وقعوا له في القتال، وكل هذا يحتاج إلى أعداد، لا يكون الصفر بينها.
فلما تطور الإنسان على مر الزمان، استوقف نظره العدم كما استوقفه الوجود، فأراد التعبير مثلا تعبيرا حسابيا عما يكون لديه من بقر أو ثمر أو زوجات أو أسرى، حين لا يكون لديه في الواقع من هذا كله شيء، فاضطر حينئذ أن يخلق «الصفر»، أداة للتعبير عما يريد، فلو قال لزميله إنه يملك «صفرا»، من البقرات أو الزوجات؛ فهم زميله عنه ما أراد.
وأما أن الصفر قد جاء أهم الأرقام العددية جميعا؛ فذلك أيضا واضح إذا ما ذكرنا أنه لولاه لاستحال على الحساب أن يجد أرقاما مقدار ما لدينا اليوم من أعداد، ولاضطر الإنسان تبعا لذلك أن يحصر حسابه في دائرة ما عنده من أرقام. فلولا الصفر؛ لما أمكن للواحد المتواضع أن ينقلب عشرة أو عشرين أو ألفا أو عشرة آلاف أو ما شئت من هذه الأعداد، التي أعرفها أنا وأنت أرقاما على الورق، وقد يعرفها سوانا جنيهات أو ما إليها مما تطيب به الحياة. نعم، لولا هذا الصفر «المسكين» الذي لا يساوي في سوق البيع والشراء شيئا - لأنك لا تشترى بالصفر خبزا ولحما - لولاه لاستحالت عمليات الحساب، التي لها في شئون الحياة العملية والحياة الفكرية، ما لها من خطر. •••
تلك حقيقة أرويها لك باردة لا تجري في عروقها دماء، ثم أضع القلم حينا لأدير البصر في الحياة من حولي، وما تدل عليه أوضاعها من معان، فإذا هذه الحقيقة التاريخية الجامدة قد انتفضت أمامي بغتة كائنا حيا مختلجا نابضا، يمتعني ويفزعني ... وكان المفتاح الذي ضغطت عليه بإصبعي، فانفتحت لي هذه الآفاق الجديدة الممتعة المفزعة هو أني حولت الصفر من أرقام الحساب إلى دنيا البشر!
تخيلت أن هؤلاء الناس من حولي أعداد حسابية، تختلف «قيمة» باختلاف «قدرتها الشرائية»؛ فهذا الرجل واحد، وذلك اثنان، وهكذا حتى وصلت إلى الرجل الذي تكون قيمته تسعة بالقياس إلى من ذكرت. ثم أردت بعد ذلك أن أنتقل إلى من يكون عشرة بين الناس - واضعا أرقام الحساب التي أقيس عليها نصب عيني - فإذا بالأمر يقتضيني في هذا الموضع أن أبحث عن شخص آخر تكون قيمته في الحياة صفرا؛ ليقف إلى جوار سيده، حتى يجعله في الناس عشرة محترمة موقرة ...
صفحة غير معروفة