سل يا مولاي ما شئت عن الببغاء خلال هذه السنين، نجبك الجواب اليقين، سل أين كان في اليوم الأول من يناير منذ عامين، أجبك على الفور أنه كان عندئذ من القاع على بعد قدمين، سل ماذا أكل يوم الإثنين، أجبك من الفور أن الوجبة قسمت له يومئذ وجبتين، أكل في كل وجبة منها فولتين.
ويقوم على الطائر طبيب معالج يرعاه كلما ألم به المرض، على شرط أن يكون المرض مما يعالج. أما إن تحطم له جناح أو فقئت له عين فما لنا بمثل ذلك حيلة.
وبعدئذ يا مولاي، بعد أن أعددنا القفص كل هذا الإعداد المحكم المتين، راح منا فريق يجمع للطائر ما يلزمه من الكتب والدفاتر والمحابر والمساطر. وانقسم هذا الفريق جماعات: فجماعة تأتي له بالكتب التي بها يرطن، وجماعة تأتي له بالكتب التي بها يعد ويحسب، وجماعة تستعيد له ما كتب الأقدمون، وأخرى تجمع له ما أنتج المعاصرون، حتى تجمعت لنا بذلك يا مولاي أكداس ثمينة رصصناها على الرفوف رصا أنيقا، وحفظناها في المخازن حفظا أمينا، تخرج منها الكتب بحساب، وتدخل إليها بحساب.
فهتف عارف باشا هتفة اطمئنان: «برافو! برافو! حسبي هذا. فامضوا على بركة الله، فما ضاع مالي عبثا.»
وعاد فركب العربية التي جلجلت بعجلاتها، تجرها الجياد التي صلصلت بأجراسها، حتى إذا ما اطمأن في داره إلى مجلسه، وحف به الأصدقاء، راح يروي لهم ويحكي؛ فالقفص كله ألاعيب ، والمدرسة كلها أعاجيب، والمعلمون علماء، والموظفون أكفاء.
وسأله سائل عديم الذوق لا يحسن اختيار مواضع الكلام: «وكم تعلم الببغاء يا مولاي من فصاحة البيان؟»
فصاح عارف باشا صيحة من ذكر من توه شيئا نسيه: «الببغاء! والله لقد نسيت الببغاء! ...»
درع من ذهب
هذا خطاب كتبه كاتبه، ثم ألقاه على مائدة صغيرة إلى جوار مخدعه؛ وأخذته العلة؛ فألزمته الفراش حينا. وهو أعزب اختلطت في غرفته زجاجات الدواء بالفراجين والأمشاط، وانتثرت كتبه وجواربه وأوراقه ومناديله على الأرض والمقاعد.
ولما عدته في مرضه؛ وقع بصري على الخطاب منشورا، يستوقف النظر بأسطره المائلة وخطه المنفوش، فلم أملك أن أنظر فيه إلى كلمة هنا وكلمة هناك. ولحظ ذلك صديقي؛ فقال: اقرأه، فما فيه سر مكتوم، بل هو خطاب مفتوح مكشوف، أردت به فتاة بعينها، لكني أراها تمثل طائفة من بنات جنسها. فأمسكت بالخطاب وقرأت:
صفحة غير معروفة