وخفقان القلب - عند العقل - اضطراب في دورة الدم، وهذا الخطاب - عند العقل - ورقة عليها نثار من مداد!
هكذا همس لي العقل عندما عدت إلى رسالتك أقرؤها؛ فارتعشت أصابعي، وبردت دمائي، وتندى جبيني بقطرات باردة؛ لأني رأيتني عندئذ تافها سخيفا، قد أفلت زمام عقلي من يدي، وأسلمت نفسي لما يشبه ترهات الشباب. فأعدت الرسالة مكانها؛ ليرضى العقل عني، وعرفت بعدئذ كيف أسكت القلب وأصرفه عن سخافات الصغار.
لماذا أنصت للعقل في نزوات الفؤاد؟
لا، عودي بربك فاكتبي إلي؛ فإن كان وضع الهوى في موضع العقل عيبا، فكذاك وضع العقل في موضع الهوى. •••
لكن أين يكون موضع العقل؟ وأين يكون موضع الهوى؟ هذا هو السؤال الذي تنزاح بجوابه مشكلات لا أول لها ولا آخر. فلو تحدد لكل منهما نطاقه؛ انحسمت أسباب الغضب عند الناس حين يقوم بينهم خلاف.
فأولا: لن يكون بين الناس اختلاف في مسائل الهوى؛ لأن الأهواء شخصية ذاتية بحكم تعريفها. وما هو ذاتي بطبيعته لا يكون موضعا لجدال؛ فإذا شعرت بالبرد ولم أشعر به، وإذا أحسست ألما ولم أحسه، وإذا استحسنت طعاما ولم أستحسنه؛ لم يكن هنالك ما يبرر أن نعترك أو نصطرع، فحالك خاص بك، وحالي خاص بي.
وثانيا: قد ينشأ بين الناس اختلاف في مسائل العقل، لكنه اختلاف يستحيل أن يؤدي إلى غضب أو حقد أو قتال. فإذا رأيت مثلا أن الضوء يسير في موجات، ورأيت أنه جسيمات تنفث نفثات متتابعة بينها فواصل، وإذا رأيت أن الخطين المتوازيين لا يلتقيان مهما امتدا، ورأيت أنهما يتلاقيان في اللانهاية، وإذا رأيت أن الصحراء يمكن إخصابها ورأيت استحالة ذلك؛ لم يمكن هنالك ما يبرر أن نعترك أو نصطرع، إلا اعتراك الحجة واصطراعها. وما سمعنا قط أن عالمين من علماء الرياضة أو العلوم الطبيعية قد انتهى بهما اختلاف الرأي إلى مبارزة بالسيف؛ ليكون الحق للغالب.
إنما ينشأ الغضب بين فريقين، وينشأ الحقد، وينشأ العراك والقتال، حين يختلط نطاق العقل بنطاق الأهواء الشخصية؛ فنخضع مسائل الهوى لأحكام العقل، ونظل في جدال يستحيل - بطبيعة الحال - أن ينتهي؛ لأن الأهواء لا تنتقل من شخص إلى شخص بالحجة، إنما تنتقل بالإغراء. فإن لم يجد إغراء؛ فلا سبيل إلى نقلها بالإقناع. ثم يستحيل أن يخلو اختلاف الناس في مسائل الأهواء من الغضب وثورة النفس؛ لأن أهواءك متصلة أوثق صلة بذاتك، فمن أنكرها عليك؛ فقد أنكر عليك وجودك كله وكيانك كله.
أعود فأقول إنه لو تحدد لنا على وجه الدقة أين يكون موضع العقل، وأين يكون موضع الأهواء؛ لانحسمت كل أسباب الغضب والخلاف في مسائل العقل، ولأنه لا وجه للمناقشة حين يكون الخلاف في مسائل الأهواء الذاتية.
بل إننا إذا حددنا على وجه الدقة، أين يكون موضع العقل، وأين يكون موضع الهوى؛ لما كان سبيل الاختلاف المرء مع نفسه هذا الخلاف الذي دب بين عقلي وقلبي، حين هممت بقراءة الخطاب بدافع من القلب، وأبى علي العقل ذلك لما فيه من سخافة ظاهرة.
صفحة غير معروفة