إنني لا أستطيع أن أعرف الحياة المتوثبة المتوقدة بخير من قولي: إنها عصيان الطبيعة، ولا أن أعرف الموت في خموده وهموده بأحسن من القول إنه الخضوع لقوانين الطبيعة. فالكائن الحي يعصي الطبيعة، بمعنى أنه إذا فرضت الطبيعة على الحجر أن ينحدر من قمة الجبل إلى أسفله مدفوعا بقانون الجذب؛ فللإنسان أن يعصيها ويصعد من بطن الوادي إلى قمة الجبل. وإذا فرضت الطبيعة على الحجر أن يتمدد لها إذا سخنت، وأن ينكمش لها إذا بردت، وأن تتفتت أجزاؤه هباء إذا شاءت له عواملها؛ فللإنسان أن يرغمها على البرودة له إذا سخنت، وعلى الحرارة إذا بردت، وألا يصيخ إلى ما تأمر به عواملها من تفتيت أجزائه ... إلا إذا مات!
والسكينة الهادئة هي إلى الموت أقرب، فقل لي كم يبلغ بك استقرار الحياة؛ أقل لك كم فعلت بك أسباب الموت. وقل لي كم أنت قلق؛ أقل لك إلى أي حد قد بلغت من سلم الحياة؛ فالقناعة - التي هي الرضا بما أنت فيه - كنز لا يفنى عند من خمدت في صدره شعلة الحياة. أما عند اليقظان الحي فهي والهزيمة شيء واحد. ودر ببصرك حيث شئت في جنبات الأرض، وفي أرجاء التاريخ؛ لتعلم علم اليقين أنه ما ذل أبدا من طمع، ولا عز أبدا من قنع.
ولئن صدق هذا القول على الأفراد مرة؛ فهو على الأمم أصدق ألف مرة. ولو شئت فاستعرض أمم الأرض جميعا. وإن شئت فاسترجع أمم التاريخ منذ فجر التاريخ؛ لتصل إلى هذه النتيجة الواحدة. وهي: أنه حيثما دبت الحيوية في جسم الأمة لسبب من الأسباب، أخذها القلق مما هي فيه، وراحت «تطمع» في غيره وتطمح إلى سواه، والعكس صحيح أيضا؛ أي إنه إذا قلقت أمة فاعلم أنها بهذا القلق في طريقها إلى الحياة بمعناها الكريم، الذي لا يكتفي بتردد الأنفاس في الصدور.
إن المادة الموات من دأبها دائما أن تتلمس في سيرها سبيلا لا تعترضه من عوامل المقاومة إلا أقلها. فاسكب على الأرض ماء، وانظر كيف يسيل. إنه لا يصعد من أسفل إلى أعلى، ولا يقتحم صخرة أمامه إذا استطاع أن يدور حولها، لكن الحيوية السليمة تبحث عن الصعب لتذلله، ولا تنفك أمام العقبات حتى يسلس قيادها. وهؤلاء هم أبطال الإنسانية جميعا؛ أنبياؤها وعلماؤها وقوادها ورجال الفن فيها. كان بوسع كل واحد منهم أن يقنع ويرضى ويغمض العين لينام ويستريح، لكن أحدا منهم لم يجد في القناعة عزة، وراح يطرد عن نفسه وعن أمته هذا الذل القانع، طامعا له ولها فيما هو أعز وأكرم.
وإذا كان ذلك كذلك؛ فكم يغيظك أن تسمع هنا وهناك هذه المقارنة السخيفة السمجة بين ما يسمونه شرقا وما يسمونه غربا. فيقال: قد عرف الشرق كيف يخلد إلى السكينة فهو نعيم، وأما الغرب فهو الأتون الذي يغلي بالحروب، وبالمعامل التي شغلت نفسها بإنتاج القنابل الذرية وغير القنابل الذرية من أدوات الفتك والتقتيل. لكني أرى هناك قلق الحياة الطامعة، وأرى هنا سكينة الموت. وإذا أخذت تدب فينا الحياة، فبمقدار ما نحن آخذون في سبيلنا إلى مشاركة الغرب في مثل قلقه واضطرابه ... فوالله لو خيرت بين أن أكون فردا في أمة تنتج القنابل الذرية أو أكون عضوا في جماعة تلقى القنابل الذرية فوق رءوسها؛ لما ترددت في الخيار لحظة. وبالطبع أترك للقارئ كامل الحرية يختار لنفسه ما يشاء.
فلئن كان هذا القلق الذي يدوخ منه الرأس، هو حمى الحياة التي سخط عليها سقراط، وسخطت عليها أحيانا، ويسخط عليها كثيرون؛ فقد أخطأنا جميعا؛ لأن مثل هذه الحمى هي التي لا نرجو لأنفسنا منها شفاء.
الآدمية الصحيحة
أهديها تحية إلى «قارئة»؛ فلرسائلها في نفسي أجمل الأثر وأعمقه. ***
كانت ليلة من شتاء إنجليزي برده زمهرير، تغوص الأقدام غوصا في أكوام الثلج وكثبانه، حين التمست طريقي إلى حفل راقص أقامته الجامعة في لندن. التمست طريقي إلى هناك بعد تردد طويل؛ إذ كنت في غرفتي جالسا أمام النار مستدفئا، فما كان أغناني عن التعرض لذلك البرد الذي يقرض الأطراف قرضا، ويأكل الأنوف والآذان أكلا.
ترددت طويلا، شأني دائما كلما دعاني داع للمرح والفرح، فعندئذ تتألب في ضميري أسباب الموانع والتعلات، ويظل عقلي يفند لي تلك الأسباب واحدا في إثر واحد، ويدفعني دفعا للأخذ من لذائذ الحياة بنصيب ... فإن وجدت الناس تدفعهم طبائعهم إلى اجتراع اللذائذ وعبها، لا يمنعهم عن ذلك أحيانا إلا صوت العقل فيهم؛ فإني على عكس ذلك؛ أتخوف بطبعي من الإقدام على متع الحياة، وأتردد طويلا كلما سنحت لي ظروفها، ثم لا يدفعني إليها إلا صوت من العقل ومنطقه!
صفحة غير معروفة