شهداء التعصب: رواية تاريخية وقعت أكثر حوادثها في فرنسا على عهد فرنسوا الثاني ملك فرنسا المتوفى سنة ١٥٦٠م
تصانيف
وفيما كان المجلس منعقدا والبحث دائر فيه بين الوزراء البروتستانتيين وأمين الأختام، وبعضهم يهنئ بعضا، أقبل ملك النافار مدججا بسلاحه والغضب باد على وجهه، فوجه خطابه إلى كاترين، وقال بصوت جهوري: لسنا نريد أن تتم هذه المسألة دون مصادقتنا وموافقتنا. إن فرنسا بلاد كاثوليكية، وأنا رجل كاثوليكي فلا أرضى بأن ينعقد مجلس الملك الخاص على هذه الصورة المعيبة.
قالت الملكة: لقد نسيت نفسك يا ابن العم.
قال: كلا، لم أنس نفسي. فأنت تدرين أيتها السيدة - كما أدري أنا - أن هؤلاء المتمذهبين بالمذهب الجديد محتالون منافقون، فلا بد من إخراج هذا الوباء من البلاط، وقد آن للمخلصين في خدمة الملك أن يظهروا إخلاصهم!
وأسهب في الكلام، فانحنى بالتعنيف على أمين الأختام وسائر الحضور. إلى أن قال: نعم أيتها الملكة، اطردي هؤلاء القوم أو فانضمي إليهم. أما أنا فإني أنبذهم وأقاومهم، ويحق لي أن أكون الوصي على المملكة، وسأكونه إذا شئت، ولا تنقضي أيام قلائل حتى تري أبناء عمك آل جيز ها هنا، والكردينال أخاه، والماريشال سن أندري، والمسيو دي مونمورانسي، وسائر القوم الكرام الذين رأيت إبعادهم عنك، فأولئك أقرب الناس مودة إلى الملك.
ولم تستطع الملكة ثباتا أمام ملك النافار، فلطالما خادعته من قبل. فأتم خطبته قائلا: إذا لم يرتحل عن البلاط، كوليني ودندلوت البروتستانتيان، فهو يأمر الجيوش بانتشال الملك، ويحق له أن يفعل؛ لأنه نائب الملك وصاحب السلطة على الجند.
فاضطر كوليني ودندلوت إلى الاستقالة، وسافرا إلى باريس لاحقين بأمير دي كوندة.
أما أمير دي كوندة نفسه فكان متململا متضجرا من الإقامة في باريس لبعده عن بلاط الملك، وكذلك كان جاليو فإنه مل الإقامة بعيدا عن مرسلين؛ لأنها ما برحت مع زوجها، وقد انضم إلى الكردينال ولاذ بحمايته.
وكانت المجادلات الدينية في ذلك الوقت تمزق وحدة الأمة المنقسمة إلى طائفتين، وتعتقد كل طائفة أنها أفحمت غريمتها بالبراهين الدامغة والحجج القاطعة، وفي أثناء ذلك تلقى أمير كوندة أن آل جيز قد استعادوا سطوتهم ورفعوا رءوسهم وتهيئوا للرجوع إلى البلاط، فعهد إلى جاليو بالمراقبة والاستطلاع، فقال: وافرحتاه بهذه المهمة التي عهدت بها إلي يا مولاي. فقال له: ألا تزال مقيما على هوى زوجة أفنيل؟ أجاب: نعم يا سيدي، فقد تعرضت لهذه الحادثة الغرامية ضاحكا ماجنا، أما الآن فلا أضن بحياتي في سبيلها.
قال: إذن سافر يا جاليو وامزج بين الهوى والسياسة كما تشاء ، وإنما كن حكيما.
فسافر جاليو في أواخر شهر يناير (كانون الثاني) بعد أن ودع أستاذه برنابا، فوصل إلى مدينة جوانفيل حيث يقيم آل جيز والكردينال. فدار في البلد دورة حتى اهتدى إلى منزل المحامي أفنيل. غير أن بيوت البلدة كلها كانت مقفلة، وعلى أبوابها الحراس كأن الحرب قائمة حولها. فأضاع جاليو أسبوعا كاملا من غير أن يلتقي بمرسلين، أو يتمكن من إرسال كتاب إليها، وكاد ييأس منها عندما علم أن الدوق عازم على الإياب إلى البلاط، فبعث تقريرا إلى أمير دي كوندة، ثم لبث محتجبا في المدينة يقول في نفسه: لا يطيب للعشاق شيء مثل السفر المفاجئ. ولاح له أن الدوق لا يصل إلى باريس إلا بعد أن يحدث حدثا في طريقه. إلا أنه لما رأى موكب الدوق أحس بكآبة عظيمة؛ لأنه رأى جيشا حقيقيا قد تألف واجتمع في ضواحي جوانفيل، وفيه جنود ألمانيون. فلما كان آخر شهر فبراير (شباط) تحرك ذلك الجيش. فغادر المحامي أفنيل البلد لاحقا بسيديه الكردينال والدوق، سائرا بجانب المركبة التي فيها زوجته وبعض النسوة، فلم يتمكن جاليو من إلقاء كلمة إليها. ووصل الدوق إلى مدينة فاسي في أول مارس (آذار)، فنزل فيها عند والدته العجوز الأميرة دي بوربون، وقال لها: ألا يزال أعداء ديننا كثيرين ها هنا؟ قالت: نعم وا أسفاه، وإني لفي يأس شديد من إصلاح هذه الحالة السيئة؛ لأنني أسمع ترنيمهم وصلواتهم كل يوم من قصري هذا، وسوف ترى بعد هنيهة أننا لا نستطيع الجلوس إلى مائدة العشاء. قال: سوف نكرههم على السكوت!
صفحة غير معروفة