كتاب ذكرى شهداء العلم والغربة
تمهيد
تواريخ حياة الشهداء
بعد وقوع الفاجعة
عناية الوفد المصري بالشهداء
قصائد مشاهير الشعراء في رثاء الشهداء
كلمات الكتاب في رثاء الشهداء
كتاب ذكرى شهداء العلم والغربة
تمهيد
تواريخ حياة الشهداء
بعد وقوع الفاجعة
عناية الوفد المصري بالشهداء
قصائد مشاهير الشعراء في رثاء الشهداء
كلمات الكتاب في رثاء الشهداء
ذكرى شهداء العلم والغربة
ذكرى شهداء العلم والغربة
تأليف
فرج سليمان فؤاد
كتاب ذكرى شهداء العلم والغربة
أول كتاب من نوعه
ما كدنا ننشر كلمتنا في الصحف العربية عن كتابنا شهداء العلم والغربة، حتى ورد إلينا من سائر جهات المدن والأقاليم ومن طلبة العلم في أوروبا الخطابات العديدة، التي تشف عن الإخلاص والحب لهؤلاء الشهداء، وتعرب عما تكنه قلوبهم من الأسى والحزن لفقد إخوانهم، الذين استشهدوا في سبيل العلم بصدمة القطار بين حدود إيطاليا والنمسا عند بلدة «مونتبا». وكل هذه الرسائل ملأى بتحبيذ عملنا تنشيطا لنا لقيامنا بوضع هذا الأثر الخالد لشهداء العلم الذين استشهدوا في سبيله.
وإن ما يراه القارئ الكريم هنا من كد القريحة، وسهر الليل، وما كابدناه في هذا السبيل لا نعده في نظرنا شيئا مذكورا بجانب واجب خدمة الوطن المفدى، عملا بالمبدأ الشريف «لا شكر على واجب ولا ثناء على إخلاص»، ما دام غرض العامل الجهاد في سبيل حب الوطن. وإنا نعتذر لحضراتهم لعدم نشر رسائلهم الخاصة بالثناء علينا، تقديسا للمبدأ الذي اتخذناه لأنفسنا دستورا، ونكتفي بذكر كلمتين لفاضلين من محبي الأدب على سبيل التحبيذ لهذا العمل والتشجيع الأدبي.
فقد أرسل إلينا حضرة الأستاذ الشيخ أحمد عبد الماجد، المدرس بمدرسة معلمات الإسكندرية، في 23 مايو 1920 خطابا صدره بهذه الأبيات:
يا جامعا شيم العليا وحافظها
أشبهت في جمعها الفتح بن خاقان
فذاك جامعها في أرض أندلس
وأنت تجمعها في أرض هامان
جاءت (قلائده) في الدهر واضحة
كأنها البدر في حسن وتبيان «والكنز» أنفس قدرا من قلائده
فكم به جوهر يهدى وعقيان «كنز ثمين» لنا قد صاغه «فرج»
الوارث الفضل فينا عن «سليمان»
حاشاي أجعل في مكنونه خرزا
أو أن أشين لآليه بمرجان
وبعث إلينا حضرة الأستاذ الشيخ علي إبراهيم عيد الجيزاوي من خريجي الأزهر الشريف والتاجر بقنا بتاريخ 31 مايو سنة 1920:
أجل قمت ترعى الواجبات وليتها
فرائض فرد بل فرائض أمة
فحزت فخارا أنت أولى الورى به
وأنت خليق بالعلا والمبرة
وكيف وهذي مصر تهديك شكرها
وذا نيلها الميمون يثني بهمة
يقولان حقا إنه «فرج» لنا
أمنا به دهرنا كل نكبة
جزيت عن الشبان خيرا ولا رأى
فؤادك مكروها فدم في مسرة
ومنه أيضا:
بلغت مكانا فوق ما يتصور
وأنت وايم الله لا شك أجدر
وجددت ذكرى سالفي عظمائنا
ومن هم على قيد الحياة يعمروا
وضعت لنا «كنزا ثمينا» نجله
ويحفظ في طي القلوب ويؤثر
وبرهنت للأقوام أنك حاذق
وأن بمصر ناهضين يوقروا
علوا وتساموا في الحياة وجاهدوا
وحلوا محل النيرات فنوروا
وما هي إلا بكرة أو عشية
تمر بنا حتى نسود ونكبر
تمهيد
تمر بالأمم فترات من سبات عميق، لا تلبث بعدها أن تهز أعصابها يقظة عامة، تملأ جسمها نشاطا وحياة، وتدفع بها في سبيل الرقي. فهذه أمة اليابان المجيدة نهضت بعد طول خمودها، واشتعلت جذوة همة أبنائها بلهب من حرارة الوطنية الصادقة، فأدهشت العالم باستعدادها وقوتها ومنافستها التجارية، وغيرت فراسة الغرب في أمم الشرق. ولم يبعث فيها تلك الهمة وينفخ في جسدها تلك الروح غير رجل من رجالها العقلاء وحكيم من حكمائها النبهاء هو الإمبراطور موتسهيتو، الذي لو أتيح لكل أمة من أمم الشرق رجل مثله لكان العالم على غير ما هو عليه اليوم.
وفي خلال القرون يبعث الله الأمم أمة فأمة، كما بعث بولونيا من رمسها وأسلمها تاجها وصولجانها، فقامت وهي فتية وحديثة العهد بإعادة التكوين تريد أن تقهر حكومة سوفيت روسيا، وما ذلك إلا بدافع ما في نفوس أبنائها من الوطنية الصادقة والإخلاص المحض لبلادهم المحبوبة.
ومن الأمم التي أراد الله لها النهوض في القرن العشرين أمتنا المصرية، فقد اندفعت في سبيل نهضتها الحديثة، تترنم بأناشيد الحياة، وتتطلع إلى تراث آبائها وأجدادها بروح ملؤها الإقدام والهمة. ولم تجد عدة لجهادها السلمي في سبيل حياتها خيرا من انتجاع موارد العلم الصحيح، وإرسال البعثات تلو البعثات تترى إلى منابعها في أوروبا، متتبعة في ذلك سنة منهض مصر العظيم المغفور له محمد علي باشا الكبير، الذي أزهرت رياض التعليم في عصره، وأينعت ثمارها بفضل يقظته وإقدامه، وبذله بسخاء على الإرساليات التي كان يوجهها إلى الغرب، وبفضل التعليم الإجباري المجاني الذي كان يساق إليه أبناء مصر من كل فج فيقبسون من نوره ليرشد بلادهم إلى طريق الحياة. وقد أثمرت مجهوداته تلك فكانت القوة والمنعة، والثروة التي لا تزال مصر راتعة في بحبوحتها إلى اليوم، وصارت في أيامه غنية بمصنوعاتها ومواردها. ولم يكن يعوزها شيء سوى أن تبعث بالطلبة ليرتشفوا من منهل كل فن وعلم، حتى إذا ما عادوا سلمت إليهم مقاليد الأمور، فكانوا من أشد العوامل على رقي الأمة.
وكنت ترى في البلاد كل شيء يسير في طريق النمو، فكان لمصر مدارس تفيض أنوار علومها، ومعامل تخرج منسوجاتها وعدة جيشها، وأسطولا يصون شواطئها، وجيشا يحمي ذمارها، فكان في البلاد حاجتها من الأطباء والمهندسين والمشرعين، بيد أن صعوبة المواصلات في ذلك العهد كانت سببا لعدم استمتاع سائر أنحاء القطر بما تتمتع به القاهرة والإسكندرية. وكان للوجه القبلي نصيب ضئيل من التعليم، ولم يكن يفد على القاهرة منه غير بعض الطلبة الذين كانوا يقبلون على المراكب النيلية إلى الأزهر الشريف للتزود من العلوم الدينية التي كان قاصرا عليها.
وظلت الحالة العلمية في البلاد تسير ببطء بعد عهد المغفور له إسماعيل باشا الخديو، الذي أسس مدرسة الأنجال التي كان التعليم فيها وقفا على أبناء الذوات والأعيان، ولم يكن لأبناء الفقراء غير الحسرة على حرمانهم من ذلك المورد العذب.
وانحطت حالة التعليم بعد ذلك انحطاطا مريعا لولا أن عني بعض الذوات بإرسال أبنائهم إلى أوروبا، وتضاعف الاهتمام بذلك حوالي عام 1908، ومنذ ذاك الوقت أخذت أنوار النهضة العلمية الحديثة تشع في أنحاء البلاد، وأخذ أعيان الريفيين يبعثون بأبنائهم، وينفقون في سبيل تعليمهم بسخاء حتى أصبحت البلاد ملأى بحملة الإجازات العلمية والدبلومات الدالة على النبوغ والتفوق. وكان أبناء مصر في بلاد الغرب مثال الذكاء والنشاط والاستعداد الفطري، حتى حازوا عاطر ثناء أساتذة كليات أوروبا وجامعاتها. وها هم اليوم أبناؤنا الذين عادوا إلينا يؤدون لمصر أجل الخدمات، ويبثون في نفوس ناشئتها روح النهوض والعلم الصحيح.
إن للشرق من تاريخه القديم ومجده الذائع الذي لم يقو الحدثان على إخفاء معالمه، ما يجعل أهله يرفعون برءوسهم تيها وإعجابا، وأبناء مصر أولى الشرقيين بذلك. وتاريخ مصر مفعم بصفحات الفخر، وحسبنا أن يكون آباؤنا القدماء أصحاب اليد الطولى على العلم، وحسب بلادنا أن تكون منهلا عذبا للواردين. وهذه عملية تحنيط جثث الموتى تشهد بذلك، فقد عجز علماء الغرب عن الوقوف على حقيقتها بعد إجهاد القرائح وكدها، مع تعرفهم ببعض مواد كثيرة من عناصر التحنيط. وهذا الهرم الأكبر يدل على تقدمهم في فن البناء، وما يستلزمه من العلوم الفلكية والهندسية، لأن وضعه يدل على المهارة الفائقة، وعلى سعة العلم وبلوغ العقل المصري مبلغا عظيما من التفوق والإحكام.
وهناك أيضا غير الهرم قصر «لابيرانتا» بالفيوم والكرنك بالأقصر وقصر أنس الوجود والعاديات والجعل الدقيقة الصنع التي تملأ دار الآثار في مصر وفي أوروبا، وكلها تدل على مدنية أجدادنا وحضارتهم.
ولم يكن ذلك فقط، بل كان للمصريين من الفتوحات وقهر الأمم ما يدل على قوة جيوشهم، وحسن عنايتهم بتنظيمها وتدريبها وإعداد عدتها، ولا ننسى الأساطيل المصرية التي كانت تخوض في أيامهم عباب بحر الروم وقد وصلت في عهد رعمسيس الأكبر إلى المحيط الهندي.
وكانت مصر في عهدها القديم ينبوع حكمة وفلسفة، استقى منها فلاسفة اليونان وحكماؤهم، وأطلق عليهم بذلك - وبغير إنصاف - آباء الفلسفة ومعلموها الأولون، وكان أساتذتهم المصريون أحق منهم بذلك وأجدر.
وكانت المرأة المصرية أيضا موضع احترام الرجال، وكانت حائزة لجميع حقوقها، وقد تولت الأمر وتربعت على دست الحكم، وكان لها النهي والأمر. ومما يدل على رقيها المدهش أن أحد علماء العاديات في إنجلترا حمل إحدى الموميات إلى لوندرا من مصر، ولما فض تابوتها واطلع على أوراق البردي الموضوعة مع جثتها وقرأها عرف من تاريخ حياتها أنها كانت من أعضاء نقابة «صناع الفطير». ومن هذا يتبين لنا أن المصريين سبقوا الغربيين في تأسيس النقابات وفي تقديس مركز المرأة في الهيئة الاجتماعية، وغير ذلك مما لم يصل علمنا إليه.
فنحن إزاء نهضتنا اليوم لتحصيل العلم إنما نعيد سيرة آبائنا الأولين، وسنرد مجدنا القديم الذي طويت صحائفه وكاد يودي به تأخرنا وتقاعدنا، وتركنا حبل شئون الحياة على غاربها.
وليس يخفى فضل العلم في إحياء الأمم وجعلها موضعا للاحترام والتبجيل، وقد وجهت الحرب الحديثة نظر المصريين إلى تلك المخترعات العلمية المدهشة والأساليب الفنية العجيبة التي أظهرها الغربيون، ومنها تلك الطائرات التي كانت تحلق في الأجواء وتروع الطير في السماء، والغائصات التي كانت تسبح في جوف الماء فتفر منها الأسماك، والمفرقعات التي كانت تخر منها الجبال، والمدافع الضخمة والدبابات التي كانت تأتي على الحصون، والتلغراف والتليفون اللاسلكي الذي أدهش العالم بنقله الأصوات، والكهرباء التي تضيء بمجرد إدارة زرها، وحاكي الصدى، والسيارات، وغير ذلك من مدهشات القرن العشرين. وقد عرف المصريون بذلك فضل العلم فالتمسوا حياتهم من طريقه، ووجهوا بأبنائهم لموارده الصافية. فهم إن طلبوه اليوم فإنما يطلبون ما كان ميزة لأجدادهم من قبل، وكل من سار على الدرب وصل. (1) الهجرة في سبيل العلم
قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «اطلبوا العلم ولو بالصين»، وقد حث بذلك على الجهاد والهجرة في سبيل العلم، ولم يكن في ذلك الوقت أبعد من الصين على طالبها، فكانت غاية مرحلة أهل الدنيا، وذلك لجلال العلم وتفرده بخلق حياة الأمم ورفع قيود الجهالة عنها.
وقد كانت المرأة المصرية فيما مضى من أيامنا الأخيرة جاهلة لا تعرف للعلم قيمة ولا معنى، فكانت تضن بفلذة كبدها على أن يحمل مشقة الهجرة في سبيل العلم ليعود إليها حيا بعد موته، وعالما بعد جهله، ونبيها بعد خموله، وقد كان يسرها أن يلبث بجانبها عالة على أهله وأمته من أن يرتحل عنها ليعود إليها عالما كبيرا. وكانت المرأة لها العذر في ذلك، لأن الظلام الذي كان مخيما على عقلها كان يحجب عنها نور الحياة، ولا تستطيع أن تصدر حكما على شيء لم تره بعينها. ومن نشأ في الظلام ألفه وأصبح لا يفرق بينه وبين النور، وحسبك بالخفاش مثلا.
أما اليوم فقد تنبهت المرأة وعرفت قيمة العلم، وملأ قلبها حب الوطن بفضل هذه النهضة الحديثة، فأصبحت تشارك الرجل في رأيه وجهاده وأمانيه القومية، وتبحث بنفسها وراء الطريقة التي توصلها إلى توجيه ولدها إلى الغرب ليتعلم ويعود فيكون رجلا نافعا لبلاده وأمته. وأصبحت ترى أكثر المصريات يعلمن أولادهن في المنازل، ويرضعنهم ثدي العلم والمعرفة، وينبهن قلوبهم الصغيرة، ويفتحن آذانهم لمعانيه الجميلة، ويوجهن بنفوسهم للهجرة في سبيله، ولذلك أخذت الأمة تصعد سلم الرقي ببركة تعليم المرأة، وبفضل معرفة الأمة قيمة العلم وأثره الجليل في حياة الشعوب ومنعتها.
والآن أصبح الرجل والمرأة سواء في سبيل تعليم الأبناء وتثقيف عقولهم، ليكونوا أساسا لتشييد مستقبل بلادهم وثمرة لذيذة تجنيها مصر من غرس يدها المباركة. وما دامت المرأة تعمل من ناحيتها والرجل يعمل من ناحيته، فلا تعجب إذا رأيت البلد تزدهر بشبابها والحياة تنمو بأرجائها، فإن البلاد جسم والشباب روحه، والعلم غذاء تلك الروح. (2) الجهاد العلمي
من دلائل نهضتنا الحديثة المباركة شغف الشبان بطلب العلم واهتمامهم بأمر مستقبلهم. والأمة التي تقدر شبيبتها العلم قدره وتجاهد في سبيله إنما هي أمة تشيد مستقبلها على أساس لا ينهار بناؤه.
ولقد أخذ الشباب المصري يهاجر من وطنه في الأيام الأخيرة مجاهدا في سبيل العلم، مستسهلا المصاعب، هازئا بالمتاعب، منبثا في أنحاء العالم، ضاربا بكل سهم في كل علم وفن وصناعة، مبرهنا على أهلية الأمة للحياة الحرة وعلى حبها للتقدم. وفي كل عاصمة من عواصم أوروبا وأمريكا وفي كل بلدة اشتهرت بشيء من العلم أو الصناعة أو الفنون تجد شابا مصريا مشمرا عن ساعد الجد منكبا على الدرس والتنقيب والبحث منصرفا بكليته للتحصيل، حتى تكاد تخاله جنديا في ميدان القتال ولا سلاح في يده غير القلم، ولا ذخيرة غير المداد والرغبة، ولا عدو غير الجهالة، ولا غاية غير العلم، والعلم باب لكل غاية شريفة، وعدة للحصول على كل أمل مفقود، والأمم التي لا تعرف قيمة العلم لا تعرف قيمة الحياة. ونصيحتي الخالصة لأمتي المحبوبة، أمة الأمس المجيد واليوم السعيد والغد المنشود، أن تجعل كل وجهتها في سبيل العلم وأن تجعل للصنائع المفقودة والفنون العالية نصيبا من جهادها العلمي، حتى تستكمل عدة نهوضها من كل ناحية فلا يشوبها نقص ولا يعتورها ضعف، وأن تجعل للآداب العالية والأخلاق الراقية نصيبا من العناية وحسن الالتفات، وأن يضاعف المجاهدون في سبيل العلم من شبابنا الحي الحريص على وقته جهودهم حتى لا تفوتهم ثانية من وقتهم الذهبي. وأما من لها واستكان إلى حظ نفسه فالأمة براء منه وحسبه الله في وقته الذي يضيع وزمنه الذي ينفق وعمره الذي يذهب سدى، ولله در أمية ابن الوردي حيث يقول:
حبك الأوطان عجز ظاهر
فاغترب تلق عن الأهل بدل
فبمكث الماء يبقى آسنا
وسرى البدر به البدر اكتمل
في ازدياد العلم إرغام العدا
وجمال العلم إصلاح العمل
فاهجر النوم وحصله فمن
يعرف المطلوب يحقر ما بذل (3) سفر شهداء العلم والغربة
رأى شباب مصر بعد أن خمدت نار الحرب العامة أن بلاد الألمان مورد للعلم لا ينضب معينه فأزمعوا الرحلة إليها، ووصلت القافلة الأولى منهم بسلامة الله ثم بعثت بالرسائل تترى لتدل الأمة المصرية على قيمة العلم هنالك، فاستبق الشبان لانتجاع تلك الموارد الصافيات وأخذوا يزمون حقائب الهجرة، وهمت القافلة الثانية بالإبحار من الثغر الإسكندري في منتصف مارس سنة 1920 مزودة بالدعوات الصالحات من قلوب الآباء والأمهات وقد باركها الوطن المفدى. وأقلعت الباخرة «حلوان» تحمل أمانة مصر وفلذات أكبادها، والبحر إجلالا لهم في سكون إلا موجات تداعب الباخرة وهي تسير باسم الله مجريها ومرساها، حتى وصلت مدينة تريستا، ونزلت قافلة العلم إلى الساحل واستقلت القطار بعد منتصف ليل الجمعة 26 مارس قاصدة فينا. وقد اجتمع الطلبة المصريون في مركبة واحدة كانت قد أعدت لهم خصيصا وهي الثالثة في القطار، وكانت على رءوسهم الطرابيش، وعددهم نحو الثلاثين طالبا. وكان الجو صافيا والنسيم منعشا، ولم يكن يسمع في سكون ذلك الليل غير أحاديث سمرهم الشهية، وغير جيشان الآمال الكبار في صدورهم الفتية، ونفوسهم القوية، وكان النسيم يحمل تلك الأصوات ليهديها تحية عاطرة إلى مصر العزيزة.
ولما انبلج الصبح أخذ القطار ينساب بين الجبال الخضراء والمزارع البهيجة، والوديان المعشبة، والعيون المتدفقة، والطيور المغردة. وكانت قافلة مصر تكاد تتخذ من شغفها بالعلم أجنحة لتصل إلى بغيتها منه، لتعود إلى وطنها كما يعود الجندي الظافر من ميدان القتال، ولكن:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن (4) الفاجعة الأليمة
بين تلك الآمال الواسعة وأحلام الشباب الجميلة حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد وقفت حركة القاطرة عند الساعة السابعة وهي تصعد مرتفعا من الجبل لتجتاز معبرا، ثم ارتجت رجة عنيفة انقبضت لها النفوس، ووقفت القلوب في الحناجر، وما هي إلا دقيقة حتى كان القضاء قد نفذ الإرادة الأزلية، ووقعت الفاجعة الأليمة، فسقطت الأمتعة التي كانت مكدسة فوق أرفف المركبة على رءوس الطلبة وأكتافهم وهشمت عظامهم ورضت أجسامهم الغضة وأذهلتهم حتى عن أنفسهم، وانطبقت جدران المركبة وخر سقفها، فأخذوا يستنجدون وما من منجد. وما كان آلم للنفوس من أب صحب ابنه في تلك الرحلة وقد حال القضاء بينهما، ولكن الأب استطاع وهو يجود بنفسه الأخير أن يخاطب ولده «عبد الحميد العبد» مشجعا ببضع كليمات شدت عزمه وفتحت له منفذا إلى الحياة، وقد ذهب «إبراهيم العبد» إلى رحمة ربه موقنا بسلامة ولده. وأخذ الطلبة يتبادلون كلمات التشجيع وأغمى على البعض وفاضت أرواح البعض، وكانت ساعة أشد هولا من سائر الساعات.
عند ذلك أقبل الناس فأخذوا يزيلون بقايا المركبة، ويخرجون الجثث التي كانت من ساعة مملوءة بالأمل والحياة، وهي بين ميت لا رجاء فيه وجريح يرجى شفاؤه، ومن سلم أكثر ممن أصيبت فيه مصر، وكان عدد المستشهدين اثني عشر طالبا، عوض الله مصر فيهم خيرا!
وقد كتب «عبد الحميد العبد »، أحد الذين قدرت لهم النجاة، يصف أسباب الفاجعة فقال: «كان قطارنا خارجا من نفق صعدا، يجتاز جسرا (كوبريا) على (نهر فيلا)، ولا بد له بعد اجتيازه من الدخول في نفق آخر، والمسافة تبعد نحو كيلو مترين من محطة (مونتبا)، فلم يكد القطار يعبر الجسر حتى صدم مركبتي بضاعة محملتين خشبا وكانتا قد انحدرتا من محطة (مونتبا) وخرجتا من النفق بقوة الانحدار. ولا تزال مسألة انحدارهما من المحطة سرا مجهولا، ويظنون أن لصوصا كانوا يحاولون سرقة ما فيهما من الخشب، والله أعلم. ولو حصل التصادم على الكوبري قبل أن تعبر القاطرة لما قوي على احتمال الصدمة، وكان انقلب وتدهور إلى أسفل الوادي، وارتفاع هذا الكوبري خمسون مترا. ومن غريب الصدف أن المركبتين السابقتين لمركبتنا لم تصابا بضرر يذكر، وأن المسافرين الذين كانوا فيهما نجوا من الموت، ومع أن مركبتنا جاءت بعدهما فقد كان نصيبها أن تتداعى جدرانها وينحط ما فيها على المسافرين، فيقضي على نصفهم تقريبا.»
هذا هو ملخص الفاجعة. ولا شك في أن مصاب مصر في هؤلاء الشهداء كان نكبة عظيمة، لأن الجهاد في سبيل العلم أفضل وأشرف من الجهاد في سبيل الحرب، ولأن الذي يجاهد في مقاومة عدو داخلي أعظم ممن يجاهد في مقاومة عدو خارجي، والجهل أشد فتكا بنفوس الأمم من كل عدو خارجي، ولا يمكن دفع العدو الخارجي إلا بمجاهدة العدو الداخلي أولا. ولذلك ما كادت تحمل الأسلاك البرقية خبر الفاجعة حتى عم الحزن وشاع الأسى، وانقلبت مسرة النفوس آلاما موجعة، وأخذ الناس يعزون بعضهم البعض، ولبس الشباب شارات الحداد. وسنأتي على وصف ما قامت به الأمة الإيطالية المجيدة من العطف والمواساة التي تذكرها لها مصر أبد الدهر. (5) مناجاة الشهداء
للأمم الناهضة كما للأفراد مفاجآت من الألم تتخلل لذة الأمل، تنزلها بها الأيام لتختبر صدق عزيمة أبنائها وتقف على مبلغ إرادتهم، وما في طوقهم من الشجاعة الأدبية والقوة النفسية، ومقدار جلدهم على الصبر في مكافحة الحوادث الطارئة، وفي تلك التجربة يكون برهان الأمة على مكانتها من العلم والرقي وموضعها من الحياة والأخلاق.
وتنزل النكبة بالأمة فتهز أعصابها هزا عنيفا، تكاد تنفطر له المرائر جزعا، وتنشق له الأكباد هلعا، وتطير منه النفوس حسرة، وتمزق القلوب لوعة. ولكن الأمة الحية الناهضة الصادقة في جهادها لن يكون هذا مظهرها مهما اشتد الأمر، وإلا لكانت مثلا يضرب للضعف والوهن، وإنما تلقى المصائب بصبر وأناة يهونانها، وتعمل جهدها لتتخذ من النازلة قوة، ومن الفاجعة حياة، وتستمد منها ما يعينها على المضي في سبيلها بشجاعة وثبات بين إعجاب الأمم وإكبار الشعوب.
وقد قضت المشيئة الإلهية أن تصاب مصر في رهط من فلذات أكبادها وجماعة من طلاب الحياة لها، تستقبلهم وهي تحمل شارات الحداد، وقد ملأ الأسى نواحيها، وارتدى شبابها السواد، وانطلق الحزن الصامت فما وجد بسمة في ثغر إلا وأطفأ نورها، خشوعا لجلال الفاجعة وألمها، وهيبة للإرادة الإلهية التي قدرت لمصر أن تصاب، وأشفقت بها فألهمتها من الرزانة ما يكفل لها الصبر الجميل.
أي أبناءنا الشهداء
لقد رفعتم مكانتنا أحياء وأمواتا، وجعلتم الأمم تبادلنا عاطفة الإخاء، وأكسبتمونا مودتها.
إنكم ذهبتم تحملون باقات الآمال الناضرة فأذبلها القدر في أيديكم.
إن الموت أطفأ بكم اثني عشر كوكبا كانت سماء مستقبل مصر أحوج ما يكون إليهم، ولكنه أطلع في الأمة الناهضة بموتهم ألوفا، وزادها بفجيعتها فيهم إقداما وقوة ...
أي أبناءنا الشهداء
إنكم كنتم تريدون الحياة فلقيتم الموت، وكنتم تريدون للوطن الخير فأراد الله أن يحقق صدق نواياكم، فجعل لمصر الخير في حياتكم وموتكم.
لولاكم أيها الشهداء ما عرفنا مكانتنا من قلوب أمة الطليان المجيدة، لولاكم ما خرج أبناء تلك الأمة زرافات ووحدانا، نساء ورجالا، إلى ساحة أودين وهم يحملون أعلامنا وأعلامهم، ويمشون بباقات الزهر الجني ليشيعوا جنازتكم إكراما لمصر.
لولاكم ما وقف خطباء الطليان يذكرون مجد مصر ويترنمون بكرم مصر ويعزون مصر فيكم.
لولاكم ما فاضت أعمدة صحفهم بأنهر الإخلاص المحض، ولا حملت فضليات سيداتهم وأوانسهم الأزاهر تهديها لجرحانا، عربونا للصداقة المتبادلة التي تربط قلوب الأمتين، وإن كانت هذه شرقية وتلك غربية.
لولاكم ما رأى العالم تلك الشجاعة الأدبية النادرة التي أظهرها إخوانكم الذين أبوا أن يتخلفوا عن الهجرة بعد الفاجعة، وأبى عليهم إقدامهم إلا أن اخترقوا الطريق نفسه حبا في العلم والوطن، ولسان حالهم ينشد:
سأبذل في سبيل العلم جهدي
ولا أخشى منازلة الليالي
فإما والثرى وأصيب مجدا
وإما والثريا والمعالي
وقد سمح الآباء لأبنائهم وهم حبات قلوبهم وأشطر أرواحهم، أن يسافروا وكلهم اعتقاد وإيمان بأن سلامة الوطن فوق سلامة النفس والمال والولد.
أي فخر يحمله آباؤكم وأمهاتكم أيها الشهداء اليوم، وهم يرون الأمة على بكرة أبيها من أمير ووزير وكبير وصغير تشاركهم الأسى، وتعقد الموكب الرهيب، الموكب العلمي التاريخي، الموكب الذي يشترك فيه الشعب لتمجيد ذكرى شهدائه؟
يا ليت لي ولدا بينكم أيها الشهداء!
طوبى للذين يموتون في سبيل العلم والوطن، فيحملون هكذا إلى مضاجعهم الأخيرة!
إن تاريخ مصر الحديث سيكون فيه صفحة من النور تحمل اثني عشر اسما لكواكب هوت من عالم الفناء لتتألق في عالم الخلود، وتلك هي أسماؤكم يا شهداء العلم.
فعزاء أيتها الأمة الناهضة في أبنائك البررة الشجعان المجاهدين الذين كانوا يحبونك ويخلصون لك، وفي سبيل حياتك تحملوا آلام الغربة، ومشقة الهجرة ومضاضة الفراق. وفي سبيلك استشهدوا، ليشهدوا الأمم على حياتك النامية وعزيمتك الماضية.
أما أنتم أيها الشهداء، فقد أديتم الواجب، ولن ينقص من جهادكم مباغتة الأجل، وكفاكم فخرا وإكبارا أنكم هاجرتم في سبيل العلم والوطن وقلوبكم مملوءة بالأمال لأمتكم والمحبة لوطنكم.
ناموا مطمئنين تحت ظلال الرحمة، فقد عدتم للأرض التي بارك الله فيها، الأرض التي تستريح فيها جنوبكم. ولتشهد أرواحكم على أننا لن نخلف ما عاهدتمونا عليه من متابعة السير بثبات وإقدام حتى تنتهي مرحلة الغرس ويأتي يوم الحصاد.
فناموا مطمئنين بجوار الله لتحيوا هناك حياتكم الروحية.
طوبى لشهداء العلم والوطن! (6) الرابطة القومية
يضمنا وطن تدنو بنا لغة
يظلنا علم بالحق نرعاه
شهد العالم في تاريخ النهضة المصرية مشهدا رائعا من الارتباط القومي الذي جمع عنصري الأمة ومزج قلبيهما بعد سحابة صيف من التنافر أزجتها الأغراض السيئة، فما لبثت أن انقشعت من سماء مصر وعادت إلى القلوب موداتها. ولن ينخدع الشعب بالسراب مرة أخرى، لأنه عرف أن حياته في ارتباطه، وقوته في اتحاده، ونصرته في اجتماع كلمته، فكان كذلك وكانت آية نهضة مصر وشعار الحياة فيها.
وشاء الله أن تبعث هذه الأمة فتمكن الاتحاد من قلوب أبنائها، وجعله عقيدة راسخة إلى الأبد ورابطة لا يفصمها غير الموت، ورجع الأخ إلى أخيه ليبقي بيت أبيهما النيل وأمهما مصر عامرا.
والدين دين الله في ملكوته
والنيل للأقباط والإسلام
علم الشعب أن الدين عقيدة روحية، وأن الدين المعاملة، وأن الله لم يخلق الأديان لتفرق بين الناس، وأن المسجد معبد لله، وأن الكنيسة معبد لله، وأن الوطن للجميع؛ فاتخذوا دين عيسى ودين محمد عقيدة خاصة بالأفراد، وجعلوا دين الوطن عقيدة يشترك فيها الجميع ... ودين المسجد والكنيسة يحض على الفضائل وعلى الحب وعلى المساواة وعلى نبذ الرذيلة وعلى الإخلاص في عبادة الله وعلى معاملة الناس بالمعروف وعدم الاعتداء على حقوقهم.
ودين الوطن يدعو للعلم والعمل والشهامة والإقدام والاتحاد والنصيحة والاقتصاد والدفاع عن الشرف وحب الخير للوطن والعمل لرفع شأنه وتشييد مجده. ولقد ظهرت رابطة الشعب يوم تشييع جنازة الشهداء، فاشترك أبناء الوطن الواحد في المصاب العام، وسارت المواكب تتدفق لا يميز فيها بين الأخ وأخيه غير علم خاص يدل عليه. ولم يكن أشد أثرا في النفوس من مظهر الشيوخ والقساوسة، وقد ساروا مندمجين في بعضهما البعض، يرمزان للوحدة الوطنية والرابطة القومية كأنهما رقعة الشطرنج.
الصورة الرمزية للرابطة القومية
وفي هذه الصورة الرمزية لمقابر الشهداء تجد رمز الاتحاد في الحياة وفي الموت، فإنك تجد المسجد مجاورا للكنيسة وتجد مقابر الشهداء الاثني عشر من مسلمين وأقباط ماثلة أمامك وعليها الألواح بأسمائهم وقد هبط ملك من السماء ليضع باقة من الزهر على تلك المقابر، وهي رمز للرحمة الإلهية الشاملة التي اختص الله بها عباده الشهداء.
وسيجد القارئ بين دفتي هذا الكتاب وصف مواكب الشهداء في الإسكندرية ومصر وطنطا ودمنهور وميت غمر، وصورهم، ولمعة من تاريخ حياة كل منهم، وما أقيم لرثائهم من الحفلات، وما كتبته عنهم الصحف، وما نظمه في فاجعتهم الشعراء، ونثره الكتاب؛ لتكون هذه الصحائف بمثابة ذكرى خالدة لجهاد مصر العلمي.
التمثال الرمزي لنهضة مصر لحضرة الأستاذ الفني الحفار الشهير ذائع الصيت محمود مختار أفندي
التمثال الرمزي لنهضة مصر.
وإنه ليبهج نفوسنا أن تكون أيامنا أيام نهضة قوية، وأيام إحياء لمفاخر أجدادنا وآثارهم الفنية الخالدة، وهذا الأستاذ النابغة المتفنن محمود مختار أفندي قد حفر لأبي الهول تمثالا جعله رمزا خالدا لهذه النهضة المصرية المباركة، فراقنا أن نزين به صفحات الكتاب وأن نضم إليه صورة حفارنا النابغة وأن نضيف إليه الأهرام ليكون رمزا تاما لمفاخر مصر القديمة ومفاخر مصر الحديثة. والله المسئول أن يكلل مساعينا لخدمة وطننا المحبوب بالنجاح، وأن يرزقنا الإخلاص وييسر لنا ما تعسر من أمورنا، إنه سميع مجيب.
فرج سليمان فؤاد
بمصر (7) حضرة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون: رئيس شرف حفلة تشييع جنازة شهداء العلم والغربة بالإسكندرية
حضرة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون باشا.
أكلما ناب خطب قيل «يا عمر»
كأنما «عمر» من جنده القدر
وكل خطب دجا يبدو له «عمر»
كأنه الشمس للآفاق والقمر
البدو تسأله والمدن تأمله
فيرتوي من يديه البدو والحضر
لو كان في زمن القرآن إذ نزلت
آياته أنزلت في مدحه السور
فلا عدمنا هبات منه واكفة
لم يسقنا مثلها من كفه المطر
إبراهيم سليمان
أحد علماء معهد الإسكندرية •••
عندما طير البرق خبر الكارثة الأليمة المحزنة التي استشهد فيها اثنا عشر طالبا مصريا، قامت نخبة من أفاضل الأمة المصرية العاملين وقررت تشكيل لجنة لتشييع جنازة شهداء العلم والغربة في مدينة الإسكندرية، تحت رعاية صاحب السمو الجليل عمر طوسون باشا، وبرئاسة حضرة صاحب السعادة المفضال والشيخ الوقور أحمد يحيى باشا، وحضرة صاحب السعادة المفضال محمود باشا الديب وكيلا، وبعضوية حضرات أصحاب السعادة والعزة الأماجد عبد الله باشا الغرياني، ومحمد بك فهمي الناضوري، وعبد العزيز بك الحديني، ومحمد بك الكلزه، والسيد بك مرسي، ومصطفى بك الخادم، ورمضان بك يوسف ، وإبراهيم بك سيد أحمد، والدكتور أحمد عبد السلام، وسليمان أفندي أنطون، وعبد الحليم أفندي جميعي، وأحمد بك زكي، والدكتور ظيفل بك حسن، وفهمي بك غانم، وسعيد بك طليمات، وصادق أفندي أبو هيف؛ لأجل تنظيم وتنسيق جنازة شهداء العلم والغربة الطلبة المصريين المتوفين في حادثة صدمة قطار سكة الحديد بين حدود إيطاليا والنمسا ببلدة «مونتبا». فإزاء هذه الهمم العالية والأريحية لا يسعنا إلا أن نسدي حضرات أعضاء لجنة الإسكندرية الشكر الجم والثناء العظيم، وخصوصا صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون، وحضرة صاحب السعادة الشيخ الوقور أحمد يحيى باشا. وسنذكر تشييع الجنازة وما قامت به هذه اللجنة المباركة بالتفصيل.
واعترافا بما لصاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون من الأيادي البيضاء والمنن الغراء والمآثر الفيحاء على سكان وادي النيل؛ قد أتينا على لمحة من تاريخ حياته المجيد.
فذلكة تاريخية للأمير
لا نقصد من هذه اللمحة مدح الأمير فهو غني بصيته الذائع وشهرته الواسعة عن المدح والإطراء، ولكن اعترافا بشيم الأمير وشمائله العالية نكتب ترجمته للأمة والبلاد ليكون لها من تاريخ حياته الحافل بجلائل الأعمال نبراس يضيء لها طريق المجد الصحيح ومحبة الخير للخير. وفي اعتقادنا أن ترجمة الأمير أكبر درس للذين يرون في مجد الحسب والنسب كل الفخر، وفي المال الموروث عن الآباء والأجداد غنى عن كل منقبة تكسبهم مجدا جديدا وذكرا حميدا.
بسطنا هذه المقدمة ليعرف الأمير قصدنا من ترجمته، وأننا لم نعد ما في نفسه، ولم نتجاوز غرضه، وليكون القارئ على بصيرة من الغاية التي حدت بنا إلى ذكر هذه السيرة الشريفة.
مولد الأمير
ولد الأمير عمر بن طوسون بن سعيد بن محمد علي الكبير بالإسكندرية في 8 سبتمبر سنة 1872م، وتوفي والده وهو في السنة الرابعة من عمره فكفلته جدته لأبيه خير كفالة، وعنيت بتربيته هو وإخوته أجل عناية، فنبت نباتا حسنا وشب على الكمال خلقا وخلقا. ودرس مبادئ العلوم على أساتذة قصر والده إلى أن بلغ الحلم، فنزح إلى سويسرا ودرس فيها دراسة مستفيضة. ولما تخرج تاقت نفسه إلى السياحة ، فرحل إلى إنجلترا وفرنسا باحثا مدققا، معتبرا بما هنالك من تقدم اجتماعي وعلمي وصناعي وزراعي، ثم قفل إلى الديار المصرية حاملا بين جنبيه همة عالية ونفسا ذكية، وقلبا ألمعيا، وأدبا عبقريا. وهو يجيد اللغة التركية، والعربية، والفرنسية، والإنجليزية، قراءة وكتابة، ويشارك في مختلف العلوم مشاركة تدل على سمو مداركه، وسعة معارفه، وقد نال من الرتب والوسامات المصرية أسماها وأعلاها. واقترن بإحدى كريمات الأمير حسن باشا ابن الخديو إسماعيل، فرزقه الله منها النجباء والنجيبات من البنين والبنات، وسعادتهم بتثقيفه وتعليمه لهم تتفق مع سعادة طالعهم وتبشر بأنهم سيطلعون نجوم سماء ويسطعون كواكب علاء.
وللأمير ولع بالفروسية وكل ما يؤدي إليها، فلذلك كانت دائما جميع أندية الرياضة في البلاد ملحوظة بجميل رعايته، كمضامير السباق في الديار المصرية فهو رئيسها منذ أمد بعيد، ومن أكبر المنشطين لها، كما له ولع قديم بالصيد والقنص جعله من أمهر الرماة. واكتسب الأمير من وراء هذا الميل الغريزي فيه صحة ونشاطا، ينطقان بفوائد الرياضة بأفصح لسان، فهي لا تدخل في باب اللهو كما يظن عامة الشرقيين، بل هي إلى الجد أقرب لعودها على الصحة بأجل الفوائد، والصحة ملاك الحياة، وعليها ينبني العلم والعمل، وما يعمله الصحيح في يوم لا يقدر عليه السقيم في أيام، كما أن العقل السليم في الجسم السليم.
ومنذ بلغ أشده جعل نصب عينيه أن يقبض يوما ما على زمام دائرته ويدير شئونها بنفسه، فانكب على التمرن وكان من وقت لآخر يطوف مزارعه الواسعة، وينعم النظر في كتب الفلاحة، ويعنى بالوقوف على أسرارها وأصولها العملية، كما يعنى إذا رجع إلى ديوان دائرته بالشئون الإدارية والمالية، ولما كملت أهليته تولى أمره بنفسه، وقد أصبح الآن ممن يشار إليهم بالبنان في سعة الاطلاع على العلوم الزراعية والمعاملات المالية.
وعهدت إلى إدارته بعد دائرتان من أكبر الدوائر، وهما دائرة الأمير حسن باشا وزوجه الأميرة خديجة هانم، ودائرة الأمير محمد إبراهيم، فتبرع بإدارة شئونهما غيرة منه على مصالح المستحقين فيهما من أبناء أسرته الكريمة، وأبى أن يأخذ على ذلك أجرا، وطالما كلفه الطواف على مزارع الدائرتين ورعاية مصالحهما مالا، فتأبى نفسه الكريمة إلا أن يكون على حسابه الخاص، فهو يضحي بالكثير من وقته وماله في سبيل منافع بعض أعضاء أسرته شأنه في محبة الخير وإسداء النصيحة إلى القريب والبعيد. وقد بلغت الدوائر الثلاث بحسن إدارته أفضل المبالغ، وغدا مركزها المالي ثابتا على أقوى الدعائم، ونهضت بها عزيمته نهضة جعلتها في مقام رفيع.
ومن وقف على حياة الأمير عجب أشد العجب من انكبابه على العمل دون سآمة أو ملل، فهو مع أعمال الدوائر العظيمة لا ينقطع عن القراءة والدرس في مكتبته الحافلة بالنفائس، وله غرام باقتناء كتب التاريخ والوقوف على آثار الأقدمين، ولا يخلو الكثير من أيامه من النظر في شأن هام أو دعوة لاكتتاب أو رياسة جمعية، كما لا يخلو شهر من سفره إلى ضياعه مرة أو أكثر، وقد يبقى في الأرياف أسبوعا لمشارفة الأعمال الجارية في أراضيه وأراضي الدائرتين الموكولتين إليه.
والأمير بعيد بفطرته السليمة وتربيته القويمة عما يغضب الله، وهو يكره الخمر ويكره شاربيها، ويعاقب من يعلم أنه يشربها من موظفيه أشد العقاب. ويجل الإسلام وأوامره، وإيمانه بالله عظيم، واعتقاده فيه راسخ. يعجبه من الناس الصدق والإخلاص ويقربهم إليه أكثر مما يقربهم جاههم ومناصبهم، ومحبته للمصريين تعدل محبتهم له، وهم في نظره سواء لا فرق بين مسلمهم ومسيحيهم. وكثير من موظفي دوائره من الأقباط، وبينهم من بلغوا مراكز سامية وتولوا المناصب العالية عنده، وفيهم سوريون وأجانب. وهو شرقي في أمياله، ويعتبر أن أكبر جزاء له من الأمة المصرية على التفاته السامي نحوها وعنايته التي يظهرها في ظروف مختلفة لصالحها؛ هو ذلك الحب الخالص الذي يتجلى لسموه في غدوه ورواحه، وعند كل فرصة تمكنها من إظهار ما تكنه لشخصه المحبوب. وفي أيام المظاهرات الوطنية الكبرى كان يقف الجمع المحتشد تحت شرفات دائرته هاتفا له داعيا، ولا ينصرف حتى يطل سموه ويحييهم، وكذلك حالهم معه في كل مشهد واحتفال.
بعض مآثر الأمير ومبراته
لا ينتظر القارئ أننا نحصي مبرات الأمير وأعماله العظيمة في هذه العجالة، وإنما سبيلنا في ذلك أن نلمع إلى بعضها إلماعا ونذكر ما حضرنا منها، ليقاس عليه ما غاب عنا، فكرمه الواسع لا تحضرنا عبارة تفي بالإفصاح عنه؛ فالحرب الطرابلسية إنما كانت مادتها ماله، ولو لم يسعفها بمعونته وجاهه ومبرته لما أمكن أهلها الدفاع عن حوزتهم بضعة أشهر، وكذلك حرب البلقان التي شبت نارها على أثر حرب طرابلس، فقد أقر فيها عين الدولة والملة، ورأس لجنة الإعانة في مصر فلبته الأمة والتفت حوله، وألف اللجان في المديريات والبلدان، وكان يستندي الأكف بنفسه ويخطب الخطب الرنانة في المشاهد الحفلة بالأمراء والأعيان فيجري النضار بين يديه سيلا متدفقا وهو يبعث به إلى الدولة تباعا.
ولقد عرفت الدولة العثمانية مواقفه العظيمة لها في مواطن كثيرة خصوصا في هاتين النازلتين وفي جمعية الهلال الأحمر، وأرادت أن تكافئه بالوسامات والرتب بل والولايات فأبى شاكرا وقال إني لم أفعل غير الواجب وليس على الواجب جزاء.
هذه اللمحة قطرة من بحر جوده الفياض. وقد جئنا على ترجمة سموه بتفصيل واف كاف وما قيل في سموه من القصائد الرنانة والخطب الغراء في كتابنا «الكنز الثمين لعظماء المصريين»، لأننا توجنا الجزء الثاني من هذا الكتاب بتاريخ حياته العاطر أدامه الله مدى الدهر عضدا للشعب المصري الكريم.
بقيت لنا كنزا ثمينا وعزة
تباهي بها أجيالنا بعد أجيال (8) ترجمة حضرة صاحب السعادة الوقور أحمد يحيى باشا
رئيس حفلة تشييع الجنازة بالإسكندرية لشهداء العلم والغربة
صاحب السعادة أحمد يحيى باشا من أعيان الإسكندرية.
عظماء الرجال هم الأمثلة الحية لمعاني الإنسانية.
فالشجاعة، والحكمة، والتؤدة، والسداد في الرأي، والنبوغ في العمل، والتفاني في خدمة الوطن، وحب الخير لأبناء أمته؛ كل هذه المعاني الإنسانية وهذه المعاني السامية قد نراها مكبرة مجسمة حتى نكاد نبصرها بالعين ونلمسها باليد في عظماء الرجال.
تلك المعاني الشريفة وتلك الصفات الباهرة تتجلى في شخص حضرة صاحب السعادة الجليل أحمد يحيى باشا، رئيس حفلة تشييع جنازة شهداء العلم والغربة بمدينة الإسكندرية. فحياة مثله من عظماء الأمة يجب أن تكون أمثلة صالحة لكل من يريد أن يعبر سبل الحياة بنجاح. واعترافا بفضل هؤلاء الرجال نعطر صفحات هذا الكتاب بلمحة من تواريخهم بالإيجاز حسب ما يناسب المقام، ومن أراد أن يقف على جلائل أعمالهم فعليه أن يتصفحها في كتابنا «الكنز الثمين لعظماء المصريين»، بالجزء الثاني الذي سيظهر إن شاء الله قريبا في عالم المطبوعات.
مولده
ولد شيخ الوطنية الجليل أحمد يحيى باشا في يوم الجمعة 5 محرم سنة 1260ه، من والدين شريفين مشهورين بالمجد الأثيل والأصل النبيل والعز المنيع في مدينة الإسكندرية. وهو ابن السيد محمد يحيى ابن الحاج مصطفى يحيى الذي كان قاضيا بمحكمة الإسكندرية الشرعية، ومعروف بحسن استقامته وجميل نزاهته. وقد ورث الفضل عن أسلافه أبا عن جد، وكانوا جميعا من حملة الشريعة السمحاء، مشهورين بالتقوى والصلاح والأخلاق الفاضلة والشمائل الغراء.
وكان المرحوم والده باشمهندسا للترسانة أيام المغفور له «محمد علي باشا الكبير»، وهو من تلاميذ الإرسالية الأولى التي كان بعث بها محمد علي إلى أوروبا، والتي كانت مؤلفة من خمسة من أبناء وجهاء القطر، اثنين من الإسكندرية أحدهما السيد محمد يحيى، وثلاثة من القاهرة. وكان والد صاحب الترجمة قد لقنه اللغة الطليانية فضلا عن العلوم الابتدائية، فساعده ذلك على سرعة تعلم اللغة الفرنسوية في فرنسا، حيث كان نصيبه تلقي العلوم البحرية بها في مدينة «طولون»، فلما عاد إلى وطنه - كما تعود الوديعة لصاحبها سالمة - ألحق بالترسانة، ولم يزل يرقى فيها حتى بلغ درجة باشمهندس في الترسانة، فلما انتقل المرحوم «محمد علي باشا» إلى رحمة الله وتغيرت حالة الترسانة تركها واشتغل بالتجارة.
حياته الدراسية
تلقى صاحب الترجمة أحمد يحيى باشا العلوم الأولية بمكتب الشيخ محمد أبي النصر بالإسكندرية، وحفظ على شيخه المذكور القرآن بتمامه وجوده تجويدا حسنا، وأتقن علم الحساب. فلما بلغ الثانية عشرة من عمره اشتغل مع المرحوم والده في محل تجارته فأتقن علم الحساب التجاري، واستنجبه والده ففتح له محلا تجاريا في سنة 1275ه لتجارة الأجواخ والحرائر والأصواف وما شاكل ذلك. ولم يمض على اشتغاله بمحل تجارة والده سوى تسع سنوات وتوفي والده، فانفصل صاحب الترجمة عن إخوته وانفرد بمحل تجارته على حدة.
شهرته التجارية
ولما اشتغل بإدارة محل تجارته على حدة كثرت أعماله واتسعت دائرة علاقاته، وعرف بين الناس بالاستقامة والنشاط والمقدرة والكفاءة. ونبغ في سائر فروع الحياة العملية، لأن الله قد من عليه بعقل راجح وجنان ثابت حتى وثقت به دوائر الحكومة، فكان ينتدب لعضوية المجالس بالمحاكم المختلطة والمجالس الحسبية ومراجعة عوائد الأملاك ونحوها مع استمراره على مباشرة أشغاله التجارية الواسعة. وما زال كذلك حتى اعتزل التجارة وتفرغ لأملاكه الواسعة بالمدينة، ولكنه استمر مثابرا على مباشرة الشئون العمومية، فنال فيها ثقة مواطنيه لما له من الخبرة وقوة العارضة والمقدرة على خدمة مواطنيه بما يذكره له التاريخ أمد الدهر. وقد انتخب عضوا بمجلس بلدي الإسكندرية، ومجلس شورى القوانين، وانتخب رئيسا لجمعية العروة الوثقى خلفا لصاحب الدولة محمد سعيد باشا. واعتنى كل الاعتناء بتربية نجليه الكريمين حضرتي صاحبي السعادة أمين يحيى باشا وعبد الفتاح يحيى باشا وكيل وزارة الحقانية، وهذه أكبر خدمة للأمة التي يقوم سعادتهما بخدمتها وينسجان على منوال أبيهما في عمل الخير والمعروف، و«من شابه أباه فما ظلم».
وقد يرى القارئ الكريم هذه الأعمال بالتفصيل في الجزء الثاني من كتابنا «الكنز الثمين لعظماء المصريين»، وهذه لمحة وجيزة ذكرناها للأمة من تاريخ حياته المجيد.
اهتمامه بحفلة تشييع جنازة شهداء العلم والغربة
وقد اهتم حضرة صاحب الترجمة بتنسيق وترتيب حفلة تشييع جنازة شهداء العلم والغربة في مدينة الإسكندرية اهتماما عظيما، حتى كان يخيل للإنسان أن المدينة وشوارعها ومنازلها لابسة ثوب الحداد على أولئك الشهداء الأطهار البررة. وسار الموكب بين التجلة والاحترام كأن على رءوس المشيعين الطير، وذلك بفضل همة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون باشا وصاحب الترجمة وحضرات أعضاء لجنة الاحتفال. وسترى تفصيل تشييع هذه الجنازة في غير هذا المكان.
تواريخ حياة الشهداء
لقد كانت حياة الشهداء كأعمار الزهر أو كالفجر البهيج، وكانوا كالأنجم التي لاحت في سمائها، وما هي إلا أن تلألأت فأضاءت ما حولها فهوت في ظلمات الأبدية. وقد جاء أولئك الشهداء إلى العالم ليعطروا نواحيه بتلك الأيام القلائل التي أقاموها بيننا ثم استردتهم السماء وتركت أجسادهم في ثرى مصر لتعطر بهم موقف الحشر في يوم البعث العظيم.
المرحوم أحمد طلعت أسعد من القاهرة.
بيد أن تلك الأعمار القصيرة لا تخلو من حسنة تذكر فتؤثر من ناحية الاجتهاد في تحصيل الدرس ومن ناحية مكارم الأخلاق، ولهذا نسوق هنا لمعة من تاريخ كل من شهدائنا ليكون مثلا صالحا لمن يطلع عليه من الشباب المصري المبارك، وليكون أيضا تذكارا خالدا لأبنائنا الذاهبين. (1) ترجمة أحمد طلعت أسعد (1-1) مولده
ولد الشاب الذكي المرحوم أحمد طلعت أسعد بمدينة الزقازيق في 11 أغسطس سنة 1902م، وهو نجل المرحوم محمد بك أسعد الذي كان مأمورا بالدائرة السنية. وتوفي والده وهو في سن الحادية عشرة، فتكفل بتربيته حضرة عمه صاحب العزة القائمقام أحمد بك أسعد وتبناه هو وإخوته الثلاثة، وكان الفقيد أكبرهم سنا وأشغفهم بطلب العلم والتطلع إلى الآمال الكبيرة، وتوسم مربيه فيه النجابة فلم يقصر في الإنفاق عليه والعناية بتربيته وتهذيبه. (1-2) دراسته
عندما بلغ الفقيد السن التي تؤهله لتلقي مبادئ الدراسة أدخله والده في سلك تلاميذ المدرسة المحمدية الأميرية، فكان مثال الفطنة والنجابة والنشاط، وقد لبث بها حتى حاز شهادة الدراسة الابتدائية. ثم التحق بمدرسة الإلهامية الثانوية، فكان موضع إعجاب أساتذتها واحترامهم، وكانوا يظهرون له شيئا من العطف ويتنبئون له بالمستقبل الزاهر. وكان على جانب عظيم من الأخلاق الطيبة والآداب العائلية العالية، وكان شفوقا بأشقائه شديد الإقبال عليهم بما يملأ نفوسهم مسرة. وكان كل همه أن يكون ذا مركز في الهيئة الاجتماعية يمكنه من خدمة وطنه ومن العناية بإخوته.
وبعد امتحانه في شهادة الكفاءة رغب في الالتحاق بمدرسة المحاسبة والتجارة المتوسطة، ولم يتح له نشاطه إتمام دراسته بها لأنه كان يتوق من العلم إلى ما ينقع غلته ويشفي نفسه الطموح بالمجد الشغوف بالعلاء التواقة إلى موارد العلم العذبة فانضم إلى الطلبة المسافرين إلى عاصمة الألمان للدراسة، ولم يسعفه الأجل فاستشهد قبل أن يصل إلى بغيته ولم يكن يبلغ من العمر أكثر من سبعة عشر ربيعا، وقد ترك إخوته يندبون شبابه، ومربيه يندب نجابته وذكاءه، ووطنه يندب مستقبله ويبكي منه شابا لو عاش لكان رجلا نافعا ووطنيا مخلصا، فرحمه الله رحمة واسعة وأنزله منازل الأبرار الأتقياء وعوض إخوته ومربيه فيه خيرا! (2) ترجمة علي حسن البكري (2-1) مولده
ولد شهيد الهمة والإقدام فقيد الشبيبة المصرية علي حسن البكري في اليوم السابع والعشرين من شهر يوليو سنة 1899 بمدينة دمياط، وهو نجل صاحب العزة الوجيه حسن بك البكري نجل المرحوم نعمان بك البكري سر تجار مدينة دمياط. ونشأ في مهد العز والرفاهية، متحليا بالآداب العائلية العالية والأخلاق الفاضلة اللائقة بشرف بيته الكريم ونسبه الطاهر. (2-2) دراسته
شب الفقيد على حب الدرس والمذاكرة، وما كاد يبلغ السابعة من سني حياته حتى أدخله والده مدرسة الكتبي الأولية ثم مدرسة دمياط الأميرية، فكان لا يألو جهدا في مسابقة إخوانه والتفوق عليهم في الترتيب المدرسي حتى نال شهادة الدراسة الابتدائية سنة 1914م وكان في أوائل الناجحين. ثم سافر إلى الإسكندرية فالتحق بالمدرسة العباسية الثانوية، ثم انتقل طلاب تلك المدرسة أيام الحرب العامة بأمر وزارة المعارف إلى مدرسة طنطا الثانوية ومنها حصل على شهادة الكفاءة سنة 1916م، ولبث مستمرا على إتمام دراسته بها حتى حاز شهادة الدراسة الثانوية عام 1919م. وكان يميل إلى تلقي علم الطب ليخفف ويلات الإنسانية، ولكنه لم يوفق للالتحاق بمدرسة الطب المصرية للحالة الاستثنائية المتبعة في قبول الطلاب فيها، ولذلك عول على دخول مدرسة الهندسة مخالفا بذلك ميله الطبيعي لدراسة العلوم الطبية.
المرحوم علي حسن أفندي البكري من دمياط.
ولما سهل الله طريق السفر إلى بلاد أوروبا عاود الفقيد غرامه بدراسة الطب، واهتاجه للهجرة إلى ربوع العلم في بلاد الألمان تهافت الطلبة على السفر وعرض عليه الاشتغال بالتجارة ولكنه أصر على طلب العلم فلم يسع والده إلا تحقيق رغباته وإعداد ما يلزم لرحلته من مال ومتاع.
وقد أصيب - رحمه الله - بمرض عضال قبل سفره بأيام قلائل ، فخشي أن يتشبث والده بمنعه عن السفر ويتخذ من مرضه ذريعة لذلك، فتصنع العافية وجالد مرضه بصبر يدل على صدق عزيمته وقوة إرادته، ولم يعلم بمرضه غير طبيبه الذي كان يعوده ويقوم بمداواته.
وسافر الفقيد مودعا من أهله وأصدقائه، واستقل الباخرة حلوان ميما تريستا، وما كاد يصل نبأ وصوله وتنتهي الألسن من حمد الله على سلامته حتى جاء خبر النعي الذي أصم الآذان وروع القلوب وأذهل النفوس.
وما كاد يذاع الخبر في القاهرة حتى أقيم المأتم في منزل والده الأسيف بالمنيرة، وتوافد عظماء البلد إلى تعزيته. وجاء صاحب العزة محمود بك رسمي محافظ دمياط، وعدد كبير من أعيانها ووجهائها خصيصا لتقديم مراسم التعزية، وأنابت لجنة الوفد المركزية الأستاذ محمد بك يوسف المحامي لتخفيف وقع المصيبة على نفس ذلك الوالد المحزون. (2-3) حفلة تأبين الفقيد بمدينة دمياط
رأى أهالي مدينة دمياط تخفيفا لمصاب عائلة الفقيد وقياما بحق مواطنهم عليهم أن يقيموا حفلة رثاء عامة له برئاسة سعادة المحافظ، وحددوا لذلك يوم الجمعة 10 أبريل سنة 1920م بمسجد الأستاذ البدري، وما كاد يوافي الموعد المضروب حتى غص المسجد بأعيان البلد وكبار موظفيها وتجارها، وكان في مقدمتهم سعادة المحافظ وسعادة عبد السلام بك العلايلي عضو الجمعية التشريعية، وفضيلة القاضي الشرعي وغيرهم، وكانت صورة الفقيد مكبرة وموضوعة في صدر المكان.
وافتتحت الحفلة بتلاوة آي الذكر الحكيم، وكان الجميع كأن على رءوسهم الطير من الخشوع لجلال الحزن ورهبة الموت. ثم نهض الطالب الذكي محمد أفندي إسماعيل خفاجي، فألقى كلمة أفاض فيها القول على همة أولئك الشبان وإقدامهم ومحبتهم للعلم، وترحم عليهم. ثم تلاه الأستاذ محمد بك يوسف المحامي والعضو بلجنة الوفد المركزية، فارتجل خطابا مؤثرا أبن فيه الفقيد وأظهر فداحة مصاب مصر في أبنائها الشهداء. وقام بعده الأديب عزيز أفندي يوسف فنسج على منواله، ثم تلاه الكاتب الشاعر الأديب عباس أفندي شوشة فألقى هذه الخطبة الشائقة:
مراثي الشعراء والكتاب في حفلة تأبين المرحوم علي حسن بكري
ما للسماء أراها الآن قائمة
كما عهدت وما للأرض لم تمد «ليت شعري، ألم يأتهما ذلك النبأ العظيم الذي أدمى المقل وأذاب المهج، ذلك النبأ الذي صدع الأفئدة، وفتت الأكباد ومزق المرائر، ذلك النبأ الذي اهتزت له أركان العالم، وضجت له الأفلاك في الأفلاك، نبأ كواكب مصر المنثرة، ونجومها المنكدرة، وبدورها الآفلة في ليالي التمام، نبأ ذلك الجيش العرمرم الذي تجمع من زهر شباب الكنانة الناضر ليفتح لها مغاليق العلوم. تجمع أولئك الأبطال ولا أغالي إذا عددتهم جيشا جرارا، فإني أعد كل فرد منهم أمة بأسرها في شخص. اجتمعوا وقائدهم الحزم، وعدتهم العزم، وذخيرتهم حب بلادهم، ثم ساروا ووجهتهم أمور ثلاثة: تحصيل العلم، وخدمة بلادهم بما يحصلون منه، ثم تخليد ذكر يحيون به إلى الأبد، والذكر عمر لو علمت طويل! ولكن جيش المنية ربض لهم في سبيلهم، ثم أخذهم على غرة، وهنا انعكست أمامهم الآية، فبلغوا الغاية الأخيرة التي ينشدونها قبل الغاية الأولى التي خرجوا من أجلها، بلغوا ما كانوا يرجون لأنفسهم من الذكر الخالد وآيات الإعظام التي أصبحت منقوشة في صفحات كل فؤاد، ينقلها الخلف عن السلف ما دامت السموات والأرض. ولم يبلغوا ما أرادوا من نقل دار العلوم إلى بلادهم وتحليتها بها، فقضوا وفي أنفسهم من ذلك لوعة، وخلفوا مصرهم وفي قلبها عليهم ألف حسرة، قضوا وهم في ميدان الجهاد بعيدين عن أهليهم، بعيدين عن أبيهم النيل وأمهم مصر التي حبتهم وأحبوها حتى كانوا يطلبون لها الحياة وهم يجودون بالنفس الأخير! بالله ماذا كان على المنية لو أمهلتكم أيها الشهداء، حتى تبلغوا أربكم وتبلغ مصر بكم أربها؟! ولكن هكذا قضي لكم وقضاء الله إذا جاء لا يرد، ولا يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها، ففي ذمة الله شبابكم الغض ونفوسكم الكريمة.
وإني إذا عزيت عنكم الأمة جمعاء أرى من واجبي في موقفي هذا أن أخص أبا علي، مع بقية الدمياطيين، بتعزية مفردة عن ذلك الشاب الكريم النبعة، الوسيم الطلعة، العريق النسب، الوافر الأدب، الطيب الأعراق، الرضي الأخلاق، المرحوم «علي حسن البكري»، وإن كانت الرزيئة ليست خاصة بهم، والفاجعة غير قاصرة عليهم، بل هي مصيبة الأمة قد أصابت كل قلب فيها وليس لنا إلا الصبر وملاقاة الخطوب بقلوب من الصخر، ولا تزدنا الكارثات إلا مضيا في سبيلنا لتحقيق مآربنا، ولا نضع أعمارنا إلا فيما خلقنا له من العمل الصالح.
ثم أعقبها بهذه القصيدة العصماء:
أرى الأعمار ما طالت قصارا
وغول الدهر إما قر ثارا
وما من مهجة إلا ستسقى
كئوس الموت خلا أو عقارا
فلا يغررك يوم مر صفوا
فقد يوليك في غده تبارا
فما طير علا إلا تردى
ولا نجم بدا إلا توارى
وما يدري امرؤ أيان يلقى
منيته أليلا أم نهارا
وشيخا سوف يقضي أم فتيا
وفي حلب سيدفن أم بخارى
سلوا الغرباء يوم عدت عليهم
عوادي الدهر غدرا واقتسارا
أأنذرهم بمصرعهم نذير
وهل علموا لمهلكهم أمارا
لعمري كلكم سيقول كلا
ولو علموه ما هجروا الديارا
ولا أزجوا على الأمواه فلكا
ولا ركبوا على أرض قطارا
ولكن هم إلى العلياء هموا
وما أمنوا من الدهر العثارا
وكم قوم بنور العلم ساروا
وبتنا في جهالتنا حيارى
فخل الجهل يا ابن النيل إني
رأيت رضاك بالجهل انتحارا
ولا تركن إلى خدع الأماني
فقد كان الركون لهن عارا
وعهدي بابن هذا النيل فذا
إذا ما رام أمرا لا يجارى
وأن بنيه نحو المجد جدوا
وراجي المجد لا يخشى الخطارا
فجابوا للعلا هذي الفيافي
وخاضوا للعلا تلك الغمارا
فخانهم جدود الحظ فيما
رجوه وعوجلوا زغبا صغارا
وصدتهم عن القصد الليالي
فلم يلقوا بها إلا بوارا
لحاك الله يا صرف الليالي
فقد خيبت آمالا كبارا
أيا ركبا ديار العلم حجوا
فما حجا قضوه ولا اعتمارا
ويا تجر العلوم وعاشقيها
أربحا قد لقيتم أم خسارا؟
لعمر أبي لقد نلتم فخارا
وذكرا فوق هام النجم سارا
وأنتم في المآقي قد نزلتم
وخليتم منازلنا قفارا
وفيكم خانت الأيام مصرا
ولم تحفظ لها فيكم ذمارا
فحال النيل بعدكم أجاجا
وها جناته عادت صحارى
ولم نملك عن البلوى عزاء
ولم نسطع على الخطب اصطبارا
وكم حاولت بعدكم التأسي
وأنى ذاك؟ إن العزم خارا
وكم ترجو بي الأيام سوءا
كأن لدي للأيام ثارا
وإني بين أجفاني وقلبي
غرقت بلجة وصليت نارا
وتعشى إن دجا الليل العشايا
وكدت ببلوتي أعشى نهارا
وما لي غير دعوى الله ربي
طوال الدهر طوعا واختيارا
يعوض مصر عنكم كل خير
فقد كنتم من الدنيا خيارا
ثم قام فضيلة قاضي دمياط الشرعي فألقى كلمة كانت بلسما للقلوب الكليمة الموجعة، ونهض الأديب حامد أفندي الشيال فارتجل خطابا ناجى فيه أرواح الشهداء ورثى فيه صديقه البكري رثاء الوفي الأمين على المودة.
وقام المرحوم الأستاذ الشيخ محمد محمد منيعم فألقى هذه القصيدة التي تفيض دموعا، وتسيل حزنا:
خطوا لهم بين الكواكب مضجعا
فالقلب بات من الكوارث مترعا
خرجوا جميعا والمنية في المنى
فرمى الردى في جمعهم فتصدعا
راحوا وأنصار البلاد تزفهم
وأتوا تزفهم الملائك خشعا
ركبوا السفينة فازدهت بجمالهم
واليوم يغشاها الجلال مروعا
ظمئوا إلى ورد المعارف والعلا
فغدوا على ورد المنية شرعا
هجروا بلادهم إلى الأرض التي
يبغون حكمتها فكانت مصرعا
عهدي بهم أسد الصدام فما لهم
صدموا فكانوا للمنية مرتعا؟!
ويح الكنانة ما أشد خطوبها
وأجل حادثها الأليم وأفظعا!
ويح الكنانة ما دهى أقمارها
حتى هوت والأفق بات مفزعا؟!
ويح الكنانة ما دهى أزهارها
حتى ذوت فنعى الشبيبة من نعى؟!
خطب أجل عدا على فتيانها
فغدا بهم أمل الحياة مضيعا
خرجوا يرجون العلا وجلالها
فدعاهمو رب العلا فيمن دعا
ما خلت قبل اليوم قبرا ضيقا
يحوي الكرامة والشهامة أجمعا
يا معشر الشهداء حيوا فتية
سبقوا إلى الحسنى وسنوا المهيعا
يا معشر الشهداء خلد ذكركم
والموت لا ينفك فينا مشرعا
وتبعه الأستاذ الشيخ إبراهيم منصف فألقى هذه القصيدة:
أعزي رفاقي وأنعي الشبابا
وأطلب صبرا يوازي المصابا
مصاب شديد أثار الأسى
بكل فؤاد وأزكى اللهابا
فلا كان يوم أتانا به الن
عي ويا ليت ذا القول خابا!
تحقق صوت النعي وراح الش
باب اغتيالا ومات اغترابا
ففي رحمة الله قوم تآخوا
حياة وفي الموت كانوا صحابا
ضحية نيل العلوم قضوا
فأبكوا العلوم وأدموا الكتابا
وكانوا يرجون نيل المعالي
لخدمة قطر يخاف اغتصابا
بدمياط كانت لهم طلعة
تفوق الشموس وتعلو الشهابا
وكانوا كإخوانهم عدة
إذا ما العدو رآهم لذابا «أودين»
1
عتابا وهل يجدي نفعا
ملالك إذ ما أردت العتابا
نفضت يديك ولم ترع وفدا
كريما ببرلين يبغي الذهابا
أقام الحمام له فيك بهوا
فسيحا وأرخى عليه حجابا
ومن لم ينله الردى فيك أضحى
عليلا طريحا يقاس العذابا
أجبت «أودين» رجاء البلاد
فبدلت حلو المعيشة صابا؟
ولكن ثناء لأهليك يهوى
على حسن عطف أتوه احتسابا
بني مصر لا تجزعوا وابتغوا
نوال العلوم تحوزوا الثوابا
إلهي نرجو شفاء العليل
ورحمة قوم تولوا شبابا
وقام حضرة محمد أفندي الأسمر وتلا القصيدة الآتية:
أذاب القلوب وأدمى العيو
ن وأبكى الأسود مصاب جلل
وعز العزاء وضاق الفضا
ء بنار الصدور ودمع المقل
شباب مضى فقضى نحبه
غريبا قتيلا كبير الأمل
أفي كل يوم لنا حادث
من الغرب تهتز منه القلل
صبرنا على سلبه في الحمى
فمد يديه لسلب الأجل
رويدك يا غرب رفقا بنا
حنانيك أنا الرجال الأول
فجعت الكنانة في خيرها
وخير البلاد شباب العمل
وأوديت بالموت أولادها
فأمست تئن وتشكو الثكل
همو سافروا طالبين العلا
إلى أمهم فدهتها العلل
وراموا الثريا لهم مسكنا
فراحوا وكل بقبر نزل
وهم جردوا سيف آرائهم
ولكن أبى الله إلا الفلل
نودعهم حينما سافروا
وداعا يضم المنى والوجل
أحلوان
2
عندك آمالنا
وفوقك ذخر البلاد انتقل
أحلوان كوني ذلولا لهم
تنالي من العز ما لم ينل
أحلوان سيري بهم مغربا
وحسبك من قلبهم ما اشتعل
وإلا فحسبك من فكرهم
توقد جمر ففيه البلل
وإن شئت عندك أنفاسهم
تثور كفيزوف لما افتعل
وشقي عباب الخضم بهم
وإياك إياك بعض الزلل
سيهديك منهم بجنح الدجى
وجوه كضوء بأعلى الجبل
فطارت بغير جناح لها
على الماء بين الجوى والجذل
وسرعان ما غاب جثمانها
ففي ذمة الله يا من رحل
فما هي إلا ليال مضت
وخطب المنون عليهم هطل
نجوا من غوائل موج البحا
ر فكان الحمام لهم في عجل
وماتوا وهم فوق ميدانهم
فكل شهيد وكل بطل
رعى الله منهم يراعا مضى
ولم يمض منه انزعاج الأسل
إذا سار يوما على طرسه
رأيت الهلال ببرج الحمل
تصرفه راحة وبها
أغاظ الثريا وأبكى زحل
وما راعنا غير أم رء
وم تشق الفؤاد بشق الحلل
تنادي وتنشد بدرا هوى
دهاه الخسوف فهل من حيل؟
تكاد تجن لفقد ابنها
أيدري الحمام بما قد فعل؟
وما كوكب صار من مشرق
إلى مغرب الأرض إلا أفل
وكم قمر تم ريعانه
أتاه المحاق غداة اكتمل
فضجت لهم مصر جمعاؤها
وشاب الصغير فكيف اكتهل؟
فبين صراخ وبين أن
ين وبين لهيب ودمع همل •••
أحلوان جئت بشباننا
وكانوا صروحا فعادوا طلل
قفلت بهم جثثا نوما
فأين النشاط وأين الجذل؟
وأين نداؤهم في البلا
د إلى أن رأينا العدو اختبل
ثوى كل ذلك تحت الثرى
وذلك كنز عزيز المثل
دمياط
محمد الأسمر
وتلاهم الكثيرون من الخطباء. وختمت الحفلة بتلاوة القرآن الكريم، وانصرف الحاضرون يستمطرون شآبيب الرحمة على شهداء العلم ويسألون الله أن يلهم والد فقيد دمياط جميل الصبر. (2-4) الاحتفال بتشييع جنازة الفقيد في مدينة دمياط
كان يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شهر أبريل سنة 1920 يوما مشهودا بدمياط، لم تر مثله مع كثرة ما مر بها من الحوادث أيام الحروب الصليبية وغيرها، فقد وصلت الجثة إلى محطتها الساعة الواحدة بعد الظهر وحملت إلى مكان الاستراحة، وكان النعش مجللا بأكاليل الزهر التي وضعت عليه عند تشييع الجثث بالإسكندرية، وكان مغطى بالعلم المصري، وموسوما بشارات الحداد.
وكانت مدينة دمياط في ذلك اليوم مغلقة الحوانيت، والأعلام المنكسة مرفوعة في كل مكان، وما وافت الساعة الثالثة بعد الظهر حتى احتشدت الجماهير حول منزل عبد الله بك البكري الذي تبتدئ منه الجنازة، وعند الساعة الرابعة كان تابوت الجثة قد نقل إلى الشاطئ الثاني من النيل، وتحرك الموكب الرهيب في صمت عميق لم تكن تسمع خلاله غير نغمات الموسيقى المحزنة وزفرات المشيعين. وكان نظام الموكب يسير على هذا الترتيب: الموسيقى - عساكر البوليس - جنود خفر السواحل - الخفراء - موسيقى دمياط - تلميذات مدرستي دمياط الأميرية والراهبات - تلاميذ المدرسة الأميرية - نعش الفقيد محمولا على الأعناق ومحاطا بالسواري - والد الفقيد وعائلته - طلبة العلم - رجال الدين والرؤساء الروحانيون - سعادة المحافظ نائبا عن عظمة السلطان - كبار الموظفين - عضو الجمعية التشريعية - عضو لجنة الوفد بدمياط - وفد الإسكندرية - رؤساء المصالح - أعضاء المجلس البلدي - رجال القضاء والمحامون - الأطباء - نظار المدارس ومعلموها - الأعيان والتجار - النقابات بأعلامها. وكان الزحام بالغا حده والطرقات غاصة بالنساء والرجال.
وسار المشهد على هذا الترتيب: من منزل عبد الله بك مخترقا شارع البحر - شارع الخمس - شارع مدرسة البنات - الشارع الأعظم - شارع الحدادين - شارع سوق الجبنة - شارع القرافة، ومنه إلى مقبرة عائلة الفقيد. وكان هناك سرادق فخم معد لاستقبال المشيعين فانعطفوا عليه، وهناك وقف الأستاذ محمد بك يوسف المحامي فأبن الفقيد وشكر المشيعين بالنيابة عن أسرته واختص منهم وفد الإسكندرية.
ثم وقف شاعر دمياط الأستاذ علي أفندي علي العزبي فألقى هذه القصيدة العصماء فاستمطر الدموع وأبكى العيون، وهي:
أصاب الكنانة خطب جلل
أذاب الكبود وأجرى المقل
إرادة محتكم قاهر
وما شاء رب البرايا فعل
ومهما احتملنا من النائبات
فخطب الشبيبة لا يحتمل
بدور خبت عند إشراقها
زهور ذوت في ربيع الأجل
وحزم توثب حتى كبا
وعزم تحفز حتى قتل
غواش توالت بلون الدجى
على الشعب مطبقة كالظلل
قضاء يهب وذل يدب
ونار تشب وسيف يسل
وتؤوي السجون الأمين الأعز
وتحوي العروش الخئون الأذل
ومهما فللنا جيوش العدا
ثباتا فجيش الردى لا يفل
فيا لهف نفسي على أنفس
أغار عليها الردى في عجل
ويا لهف نفسي على أوجه
تخطفها الهول بين الجبل
فهذا تردى وعن مصره
لدى غمرات الردى ما غفل
وهذا يردد جرحي أليم
ولكن متى قيل مصر اندمل
هنا جثة وهنا أنة
لها احمر وجه الثرى من خجل •••
بدور الكنانة إن الدجى
يروع العيون إذا ما انسدل
حجبتم فأقبل ذاك الظلام
يهيج الأسى ويهيج العلل
أضل العقول الأسى أم هدى
وجار علينا القضا أم عدل
تغربتمو في طلاب العلوم
وما العلم إلا دليل العمل
رحلتم وقمتم بأكبادنا
فقلب أقام وجسم رحل
ولج بكم أمل للعلا
فكان الردى من مطايا الأمل
ورب فتى نائم كالحسام
ورب فتى قائم كالطلل
وحتف الضراغم بين الوهاد
وحتف الكواعب بين الكلل
هنيئا لكم بالحياة التي
بها اعتز شعبكم واحتفل
كأني به سار في موكب
يضم الملايين يوم استقل
فخارا بكم وبما نلتمو
من الدرجات التي لم تنل
فمجدكمو للنجوم اعتلى
وذكركم بالخلود اتصل
هنيئا فأبطالهم أصبحوا
بأقدامكم يضربون المثل
وبدلتمو بحياة العلوم
حياة الخلود ونعم البدل
وهذي الحياة جزاء النشاط
وموت الشعور جزاء الكسل
وتلك الكرامة عقبى المجد
وتلك الشهادة عقبى البطل •••
فيا كوكبا لاح في أفقه
وما كاد يشرق حتى أفل
قرارا برمسك جم النعيم
وللرمس خير من المعتقل
كأني بقبرك من نوره
ملاك بحسن الشهيد اشتمل
كأني به وجنة أو جبين
تحييه أفواهنا بالقبل
أنار الطروس رثاء دجى
وأعلى الرءوس قضاء نزل
وما ذاك شعر تكلفته
ولكنه مدمع مرتجل «علي» وأنت الجميل الخلال
ومن لبس الحسن خير الحلل
عليك جرى حسرة «مدمع»
تلهب في الجفن حتى اشتعل
ودمياط ثكلى لما نابها
وقد رزئت في الأبر الأجل
شباب تجمل بالصالحات
شباب وقاه الإله الزلل •••
ويا فتية النيل إن الأسى
مغبته خور أو ملل
ألا تبصرون حياة الكرامة
فاضت شعورا وسالت جذل؟
فلا تتمادوا بأشجانكم
مع النائحات فأنتم أجل
ولا تهنوا فالأماني دنت
ولا تيئسوا فالليالي دول
ولا تعبئوا بانقلاب الزمان
أجد بأحداثه أم هزل
وسيروا على رشد للأمام
فلم يبق في الشوط إلا الأقل
وقولوا إذا ما أهابوا بكم
أجل يا دعاة المعالي أجل
وتلاه الأستاذ محمد أفندي حسين العرارجي المحامي الشهير بإسكندرية، فألقى كلمة استرعت الأسماع وهونت آلام النفوس، وكفكفت دموع العيون.
وقام بعده الأستاذ الشيخ عبد الحميد النحاس فاختتم الاحتفال بخطبة أثرت في السامعين وكانت خير تعزية لآل الفقيد.
ثم انصرف المشيعون من القرافة الساعة السابعة مساء وهم يعزون بعضهم البعض في هذه الكارثة العامة.
وقد أرسل والد الفقيد تلغرافين أحدهما لحضرة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون باشا رئيس لجنة الاحتفال بالإسكندرية، هذا نصه:
بلسان الوطن المحبوب نرفع إلى سموكم شعائر الامتنان على عنايتكم الشريفة بتشييع جنائز الشهداء، ونسأل الله أن يبقيكم ذخرا للوطن وبنيه.
والد أحد الشهداء
حسن بكري
والثاني لصاحب السعادة الشيخ الوقور محمود باشا سليمان رئيس لجنة الوفد المركزية، وهذا نصه:
أقدم آيات الحمد للوفد المصري ومعالي رئيسه في شخصكم الكريم على شعور التضامن الشريف والاهتمام للوطن وبنيه باستحضار جثث شهداء العلم وتشييع جنائزهم. لا زلتم نصراء مصر للمصريين.
والد أحد الشهداء
حسن بكري (3) ترجمة حسين أحمد چلبي (3-1) مولده
المرحوم حسين أفندي أحمد چلبي من القاهرة.
ولد شهيد العلم وفقيد الوطن المرحوم حسين أحمد چلبي عام 1899 ميلادية بحارة درب القزازين بقسم الجمالية بالقاهرة، وهو نجل السيد أحمد چلبي الكبير تاجر الحرير بالتربيعة وكبير العائلة. والسيد أحمد شديد العناية بتربية أنجاله وتهذيبهم في الصغر وبث روح الفضيلة والمروءة في نفوسهم وتعويدهم على تأدية الفرائض الدينية حتى يشبوا صالحين، لاعتقاده بأن تقوى الله أساس نجاح الإنسان في هذه الحياة الدنيا، لأن الإنسان إذا اتقى الله في جميع أعماله يكون موفقا لعمل الخير دائما، ومن كان موفقا للخير والسعي في صالح العباد يصيب النجاح في حياته. (3-2) دراسته
لما بلغ الفقيد السابعة من عمره ألحقه والده بمدرسة خان جعفر التحضيرية ليتلقى مبادئ الكتابة والقراءة ولبث فيها ثلاث سنوات، ثم أدخله مدرسة القربية الأميرية فنال منها شهادة الدراسة الابتدائية وهو في سن الرابعة عشرة.
وفي هذه السنة من عمره أدخله والده بالقسم الداخلي بمدرسة رأس التين الثانوية بالإسكندرية، وكان وجوده في ذلك القسم مدعاة لاجتهاده وانصرافه إلى المذاكرة. وقدم في امتحان شهادة الكفاءة فحصل عليها، ثم استمر في تحضيره لامتحان الشهادة الثانوية وقدم لدخوله فحالت بينه وبين تأديته اضطرابات شهر مارس سنة 1919م المعروفة وفصل من المدرسة بأسبابها.
وكان المرحوم حسين على صغر سنه عالي الهمة متين الإرادة، وكان يجيد الكتابة والرسم بيده اليسرى كما يجيدها بيده اليمنى، وكان مستمسكا بأوامر الدين مستقيما في سيره وسيرته كريما في خلقه محبا لوطنه.
ولهذا لم يثن عزمه عن طلب العلم فصله من المدرسة، فأظهر لوالده رغبته في السفر إلى أوروبا لمواصلة الدراسة فلم يجد الوالد بدا من تلبية طلبه، وأعد الفقيد عدة السفر إلى بلاد الألمان مع المهاجرين إليها في طلب العلم، فساقه القدر لما أصابه في حادثة التصادم وقضي على آماله الواسعة معه. وقد شيعت جنازته بالقاهرة وحمل إلى مدفن العائلة أمام ضريح الأستاذ المنوفي بجوار العفيفي بقرافة المجاورين ودفن به. وقد توافد العظماء والوجهاء والتجار لتعزية والده الحزين وأشقائه حضرة صاحب العزة إبراهيم بك أحمد چلبي القاضي بالمحاكم الأهلية، وحضرات محمد أفندي عبد السلام چلبي بهندسة وزارة الأوقاف، وعلي أفندي أحمد چلبي الطالب بالمدرسة الحربية؛ فقابلوا عطف الأمة بالشكر والامتنان.
فرحم الله الفقيد العزيز وألهم أسرته الصبر الجميل! (3-3) شكر أسرة الفقيد لمن واسوها
وقد كتب السيد أحمد چلبي والد الشهيد وأشقاؤه يشكرون الأمة لمشاركتها إياهم في مصابهم، رافعين أكف الضراعة إلى الله - تعالى - أن يبارك في أبناء الأمة ليعوضوا عليها هذه الخسارة. كما أنهم يقدمون للشعب الإيطالي العظيم مزيد الشكر لاهتمامه بأمر الشهداء وتشييع جنازتهم، ويقدمون للوفد المصري آيات الشكر لما بذله من العناية بنقل رفات الشهداء، ويسألون المولى القدير أن يبارك في رجاله ويكلل أعمالهم بالنجاح. (4) ترجمة شفيق سعيد (4-1) مولده
المرحوم شفيق أفندي سعيد من صهرجت الكبرى.
ولد الشاب التقي النقي مثال الجد والاستقامة المرحوم شفيق سعيد ببلدة صهرجت الكبرى في اليوم السابع من شهر ديسمبر سنة 1895م، وهو نجل المرحوم شيخ العرب سعيد محمد من كبار عائلة شريف المشهورة بتلك الناحية، وعميدها الكاتب الشاعر صاحب العزة عبد الله بك شريف العضو بمجلس مديرية الدقهلية والمعروف بوطنيته وهمته العالية.
3
نشأ الفقيد من بيت عريق في النسب، شريف الحسب. وكان على صغر سنه مثلا من أمثلة الفطنة والأخلاق الحميدة والوداعة، ورأى والده ذكاءه وحبه للاستطلاع والوقوف على حقيقة كل شيء يمر ببصره فأدرك ميله للتعليم فبعث به إلى القاهرة. (4-2) دراسته
ودخل الفقيد مدرسة القربية الأميرية فأكبر آية ذكائه معلموها، ومكث بها حتى نال الشهادة الابتدائية، ثم التحق بالمدرسة السعيدية الثانوية ففاز على زملائه في جميع الفصول حتى حصل على شهادتي الكفاءة والبكالوريا.
وكان الفقيد ميالا للرياضيات، وحل ما فيها من المعضلات، فالتحق بمدرسة الهندسة السلطانية فكان موضع تجلة أساتذتها واحترامهم الفائق، ثم دفعه شغفه بارتضاع أفاويق العلم الصحيح إلى الانضمام للقافلة العلمية المهاجرة إلى بلاد الألمان، فشمر عن ساعد الجد والعزيمة مغتربا عن زوجه وولده الوحيد محمد الذي كان يبلغ من العمر حينذاك نصف العام، وسافر - رحمه الله - مودعا من عائلته الكريمة، مزودا بإكبارها لهمته وإعجابها بإقدامه. وأقلعت الباخرة حلوان بتلك القافلة، وكان أولئك الشبان المصريون موضع إكرام المسافرين وتبجيلهم، وكانوا يملئون الباخرة حياة وسمرا، بل كانوا كالحمائم في الحنين إلى عشها وكأنهم بمظهرهم هذا كانوا يودعون الحياة ويقضون ما بقي من أيامهم في التزود من انشراح الصدر وترك حبل الأقدار على غاربها.
وما هي إلا أيام كانت عائلة الفقيد فيها تتلهف على أخباره وتترسم آثاره حتى جاءها نبأ وصوله سالما إلى «تريستا»، وما كادت تحمد الله على سلامته وتحمل أجنحة النسيم تحياتها إليه حتى جاء الخبر المفجع، فانقلب سرورها حزنا وضحكها بكاء، وتوافد أهل البلاد المجاورة على صهرجت لتعزية أشقائه وعائلته الأسيفة لفقد فرع من تلك الدوحة العظيمة.
ومما يؤثر عن الفقيد أنه كان لا يتعاطى المسكر، ولا يميل إلى سفاسف الأمور، وكان لا يترك فرائضه الدينية، وكان يعطف على الفقراء والمساكين ويمدهم بما يوفقه الله إليه. (4-3) الاحتفال بجنازة الفقيد
نقلت جثة الفقيد بعد احتفال الإسكندرية إلى بنها، فاحتفل بتشييعها احتفالا مهيبا في موكب كبير يتقدمه رجال الطرق الصوفية حاملين أعلامهم، فالموسيقى، فالجنود ركبانا ومشاة، فطلبة مدارس بنها الذين عطلوا الدراسة للاحتفال بأخيهم الراحل، فنعش الفقيد ملفوفا في علم مصري، فجمهور من كبار الموظفين والأعيان يتقدمهم سعادة المدير نائبا عن عظمة السلطان، فالعلماء الأعلام، فالآباء الروحيون، فكثير من المشيعين من وطنيين وأجانب. وظل الموكب سائرا على هذا الترتيب مخترقا شوارع المدينة - وكانت حوانيتها مغلقة والأعلام منكسة عليها - حتى وصل إلى محطة الدلتا فنقلت الجثة إلى مركبة ألحقت بقطار سافر إلى صهرجت، ورافقها كثيرون من المشيعين. (4-4) الاحتفال بصهرجت الكبرى
ما كاد يصل القطار المقل لجثة الفقيد إلى صهرجت حتى كانت الألوف قد اجتمعت هناك من العمد والأعيان، ولما حان موعد تشييع الجنازة إلى مقرها الأخير عقد موكب كبير يتقدمه موسيقى كوم النور، والعلماء، والقسس، والموظفون، وتلاميذ مدارس ميت غمر وصهرجت، ونعش الفقيد محمولا على الأعناق يتبعه أعيان البلدة والعمد، حتى ووري التراب مأسوفا على شبابه وحرمان الوطن من ثمرة اجتهاده.
وكان الشيخ الوقور صاحب السعادة محمود باشا سليمان قد أوفد صاحب العزة محمود بك عبد النبي العضو بمجلس مديرية الدقهلية وأحد أعضاء لجنة الوفد المصري إلى ناحية صهرجت الكبرى مقر عائلة المرحوم، فاستقبله صاحب العزة عبد الله بك شريف وحضرات إخوة الفقيد وجميع أصهاره وأقاربه، فأبلغهم حضرته أنه موفد بالنيابة عن الوفد المصري لتعزيتهم. ثم تلا عليهم آيات بينات ومأساة بليغة مرسلة من ذلك الأب الرحيم والشيخ الجليل، فكانت على نفوسهم المجروحة وأفئدتهم الموجعة مرهما شافيا، فأثلجت الصدور ونفثت عنهم لوعات تلك النازلة التي لولا وقوعها موزعة على جميع طبقات الأمة لعز احتمالها.
فرحم الله الفقيد رحمة واسعة، وألهم عائلته الصبر الجميل! (4-5) حفلة تأبين الفقيد بصهرجت الكبرى
لم تكد جثة الشهيد توارى في ثرى مسقط رأسه «صهرجت الكبرى» وما كادت تخفت زفرات النادبين وحسرات الباكين، حتى وقف الأستاذ الفاضل الشيخ بكري هندي بين الجموع المحتشدة فألقى كلمة مؤثرة استجمع فيها ما يسر الله له من الرثاء والتعزية، فكانت بردا وسلاما على القلوب المشتعلة بنار الحزن.
ثم تلاه الأديب الفاضل السعيد أفندي حبيب، من نجباء طلبة المدارس الثانوية بالقاهرة، فألقى هذه الكلمة الطيبة التي أسالت الدموع وحركت الشجون، قال:
أي شفيق، يا كوكبا هوى من سمائه، كيف تنتهي بك نفسك الوثابة إلى تلك الحفرة الضيقة بعد أن ضاقت بك مصر على سعتها؟ أأنت راض يا شفيق أم أرغمتك المنون فاستسلمت فنمت؟ إلى حد نومك، إلى ميقات أودعت روحك .
أي شفيق، أيقنعك افتراش الغبراء والتحاف الصخور؟ إيه، لو كانت المنون تقبل الفداء لما نمت نومتك!
وارحمتاه عليك يا شفيق، وارحمتاه على شبابك الذي ذوى قبل ينعه وقبل أن تنضج ثمراته.
واعزاء لزوجك التي ثكلتك، ولأمك التي فقدتك، ولأهلك وذويك! واعزاء لصحبك! واعزاء لنا جميعا!
أي شفيق، إن المصاب جلل والفاجعة عظيمة، فلا عتب إن رأيتنا واجمين! أي شفيق، يا شهيد همتك وضحية عزيمتك، يا رسول حزننا الأبدي، ونذير تفجعنا اللانهائي.
أي خطب دهى أسرتك؟ وأي مصاب جاء زوجك؟ وأي يتم لحق طفلك؟
وارحمتاه يا شفيق! وامصيبتاه! واحر قلباه!
يا شفيق، لو كانت الدموع تكفي للتعبير عن حزننا لهمرناها انهمارا ولسكبناها أنهارا ولكنها دون حزننا، فلترفرف علينا روحك العالية لترى منا المفجوع الباكي، لترى تلك القلوب الدامية والأفئدة المكلومة، لترى زملاءك قد جاءوك ليذرفوا العبرات على قبرك تفجعا عليك وعلى شبابك وإيذانا لفقدهم إياك، وهل فقدوا غير أخ ذكي ورفيق محبوب طاحت بروحه الأيام فأوردته المنون في بلاد غير بلاده، في بلاد غير مصر، في بلاد غير وادي النيل، فوافجعتاه؟!
أي طفل شفيق، أولا تتشوق إلى أبيك؟ أتأمل أن تراه مرة أخرى؟ يفجعني أن تكون حرمت أباك، يفجعني أنك لا تراه إلى الأبد، يفجعني أنك ستعيش بلا أب، يفجعني أنك ستبقى يتيما! فلتبك ما أردت، وها نحن نبكي معك بكاء مرا.
أي طفل شفيق، يا من حرمت لذة الحنان الأبوي، يا من أصبت في أعز ما لديك وإن كنت لم تقدر للحياة قدرا بعد، يا من فقدت والدا هو كل ما تقر به عينك في هذه الحياة المظلمة، فرحمة لوالدك أيها الطفل، وفي ذمة الله أبوك وفي وديعته.
ثم جلس ونهض بعد ذلك فألقى قصيدة بليغة تسيل أسى وتفجعا نظم شقيقه الشاعر الوجداني الرقيق الشيخ عبد الله حبيب الطالب بالقسم العالي بالأزهر الشريف، وهي من الشعر النائح الذي ينبعث من أعماق النفس فيهز العواطف ويؤثر في القلوب. وهذه هي القصيدة :
في ذمة الآمال والعزمات
زين الشباب وآية الآيات
يا زهر مصر عدت عليه يدا الردى
ويداه قاسية على الزهرات
الموت يهتصر الغصون ولم تكد
تنمو وتثمر ناضج الثمرات
يعدو القضاء على الشباب وإنه
بين الخلائق نافذ الرميات
وتراه ينزل كالصواعق من عل
فيصيب أعلى قمة الهضبات
ساقتهم الأقدار يلقون القضا
في «مونتبا» مشئومة الطلعات
نالوا المنية في احتمال تصادم
كتصادم الآمال بالعقبات
لهفي عليهم في ربيع شبابهم
راحوا ضحية مسرع الهمات
صاحوا «بملنر» والبخار يقلهم «فلتحي مصر» شريفة الغايات
هتفوا لمصر ولم يغادر ذكرها
فمهم وهم في سكرة النزعات
فليكتب التاريخ فضل جهادهم
سفرا قويما ناصع الصفحات
سالت نفوس بني الكنانة حسرة
ولشد ما سالت من الحسرات!
فليبك طير في الحدائق لم يعد
يشتم منها عاطر النفحات
وليحك سجع الحزن في نغماته
فالحزن أضحى أطيب النغمات
والنيل فليعبث به برح الأسى
والزهر فليغمض عن النظرات
والأرض فلتلبس شعار حدادها
والنور فليرجع إلى الظلمات
حزنا على غصن الشباب وقد ذوى
وأسى على أزهاره النضرات •••
سقيا لقبرك يا «شفيق» يجوده
منا جميعا صيب العبرات
يروي ذووك اليوم أطباق الثرى
بالدمع ري السحب للروضات
يا راحلا عن نيل مصر وقلبه
متعطش منه إلى قطرات
أسلمت روحك للجهاد وديعة
يا ليتها كانت إلى ميقات
ووثبت في طلب المعارف وثبة
جاءت برغمك آخر الوثبات
ورجع المشيعون من المقبرة إلى دار عائلة الفقيد حيث أعد سرادق فخم، وهناك تليت آيات الكتاب الحكيم فكانت شفاء لما في الصدور وكانت رحمة من السماء نزلت على القلوب فسلكت بها سبيل الصبر والرضا بما قضاه الله وسبق في علمه.
ووقف أحد طلبة مدرسة رأس التين بالإسكندرية فألقى كلمة شاملة، ضمنها حكمة سامية كانت من خير ما يعزى به المحزونون.
ثم وقف أحد الأساتذة خطيبا ونائبا عن لجنة تشييع الجنازات بالإسكندرية، فألقى عبارة مؤثرة قوبلت بالثناء الطيب.
ثم تلاه الأديب الفاضل محمد أفندي شريف ابن عم الفقيد، ونجل حضرة صاحب العزة الشاعر الفصيح عبد الله بك شريف، وألقى قصيدة عصماء من نظم والده الجليل أثرت في النفوس تأثيرا بليغا. قال عبد الله بك أمد الله في حياته:
أفيقوا وإن جل المصاب أفيقوا
وصونوا عيونا للدماء تريق
وحيوا ضحايا العلم بل شهداءه
بأحسن ما يهدى لهم ويليق
وقولوا هنيئا للذي وهب العلا
نفوسا إلى نيل الرجاء تتوق
إذا استمرءوا للعلم مر جهاده
سيعذب يوما مره ويروق
فما منهم إلا فتى عزماته
هي السيف إلا أنه ممشوق
وراحوا بأمر الله لا شيء عاصم
لعمري ألا إن القضاء يسوق
فإن هالنا من ذا المصاب فراقهم
فللصبر للآسي أخ ورفيق
وإن كان سهم الرزء جاء مفوقا
ففي ذمة العلياء ذا التفويق
تمنوا لو ان الغرب ضم تراثنا
فقلنا لهم للشرق فيه حقوق
تكرمهم في مصر ترب وتغلهم
عناصر منها جسمهم مخلوق
بدور وأقمار تعم بنورها
سواء لها التغريب والتشريق
ألا فلتغب في ذمة الله أنجم
أضاء لها قبل الغروب شروق
كأن غراب البين يوم اغترابهم
دنا وله فوق الغصون نعيق
فيا لهف نفسي والمصائب جمة
ألا كان في غير الشباب يحيق
أهلة أهل بل وفلذة أكبد
يحن لذكراهم دم وعروق
ومنبت غرس فرعه وأصوله
كريمان كل ثابت وعريق
مضى مؤثر الروح الكريم وناهضا
إلى العلم لا يلويه عنه طريق
وراح بعون الله يدفعه الرجا
وآب نصوح صاحب وشقيق
ولم يأبه العقل الرجيح بنصحهم
وقال أنصح طائش ومذيق
تساءل قلب الأم يوم مصابه
وزوجته الثكلى: «أمات شفيق؟»
وأرسلن دمعا لا يثوب إلى هدى
وقد قال ناع إنه لحقيق
وقمن إلى قبر غداة يضمه
ومرغن خدا ثم كان شهيق
وقلن أهذا القبر يؤويه إنه
على تلكم الآمال سوف يضيق
أيا زهرة القطر المصاب فؤاده
على الطائر المشئوم وهو طليق
أراق ل «أوديني» جمال بهائها
ودان لها المنسوق والمنشوق
فنالت يداها ما ينال بخبرة
وحسن اختيار يانع ووريق
ففي ذمة الله الكريم مصابهم
بسهم ولكن ليس فيه مروق
ألا إن هذا الخطب رزء لأمة
وإنك بالصبر الجميل خليق
ثم شكر للمشيعين مشاركتهم لعائلة الفقيد في مصابه الذي هو مصاب الأمة وختم موقف التأبين بذلك، وانصرف المشيعون يترحمون على الشهداء الأعزاء أسكنهم الله فسيح جناته وعوض مصر فيهم خيرا. (4-6) شكر أسرة الفقيد لمن واسوها
رفع حضرة عبد الله بك شريف وأشقاء المرحوم شفيق سعيد تلغرافا إلى صاحب السمو الأمير عمر طوسون رئيس لجنة الاحتفال بالإسكندرية، هذا نصه:
بلسان الشكر والواجب المقدس نرفع إلى سموكم واجب الامتنان على عنايتكم بتشييع جنازة الشهداء، ونسأل العناية الصمدانية أن تكلأ سموكم ذخرا للوطن وبنيه.
وقد بعثوا تلغرافا لسعادة محمود باشا سليمان رئيس لجنة الوفد المركزية، ونصه:
نقدم آيات الشكر للوفد المصري ومعالي رئيسه في شخصكم العظيم، للاهتمام باستحضار جثث شهداء العلم وتشييع جنائزهم. لا زلتم نصراء الأمة المصرية.
عم وأشقاء الشهيد شفيق سعيد (5) ترجمة محمد إبراهيم زويل (5-1) مولده
ولد الفتى النبيل فقيد الهمة محمد إبراهيم زويل بمدينة دمنهور قاعدة مديرية البحيرة عام 1893م من أبوين سريين، وكان لا يعيش لأمه أولاد فعاهدت الله إذا رزقها مولودا أن ترتحل به عن مدينة دمنهور، ولما وضعت الفقيد برت بعهدها، فحملته إلى قرية بسيون بمديرية الغربية ولبثت بها حتى شب وترعرع ونمت عضلات جسده وأصبح يدرك ما حوله من الأشياء، وأحس من نفسه على صغر سنه بهاجس يجيش في صدره إلى تحصيل العلم فكاشف والدته بما في نفسه، ولم يكن بالقرية مدرسة تلحقه بها، وهي مع محبتها له وعنايتها به لم تجد بدا من العودة به إلى دمنهور، وألحقته بإحدى المدارس الأولية، وأكبرت في نفسه هذه الأماني الشريفة. (5-2) دراسته
أدرك الفقيد مبادئ القراءة والكتابة والرياضة، والتحق بمدرسة التعاون الإنساني بدمنهور عام 1909م وحصل على شهادة الدراسة الابتدائية سنة 1912 ميلادية.
وفي تلك السنة انتظم في سلك طلبة مدرسة المساعي المشكورة الثانوية بشبين الكوم ونال منها شهادة الكفاءة.
ثم جاء إلى القاهرة وتخير المدرسة الإعدادية لإتمام دراسته وذلك عام 1915م، وحصل على شهادة الدراسة الثانوية عام 1916م. وكان في سائر أيام دراسته آية من آيات الذكاء المصري والنشاط الخليق بهمم الشباب.
المرحوم محمد إبراهيم زويل من دمنهور.
وفي عام 1917م التحق بمدرسة الحقوق السلطانية ومكث بها ثلاث سنوات، ثم أجمع أمره بعد ذلك على الهجرة إلى عاصمة الألمان لإتمام دراسته بها مع المهاجرين من شباب مصر ليرتشف العلم من مناهله، حتى وقف به الأجل دون مرحلة همته.
وكان رحمه الله على جانب من رقة الأخلاق ووفرة الذكاء وطلاقة المحيا، وكان شغوفا بالأدب حسن الأسلوب في الكتابة، إذا أسمعك حديثا اجتذبك لسماعه بطلاوة تحديثه. وكان محبوبا من عشيرته محترما من أصدقائه لا يميل إلى الهذر في القول، ولا يألف إلا من يحب المروءة ويترفع عن الدنايا، ولو أن الأجل أمهله لكان أدى لوطنه أجل الخدمات، ولكن هكذا قضى الله ولا مرد لحكمه له الأمر وإليه ترجعون.
ولما طير البرق خبر وفاته أقيمت ليالي المأتم ببندر دمنهور، وفي الليلة الثانية منها ألقى حضرة عبد المعطي أفندي إبراهيم حجاج، الموظف بمصلحة المواني والمنائر بالإسكندرية، هذه الكلمة البليغة المؤثرة:
ولو قبل مبكاها بكيت «مرارة»
لكنت شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهيج بي البكا
بكاها فقلت الفضل للمتقدم
أيها الفقيد الشهيد
هاجرت في سبيل العلم والوطن، ولم يثنك عن المهاجرة رجاء والدتك الثكلى التي أنت كل أملها في هذا الوجود، ولم يقعدك توسلها وضراعتها إليك، وتلهفها عليك، وتوجعها لبعدك، وتفجعها لفقدك، بل ولا دموعها التي كانت تفيض منها أسى نفسها، وتتطاير لهب أنفاسها، ومن ورائكما وطنك يهيب بك أن سافر في طلب العلم الصحيح وعد به تنشره علينا، وقل هذه بضاعتنا ردت إلينا.
فأصخت للوطن السمع ولبيت نداءه، علما منك بأن حبه فوق كل حب، وأن في إسعاده إسعاد الكل، ولم ترحم كبر والدتك وشيخوختها ولسان حالك يقول:
ذريني أنل ما لا ينال من العلا
فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين إدراك المعالي رخيصة
ولا بد دون الشهد من إبر النحل
سافرت أنت ورفاقك وقد ودعتم منا أجمل وداع يليق بهممكم وشممكم ونفوسكم الوثابة للمجد الطماحة إلى الجهاد لنصرة الوطن المفدى، وداعا يليق بتلك القلوب المملوءة عزما وحزما وهمة وذمة، وأملا وعملا، لأنكم ضربتم لنا في هجرتكم هذه مثلا بليغا في الإقدام وتضحية النفس والنفيس في سبيل الوطن العزيز، وفي أنكم لم يرضكم من العلوم القشور ومن المعارف مصة الوشل، بل أردتم أن تردوها عذبة من منابعها صفوا من مناهلها لا يشوبها شائب أو يكدرها مكدر.
سافرت أنت ورفاقك وقد ضربتم لنا مثلا في الوطنية غاليا، وأرسلتم في الخافقين صوتها داويا عاليا، لا، بل ضربتم للأمم الغربية مثلا ناطقا بأن المصري رجل جد وعمل يعرف معنى الحياة ويدرك سر الرقي وأنه خليق بنيل ما تصبو له نفسه من الأماني القومية الشهية.
سافرت وسافروا، وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى دوت أسلاك البرق النبأ المشئوم فاهتزت له البلاد من أقصاها إلى أقصاها جزعا وارتجفت هلعا، فعلمنا أن قد حم القضاء وخاب الرجاء وجل العزاء، وأن قد جاءت المنية من طريق الأمنية، علمنا أن قد دكت هضبة من هضبات العلم وقوض صرح من صروحه الشاهقة، وهوت الأهلة من هالتها المستقلة، وهصرت الأزاهير من روضها النضير، علمنا هنالك أن قد أخذت السبل عليكم وسدت الفجاج دونكم، فاحتكم فيكم الحين واشتفى منكم البين. ولو أنصفت حوادث الأيام لتركت هذا السرب محلقا في فضاء العلم الفسيح، فلا تذعر آمنه أو تثير مساكنه، ولكن هي الأيام ملأى بالعبر من باب المبتدأ حتى الخبر.
ومكلف الأيام ضد طباعها
متطلب في الماء جذوة نار
طبعت على كدر وأنت تريدها
صفوا من الأقذاء والأقدار
فإيه أيها الشهداء! لقد أفدتم وطنكم في حياتكم فائدة جلى، وأي فائدة أجل من فتحكم باب تحصيل العلوم الصحيحة للنشء على مصراعيه؟ ذلكم الباب الذي ما كان يلجه إلا القليل من الشبيبة المصرية من لا يتجاوزون أصابع اليدين عدا، بل أي فائدة أعظم من كونكم خلقتم لنا عهدا جديدا عهد المهاجرة في سبيل العلم؟ وهاهم المئات في أثر المئات من شبيبتنا الناهضة يقتفون أثركم ويؤمون البلاد الغربية طلبا للعلوم الحية، ولم تثنهم فداحة هذا المصاب أو ما يلقونه من كثرة الصعاب. وإن من يفتح مغلقات القلوب بنور التأديب والتهذيب لهو أجل خطرا وأبقى ذكرا وأثرا ممن يخضع الرقاب بحد السيوف.
وأفدتم وطنكم باستشهادكم فائدة أتم وأعم، وهاهي مصر وقد خفق قلبها للمرة الرابعة لفجيعتكم، فكان يومكم يوما مشهودا تجلى فيه الحزن عميقا والأسى شديدا، فالأكباد حرى والأعين عبرى، والنفوس سكرى، والحزن تترى، شفعا ووترا. وحق على مصر وقد فقدت هذه الشمائل الزهر والأخلاق الغر أن تشق جيب الصبر وتجعل النار حشو الصدر.
الله أكبر! سيذكر التاريخ لكم هذا اليوم بكل تجلة «والذكر للإنسان عمر ثان»، وسيبقى ذكركم خالدا ما دامت الأرض أرضا والسماء سماء:
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء . وفي هذا العزاء كل العزاء حتى أصبح كل والد أو والدة (على الخصوص) فقدت فلذة كبدها في هذا الحادث المؤلم تقول قول الخنساء لما بلغها استشهاد بنيها الأربعة يوم القادسية بعد تحريضها لهم على القتال: «الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو ربي أن يجمعني معهم في مستقر رحمته.»
أخلق أيها السادة بأمة هذا مبلغ عطفها على أبنائها الشهداء الأعزاء أن تتبوأ المنزلة اللائقة بها وبمجدها بين أمم العالم جمعاء قريبا إن شاء الله.
وأخلق بمديرية هذا مبلغ احتفالها بشهيدها العزيز أن تكون في مقدمة المديريات قياما بكل واجب وطني مقدس ونهضة شريفة.
فسلام على شهدائنا الأبرار الأطهار يوم عدا عليهم الموت فهصر غصن هذا الشباب، ووارى بدورهم التراب. وسلام عليهم يوم عادت جثثهم إلى هذا الوطن الأسيف، فسطرت له أحرف الفخار في أوبتها كما سطرت له في غربتها. (5-3) لجنة الاحتفال بدمنهور
تشكلت لجنة بمدينة دمنهور للاحتفال بتشييع جنازة شهيد العلم المرحوم محمد إبراهيم زويل، برئاسة حضرة صاحب العزة الوجيه كامل بك الحرفة وعضوية حضرات أصحاب العزة محمد بك بلبع ومحمد بك الوكيل وأحمد بك غزال وعلي بك نجاتي وإبراهيم بك مظهر والشيخ عبد الله الكاتب والشيخ مرسي بلبع وأحمد أفندي الوكيل والشيخ سليمان بلبع ومحمد أفندي رفعت الزرقا. وقد اجتمعت يوم الخميس 22 أبريل سنة 1920م وقررت الاحتفال بتشييع الجنازة وانتخاب لجنة فرعية لترتيب الموكب مؤلفة من حضرات علي بك نجاتي وسعد أفندي الأنصاري وحليم أفندي فهمي وأحمد أفندي عبد النبي، فقامت بما عهد إليها خير قيام.
وفي يوم وصول الجثة إلى دمنهور كان في استقبالها جمع كبير من الوجوه والأعيان وكبار التجار يتقدمهم صاحب السعادة مدير البحيرة، وما وافى موعد تشييع الجنازة حتى غصت ساحة المحطة بألوف المشيعين، وسار الموكب يحفه الوقار والجلال على النظام الآتي: فرقة الكشافة من راكبي الدراجات والبيادة - الموسيقى - مدارس الزراعة والصناعة والأقباط والتعاون والمعلمين - نعش الفقيد مجلل بالرياحين ومحاط بالفرسان - العلماء الأعلام - الآباء الروحيون - أعضاء لجنة الاحتفال - أعضاء الهيئات النيابية - موظفو مصالح الحكومة يتقدمهم سعادة المدير نائبا عن عظمة السلطان - رجال القضاء والنيابة - المحافل الماسونية - الأعيان والتجار - موظفو المصالح الأهلية - أعضاء نقابات العمال بأعلامهم - جمهور المشيعين. وما زال الموكب سائرا على هذا الترتيب مخترقا شوارع المدينة حتى وصل إلى مدفن عائلة الفقيد فأنزلت الجثة إلى مضجعها الأبدي.
وكانت لجنة الاحتفال قد انتخبت لجنة لتأبين الفقيد مؤلفة من حضرات محمد بك بلبع وسعد أفندي الأنصاري والأستاذ الشيخ محمد العصار وأحمد أفندي عبد النبي، فقاموا بتأبين الفقيد وذكروا تلك الفاجعة بأسف شديد على شباب مصر الذي ذهب ضحية القضاء والقدر، في الوقت الذي تحتاج فيه مصر إلى الألوف من النوابغ المحبين للعلم أمثال هؤلاء الشهداء، وقد تلاهم كثيرون من الشعراء والأدباء يوم حفلة التأبين فعددوا مآثر الفقيد وشرحوا ما كان عليه من مكارم الأخلاق وشريف المبادئ.
ومن القصائد التي ألقيت يوم التأبين هذه القصيدة وهي لحضرة الشاعر الأديب «عبد الجواد أفندي محجوب مكايد»، وهي:
ما للأنام إلى الخلود سبيل
ما دام يفتك بالورى عزريل
نحيا فنسعى ثم نقضي نحبنا
طرا وما غير التراب مقيل
والعمر مهما طال إن قارنته
بمديد دهرك تافه وضئيل
سيان أرذله وأقصره إذا
حم القضاء وليس منه بديل
والموت مدركنا وإن طال المدى
هو للحياة مخادن وزميل
لا فرق بين مودع بفراشه
أهلا وآخر للخطوب قتيل •••
يا آل «حاضرة البحيرة» هل نمى
نبأ لكم في وقعه تخبيل؟
عن نشء مصر النابهين وقد قضوا
صرعى العلوم ولم يبل غليل
تركوا بلادهم يرومون العلا
بهوى يرد الطرف وهو كليل
ركبوا البحار وهم محط رجائنا
ودواء داء القطر وهو دخيل
وصلوا إلى «نپلي» وكلهم كما
نرجو بخير والدعاء كفيل
من هذه أخذوا جواز رحيلهم
بعد العناء وللقضا تعديل
جاءوا إلى «تريست» باليمن الذي
كنا نود وودنا تضليل
لم ندر ما خبأت لهم أقدارهم
والدهر بالإخبار عنه بخيل
تركوا «ترستا» بعد ما عرجوا بها
حتى إذا انفضوا وآن رحيل
قام القطار بهم لموضع حتفهم
فكأنه لهم إليه دليل
قصدوا «أديني» والقلوب خوافق
وعليهم ستر الممات سديل
لم يعلموا مذ زايلوا أوطانهم
أن المنية فوقهم إكليل
كمنت لهم في القاطرات بسيرهم
وبدا لهم سيف الحمام صقيل
حل التصادم بالقطار وما دوى
إلا وخطب النازحين وبيل
خروا لرجات الفجيعة كلهم
صرعى بصقع ليس فيه خليل
فتناثر العقد الذي حباته
أكباد أهل بالدماء تسيل
ما بين قتلى أخمدت أنفاسهم
ضربات موت ما لها تأجيل
وفريق جرحى مدرجين على الثرى
متململين وفي الصدور أليل
مزجوا دماءهم لمصر بدمعهم
ودماؤهم علم هناك جليل
فنجومه جرحاهم وهلاله
منهم شهيد للعلوم قتيل •••
ما كاد يأتينا نعي رفاتهم
إلا وماج القطر ثم النيل
وتحرك الأهرام من فرط الأسى
عز العزاء وما إليه سبيل
من كل عين عبرة مهراقة
فالقطر دمع طافح وعويل
ولهي لأم قد أصاب وحيدها
رامي السهام فعيشها تنكيل
وأب قد ابيضت لشدة حزنه
عيناه لا صبر يعين جميل
يتناوبان الدمع وهو إذا عصى
ذابت قلوب وجدهن وبيل
فذوت لها الأجسام من عظم الجوى
هيهات تبقى والفؤاد عليل
فتصبروا آل الفقيد وجالدوا
وقع الكوارث فالثواب جزيل
قد أخضع الأيام أجداد لكم
حيث الزمان مسالم وذليل
واليوم قام الدهر يثأر عالما
أن ابن مصر لمرغميه سليل
والحرب في الدنيا سجال فاصبروا
فالله للعبد الصبور وكيل
يا راحلين عن الدنا لا عن رضا
حتى يرد المجد وهو أثيل
لعبت بكم أيدي الفنا فهويتمو
خلف الفريد فرزءنا لجليل
والطود إن عبثت به أيدي الردى
مالت له الأجزاء حيث تميل
ناموا جميعا ناعمين برمسكم
فسحائب الرضوان سوف تنيل
لكم بجنات الخلود أريكة
فوق الأرائك والجهاد ينيل
ولتعلموا أنا سلكنا نهجكم
فسبيلكم هي للمنى قنديل
نسعى لتحقيق المرام بهمة
شماء ليس لها هناك مثيل
والله حسب الطامحين إلى العلا
فإذا قضوا هو بالجزاء كفيل
وتلاه حضرة الشاعر المجيد محمود أفندي محمد حسن وألقى هذه القصيدة:
طعنت بأسياف المنايا الحوم
فتيان مصر يد القضاء المبرم
وسطا الحمام على بواكير النهى
فهووا أغر على أغر معلم
ولوى القضاء بهم فما من عاصم
أويعصمون من القضا المتحتم؟
للمرء أيام تمر وتنقضي
ويغيب بعد بجوف أغبر أقتم
فإذا بلغت النجم أو جزت السها
أو كنت مختبئا بغابة ضيغم
مد الردى لك حيث كنت يمينه
فرمتك بالسهم المصيب المكلم
أيد المنون أما كفاك تعاديا
أفأنت رهن إشارة الزمن العمي
أوكلما أوحى إليك أن اقدمي
أقدمت لا تلوين إقدام الكمي
وقطعت أوصال الأماني والمنى
ووصلت مقطوع البكاء الأركم
وشرعت ترمين «الكنانة» بالأذى
وأخذت تلقي بالمصاب الأعظم
ونصبت أشراك القوارع فانبرت
تصطاد كل أغر أروع أكرم؟ •••
هلعت لهذا الخطب «مصر» وأعولت
وهراق مدمعها عصارة عندم
عكفت على الأحزان لا تلوي على
شيء يناقضها ولم تتبرم
فاقت «خناسا» يوم مصرع «صخرها»
أوحت إلى الأشجان ويك ألا اقدمي
نادت على الأطيار في وكناتها
سأعلمنك اليوم كيف ترنمي
وعلا الضجيج بها وأصبح «نيلها»
يجري بمنهمر مشوب بالدم
وانهار جانبها وزلزل ركنها
وارتج واديها لهذا المأتم
واندكت «الأهرام» وهي كما ترى
مر السنون بها ولم تتهدم
والناس مقذى العيون وسادر
حزنا وآخر قد أكب على الضم
غلب البكاء عليهمو فدموعهم
تجري بتيار الأتى المفعم
متصاعدو الزفرات أنقض ظهرهم
هول المصاب وحمل هذا المغرم
سالت نفوسهم أسى وتواصلت
أنفاسهم جزعا بوجد مضرم
حنقوا على «أودين» إذا خطفت بها
أيدي المنون أسود مصر الجثم ••• «أودين» لولا أن أسيت لما بنا
لسألت ربي الله أن تتحطمي «أودين» لي في من قضوا بك صاحب
طلق المحيا ذو فم متبسم
عف الرداء أغر أروع ذو حجى
يتجشم الأخطار غير مذمم
لا يركب الأهوال إلا عامدا
جعد متى يلق المخاوف يقدم
صب بجامات المعارف كلما
أسقيته جاما يقول أنا ظمي
وإذا النفوس صبت إلى نيل العلا
لم يرضها إلا مكان الأنجم
ما زال يسعى لارتشاف كئوسها
حتى تخطى البحر ليس بمحجم
خاض المخاوف والمخاوف جمة
وتقحم الأهوال مبتسم الفم
وتحمل الأخطار أروع ماجدا
طمعا لعمرك في الأماني الحوم
بينا يجد السير موصول الخطا
لا بالملول ولا الفتى المتبرم
إذ صاحت الأقدار سارع يا ردى
وبأمر ربك في «محمد» احكم
فمضى ولم يبلغ مناه ولا قضى
وطرا ولم يرجع لنا بالمغنم •••
يا هاجر الأوطان في طلب العلا
أمسى حمامك بالقوارع مؤلمي
لبست «دمنهور» عليك حدادها
وتسربلت قطع الغمام المظلم
قال النعي لها كميك قد قضى
فأصمها قول النعي قضى الكمي
مشت الشجون بها وحطمها الأسى
وتبدلت أفراحها بالمأتم
وتململت جزعا وزاد أنينها
وتجرعت لنواك مر العلقم
لا تستنيم إلى العزاء وكلما
وردت قرارة مبكيات ترتمي
ولو انها تدري بأنك تفتدي
لفدتك بالأغلى الذي لم يسنم
أو أن هذا الموت يدفع بالقنا
أنحت عليه بكل ماض مخزم
لكنها الأقدار ليس بنافع
فيها الفداء ولا سنان الهزم
فاذهب وقد خاب الرجاء وإنما
لك ضاعف الديان أجرك فاغنم «يا مصر» قدك ترفقي وتجلدي
واستسلمي لله ربك تسلمي
لا تجزعي أبدا ففيك فطاحل
غر لهم يعزى الفخار وينتمي
إن تفقدي (اثني عشر) ليثا هاصرا
فلكم ملايين بغابك جثم (يا بن الفراعنة) اسع جهدك واقتحم
سبل العلاء سلمت أم لم تسلم
وتجشم الأخطار في نيل العلا
ما الفوز إلا للفتى المتجشم
عبثا تقول أخاف يدركني الردى
الموت قدر في الكتاب المحكم
جد المسير إذا أردت ولا تني
واضرب برجلك في الطريق الأقوم
وخذ السبيل موفقا نحو العلا
تنل الأماني الكبار وتغنم (يا واحد الغر) الذين استشهدوا
نم جار ربك واغتبط وتنعم
هذي الفرادس أزلفت لك فازدلف
وسعت إليك الحور فاسع وسلم
وألقى الأستاذ الشيخ «كامل قطب النعيم» هذه القصيدة:
رويدك يا نائبات الليالي
فكل بنارك في مصر صالي
رميت «فريدا» بسهم المنايا
فمات وما ذاق كأس المنال
وعدت وما فيك من رحمة
تخونين منا خيار الرجال
كأن العلا وترتك قديما
فأصميت أهل النهى والمعالي
بدور هوت من سماء العلا
هوت فتعكر صفو الليالي
رأوا غاية للعلا عشقوها
فهاموا جميعا بشد الرحال
فساروا إليها وما فيهمو
نفوس بريب الزمان تبالي
كذلك من رام نيل العلا
يروح ويغدو لها لا يبالي
فبعد المعالي أذل بعاد
ووصل المعالي ألذ وصال
رأى الدهر همتهم فانبرى
وأصمى قلوبهم بالنبال
فسهم الكنانة في الحرب عود
وسهم الزمان «قطار إيطالي»
فصال عليهم بوجه عبوس
وناضلهم بالردى غير آل
فصاح غراب المنايا بهم
فباتوا هناك جسوما بوالي
وقد أنزلتهم يد الدهر من
ظهور العلا لبطون الرمال
كذلك دأب الزمان فآنا
تكون بحال وآنا بحال
فمن يشتهي أن يدوم بحال
فقد رام جهلا وقوع المحال
فما إن ترى العين خطبا كهذا
ولا قد رأت في العصور الخوالي
فيا شؤم يوم أصيبوا به
ويا بؤس شعب وصحب وآل
ولو أن خطبهم كان وقفا
عليهم قوينا على الاحتمال
ولكن فقدنا بفقدانهم
جليل المزايا وجم الخصال
فقدنا ذكاء وعلما ونبلا
ومجدا يطاول شم الجبال
فلن يطرق البشر قلبا لنا
ولن يخطر الصفو منا ببال
لقد طير الخطب منا عقولا
وأوقعها في شباك الخبال
وأوحش ربع العلا بعد أنس
وعطل جيدا لها كان حالي
لهيب القلوب غدا في ازدياد
ودمع العيون غدا في انهمال
وأضحى بنا اليأس حرا طليقا
وأمسى الرجاء رهين اعتقال
فلا تعجبوا عندما صافحتهم
يد للعلا أن غدوا للزوال
فإن المحاق يصيب البدور
فتخفى ويسلم وجه الهلال
عزاء وصبرا بني مصر إنا
جميعا نعزى بفقد الرجال
على العلم كانوا أتم دليل
وللمجد كانوا أجل مثال
وكانوا لهام العلا خير تاج
فلله تاج العلا والكمال
وهيهات يجدي الأسى بعدهم
كأني بجدواه عين المحال
إذا الموت أردى حبيبك أمسى
قريب المكان بعيد المنال
وإن زرته خلته صامتا
إذا ما نطقت فغير مبالي
فسقيا ورعيا لذاك الشباب
طويل الرقاد عيي المقال
ويا رحمة الله جودي على
قبور الشباب طوال الليالي
ويا رب أسكنهمو روضة
تباركها غاديات النوال
ووفقهم للصواب إذا ما
دعوتهمو فأتوا للسؤال
فمنك تشام بروق العطايا
ومنك يؤمل حسن المآل
ذكرنا ترجمة المرحوم محمد إبراهيم زويل. وهنا نثبت كلمة لحضرة إبراهيم أفندي حقي صديقه وزميله في الدراسة، جاء فيها على حياته الدراسية ببيان أوفى مما ذكرناه فأثبتناها لما فيها من الفائدة لطلاب العلم والدرس العالي في النشاط والإقدام، لأن التحاق المرحوم زويل بالمدارس يعد خارقا للنظام المدرسي الآن، لأنه ابتدأ بتاريخ حياته الدراسية وهو ابن أربع عشرة سنة، وسيرى القارئ الكريم ذلك مفصلا في هذه الكلمة.
قال صديقه حقي
لعلي أحق أصدقاء المرحوم زويل بترجمته، إذ كنت ألصق الأصدقاء به وأكثرهم صحبة له، وربما كنت أعزهم عنده وأقربهم إليه.
وحياة زويل في ذاتها وإن كانت حياة قصيرة عادية ملئت بظروف قد تعرض لكثير من الشبان، إلا أنها مع ذلك لا تخلو من كثير من الأمور التي تسترعي نظر الباحث المدقق، والتي إن كان القدر هيأ له العظمة لجعلها المترجم له من أول أسباب عظمته ونبوغه.
ولكن لا مندوحة لنا عن ذكرها هنا لا على أنها من علامات النبوغ أو أمارات العظمة، ولكن على أنها أمور عادية بسيطة ميزت حياته بشكل خاص، وكان لها على نفسه بعض الأثر.
فزويل مثلا كان من أولاد التجار، ولكنه لم ينشأ نشأتهم ولم يقم في محل تجارة أبيه كما أراده على ذلك، بل كان يحث أباه على إرساله للمدرسة للتعلم إذ وجدت في نفسه رغبة شديدة إلى العلم، وكان يرى «أولاد المدرسة» بكتبهم كل يوم فكان يغار منهم، وتشدد في طلب إرساله إلى المدرسة حتى يمكنه أن يقرأ كإخوانه الصبيان.
وكان له ما أراد، وأرسله والده إلى المدرسة الابتدائية بدمنهور وهو في الرابعة عشرة من عمره وهي سن يتخرج الطلبة فيها من المدارس الابتدائية، فلم يكن كبر سنه على أقرانه في الفرقة من دواعي كراهته للمدرسة، بل كان باعثا في نفسه روح الجد والدرس حتى يفوز عليهم.
ولم يمكث بالمدرسة إلا قليلا حتى توفي أبوه إلى رحمة الله. ووفاة الآباء يعقبها في كثير من الأحيان تلف في الولد وفساد في تربيته لشعور الطفل بأنه أصبح مطلق العنان، فكان في استطاعة زويل أن يهرب من المدرسة ولا يقيم في محل أبيه وأن تسوء أخلاقه ولكن شيئا من ذلك لم يكن، بل استمر في مدرسته بجد مضاعف.
ثم انقضى دور الدراسة الابتدائية وهو في الثامنة عشرة من عمره، فلم يجد مدرسة ثانوية أميرية تقبله لكبر سنه، فلم يثنه ذلك عن التعليم، وقصد مدرسة المساعي المشكورة بشبين الكوم يتمم فيها دراسته الثانوية، ثم تركها إلى الإلهامية حيث تعارفنا وأخذ منها البكالوريا، وكان في القسم الأدبي وكان ذلك سنة 1917 ميلادية.
ثم دخل مدرسة الحقوق السلطانية، وكان جميع الطلبة في القسم الأدبي يرون أن أقصى سعادتهم التوصل إلى مدرسة الحقوق، وكان زويل يرسمها في خياله صورة كبيرة ويرى فيها أوسع الآمال.
ولعل من أكبر عيوبنا التهافت على مدرسة الحقوق هذا التهافت الشديد، فكل طالب من القسم الأدبي لا تجول بخاطره غير الحقوق ولا يذهب به الأمل إلى أبعد من الدخول في مدرسة الحقوق، حتى إذا لم يستطع الدخول فيها حسب نفسه بائسا سيئ الحظ، بل صغرت نفسه في عينه وهدمت آماله وقضى أيامه في غيرها من المدارس العليا مضطرا غير مدفوع بدافع من نفسه.
على أن زويل كان من أولئك «السعداء» الذين ضمتهم جدران مدرسة الحقوق لتحقق لهم آمالهم الواسعة وأحلامهم الذهبية، ولكنه ما لبث أن صغرت في عينه المدرسة إذ كان يتخيلها شيئا عظيما هائلا فلم يجدها كما توهم، ورأى الصعوبات التي تصادف الطلبة والمتخرجين، وأدرك أن شهرة الحقوق هذه شهرة كاذبة وراء أوهام محضة، وأنها لا تمتاز عن غيرها من المدارس العليا بشيء، وبالجملة فإنه تغير في أفكاره كثيرا وأصبحت المدرسة لا تعجبه.
وكان زويل - رحمه الله - من أشد الناس اعتناء بصحته وأكثرهم خوفا على حياته، إذ كان ضعيف البنية، كثير الوهم، وزاده وهما أن بعض الأطباء ألقى إليه أن به مرض القلب فأصبح يحاذر على نفسه كثيرا، ولذا كان يراعي القواعد الصحية في أكله وشربه ونومه ورياضته ومقدار درسه، وكان لا يدخن ولا يشرب القهوة، ولا يجاري إخوانه الطلبة في شيء مما يفعلون، بل كان يبتعد عنهم، من أجل ذلك كان قليل الدرس وجاء الامتحان فرسب فيه، ولكن ساءه أن من الطلبة من كان أضعف منه في درسه ونجح وكان يمكن أن ينجح هو أيضا لو ساعده المدرسون.
وشعر بعد هذا الرسوب بشيء من الخيبة في الحياة، وهكذا هدم ما كان يشيده من الآمال في مدرسة الحقوق، ولكنه لم ينكص على عقبيه بل تحمل صابرا ورجع إلى فرقته من جديد وإن كان هذا من أكبر دواعي الألم للطالب.
وهنا أصبحت حياته سلسلة من اليأس لم يكن يدري بها أحد لأنه لم يكن يبوح بما يؤلمه إلا نادرا، ومكث بالمدرسة حتى جاءت اضطرابات مارس الماضي فعطلت الدراسة، وهكذا رأى أن ثلاث سنين من عمره قد ضاعت هباء لم يستفد منها بشيء.
ثم فتح الطريق إلى ألمانيا فتهافت عليه الطلبة، وربما كان معظمهم يائسا من التعليم في مصر يأس الفقيد زويل، فهجروا بلادهم يقصدون ألمانيا بالرغم مما يعترضهم في الطريق من عقبات.
ولم يكن زويل متسرعا بل لم يكن يقوم بعمل إلا بعد تفكير ودرس طويلين، ولذا لبث ينتظر أخبار رفقائه الذين سبقوه حتى إذا استوثق منها عزم على السفر وتوكل على الله، وكان يريد دراسة الاقتصاد السياسي والعلوم المالية.
وكذلك سافر تلك السفرة الطويلة، ولعله بذلك كان أسعد حظا من الأحياء.
وبذلك انتهت حياته القصيرة كالوردة تذبل ولما ينقض الربيع، وكالشمس تكسف ولما ينتصف النهار!
وهكذا تنتهي ترجمته ولا مندوحة لي عن القول إن الفقيد كان لطيف العشرة حلو الحديث، وكان له أفكار وآراء صائبة في كثير من الأحيان، وكان يشاهد به بعض التطرف في آرائه.
لعلي قمت الآن بواجبي من ترجمته التي عاهدت نفسي على كتابتها ذكرى له بعد وفاته رحمه الله.
ومما يذكر بالشكر والثناء همة حضرات أعضاء لجنة احتفال تشييع جنازة فقيد العلم المرحوم محمد أفندي إبراهيم زويل، التي كان يرأسها حضرة صاحب العزة الوجيه كامل بك الحرفة وبقية حضرات أعضائها الذين أتينا على ذكر أسمائهم تحت عنوان «لجنة الاحتفال بدمنهور»، وحضرات الخطباء والشعراء والوجهاء والأعيان وأصحاب الحيثيات في مديرية البحيرة. وإنا نحيي فيهم هذه الهمة العالية والأريحية الشماء لما قاموا به نحو الفقيد، أثابهم الله الأجر والثواب وشكر لهم سعيهم! (6) ترجمة عبد الوهاب أحمد سبع (6-1) مولده
ولد شهيد العلم والغربة الشاب النبيل عبد الوهاب أحمد سبع في 10 يوليو سنة 1896 بقرية «نوسا الغيط» من أعمال مركز أجا دقهلية، وهو نجل المرحوم الشيخ أحمد البدوي سبع أحد أعيان تلك الناحية ووجهائها.
وشب الفقيد في وسط يقدس الفضيلة ويحترم المعتقدات والتعاليم الدينية، فكان طول حياته تقيا نقيا، محافظا على أوقات الصلوات مستمسكا بالصوم، مبتعدا عن الملاهي الفارغة والشهوات الدنيئة ... وكان كريم الأخلاق طيب القلب، سليم الطوية، حسن النية، وكان محبوبا في عائلته ومحترما بين أصدقائه وزملائه في الدراسة. (6-2) دراسته
دخل الفقيد مكتب القرية وهو في سن الرابعة من عمره فتلقى مبادئ القراءة والكتابة، وأتم حفظ القرآن الكريم وهو في سن الثامنة، وتجلت لوالده في وجهه أسارير النجابة ومخايل الفطنة فوجه به إلى القاهرة صحبة أخيه الشيخ عرفان أحمد البدوي سبع الطالب بالأزهر الشريف ليلحقه بإحدى مدارسها، فأدخله مدرسة القربية الأميرية، ولبث يتعلم بها حتى حصل على شهادة الدراسة الابتدائية ثم دخل المدرسة الإلهامية الثانوية ونال منها شهادة الكفاءة، ثم انتقل إلى المدرسة الإعدادية الثانوية وحاز امتحان الشهادة الثانوية «البكالوريا»، ولم يتخلف مدة دراسته في فصل من الفصول لاجتهاده وانصرافه إلى الدرس بكليته وحرصه على وقته الثمين، وكان لا يميل للعب ولا يحب الهذر ولا يماشي إخوان السوء، ولم يسمع منه أحد طول حياته كلمة تمس إحساسه أو تزري بكرامته، وكان يرى أن خير وقت للطالب وخير ما يسر نفسه هو الوقت الذي يصرفه منكبا على مكتبه منهمكا في تقليب صفحات كتابه يذاكر درسه ويحاسب على ثواني حياته بنفسه ... ومن هذه الأخلاق والمبادئ كان سر تقدم الفقيد ونجاحه في حياته الدراسية.
المرحوم عبد الوهاب أحمد سبع من «نوسا الغيط» مركز أجا دقهلية.
ولم يقف به الحد عند حصوله على الشهادة الثانوية، بل التحق بمدرسة المعلمين السلطانية العليا ولبث بها سنتين، وفي أثناء ذلك رأى أن يدرس علم الحقوق لأنه كان ميالا للأعمال الحرة، وقد استشار بعض أصدقائه فأقروه على ذلك. والتحق بإحدى الوظائف بوزارة الزراعة في يناير سنة 1920م ليتمكن من دخول مدرسة الحقوق الفرنسوية الليلية.
ولكنه رأى كثيرين من إخوانه ورفقته يتأهبون للسفر إلى بلاد الألمان لإتمام دراستهم بها، فوجد الفرصة سانحة لتحقيق أمانيه العلمية، وأعد أداة السفر ورزم حقائبه، ولكنه في ساعة سفره لاحظ أهله عليه الانقباض وأخذ يظهر تردده في السفر ورغبته في تأجيله كأنه كان يقرأ صحائف الغيب بوجدانه الخفي، ولكنه حبا في العلم تشجع واطرح تلك الخيالات الوهمية وعاد طلق المحيا وودع أهله وارتحل.
ودخل أخوه مكتبه بعد سفره فوجد ورقة مخطوطا فيها هذه الكلمات:
الوداع يا إخوتي! الوداع أيتها الحياة! الوداع يا مصر، يا أيتها البلاد العزيزة! ففيك نشأت، وعلى أديمك درجت، ومن خيراتك اغتذيت، ومن نيلك العذب استقيت، وبسمائك استظللت، ومن هوائك استنشقت، فواجبي إذن أن أضحي بحياتي في سبيل حياتك ووجودي في سبيل وجودك، ولا حياة إلا بحريتك يا مصر.
وبعد ذلك ورد خطاب على عائلته منه يبشرها بسلامة وصوله إلى تريستا ... ثم مضت فترة قصيرة بعد ذلك وخفق فؤاد مصر كلها لذلك الخبر المشئوم خبر الفاجعة الأليمة، وصمت صوت ذلك الشباب وطارت نفوسهم شعاعا! فرحم الله تلك الآمال التي كانت تملك تلك القلوب الطاهرة!
وانتدبت لجنة الوفد المركزية حضرة صاحب العزة محمود بك عبد النبي لتعزية أسرة الفقيد ب «نوسا الغيط» مركز أجا دقهلية، وبلغهم تعزية سعادة رئيس وأعضاء اللجنة المركزية للوفد المصري فكانت بلسما شافيا لجرحهم البليغ، وشكروا له حسن سعيه ورفعوا لعزته آيات الشكر لتبليغها إلى سعادة رئيس وأعضاء اللجنة المركزية لما أبدوه نحو الشهداء . أمد الله في حياتهم وكلل سعيهم بالنجاح! (7) ترجمة محمود عبد الرحمن سليم (7-1) مولده
المرحوم محمود عبد الرحمن سليم من مركز أجا دقهلية.
ولد شهيد العلم والذكاء المرحوم محمود عبد الرحمن سليم بقرية ميت بزو وكفر عثمان سليمان من أعمال مركز أجا دقهلية في 25 سبتمبر سنة 1896م، وهو نجل حضرة الوجيه عبد الرحمن أفندي عثمان سليم من أعيان مركز أجا. وقد نشأ في أحضان والديه فشب دمث الأخلاق طيب السريرة شغوفا بالفضيلة، وتلقى مبادئ الكتابة والقراءة بقريته، ثم رأى والده ميله للعلم فأرسله وهو في الثامنة من عمره إلى القاهرة للدراسة في مدارسها. (7-2) دراسته
التحق الفقيد الشاب عام 1905م بمدرسة الحسينية التابعة للأوقاف السلطانية بجوار المسجد الحسيني فلبث فيها سنة كاملة، ثم دخل مدرسة محمد علي الأميرية ومكث بها حتى حصل على الشهادة الابتدائية عام 1911م.
وفي تلك السنة انتظم في سلك طلبة المدرسة الخديوية فحصل على شهادة الكفاءة عام 1913م وعلى الشهادة الثانوية عام 1915م، وتاقت نفسه إلى دراسة العلوم الهندسية وكان شديد الشغف بها، وقد تجلى ميله إليها أثناء دراسته بالقسم الثانوي فنشط للالتحاق بمدرسة الهندسة ولكنه لم يستطع نيل بغيته من ذلك لإخفاقه في الكشف الطبي بمناسبة ضعف إحدى باصرتيه.
ولكن ذلك لم يحل بينه وبين متابعة الدراسة، فالتحق بمدرسة المعلمين السلطانية ومكث بها عامين صرف كل مجهوده أثناءهما في تحصيل العلوم الطبيعية تمهيدا لسفره إلى أوروبا لتتميم الدراسة بكلياتها، ولكن قيام الحرب العامة خلال ذلك وقطع سبيل السفر على قصاد أوروبا أوقفه عن الهجرة إليها في سبيل العلم.
وترك الفقيد مدرسة المعلمين وانصرف إلى دراسة اللغة الإفرنسية ليهيئ نفسه لدخول مدرسة الحقوق الفرنسوية، وقد تمكن في وقت قصير من تعلمها ومن الانتساب إلى تلك المدرسة.
ثم أشار عليه بعض صحابته بالتوظف مع متابعة الدرس ففعل والتحق بالقسم الميكانيكي بوزارة الأشغال في يوليه سنة 1919م، وكان في مدة توظفه القصيرة مثال الاستقامة والنشاط في العمل.
ولما وضعت الحرب أوزارها وأصبح الارتحال إلى أوروبا ميسورا عاد لنفسه شغفه الأول بالهجرة، فأعد عدته لتلقي العلوم الميكانيكية بإحدى الكليات الألمانية، وبرح وطنه العزيز مع زملائه على الباخرة حلوان، فقطع عليه الطريق القدر المحتوم وعاد إلى الوطن مع العائدين المبكيين، ونقل إلى بلدته في احتفال كبير لم يشهد له مثيل في تلك الناحية، حيث دفن بمدافن عائلته الكريمة مبكيا على شبابه، مشكورا جهاده العلمي وهمته العالية، أسكنه الله فسيح جناته!
وعند مواراته التراب وقف الشيخ محمد الهندي فألقى هذه الكلمة في رثاء الفقيد:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر
فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
إن القلوب لتتفطر أسفا عليك يا فقيد الأدب ويا شهيد العلم، أي عين لا تبكيك وأي نفس لا تندبك وأي قلم لا يرثيك؟ إنك يا محمود أذبت قلوبنا حسرات عليك وأشعلت أفئدتنا بنيران الحزن.
أبكي فيك الفضيلة والمروءة، وأرثي الحياء والشمم، وقد كنت أرجو أن تطول حياتك، ويتحقق أملك، فواأسفا على شبابك الغض وأخلاقك الطاهرة!
فقدناه والآمال ترجو بقاءه
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
لقد كنت أيها الفقيد العزيز مثال الفطنة، وعنوان الذكاء، وصرفت كل مجهودك في تحصيل العلوم حبا في أمتك وبلادك، واستهنت بالمصاعب، وهاجرت لتفوز بثواب المهاجرين في سبيل العلم، ولتوفي لمصر حقوقها عليك، ولتحقق آمالها فيك، وتحملت مشقة المهاجرة، وبعد الشقة، وفراق الأهل والوطن لتعود رجلا تنفع مصر، فما أبرك بمصرك يا محمود!
لقد ودعناك وكنا نرجي أن يكون وداعنا لك ودادا لا تنقطع حباله ولا يطول أمده، وارتحلت وقلوب والديك تخفق يوم وداعك حنانا، وتزودك بالدعوات الصالحات وترجي لك مستقبلا سعيدا وحياة طيبة، ولكن شاء القدر أن يكون وداعك أبديا ولقاؤك في هذا العالم مستحيلا، فواأسفاه لأيام تقضت وساعات سلفت! وما أبعد الصبر عنا! وما أضعف قلوبنا عن احتمال الخطب، وما أكبر مصابها فيك! تغمدك الله برحمته، وألهمنا ووالديك من الصبر على فقدك ما يخفف آلام الحزن وفداحة المصاب!
لم يبق في قوس التصبر منزع
كلا ولا في طيب عيش مطمع
هذا هو الخطب العظيم المفزع
هذا هو الرزء الجسيم الموجع
خطب جزعنا منه عند نزوله
حق على كل الخلائق تجزع
خطب به الأكباد ذابت لوعة
وجرت كمنهل الغيوث الأدمع
أنى لنا تصفو موارد عيشنا
وفواجع الأيام دوما تفجع
والخطب سيف سل في كف الردى
وقلوبنا غمد له والأضلع
إن لم تروعنا خطوب نفوسنا
فبخطب من نصبو إليه نروع
محمود روح للفصاحة والحجا
المنشئ الفطن الخطيب المصقع
قد كان ذا قلب كطود راسخ
لكوارث الأيام لا يتزعزع
إنا نعزي بعضنا بمصابه
إذ كان آمال الجميع ونهرع
إنا نشارك بعضنا في حزننا
إذ كان روح حياتنا ونودع
إن لم تحاك النيل منا أدمع
لم توفه حق البكاء الأدمع
سكنت مودته القلوب ولم يزل
لوداده فيها المكان الأرفع
لما نعاه البرق في أوطانه
لم تبق عين بالبكا لا تدمع
أسفي على بدر هوى من أفقه
ونراه يدفن في التراب ويودع
فعلى ضريح فقيدنا طول المدى
غيث الرضا من ربه لا يقطع
فسلام عليك يا محمود يوم ولدت، ويوم درست، ويوم هاجرت، ويوم مت، ويوم تبعث حيا.
نم هادئا في أرض مصر فإنها أحسن أرض على أبنائها البررة الشهداء، ولتسبح روحك في الخلود ما تشاء. وإنا لفقدك لمحزونون، ولموتك آسفون. (7-3) شكر أسرة الفقيد لمن واسوها
كتب حضرة عبد الرحمن أفندي سليم بمركز أجا دقهلية كلمة يقول فيها بأنه يقدم الشكر الخاص لرئيس الوفد ورئيس اللجنة المركزية وجميع الأعضاء لما أبدوه من حسن الرعاية وجميل المؤازرة والمجاملة بإيفادهم حضرة صاحب العزة محمود بك عبد النبي أحد الأعضاء لأداء التعزية. (7-4) احتفال المنصورة
لم تكن المنصورة أقل استعدادا من غيرها للاحتفال بجنازة الشهيدين المرحومين عبد الوهاب أحمد سبع ومحمود عبد الرحمن سليم، فما كاد ينتصف نهار الأربعاء 29 أبريل سنة 1920م حتى احتشد سكان مدينة المنصورة على اختلاف درجاتهم وتباين جنسياتهم في ميدان المحطة، وقد نكست الأعلام في سائر أنحاء المدينة موسومة بشارات الحداد، وارتسمت سمات الحزن على وجوه الشعب فلا تكاد ترى رجلا أو شابا حتى تدرك لأول وهلة أن المدينة في حزن عام، وكان الكل خاشع الطرف، مرسل الدمع. وابتدأ سير موكب الجنازة بثلة من فرسان البوليس، فطلبة مدارس المنصورة على اختلافها من علمية وصناعية، فمدرسة المعلمين، وكانت كل مدرسة تحمل علمها وباقات من الأزهار وصور الشهداء، ثم نقابة التجار، فالحراس منكسي السلاح، فموسيقى المجلس البلدي تعزف بأنغامها، فالجنود المشاة، فبعض الطلبة يحملون أكاليل الزهر، فنعشي الفقيدين يحملهما الخفراء وكانا ملفوفين في علمين مصريين ومجللين بالأزهار الغضة، وعلى كل منهما اسم صاحبه، وخلفهما أصحاب الفضيلة العلماء، فالآباء الروحيون، فقناصل الدول، فرجال القضاء والنيابة، فالأساتذة المحامون، فالأطباء، فالمهندسون، فرجال الماسون، فموظفو الحكومة، فحضرة صاحب السعادة مدير الدقهلية نائبا عن عظمة السلطان، فالأعيان، فالتجار، فطوائف العمال، فالنقابات على اختلافها من زراعية وصناعية وتجارية. وسار الموكب على هذا النظام بين الألوف المصطفة عن جانبي الطريق مخترقا شارع إسماعيل فشارع عبد القادر فشارع الجبانة، وبلغ محطة الدلتا في منتصف الساعة الثانية بعد الظهر حيث وضعت الجثتان في مركبة خاصة ألحقت بالقطار، وسافر جم غفير من المشيعين ومندوبون من لجنة الوفد المركزية لتعزية عائلة الفقيدين ب «نوسا الغيط» مركز أجا بلدة عبد الوهاب أحمد سبع، ثم توجهوا لميت بزو وكفر عثمان سليمان بلدة محمود عبد الرحمن سليم، فرحمهما الله رحمة واسعة. (7-5) كلمة
حضرة مندوب لجنة تشييع جنازة الشهداء المركزية بالإسكندرية التي ألقاها الأستاذ الشيخ عبد الفتاح محمد الذي كان مرافقا لنقل جثث شهداء مديرية المنصورةوهذا نصها:
أيها السادة، بصفتي منتدبا من أهالي مدينة الإسكندرية وفضيلة زميلي المحترم الشيخ عبد السلام العسكري من علماء المعهد والمدرسين به لمرافقة تلكم الجثة جثة الفقيد إلى هنا حيث تقيم أسرته الكريمة، للقيام بواجب التعزية؛ أقف أمامكم في هذه الساعة الرهيبة أرثي رأسا من الرءوس العاملة لخير البلاد، وأندب فتيان العلم الذين هاجروا لنصرة أمة رأوها تئن من الجهل، فأبوا إلا أن يعيشوا سعداء بالعلم وتعيش هذه الأمة سعيدة في كنفهم بفضل مجهودهم العظيم.
في ذمة الله شبابا ناهضا، في رحمته أفكارا نقية، في جواره نفوسا أبية، عالية، في جنته أرواحا غالية.
ليس المصاب أيها السادة مصاب عائلة أو أسر معدودة، وإنما المصاب مصاب الأمة جمعاء ، مصابها في شبابها الناهض، مصابها في كنزها الثمين، مصابها في ساعدها القوي، مصابها في سلاحها القاطع الذي أعدته للزمن، وادخرته للدفاع عن الحق ونصرته، لذلك ترى في كل بيت من بيوتات مصر مأتما قائما ودعوات منها له ورحمات متتالية، حتى لقد تنازع فيهم الشرق والغرب:
لقد قام بين الغرب والشرق مأتم
عليهم فمن ذا بالعزاء نخاطبه؟
لا تندبوا الشهداء أيها السادة، بل اذكروهم بكل أنواع الحفاوة والتبجيل والإعظام، فالتاريخ فاتح صفحاته لتمجيدهم والأمة ذاكرة لهم حسن هذا الصنيع ومقدمة لهم هذه المخاطرة، اذكروا هذه التضحية والمبدأ الذي من أجله كانت هذه التضحية تخف الزفرات عن قلوبكم وتزاح العبرات عن عيونكم، ونحن إن بكيناهم اليوم فإنما نبكي الأمل الذي أملناه فيهم والرجاء الذي رجوناه من هجرتهم. إيه يا مصر! ما أتعس حظك! وما أنحس طالعك! أوكلما نبت فيك نبت فأينع وأثمر وأخذ للعمل في سعادتك والسير بك إلى حيث مصاف الأمم الحية والشعوب الناهضة سلط الدهر عليه سهامه ليطفئ نوره وليسكت صوته؟! تعيسة أنت يا مصر، فما كان أحوجك إلى هذا الشباب الغض الذي ذهب ضحية حبك وهنائك.
هاجروك ليسعدوك وقالوا
حسبنا الله في علاك تعالى
إن العمل لسعادة البلاد ورفعتها أيها السادة بالاتحاد، وها قد تعانق الهلال والصليب وأصبحنا قاب قوسين أو أدنى إلى السعادة، وقد رأيتم جهاد الشهداء في العلم فكان مثالا صحيحا وعاملا قويا وشعارا لا يبلى، فسيروا في طريقهم المحمود واحذروا التفريق. وأنتم أيها الشهداء ناموا آمنين مطمئنين فلكم الذكر العاطر في الدنيا. (والذكر للإنسان عمر ثان.)
والأجر في الآخرة، وإنا إن شاء الله على هديكم لسائرون. (8) ترجمة رمضان محمود هداية (8-1) مولده
ولد شهيد العلم والشباب المرحوم رمضان محمود هداية يوم 6 يناير سنة 1900، وهو نجل الوجيه السيد محمود هداية من أعيان مدينة طنطا. وكان رحمه الله في طفولته قوي الذاكرة رقيق العاطفة ميالا للجد والنشاط، ورأى والده استعداده لتلقي العلم فعني به عناية خاصة وجعله موضع التفاته. (8-2) دراسته
دخل الفقيد مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بطنطا، فكان همه المذاكرة ومسابقة إخوانه في الدرس والتفوق عليهم بالأخلاق والآداب، وما زال يتنقل من فصل إلى آخر حتى حاز شهادة الدراسة الابتدائية وكان في أوائل الناجحين.
وألحقه والده بمدرسة طنطا الثانوية فكان موضع إعجاب أساتذته لفرط ذكائه وشدة شغفه بالانكباب على الدرس وارتشاف مناهل التعليم برغبة شديدة وإرادة قوية، وقد نال منها شهادتي الكفاءة ثم البكالوريا.
ثم استطلع والده رأيه في المدرسة العالية التي يريد الالتحاق بها، فتخير مدرسة الهندسة لشغفه بالرياضيات، وهي من دلائل الذكاء وسعة العقل، ولكنه لم يلبث بها غير سنة واحدة لأن أبواب السفر إلى بلاد الألمان كانت قد تفتحت، فرأى أن يرتحل إليها لدراسة العلوم التجارية والاقتصادية ويعود ليشتغل بالأعمال الحرة، وسافر على بركة الله مع المسافرين من الشبان وكان الأمل يرفرف فوق رأسه بجناحيه ووالده يتمنى له كبار المنى لثقته بنشاطه وحبه للعلم، ولكنه لقي حتفه في الطريق بين من باغتهم الأجل من شباب مصر، فعاد محمولا على الأعناق. واحتفل بمشهده بمدينة طنطا مع المرحوم إبراهيم أفندي العبد كما ذكر في غير هذا المكان، ودفن بمقبرة عائلته بطنطا، فرحمة عليه رحمة واسعة.
المرحوم رمضان أفندي محمود هداية من طنطا. (8-3) دمعة على صديق شهيد
أي صديقي رمضان، رحلت عني إلى ديار نائية لطلب العلم فوافتك منيتك قبل أن تحقق أمنيتك، فواها للأيام! لشد ما تفرق بين الإخوان.
أرثيك الساعة يا صديقي ولا أملك لنفسي إلا عبرة تترقرق بين عيني ونفثة تضطرم حنقا على المنايا «التي تفقد على كفها الجواهر تختار منها الجياد.»
أرثيك الساعة يا صديقي وما كان يجول بخاطري أن أكتب عنك راثيا، بل كان غاية أربي أن أصوغ لك عبارات التكريم احتفاء بمقدمك حاملا إجازة العلم ومؤديا لوطنك المفدى واجبك بصدق وإخلاص.
يا طالما سمعتك تتغنى بآمالك الجسام، وتتوق إلى العمل حرا مستقلا وتبغض التوظف في الحكومة لئلا يسيطر عليك مسيطر، ولقد كانت آخر كلماتك لي أن اعمل لتكون محاميا حتى إذا ما أتيت بعد حين متمما دراستي يكون بعضنا لبعض ظهيرا.
أجل أيها الصديق الداعي إلى الخير سأعمل ما في وسعي لأحيا حياة حرة فتلك هي غايتي في حياتي، وأكبر أمنية تطمح إليها نفسي. سأذكر كلمتك يا صديقي ما حييت، وعندما تشرق علي شمس ذلك اليوم الذي أعمل فيه حرا أحمل إليك الزهر الجميل وأنثره على جدثك الطاهر أسفا وحسرة على فقدك في غضارة الشباب وغضاضة الإهاب.
لقد كنت في حياتك خير مثال يحتذى: كنت زكي الفؤاد، طيب القلب، متوقد العزم، صادق الرغبة في العمل، لطيف المعشر، حريصا على وقتك، ولكن الدهر لم يكن حريصا عليك فوافاك الأجل المحتوم في غربتك وأنت أكثر ما تكون شوقا إلى اغتراف العلم من أعذب مناهله.
ألا ليت المنون التي عاجلتك وأنت في زهرة العمر وريعان الشباب أمهلتك حتى تدرك أمنيتك التي طالما جاشت في صدرك واختمرت في فؤادك، فارتحلت عن مصر مودعا الأهل والسكن والصحاب والوطن في سبيل تلك الغاية الشريفة، غير أنه بما يحيط بها من مصاعب ومتاعب لحق عليك قول القائل: «رب أمنية جلبت أسى ومنية».
لقد كان الاحتفال بجنازتك أنت وإخوانك الشهداء رهيبا، لبست فيه الأمة عليكم شعائر الحداد واشترك فيه رجالها والنساء، وشبابها والشيوخ، وكان دليلا ناطقا على حيويتها وتطلعها إلى الحياة الراقية. وإن مصرعكم لأكبر مشجع لإخوانكم على انتهاج طريقكم بعد أن رأوا ما رأوا من فرط عناية الأمة بواجبها حيال إحياء ذكرى شهدائها الذين تمزقت جسومهم وتحطمت أشلاؤهم في سبيل المجد الخالد والأمل البعيد، مجد الوطن الذي يحيا بأبنائه البررة المخلصين له الحب. نعم إن مصرعكم لأسطع برهان على رغبة المصري في الحياة العلمية الصحيحة وركوبه متن الأخطار لإحراز المجد والفخر.
لقد طير البرق نبأ مصرعكم إلى جميع أنحاء العالم المتحضر، فكان له في وطنكم رنة حزن مؤلمة اخترقت البلاد من أقصاها إلى أقصاها، كيف لا ومصابكم مصاب أليم ورزؤكم رزء جسيم؟ ولكن الذي خفف أحزاننا وآلامنا هو ذلك الأثر الخالد الذي خلفتموه بعدكم وسمع عنه العالم أجمع، ألا وهو استشهادكم غرباء في سبيل العلم، ولولا ذلك لنال منا الأسى كل منال.
فيا أيها الشهداء الراحلون في مثل أعمار المنى، إذا اجتمعتم في روضة من رياض الجنة أو تلاقيتم تحت ظلال شجرة من أشجارها ادعوا لنا ربكم يمدنا بروح من عنده في سبيل إنجاح قضيتنا ويهيئ لنا من أمرنا رشدا.
لقد اختارك الله يا رمضان لجواره وقدر لك أن تموت شهيدا، فتركت دار الفناء دار اللؤم والخسة والدناءة، وتركتنا على أسوأ ما يترك الصديق، وما هي إلا قلوبنا يضنيها الحزن ويقلقها الأسى.
في ذمة الله روحك الطاهرة، وفي جوار إخوانك الذين أنعم الله عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين، هنالك تنعم بالجنة التي أعدها الله لعباده المتقين.
سلام عليك في الشهداء، سلام عليك في البررة الأتقياء، وسلام عليك يوم ولدت ويوم مت ويوم تبعث حيا.
حضرة الفاضل المحترم مدير تحرير الكنز الثمين لعظماء المصريين
تحية وسلاما، وبعد: فأرسل لحضرتكم طيه الكلمة التي كتبتها بمناسبة وفاة صديقي المرحوم «محمد رمضان هداية» في حادثة أودين؛ رجاء نشرها في تاريخ حياة شهداء العلم والوطن.
وإني أشكركم كل الشكر على تلك الهمة الشماء التي بذلتموها في إصدار الكنز الثمين الذي ملأ فراغا مهما في عالم الأدب أهمله الكتاب وراءهم ظهريا مع أنه من دواعي تقدم الأمم ونهوضها، لأنه المسبب لازدياد عدد عظمائها وكبار رجالاتها.
ولقد كتبت منذ حين كلمة على صفحات السفور أستنهض فيها همم الكتاب للقيام بإنشاء لجنة خصيصة للقيام بعمل تراجم لعظماء مصر، وبينت لهم أهمية هذا العمل الذي أغفله الكثيرون مستعينا على ذلك بقلمي الضعيف الذي لا أملك سواه، فما تحرك ساكنهم. واليوم وقد وجدت فردا من أفراد الشعب المصري الراقي يقوم وحده بهذا العمل الجليل خير قيام على ما فيه من المصاعب فحق علي أن أبذل ما في وسعي للإشادة بعمله، والتنويه بفضله، وتعداد مآثره وتنبيه الأذهان إلى أهمية حياة العظماء التي هي السراج المنير الذي يهدي الناس في ظلمات الحياة. إنك بعملك هذا العظيم قد حققت أملا من آمالي طالما تاقت نفسي إلى تحقيقه. إن شدة إعجابي بعملكم وبقلمكم الذي ينطق عن علم غزير وفكر ثاقب وأناة وروية، هذا فضلا عن الأسلوب الرائع الذي تكتبون به؛ ليدعوني إلى أن أفخر بكم، وأرجو لكم مستقبلا سعيدا ونجاحا عظيما في عملكم بفضل معونة مصر الناهضة التواقة إلى المجد المتطلعة إلى الحياة الراقية. وقد كان بودي أن أحضر لأراكم شخصيا وأقدم لكم خالص شكري وسروري من عملكم، ولكن بما أني مشغول الآن فقد فضلت أن أرسل لكم كتابي بما أن الحظ لم يسعدني بوصول ركابي إليكم. وسأحضر إليكم إن شاء الله في أوائل يوليو سنة 1920 لأنتهز فرصة اشتراكي في الكنز الثمين ولأقدم لحضرتكم من المساعدات الأدبية ما يكون في مقدور شخصي الضعيف. والسلام عليكم ورحمة الله.
علي بدر
موظف بوزارة المعارف العمومية
القاهرة في 13 يونيه سنة 1920م
لما احتفل ناظر مدرسة القرشية التابعة لمجلس مديرية الغربية بتأبين الشهداء ودعا لذلك أدباء وموظفي وأعيان القرشية وميت يزيد، ألقى القصيدة الآتية بعد افتتاحه حفلة التأبين، وتلاه الأدباء والتلاميذ بما أبكى العيون وفطر القلوب على أولئك الشهداء، شهداء العلم والغربة:
يا أماني مصر والدنيا عبر
كيف عدتم؟ أنجاح أو ظفر؟
كيف عدتم؟ غفر الله لكم
أأصيب القوم في الزخر الأغر؟
وأريع النيل في أبنائه
أجفاف النيل
4
من وقع الخبر
وذبول الزرع من فرط الأسى
لشباب غاله سهم القدر؟
جف ماء النيل مما انتابه
هل يريق الدمع (مكفوف البصر)؟ •••
أصبحت آمال مصر نكبة
وكتابا نكست فيه صور
أيها الأقوام عزوا بعضكم
في ضحايا العلم ركاب الخطر
في بدور شاءت العليا لهم
أن يجوسوا الغرب نيلا للوطر
فتولوا وأمانينا بهم
باسمات للرجاء المنتظر
وإذا بالبرق ينعاهم بما
قد دها الآمال في عرض السفر «صدمة في الغرب أمسى وقعها
في ربوع الشرق مشئوم الأثر»
عاجل الأقمار موت كامن
في حديد وبخار وشرر
ومشى المقدور في داراتهم «فتهاووا قمرا بعد قمر»
وإذا حم القضا في نازل
راح لا يمنع مقدورا حذر •••
في سبيل الله والعليا وفي
ذمة الأوطان أبناء غرر
في سبيل المجد ما شاء الوفا
لبلاد ساءها صرف الغير
في سبيل النيل در ناضر
كان عقدا للمعالي فانتثر •••
إن نعت برلين بالأمس «فتى»
5
فلأودين نعت «اثني عشر»
أن تصوني أرض أودين دما
كان للعرفان فيهم مدخر
فلتكوني كعبة المصري إن
حج غرب العلم يوما واعتمر
فيك أودين براهين على
أن مصر للمعالي لم تذر
أوصدوا الأبواب فيها فانبروا
للمعالي نفرا بعد نفر
إن شعبا يطلب العلم ولو
ناله في نيله كل كدر
لهو شعب ناهض ترجى له
عن قريب صولة بين البشر •••
ليس يخشى الموت منا فتية
في سبيل العلم حتى لو ظهر
ليس في الصدمة يأتيك الردى
إنه يأتي كلمح بالبصر
إنه يأتي إذا العمر انقضى
كنت في برج مشيد أم حفر
قد شكرنا الله في أرزائنا
وكذاك الله يجزي من شكر
القرشية
سعيد أبو الذهب
وقال هذه الكلمة التي ألقاها أحد تلاميذه:
سائلوا العلياء عن أولادها
أين راحوا فسرى فيها الألم؟
إنها تبكي شبابا ناضرا
قد ذوى أزهاره خطب ألم
خففي يا مصر عنا واعلمي
أنهم ماتوا ضحايا للهمم
واذكري أنا شكرنا ربنا
في مصاب وقعه رج الهرم •••
فاحزني يا مصر حزنا شاملا
ما انتهى المحزون إلا وابتسم
ستكوني أمة مرفوعة ال
أقدار حالا دائما بين الأمم (8-4) الحفلة الأولى بالجامع الأحمدي بطنطا لرثاء الطلبة
كانت يوم الجمعة 22 مارس سنة 1920 (على ما أتذكر) في الجامع الأحمدي، وقد حضر جم غفير من كبار علماء الجامع حوالي الساعة الخامسة مساء يتقدمهم فضيلة الأستاذ الشيخ مرسي طبل شيخ علماء المالكية، فوقف فضيلته وصلى صلاة الجنازة على أرواح الشهداء، وبعد الصلاة حضر فضيلة الأستاذ الشيخ الظواهري شيخ الجامع ومعه السيد حسين القصبي. وافتتحت الحفلة بالقرآن الكريم، ثم وقف فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الجليل أحمد أحد علماء الجامع وألقى كلمات أبكت الحاضرين، ثم تلاه حضرة زكي أفندي قدسي واعظ الكنيسة القبطية بكلمات موجزة كان لها تأثير عظيم في نفوس السامعين، ثم تلاه الشيخ محمد عبد السميع بزجل نشر في غير هذا المكان ومطلعه:
الحي يسعى في الطلب
والغيب وراه مليان عجب
والدهر دا ما عليه عتب
مين اللي يعتب ع الزمان
وتلاه كثير من الخطباء والأدباء، وختمت الحفلة كما فتحت بتلاوة القرآن الشريف. (8-5) الحفلة الثانية في الجامع الأحمدي
كانت في 12 أبريل سنة 1920 عقب حضور جثث الشهداء وقد أقامتها لجنة الوفد المركزية في طنطا، وكان ذلك في الساعة الثامنة مساء، وقد حضرها سعادة مدير الغربية نائبا عن عظمة مولانا السلطان (المدير سعادة حافظ باشا حسن)، وقد أمها كثير من المدعوين من العلماء والقضاة والأطباء والمحامين وأعيان البلاد والطلبة، وكان رئيس الحفلة حضرة الدكتور حسن بك كامل، وسكرتيرها حضرة أحمد بك الشيخ. فوقف الدكتور وافتتح الحفلة بكلمات موجزة كان لها وقع حسن، ثم تلاه حضرة أحمد بك الشيخ بخطابة نالت الاستحسان، ثم تلاه الأستاذ نجيب أفندي الغرابلي بقصيدة فيحاء، ثم تلميذتان من مدرسة ميرزا العجمي فألقتا قصيدة واحدة تحاورتا في أبياتها، ثم تلاهما الأستاذ الشيخ محمد الخشن المدرس بمدرسة الأقباط بقصيدة جليلة، وهنا شغب الناس بسعادة أحمد بك الشيخ لأنهم لاحظوا عليه تقديما وتأخيرا في مناداة الخطباء فخرج وخرج بعض الناس ومنهم الدكتور حسن بك كامل وسعادة مدير الغربية وشيخ الجامع ولكن الحفلة لم ترفض بعد، واستمر الخطباء واحدا بعد واحد إلى أن ألقى الشيخ عبد السميع هذا زجلا نشر في غير هذا المكان، ومطلعه:
يا مصر مال دهرك عايب
حكم عليك وحكمه جار
وسهمه فيك كان صايب
والأمر للمولى الجبار
ثم انتهت الحفلة بسلام. (8-6) رثاء الطلبة في حفلة العلماء بالجامع الأحمدي بطنطا
زجل
الحي يسعى في الطلب
والغيب وراه مليان عجب
والدهر دا ما عليه عتب
مين اللي يعتب ع الزمان •••
والموت على كل العباد
مكتوب ولا فيه حد حاد
والآخرة للدنيا معاد
وكل شيء فيها بيان •••
وكل واحد له أجل
محدود ولكن له أمل
لولا الأمل ما كان عمل
واللي انكتب في علمه كان •••
العمر مكتوب في الكتاب
والعبد عنه في احتجاب
وكل يوم بحسب حساب
وهو ميت من زمان •••
واللي يموت في غربته
زي اللي مات على فرشته
واللي تجي له منيته
زي اللي مات وسط الميدان •••
لكن بقى اللي يموت غريب
ولا عنده أهل ولا حبيب
الحزن يبقى عليه لهيب
ويقطع القلب الملان •••
علشان كدا تلقى الدموع
والنار تفتت في الضلوع
على اللي ماتوا من الجموع
شبان لهم في القطر شان •••
شدوا الرحيل وخدوا اللزوم
واتوجهوا لطلب العلوم
أما القدر عمال يحوم
خلى الأجل قرب وحان •••
حصل التصادم في القطار
وقع وقام فيه البخار
دا شي خلى العقل طار
يا منصفين فين الأمان؟ •••
في ذمة الله الكريم
يا زهرة النيل العظيم
ما حد في الدنيا مقيم
ولا حد خد فيها مكان •••
والصبر أحسن للشباب
فيه الكرامة والثواب
وكل شيء عند الحساب
يظهر ويبقى في الميزان •••
ويبقى مولانا اللطيف
ياخذ الحقوق م اللي يحيف
ما فيش قوي ولا فيه ضعيف
ولا فيه شجاع ولا فيه جبان •••
يا مصر ما للدهر مال
وكل يوم ينهب رجال
كأنه شاف نهبك حلال
يا مصر ما للدهر خان؟ •••
في كل يوم فيك خبر
قاسي يفتت في الحجر
يا مصر دا القلب انكسر
امتى بقى يئون الأوان
محمد عبد السميع
مدرس بمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بطنطا
وله أيضا: رثاء في الشهداء
المذهب
يا مصر مال دهرك عايب
حكم عليك وحكمه جار
وسهمه فيك كان صايب
والدهر من طبعه غدار
دور
حكم عليك في أنجالك
خطفهم الموت الخطاف
كانوا حمايتك إن جالك
من الأمم خصم وخطاف
كانوا حصونك ورجالك
وهمهم حب الإنصاف
والدنيا دي مالهاش صاحب
والدهر بين الناس دوار
المذهب
قاموا وسافروا على أوروبا
للعلم في بلاد الألمان
جاهم قضاهم في الغربه
وهم في بلاد الطليان
وجا الخبر ع النيل ضربة
ملا البلاد هم وأحزان
واللي كتب أمره غالب
والموت على العالم سيار
المذهب
حصل تصادم بيقولوا
والعلم عند الله وحده
والعمر ما حد يطولو
لأن له مقدار عنده
واللي حداه أهل تعولو
في موته يبقى خفيف عنده
أما اللي مات ولا فيش صاحب
الدمع يبقى عليه تيار
المذهب
العلم فيه عز الأوطان
وسعدها الباهي الباهر
واللي يموت في العلم كمان
في الغربة دا ميت طاهر
ويبقى فيه رحمة ورضوان
وذكره بين الناس ظاهر
زي اللي ميت بيحارب
ويبقى في الشهدا الأبرار
المذهب
يا اللي سافرتم للتهذيب
وكان بكم نيلنا مشروح
دي مصر صبحت في تعذيب
كل البلاد تبكي وتنوح
ودفنكم في الأرض غريب
هي البحار في الأرض تروح؟
دا دفنكم في العين واجب
علشان ما تبقولها تذكار
المذهب
النيل عليهم صار محزون
والعين بتبكي دم صبيب
والقلب بالأحزان مشحون
والكبد فيه حرقة ولهيب
لو كنا ندري اللي حيكون
ما كنش ضاع من مصر حبيب
أما القضا لما يطالب
ما تمنعوش أبدا أحذار
المذهب
لو كنا شفنا الموت يفدوه
ما كنش واحد منهم مات
ما كنش حد يقول دفنوه
ونكسو ف مصر الرايات
وقالوا بالأرواح ضمنوه
ما كنش يبقى في الأموات
لكن دا الموت الغاصب
مالوش فدا ولا لوش أعذار
المذهب
في ذمة الله العلام
يا كبد مصر المكويه
في الجنة في عز وإكرام
في عيشة حرة مرضيه
مع «مصطفى» بطل الأهرام
و«فريد» شهيد الحريه
اللي قضى زمنه غايب
بعيد عن الأوطان والدار
المذهب
بالله يا قبر الأبطال
رحب بأولاد الأمة
غابوا ولكن الغيب طال
فيك الجهاد ويا الهمة
فيك المروءة والأعمال
فيك الشجاعة والذمة
فيك المحرر والكاتب
فيك النباهة والأفكار
المذهب
يا قبر بالقلب نحييك
والقلب بالأحزان مليان
وكلنا بالروح نفديك
نفدي الفضيلة والإيمان
ومصر ويا النيل تهديك
كل الكرامة والإحسان
دنيا غرورة وكون ذاهب
والملك لله الجبار (8-7) نص الخطبة
التي ألقاها حضرة أحمد بك الشيخ عضو مجلس مديرية الغربية (بمدينة طنطا في الجامع الأحمدي، في حفلة تأبين طلبة العلم الذين استشهدوا بإيطاليا في حادثة القطار المشئومة)
ما لجرحي إذا شكوت شفاء
ضقت ذرعا فأين أين الدواء؟
كل يوم لنا من الدهر خطب
ينطوي الكرب تحته والبلاء
غير أن الخطوب ذات اختلاف
ذاك سهل وذا يضيق عنه الفضاء
أيها السادة
باسم مديرية الغربية التي تحملت نصيبها في هذه الفاجعة العظمى أقدم للأمة المصرية في شخص لجنة الاحتفال أجمل التعازي على هذه المصيبة الفادحة، متوسلا إلى ذي العزة والجبروت أن يجعلها خاتمة مصائب مصر وأن يمن عليها بتفريج كربتها وتحقيق أمانيها.
وأقدم جزيل الشكر المنبعث من أعماق القلوب إلى وفدنا المفدى تلقاء عنايته برفات أبنائنا وحملها من الغرب إلى وطن يحن إليها حنين الثكلى.
أعزي الأمة المصرية في شباب ناهض ارتحل عنها للجهاد فيما يرقيها وينهض بها من وهدتها، ذلك الشباب الذي ودعناه عند السفر وأتبعناه النظر وكل منا يردد قول القائل:
أيها الركب الميمم أرضنا
أقر من بعض السلام لبعض
إن جسمي كما علمت بأرض
وفؤادي ومالكيه بأرض
قدر البين بيننا فافترقنا
وطوى البين عن جفوني غمض
أيها السادة
إن موقفنا رهيب والباعث عليه جليل عظيم، فاعذروني إذا أقعدني فرط حزني عن الإفاضة فيه، فإن موقفا كهذا إذا لم تلق فيه عصا التسيار إلى جبروت القاهر فوق عباده والقادر على إنفاذ مراده، فقد يطيش السهم وتزل القدم.
أيها السادة
إن خطبا وإن كان في أحوالنا الحاضرة عظيما فإن مصابنا في أبنائنا أعظم، ولئن قابلنا الحوادث التي مرت بنا بصبر وجلد، فإن هذه الكارثة قد أرهبت عنا الصبر وأدهت منا الجلد وأهاجت منا مكامن الأسى.
فإذا ما وقفنا هذا الموقف فإنما نبكي أملا خيمت عليه سجف الأقدار فأخفته عن الأنظار، وعبثت به عوامل القضاء فأصبح في عالم الفناء، ولا راد لقضاء الله.
أيها السادة
اجتمعنا الآن لتأبين الشهداء، وما كل من مات من الشهداء. اجتمعنا لنؤبن بررة الأبناء وذخر الآباء، اجتمعنا لنرثي من دعاهم داعي الوطن فلبوا النداء، وراحوا ليشيدوا للعلم أمتن بناء.
اجتمعنا لنبكي من تقاذفتهم الأعاصير والأنواء، فماتوا واأسفاه في طريقهم غرباء، وكأني بهم وقد فاضت أرواحهم إلى السماء وهم يرددون بين اليأس والرجاء: «نحن لك يا مصر الفداء.»
أيها السادة
نعى البرق إلينا أبناءنا فأسال بذلك الدماء المتجمدة على جراح أكبادنا، وأضرم بين جوانحنا من الوجد والأسى ما الله عالم به.
ومما زادنا لوعة وحسرة أنهم ماتوا على قارعة الطريق، ولا من رحيم ولا شفيق، اللهم إلا رحمة الله التي وسعت كل شيء، وعطف الشعب الإيطالي الذي خفف كثيرا من آلامنا وأحزاننا.
ذلك العطف الداعي إلى توثيق عرى المودة والارتباط بين الشعبين، فالشعب المصري يقدم للشعب الإيطالي جزيل تحياته مصحوبة بعظيم ممنونيته ووافر شكره، ويحفظ له في أعماق قلبه جميل الذكر وطيب الأثر.
لقد مر بنا من الحوادث والكوارث ما يدك شوامخ الجبال ويفتت رواسي الأطواد، ومع هذا قد اتخذنا من الصبر قوة ومن الجلد عزيمة ومن الاتحاد والتضافر سلاحا أمتنا به اليأس، ونرجو أن نتغلب به دائما على كوارث الدهر فإنه لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس.
فهل بعد ذلك يمكن أن يقف بنا ذلك الخطب عند حد اليأس أو يقعد بنا عن متابعة السير في طريقنا المعهودة ...؟ كلا، فإن دماءنا وأرواحنا وفلذات أكبادنا كلها فداء للوطن.
ولن يفتدى الوطن إلا إذا اغترف أبناؤه العلم من مناهله، وهي مع الأسف نائية لا تدرك إلا بالتضحية واستسهال المصاعب، وحاشا أن ما حصل يوهن عزائم أبنائنا، ويقعد بهم عن السفر في طلب العلم والمخاطرة لأجله.
فإن شباننا وزهرة مستقبلنا الذين توجوا بلادهم بالأكاليل الفخار يعتقدون ولا شك أن الأقدار وإن كانت لا محالة نافذة ... إلا أن الآجال موقوتة محدودة، ولكل أجل كتاب.
أيها السادة
قد جعل الله لكل شيء سببا، والأسباب ترجع إلى مسبباتها، وقد كان سبب استشهاد شهدائنا سفرهم، وما الذي بعثهم على ذلك السفر؟
بعثهم إليه أيها السادة أن بلادهم مع الأسف لا تزال - ونحن في القرن العشرين - خالية من المدارس الجامعة والكليات الناجعة والصناعات النافعة، ولو كان بها ذلك كغيرها أو شيء منه لما تجشم أبناؤنا مشاق السفر وركبوا متن الخطر.
فبالله عليكم هل رأيتم أو قرأتم أو سمعتم أن قطرا من أقطار المسكونة لا يزال عالة على غيره، وعلى الخصوص في التربية والتعليم اللذين هما أساس حياة الأمم؟ هذا ما لا أظن أن يكون.
ولكن لا، لا، أستغفر الله! فإن مصر المنكودة الحظ - على خصب تربتها وعذوبة نيلها ووفرة أموالها وضخامة ميزانيتها وكثرة سكانها - لا تزال وحدها فقيرة في مدارسها، ناقصة في تربيتها، تضطرها الحاجة إلى المخاطرة بأبنائها فتقذف بهم إلى الخارج لارتشاف العلوم من مناهلها العذبة، وقد كانت المصيبة نتيجة ذلك السفر.
فهل لهذا الحال يا سادتي من آخر؟
أيها السادة
يؤسفني ويؤسفكم، ويؤلمني ويؤلمكم، بل ويدمي قلبي وقلوبكم أن مصر المحبة لأبنائها الغنية بشبانها كانت هي على الرغم منها سببا في فقد اثني عشر كوكبا من كواكبها ... وقد كانت تعدهم للاستضاءة بنورهم بعد أن يتمموا علومهم، فمصر هي المسئولة عن هذا الخطب الجسيم.
إننا بتهاوننا في أمورنا ورضائنا بما أوجب تأخرنا وانحطاطنا كنا سبب هلاك أبنائنا! فمسئولية الحادث واقعة علينا ونحن عنه إذن مسئولون.
أيها السادة
إن العلم واحد في كل مكان كذلك العقل، فلماذا لم نحصل على قسطنا من العلم؟
يتهموننا بالجمود والتقصير، ولو عدلوا لعرفوا أننا لم نقصر في طلب العلم، وإنما قد حرمنا أسبابه ووسائله، ورغما عن هذا الحرمان دفعنا حبنا للكمال اقتداء بأجدادنا العظام أن نهاجر في طلبه ونخاطر بأرواحنا للحصول عليه، وأكبر برهان لدينا أن العطاش من شبابنا حينما لم يجدوا في بلادهم من موارد العلم ما يشفي غلتهم ويروي ظمأهم، ولوا وجوههم شطر بلد أينع فيه غراس العلم نازحين عن بلد متعطش إلى موارد العرفان أطفأت مصابيحه يد الرغبة في تأخره وإذلاله ودوام استعباده، وكل منهم آمل أن يعود إليه سراجا وهاجا يستضاء بنوره، ولكن قدر فكان ولا راد لما أراده الله.
ولئن أطفئت تلك المصابيح قبل أن يتم نورها، فإن انطفاءها يشعل في طيات القلوب نارا تثأر للعلم.
أيها السادة
يجب على العاقل أن يتعظ بالحوادث ويستفيد منها، وخير ما يجب أن نعود به من موقفنا هذا بعد الاستسلام لله على قضائه وقدره، هو عامل الثأر للعلم ولن يثأر للعلم إلا بالعمل على محو الجهالة ، ولا تمحى الجهالة إلا ببذل المال والتضحية وحمل النفس على الترحيب بالخطر في سبيل إنقاذ البلاد من الجهل، فعلى الآباء بذل أموالهم لإيجاد المعاهد الكافية للعلم في بلادهم كما هو الحال عند غيرهم، وعلى الأبناء أن يندفعوا في تيار تحصيله مهما أوذوا في سبيله ليتوجوا بأكاليل الفخار، أو تنقش أسماؤهم بعد موتهم في سبيل إنقاذ بلادهم من الجهل على قلوب أفراد أمتهم بحروف لا تقوى على محوها يد الزمان.
أيها السادة
حقا إن مصر بلاد العجائب، فإن الشمس لا تكاد تشرق فيها إلا على جديد من الحوادث والكوارث، وكأني بالأيام وقد آلت على نفسها أن تعطينا في كل وقت درسا جديدا لا ننساه ما دب فينا دبيب الحياة.
وإننا وإن لم نجن على الأيام ما يدعو إلى ذلك الانتقام، فإننا قد مكثنا غارقين في بحار الغفلة أعواما مخدرين ب «مورفين» التواكل والتخاذل سنين وأياما!
فهل لنا بعد ذلك أيها السادة أن نهب من غفلتنا ونعمل ما يطفئ غلتنا ونسعى لعمل ما يرقي بلادنا ويحررها من ربقة الجهل؟ ذلك ما أرجو أن يكون إن شاء الله تعالى.
أيها السادة
ليس هذا بالصعب علينا بل إنه في قدرتنا وفي طاقتنا الحصول عليه بفضل اتحادنا ووئامنا وسر تضامننا وتضافرنا، وبهذا نحيا حياة المسعدين ونعيش عيشة الأحرار المستقلين.
ففي ذمة الله - أيها السادة - تلك النفوس الطاهرة التي جنينا عليها باستسلامنا وتواكلنا.
وفي وديعة الله تلك الآمال الكبار التي أضعناها.
وفي رحمة الله تلك الكواكب التي واريناها. وإنا لله وإنا إليه لراجعون. (9) ترجمة إبراهيم أفندي السيد العبد
المرحوم إبراهيم أفندي السيد العبد من شبرا النملة.
إن مسئولية المؤرخ خطيرة الشأن عظيمة الأهمية، إذ يدعوه واجبه التاريخي دائما إلى البحث والتنقيب وراء الحقائق والتثبت منها لأنها دستور يقتفي أثره أبناء هذا العصر والأجيال المقبلة. وبما أننا قد تصدينا لوضع تواريخ شهداء العلم والغربة وبذلنا كل مجهودنا في الحصول على تراجمهم من أسرهم وأصدقائهم بطريق النشر في الصحف السيارة وبكافة الوسائل الأخرى، ولسوء الحظ بذلنا قصارى الجهد في الحصول على ترجمة المرحوم إبراهيم أفندي السيد العبد فلم نوفق لذلك، وقد أرسلنا خطابا في 15 يوليو سنة 1920 إلى حضرة سليمان بك العبد أحد أفراد هذه الأسرة الشهيرة بشبرا النملة، وأردفناه بخطاب ثان تاريخه 27 يونيو سنة 1920 وكذا خطاب ثالث في 14 سبتمبر سنة 1920، وأفهمناه ضرورة إرسال التفاصيل الخاصة بفقيدهم وبينا له أمرنا من هذا الكتاب دون أن نكلفه بدرهم ولا دينار؛ فأبى علينا الرد، وقد تسرب إلى ذهننا أن ابنه أكبر عامل على تخليد مآثر والده فبعثنا إليه بخطاب تاريخه 19 أغسطس سنة 1920، فلم يتكرم بالرد ولو على سبيل المجاملة في الأمور التحريرية؛ ولما رأينا أنه لا مندوحة من أن نذكر كلمة عن المرحوم إبراهيم أفندي العبد وإن كان ابنه وذوو قرابته أبوا علينا ذلك فنقول:
ولد المرحوم إبراهيم أفندي السيد العبد في بلدة شبرا النملة، ومات في حادثة القطار التي استشهد فيها مع طلبة العلم، وكان مرافقا لابنه عبد الحميد أفندي العبد لإدخاله إحدى كليات ألمانيا، وكان أشد تأثيرا على النفس أن المرحوم إبراهيم العبد قد حال القضاء بينه وبين ابنه، ولكن الأب استطاع وهو يجود بنفسه الأخير أن يخاطب ولده مشجعا ببضع كلمات شدت عزمه وفتحت له منفذا إلى الحياة، وقد ذهب إلى رحمة ربه موقنا بسلامة ولده فمات عن إحدى وخمسين سنة. أخبرنا بعض محدثينا عنه أنه من عائلة عريقة قضى عمره في الاشتغال بالأمور التجارية والزراعية بجد واجتهاد، وفي هذه السفرة الأبدية كان يرغب أن يجلب بضائع للتجارة حتى يسد حاجات مواطنيه، وكان نقي السيرة طاهر السريرة. رحمه الله وأسكنه جنة الخلد!
وقد عثرنا على هذا التلغراف منشورا في إحدى الجرائد وهو مهمل من الإمضاءات، وهذا نصه:
إلى رئيس لجنة الوفد المركزية: حسن عزائكم وعطف معالي الرئيس المحبوب وحضرات أعضاء الوفد خفف كثيرا من أحزاننا بوفاة المرحوم إبراهيم أفندي العبد. أبقاكم الله ذخرا للأوطان، وكلل جهادكم الشريف بالنصر والنجاح. (9-1) احتفال طنطا بجنازة المرحومين إبراهيم أفندي العبد ورمضان أفندي هداية
أصبح ظل الأحزان مخيما على مدينة طنطا، فالوجوه عابسة والدموع تترقرق في العيون والقلوب مكلومة والزفرات تتصاعد من صدور يمزقها الأسى بتلك الكارثة.
وقد رفعت الأعلام منكسة في كل مكان مجللة بالسواد، وكان الأهالي ينتظرون بالخشوع ساعة الاحتفال بتشييع جثتي المرحومين إبراهيم أفندي العبد ورمضان أفندي هداية، ففي منتصف الساعة الرابعة كان كل فريق من المشيعين في المكان الذي أعدته له لجنة الاحتفال.
وفي الساعة الرابعة أقبل سعادة مدير الغربية مندوبا من قبل مولانا عظمة السلطان، وبدأ سير الجنازة من المحطة على الترتيب الآتي: موسيقى الملجأ العباسي - قوة من البوليس البياة - فرقة الكشافة - موسيقى علي أفندي حسن - طلبة الجامع الأحمدي والمعهد العلمي - مدرسة المعلمين الأولية - طلبة المدارس الثانوية، فالمدارس الابتدائية، فمدرسة الفرير، فالاتحاد الإسرائيلي، فموسيقى حافظ أفندي يوسف، فمدرسة البنات، فحملة المباخر والزهور، فنعش الفقيدين ملفوفين بالأعلام المصرية يحملهما فريق من طلبة مدرسة طنطا الثانوية، ويتبعهما أهل الفقيدين، فالعلماء، فالرؤساء الروحانيون، فرئيس وأعضاء لجنة الوفد بطنطا، فالقضاة، فالمحامون والأطباء ونظار المدارس والمدرسون والمهندسون ورجال الصحف، فوفد من الإسكندرية، فالجاليات الأجنبية ومنها الجمعية الخيرية الإيطالية التي قدمت إكليلا من الزهور لوضعه على القبر، فموظفو الحكومة، فالأعيان، فرئيس وأعضاء الغرفة التجارية، فالتجار، فنقابات العمال على اختلافها. وسارت الجنازة من المحطة إلى شارع المديرية، فالبورصة، فالخان، فالسكة الجديدة، وهناك أقيمت صلاة الجنازة في الجامع الأحمدي. وبعدها انفصل فريق من المشيعين لمرافقة جثة المرحوم إبراهيم أفندي العبد إلى بلدته شبرا النملة، يتقدمهم عبد الحليم بك ناشد مندوبا من عظمة السلطان وحضرتا نجيب بك الغرابلي وأحمد بك الشيخ منتدبين عن لجنة الوفد المركزية.
ثم استمرت الجنازة من السكة الجديدة إلى شارع الصاغة فالجبانة حيث واروا جثة رمضان أفندي هداية التراب. وكان الموكب يسير بتمام النظام تحف به المهابة والإجلال، والمشيعون مطرقون احتراما لجلال الموقف الرهيب.
وقد أقيمت حفلة تأبين في منتصف الساعة التاسعة مساء 10 شعبان سنة 1838 بالجامع الأحمدي، حيث خطب الدكتور حسن بك كامل ونجيب بك الغرابلي وأحمد بك الشيخ وإبراهيم بك جلال القاضي ومحمد أفندي عبد الرازق والشيخ علي عبد الحليم من الإسكندرية وآخرون، وقد أثبتنا لحضراتهم في غير هذا المكان بعض مراثيهم. تغمد الله الشهداء بالرحمة والرضوان، وألهم الأمة المصرية الصبر والسلوان! (10) حياة المرحوم فريد فتحي رزق الله بقلم صديقه الحميم حبيب أفندي غبريال (10-1) حياته الدراسية
ولد الفقيد في بلدة «الشيخ زين الدين» من مركز طهطا.
ولما بلغ فريد أشده دخل مدرسة الأقباط بطهطا إلى أن صار في الحادية عشرة من عمره، وما زال منكبا على الدرس حتى حصل على شهادة الدراسة الابتدائية من المدرسة الإنجيلية بطهطا عام 1914، ثم التحق بمدرسة الأقباط الكبرى بالقاهرة واستمر فيها حتى حصل منها على شهادة الكفاءة. وبعد ذلك التحق بالمدرسة السعيدية، وكان أثناء وجوده بها يشكو دائما ألم الصداع لذلك حال ضعف صحته دون نجاحه في البكالوريا سنة 1918، فأعاد الكرة سنة 1919 ولكنه لم يتقدم للامتحان لأنه كان قد عقد النية على السفر. (10-2) عزمه على السفر
وفي سنة 1919 كثرت الاضطرابات بين الطلبة وتعطل العمل في كثير من المدارس، فعزم فريد على السفر إلى الخارج لتتميم دراسته، فحالت والدته دون ما كانت نفسه طامحة فيه، فكانت كلما ذكر أمامها رغبته في الهجرة لنيل العلم تقابل ذلك بالبكاء والنحيب، ولا غبار عليها في ذلك فلم يكن لها بعل يهتم بأمرها ولا ولد ثان تطيب به نفسها. وهنا تجلت في فريد روح وطنية سامية، روح يندر وجودها اللهم إلا في نفر قليل من الشبان، كتب إلى أحد أصدقائه يقول: «أنا بين عاملين، كلما ذكرت أمام والدتي أنني سأسافر للخارج تمرض وتذوب حزنا فتكاد تثني عزمي وتثبط همتي، وإذا بي في النزع الأخير أسمع صوت أمي العزيزة مصر تناديني إلى الواجب فأمتلئ أملا وحياة وقوة ونشاطا. وعندي أن والدتي لو قضت حسرة على وفاتي وقضيت أنا حزنا عليها لطابت نفسي أن نقدم أرواحنا عن طيب خاطر تضحية للواجب نحو الوطن، فهل رأيت أو سمعت قبل اليوم عن ابن أمين رضع من ثديين تتنازعه العوامل كما تتنازعن؟»
المرحوم فريد أفندي فتحي رزق الله من طهطا.
ثم طلب مني ذات يوم أن أصحبه إلى منزل أحد المرسلين الأمريكان لنستعلم منه عن أنظمة الدراسة بأمريكا وتكاليف المعيشة فيها، ولما لم يكن صديقنا على شيء من المعلومات اللازمة أرشدنا على الفور إلى جناب الدكتور جورج ف. فريمين القائم بأعمال الجمعية الزراعية السلطانية، فأكرم الرجل وفادتنا وحبذ الفكرة من فريد وأثنى ثناء مستطيبا على نصحه العالي ولا سيما لأنه هو بنفسه قد سبق فريدا في تعشق هذا الفن الجميل. ثم أخذ الرجل على عاتقه مخابرة جامعة
Guscoa
في الموضوع، وهذه الجامعة موجودة بولاية أريزونا في جنوب ولايات أمريكا المتحدة، فلبت الجامعة بسرعة طلب الدكتور وأرسلت إلى فريد مجلدا ضخما شاملا لجميع البيانات اللازمة فيما يختص بأنظمة الدراسة المختلفة وتكاليف المعيشة من مأكل وملبس ومسكن. فلما اطلع عليه مال بكليته إلى الجامعة وصبت نفسه إليها، وكان يفضلها على غيرها لفكرتين جوهريتين:
الأولى:
أن هذه الجهة من أمريكا هي بلاد زراعية محضة مشهورة بمحاصيلها القطنية والقمحية وما شاكل، ذلك لهذا أنشئت فيها الجامعة المذكورة. وكان فن الزراعة في المدرسة الأولى من فروع الدراسة بها، ويوجه إليه اهتمام خاص من الحكومة والشعب على السواء.
والثانية:
أن تشابه مناخ تلك الولاية بمناخ مصر يجعل طرق الزراعة في كلتيهما متقاربة إن لم تكن متماثلة تمام التماثل.
لهذين السببين صمم فريد على السفر إلى أمريكا ليتلقى هذا الفن الجميل الذي كان مولعا به ولع محب الطبيعة بالزهور والرياحين والخضرة وما شابه ذلك.
وهنا قامت معضلة أخرى في وجه فريد، فقد ارتفعت قيمة الدولار إلى درجة مدهشة حتى بلغت حينذاك اثنين وثلاثين غرشا صاغا للريال الواحد، ثم تضاعفت أجور السفر، فماذا يعمل فريد أمام إيراده الصغير المحدود؟ مع كل ذلك لم يحفل فريد ولم ينكص إلى الوراء، إذ قد حزم الأمل بين جنبيه حزاما حاميا.
لقد بذل فريد جهدا فوق طاقة شاب أن يقوم به منفردا في الحصول على تصريح للسفر حتى حصل عليه بعد جهاد ثلاثة شهور تقريبا. (10-3) النقطة الفاصلة
في حياة كل إنسان نقطة فاصلة، نقطة الاختيار العظيم، ما أحرج الإنسان في ذلك الحين! وما أشد كربته في أفكاره وخيالاته! ففي ذلك الظرف العصيب ساعة أو دقيقة أو لحظة ... عليه أن يقول قوله النهائي وينطق بكلمته الفاصلة .
وبعد، فإلى القوة أو إلى الضعف، إلى السعادة أو إلى الشقاء، إلى الحياة أو إلى الموت، إنها لأزمة خطيرة يقف فيها الإنسان - مهما كان مقامه - مبهوتا حائرا لا يدري إلى الشرق يتجه أم إلى الغرب، أإلى الشمال أم إلى الجنوب؟
غير أن تلك القوة الصمدانية التي تخترق الظلمات وتنظر من وراء السحاب، التي ترقب أعمال الناس وتسبر العالم بين أزلية من محبة ونار، تلك القوة عينها هي التي تحرك هذا المخلوق الحقير إلى حيث قضائها المحترم وأمرها غير المردود، فما لفظ امرؤ إلا مشيئتها ولا قال إلا إرادتها ولا امتثل إلا لأمرها، وهذا ما جرى لفريد. (10-4) تحول عزمه عن السفر إلى أمريكا
دعوته قبل سفره بثلاثة أيام لسماع محاضرة ألقاها محمود بك عزمي المحامي عن الديمقراطية، خرج فريد من تلك المحاضرة بحالة نفسية جديدة ظننتها في بادئ الأمر ترددا وضعفا فإذا هي وحي أوحي إليه، لست أدري أمن ملك كريم أم من شيطان رجيم أن يحول دفة مسيره إلى ألمانيا لا إلى أمريكا، وقد عزه على ذلك رخص المعيشة في الأولى الذي كانت تذيعه بعض الجرائد حينذاك بشكل بديع خلاب، وكذلك تدفق الشبان في ذاك الحين على ألمانيا تدفقا هائلا.
جميل كل هذا يا فريد، كله نافع ومحبوب، علم واقتصاد، ولكن لم تكن هذه فكرتك الأولى فما الذي طرأ على نفسيتك في اليومين الأخيرين قبل سفرك؟ وأية قوة كانت هي القاضية على عزمك الأسبق؟ لم يكن ذلك لأن هنا انتصارا ووفرا وهنالك إسراف وتبذير، لم يكن ذلك لأن هنا إخوانا كثيرين وأصدقاء عديدين وهنالك لا شريك ولا رفيق، لم يكن ذلك لأن هذه قريبة دانية وتلك بعيدة نائية، كلا، لم يكن شيء من ذلك، بل هو حظك التعس يدعوك إلى حتفك ونهايتك المرة تناديك إلى يوم نحسك. (10-5) وفاته
هكذا كان، وسافر فريد مع إخوانه على ظهر الباخرة حلوان في اليوم الثامن والعشرين من شهر يناير سنة 1920، ولم يمض على سفرهم بضعة أيام حتى جاءنا البرق بذا الخبر المشئوم، وإذا باسم فريد بين قائمة القتلى، فواحر قلباه. (10-6) أخلاقه
الاستقلال الفكري: كان فريد على شيء كثير من الاستقلال الفكري وحرية الضمير مع رجاحة في العقل لا يشوبها طيش الشباب، ولعل منشأ ذلك يرجع إلى وفاة والده، فلم يكن لأحد أن يسيره في شيء بل كان هو محتذى في كل أعماله، فحصل بين التجربة الانفرادية والخبرة الاستقلالية على ما أزكى عقله وفؤاده وأحكم خطواته في كل أعماله، ظهر أثر ذلك في حياته المدرسية فكان يتخذ لنفسه من المدارس والأصحاب ما يروق في نظره، وطالما كانت نفسه تتألم من نظام التعليم بالمدارس التي وجد فيها من حيث التضييق على حرية الطلبة، وكان يعتقد أن أولي الشأن يتعمدون تربية الناشئة على الاحترام الأعمى لرؤسائهم بوضع نظام الطوابير وتحريك الطلبة تحريكا ميكانيكيا في الدرس والأكل على غير جدوى وبغير إرادتهم وبإكراههم على تأدية التحية لهم في المدرسة وفي الطرقات، فكان فريد يكره ذلك ويظهر من العصيان والغطرسة ما حدا ببعض المدرسين أن يتهمه بالكبر.
كان يكره الأنظمة القهرية ويمقت التوظف في دوائر الحكومة جهد استطاعته. وكثيرا ما كنا نتريض معا في حقول الجيزة، فكان يعجب بالطبيعة والزهور والنبات أيما إعجاب ويحسد الفلاح على حريته وهو في الغيط طليقا حرا، ولذاك صمم على دراسة فن الزراعة إتماما لبغيته.
الإخلاص في المعاشرة
كان فريد مخلصا في معاشرته، فإذا أحب صديقا مال إليه بكل جوارحه وأخلص له في سره وعلانيته، ليس للتجمل أو الرياء منفذ إلى صدره، وسرعان ما كان يسلم لروحه وفؤاده بغير تكلف لكل من طلب وده فكان يحب كل معارفه على السواء والكل به وله، ذلك لما طبع عليه فريد من الدعة وظريف الشمائل.
الثقة بالذات
كان فريد شديد الثقة بنفسه، ولكنه رغم وقوفه برجاحة عقله كان لا يستنكف من المشورة في كل أموره سعيا وراء نجاحه. علم أن صديقا له موظفا بوزارة الحربية نقل إلى بحر الغزال في جنوب غرب السودان على مسيرة خمسة وأربعين يوما من مصر، فبعث إليه يحضه على الامتناع عن السفر ، فأجابه أن الذي حبب إليه السفر إلى تلك الجهات النائية هو أن مرتبه سيبلغ الضعف تقريبا، فوقعت هذه الفكرة عند فريد موقع السخرية والاستهزاء، وكتب إليه يقول: «لو كانت ثقتك بنفسك شديدة لعرفت أنك لن تعدم حيلة في كسب أضعاف مرتبك أنى شئت.»
الاقتصاد
كان فريد يحب الاقتصاد ويضع الشيء في موضعه، ولم يعقه ميله للاقتصاد عن القيام بالواجب، حتى لتخاله في كثير من المواقف كريما في البذل عن سخاء وطيب خاطر. (10-7) مرثية ألقاها على قبر فريد حضرة صديقه الحميم الكاتب الأديب حبيب أفندي غبريال
أي فريد، ها قد جئنا لنزورك وأنت في مرقدك الهادئ فاستيقظ يا فريد من نومك لتحيي إخوانك القادمين إليك، قم وامدد إلينا يديك الطاهرتين فقد حق علينا أن نقبلهما بحرارة ولهف. ولكن لا، لا، فكن في مكانك بعيدا عنا ولتبق روحك في ذلك المقام العلوي، فما كان للطهارة أن تمس الدنس، وما كان للنور أن يقترب من الظلام. أي إخواني، في ليلة البارحة بينما الناس في سبات عميق طلبت فريدا، ولكن واأسفاه طلبته فما وجدته!
قالوا لي لقد خرج إلى الحقول، هنالك وجدت الوردة تبسم للنسيم والزنبقة تقبل شعاع الشمس، أما هو فقد طلبته فما وجدته.
قلت في نفسي لعل فريدا يتفيأ ظلال الأشجار التي على ضفة الغدير، فأسرعت إلى هناك وكلي أمل في لقياه وبنفسي حنين إليه كحنين الأخ إلى أخيه، هنالك سمعت هفيف الريح وسمعت خرير المياه، وسمعت هدير الطيور تغني شجنا.
يالله! كأنني أسمع صوتا ظافرا فوق الجبال، قافزا فوق التلال، هابطا إلى الوديان، وإذا بالصوت الذي كنت أسمعه قد اختفى، واستحالت الحركة إلى سكون عميق. فتشت على فريد وقلبي منكسر ونفسي ملآنة حزنا، ولكن واحزناه طلبته فما وجدته!
يا ربي أين ذهب فريد؟ ومن يعرف أين هو؟ وإذا بصوت خافت يرد علي قائلا: أيتها النفس المضطربة ، اسألي الأمل فهو يعرف أين مستقر الحبيب، اسألي السفينة التي تمخر العباب كالسهم، اسألي الجبل الذي يطل بعظمة واستكبار، اسألي الطبيعة القاسية المتسلطة على الأرواح ، اسألي ذلك السهل التعس حيث سقط حبيبك مع إخوته التعساء حيث صعدت روحه الطاهرة ترفرف كالحمامة إلى ربها.
أيتها السفينة القادمة من شواطئ إيطاليا تحملين في جوفك رفات صديقنا المحبوب، أسرعي به إلينا، إلى هنا، إلى وطنه الذي كان يحن إليه، إلى بيت أمه وأبيه، إلى إخوته النائحين عليه. أطفئي أنوارك أيتها السفينة، قفي أيتها السحب، واهدئي أيتها الرياح، واسكني أيتها الطبيعة ورافقي فريدا في سكونه، في نومه، في راحته.
ما لك يا فريد؟! تجفل كلما دنوت منك! ماذا جنيت حتى تقابلني بهذا الجفاء؟! لقد ناديتك حتى بح صوتي فلم لا تبدي جوابا؟ ألا تسمع زفيري؟ ألا تخترق مسمعك الطاهر كلمات جزعي؟ ألا تصل إلى قلبك الناصع نبضات نفسي ...؟ لقد كسرت قلبي يا فريد ببعدك عني، حتى لقد سقط رأسي إلى التراب وتبللت عيني بالدموع، واحترق قلبي بلهب اللوعة.
أين أنت الآن؟ أين يدك الطاهرة لأمسك بها وأدنيها إلى صدري؟ أين وجهك الصبوح الذي يتألق فيه نور القمر؟ أين ثغرك الباسم الذي يشبه وردة دائمة الفرح أبدية الانشراح؟ أين عيناك البراقتان اللتان يتألف منهما نور الحياء الخالص وقوة الشباب؟ أين منطقك العذب الذي يقطر شهدا؟ أين قلبك الناصع كالثلج اللامع كالبلور الصافي كشعاع الشمس؟ أين روحك الطاهرة المشبهة بدعة الملائكة وطهارة أبناء السماء؟ أين ذهب يا فريد كل هذا؟ أهو في جوف الأرض يخبئه عن نواظرنا التراب؟ كلا، ثم كلا، فحاشا للكمال أن يدفن! وحاشا للطهارة أن تقبر! إن مكانك لفي أسمى طبقات السماء وكأنك بين يدي ربك الذي أحبك أكثر منا فأخذك صغيرا ليقربك إليه ويدنيك إلى عرشه، فسلام عليك حيث أنت الآن، وسلام على روحك الجميلة.
إن جسمك الغصن، وعودك الرطب، فهنا يا فريد في هذه البقعة الضيقة، في هذا المكان الموحش، حيث لا يسمع صوت سوى صوت هفيف الريح ممتزجا بترنيمة الحزن والأسى ترددها بعض العصافير التي ترفرف بأجنحتها فوق ضريحك المقدس. هنا حيث لا شريك ولا أنيس ولا حبيب ولا جليس، هنا حيث يسود السكون الدائم فيملأ النفس هيبة وجلالا، ويخيم ظل الموت فتجمد منه العواطف رهبة وخشوعا.
هنا في وسط هذه الأضرحة الصامتة نودع يا فريد رفاتك الطاهرة، نودع وردة الصباح اليانعة، نودع أملا عاليا ونفسا كبيرة.
أملا؟! آه ما أحلى الأمل وما أمره!
فهو زهرة الربيع التي تنعش النفس وتملؤها رحبا، وفي الآخر تذبل ويذهب عنها جمالها.
هو تلك القوة الروحانية التي تبعث في الإنسان روح العزيمة والصبر والمثابرة ثم تتركه في منتصف الطريق.
هو ذلك السراب الذي يغري الإنسان على تحمل مشاق الأسفار بحرا وبرا وتجشم المخاطر بردا وحرا ومواجهة الكارثات والمصاعب، وإذا به عنصر منحل في ذاته لا يروي غليلا.
هو ذلك الجمال الشعري الذي يغمر النفس حينا ثم يتركها تحت رحمة وحدتها وعذابها.
هو ذلك الظل الذي يبتعد دائما عن النور ويهرول مسرعا إلى أم الظلمة. نعم، هو الحياة، بل هو الموت.
ذلك هو الأمل يا إخواني، الذي من أجله ينام فريد نوما هادئا.
أي أخي، البارحة تركتنا حزينا باكيا يخفق قلبك مع منديلك لفراق بلادك ووطنك المحبوب. البارحة كتبت إلي وما أحلى كلماتك وأعذب روحك! إن كل الجمال الذي رأيته في سفرك والمناظر البديعة التي تمتعت بها في طريقك إلى حتفك، كل ذلك لم ينسك فراق إخوانك ولم يخفف آلامك في غربتك، فما هذه الحلاوة يا فريد التي تقطر من فمك العذب؟! وما هذا الحياء الذي يتألق فوق جبينك؟!
أي صحبي، وقوفا أمام هذه الحقيقة المرة، خشوعا أمام هذا المنظر القاسي، وهل من منظر أشد على النفس وأكثر إيلاما للعواطف من ضياع شاب صغير ونافع ومحبوب؟! نعم، صغير، فما ترى غرض الموت من فعلته القاسية؟! ونافع، فما ترى قصد الإله في إصدار هذا الحكم الرهيب؟! ومحبوب، فما عسى أن تكون هذه التصاريف الشديدة؟!
لقد ذهب فريدنا بين من ذهبوا، لقد راح ضحية الأمل العالي فخلف لنا الألم المستديم، ليت تلك الساعة لم تكن التي جاءنا فيها ذلك النبأ المشئوم! وأنت أيها السهل الذي سقط عليك فقيدنا وإخوته الأبرياء، ليذهب عنك الجمال، ولينقطع عنك الظل والمطر، إذ عليك هلك هذا البريء، وفوق بطاحك تناثر جسمه الغض كما تتناثر أوراق الأشجار أمام ريح الخريف القاسية.
إننا نحزن ونبكي ذلك لأننا نحب، أليس تأثر العواطف هو مقياس المحبة؟ أوليس روح ذلك التأثر هي دليل على روح تلك المحبة وجوهرها؟ وهل يسكب دمع إلا لعزيز؟ إذن فلتتمسك المحبة بالحزن وليقبل كل منهما الآخر لئلا يهلك الاثنان معا.
يا قلبي، لقد فقدت شيئا، نعم، فقدت شيئا عزيزا، فقدت سرورا كان لك في سنيك الغابرة، خسارة فادحة لا يعوضها سوى الدموع، ولا يخفف تأثيرها سوى البكاء.
أيها المنزل الذي كان يقطنه فريد، ما لك مكتئبا حالكا؟! لقد تعودت أن أقف أمام بابك نابض القلب مهتز العواطف منتظرا تلك اليد اللطيفة التي لن أعود أمسك بها بعد اليوم. آه! ما أشقاني وما أكبر تعاستي! لقد تركني النوم ورغب النعاس عن عشرتي، وكمجرم أثيم أراني أهرب كل ليلة إلى مخدعي لأحزن على جرمي وأستغفر ربي.
أين ذلك النور الذي كان يتلألأ فيك أيها البيت التعس؟ ما لي لا أرى بك سوى ظلام دامس؟! لقد انطفأ النور، لقد ولى القمر، لقد اشتد الحلك، وخلت الغرفة التي تعودنا بالجلوس فيها معا من السرور والانشراح.
خروجا يا نفس من هذه البقعة المؤلمة، خروجا من هذا المكان المشبع بالشقاء، إلى الشوارع، إلى القرى، إلى الفضا، الفضاء الفسيح حيث كنا نقضي الساعات الطوال فوق الحشائش الخضراء وتحت ظلال الأشجار الباسقة، هذه أيضا مظلمة. غير أنني في نورك الروحاني يا فريد رأيت بين الزهور وردة ناصعة البياض تلمع في وسط الحلك، فاقتربت منها واقتطفتها من عودها، ووضعتها فوق صدري وأدنيتها من مصدر حياتي لتمتص الحياة من قلبي ومن روحي.
ها هي يا فريد، لقد جئت بها إليك لأضعها فوق ضريحك، فإذا ما استطاعت النمو نمت وأزهرت، وإذا ما ذبلت فما أسعدها! لأنها فوق رأسك تذبل وبالقرب منك تموت.
الحمامة تطير في الفضاء، تغني وتفرح لتبلغ السماء خيرا وتملأ الفضاء سرورا، كذلك روحي إنها لتحلق كل ليلة في الفضاء إلى العالم غير المنظور، تاركة وراءها هذا الغشاء المحتقر الفاني هذا الجسم الترابي على قنة الجبال فوق متن البحار على أجنحة الرياح إلى السحابة، هنالك تناجيك نفسي وفي النهاية تعود روحي من حيث أتت مهرولة بسرعة إلى غشائها المحتقر، فتجده هادئا هدوء جسمك الآن منتظرا عودتها إليه.
أي فريد، لقد سرنا في الحياة معا أياما وشهورا وسنين في حالة طبيعية لا يتخللها سوى الأخذ والرد الهادئين، ولكم تماسكت أيدينا! غير أننا ما كنا نشعر بروح هذا التماسك، ولكم تناقشنا في أبحاث كثيرة! غير أننا ما كنا لنرى في خلال ذلك الجدل وتلك المناقشة ما يستلفت النظر إلى وجود ذلك السر الكامن في كل لفظ من الألفاظ ورأي من الآراء وحجة من الحجج، لقد تعاملنا طويلا غير أننا ما كنا لنرى في خلال هذا التعامل ونحن في أوقاتنا الساكنة الهادئة شيئا مما هو وراء المادة.
كنا نلهو ونلعب متوجة أعمالنا بسرور وانشراح، وإذا بالموت رابط في طريقنا يترصد مجيئنا ظل الموت الرهيب الذي تخافه كل الخلائق، لقد قطع بسيفه الصارم حبل الحياة الذي كان يربطنا، وحملك يا فريد بعيدا عني حيث لا أستطيع أن أراك أو أن أتبع سبيلك، غير أنني لاحق بك يوما ما لأن ظل الموت ينتظرني في الظلام كما كان ينتظر روحك الطاهرة. •••
أفريد، على قبرك سطع القمر، بالليل سطع نوره الفضي على ضريحك، وإذا بشعاعه المصافي يتألق فوق صورتك الجميلة، ويقبل فمك العذب، ويحل بين ذراعيك الطاهرتين. وبينا أنا يا فريد في مضجعي مرتبك الفكر قلق الفؤاد مجروح الحشا، إذا بنور القمر هذا يطل من شباك غرفتي حتى تحقق من وجودي، وعرف أنني وحيد منفرد فطرح بين يدي رسالة منك، رسالة صديق إلى صديقه، رسالة طاهرة من محب سام إلى شقي بائس مكتوبة بحروف من نور على ورق فضي، ففضضتها بلهف وكدت ألتهم كلماتها التهاما، قرأتها مثنى وثلاث ورباع، قرأتها والدموع ملء محاجري والحزن قابض على قلبي، قرأتها وسأقرؤها إلى أن نتراسل، الأرواح مع الأرواح، وينطفئ نور هذا القمر المنظور وتصير الملائكة النورانية هي الرسل بيني وبينك، بل إلى أن لا تكون في حاجة إلى التراسل بشعاع القمر. •••
يا إخواني، أنا لا ألوم الموت لأنه حمل الفضيلة من الأرض واختطف الطهارة من بيننا، فللفضيلة والطهارة مناقب دائما خضراء وقد ترك فريد كثيرا من فضائله وطهارته. إنني لا ألوم الموت لأنه فرق بيننا وبين من نحب فلن نعود بعد اليوم أن نتحدث مع شخصه المنظور. نعم، لا يمكن أن نراه، ولكن من يستطيع أن يمنع مناجاة الروح للروح وهما يعيشان في فضاء لا بعد فيه؟ فتعالي أيتها الروح المنبسطة في الفضاء، اقتربي مني واقرعي باب قلبي وادخلي إلى نفسي لعلك تشعرين بالحنين الذي يعجز اللفظ عن تعبيره لأنه حنين السماء إلى السماء.
آه! ما أطهر القلب وأنقى العواطف التي تتمتع ساعة واحدة بمناجاة محب فارق الحياة، حين تنتقل النفس إلى عالم الخيال، إلى العالم الأعلى، إلى حيث الطهارة والصفاء!
إخواني، إن فريدنا لم يمت، فهو حي في قلبي وقلب كل واحد من إخوانه. نعم، هو حي في نفوسهم بما كان له من التأثير الهادئ والخلق الحسن، وهل يموت من كان حيا في القلوب؟ كلا، لن يموت.
فهو إذن حي، وسيحيا فينا إلى أن ننتقل إليه، وهنالك نحيا جميعا تحت أجنحة إله واحد، هو إله الحب الذي يجمع الأحباب بعد شتاتهم.
نعم، إن فريدنا سيحيا، فإن الذكرى أشبه شيء بالورد تغيب حينا، حتى إذا ذهب الشتاء ببرده القارس ومر الخريف بزمهريره وجاءت أوقات الربيع الصافية حينئذ تزهر الوردة من جديد ويفوح عبيرها العاطر، فذكرى صديقنا الراحل ستبقى دائما أبدا زاهرة زاهية دون أن يعتريها أي ذبول.
أي صديقي البعيد عني كثيرا على قرب ضريحك مني، إنني لن أراك بعد اليوم، فقط أراك يا فريد في خيالي، أراك في الحقول تداعب الورد في أكمامه، أراك في جوف الليل بين النجوم والكواكب، أراك مع رؤية القمر وأسمع صوتك مع تغريد العصفور، أراك بين الأحباب تلاعبهم وتداعبهم بدعة الملائكة وطهارة سكان السماء.
أيها الشهيد الكريم، عليك سلام الله وأنت في مضجعك الهادئ.
والآن وقد واريناك لرمسك وأودعناك لحدك فأمام ضريحك نقف بخشوع وهيبة برءوس منكسة وقلوب منكسرة كليمة. نعم، نضع فوقك بعض الزهور ولكن سرعان يا فريد ما تذبل هذه الزهور ويذهب عنها رونقها وجمالها كما ذبلت حياتك الغضة وتوارى شبابك اليانع.
أي صديقي الراحل، لو أن رأسي ماء وعيني ينبوع دموع إذن لبكيتك نهاري وليلي وليس من يلومني فلم يجمد دمعي قط على حبيب، سوف يذهب الحزن والأسى ولكن المحبة باقية ومعها وبها يستمر هذا الخيال الباقي لي.
الشباب يذهب قبل أوانه والهلال ينزوي قبل إبداره، وما ذلك إلا ليكمل في ظل الإله العظيم.
ذلك الإله الواحد الذي يقيم في النور وإليه تتجه كل الخليقة.
فكن في انتظارنا يا فريد ونحن متجهون إليك، كن في انتظارنا أيها الشقيق المحبوب، كن في انتظارنا أيها الراحل الكريم، كن في انتظارنا أيها الخل الوفي.
والآن، الوداع الوداع يا من ملكت الأفئدة، وقد سدت سويداء الضمائر، الوداع أيها الشهم الصادق والصديق الحميم، الوداع الوداع إلى أن نلتقي. (11) ترجمة المرحوم رزق يعقوب (11-1) مولده
ولد الشاب الذكي شهيد الهمة المرحوم رزق يعقوب بمدينة دمياط في شهر أغسطس سنة 1896 ميلادية من أبوين كريمين، وكان والده موظفا بها، وكان شديد العناية بتربية أولاده وتهذيبهم. وما كاد الفقيد يبلغ الخامسة من عمره حتى أدخله مدرسة الأقباط فتلقى بها مبادئ القراءة والكتابة، ثم نقل والده إلى بور سعيد وهناك ابتدأ دور دراسة الفقيد.
المرحوم رزق أفندي يعقوب من دمياط. (11-2) دراسته
دخل الفقيد مدرسة الأقباط ببور سعيد ومكث بها عامين، ثم عاد والده فنقل إلى دمياط، وراقه أن يلحق الفقيد بمدرستها الأميرية ثم مدرسة أسوان فمدرسة عابدين الأميرية بالقاهرة حيث نال منها الشهادة الابتدائية. ولم تمنعه كثرة التنقل من مدرسة لأخرى من النشاط والتقدم فكان أول فرقته طول مدة دراسته.
انتهت دراسته الابتدائية فأدخله والده مدرسة رأس التين الثانوية، لأن مدارس القاهرة كانت قد غصت بالطلاب، فجد واجتهد مثابرا على الدرس ليل نهار لا يعرف للعب طريقا، فأمضى الأربع سنوات بلا توان ولا تأخير حتى البكالوريا، ولكن المرض حال دون مرامه في السنة الأخيرة فعاقه عن الامتحان، فانتقل إلى المدرسة الخديوية وأمضى بها السنة الأخيرة وحاز منها شهادة البكالوريا في القسم العلمي عام 1917.
وبعد نجاحه وجه نظره لدراسة الطب إلا أن ترتيبه لم يساعده فالتحق بمدرسة الطب البيطري فأمضى بها السنة الأولى والثانية، وبعدها قامت نهضتنا الأخيرة فكان جنديا باسلا وفي مقدمة الصفوف، بل وطنيا غيورا دفعه حب بلاده لأن يضحي بعلومه مقدما الواجب المقدس على العلم، فجاهد جهاد الأبطال في ميادين القتال، قدم نفسه للخدمة فكان خير من اؤتمن عليها، ولم يفتر عن هذا الواجب دقيقة واحدة، وتحول كل همه أن يرى مصر نالت استقلالها.
ولما فتحت أبواب السفر إلى أوروبا طلب من والده السفر مع إخوانه، مقنعا إياه بالفائدة العظمى التي يجنيها ليجمع بين طب الحيوان والإنسان حاثا إخوانه على الاقتداء به، وصوب أمله إلى تلقن الطب البشري ليخدم بلاده خدمة حقيقية بل الإنسانية جمعاء. إلا أن القدر كان يجري وراءه ويخبئ له ما لم يكن في الحسبان، فلاقى منيته وهو على أبواب الجهاد فاستشهد بأودين وفاضت روحه الزكية إلى بارئ النسمات، وغمض الموت أجفانه وأسكت صوته وأوقف قلبه الخفاق إلى العلا والأمل الواسع والحياة المنشودة قبل أن يخطو فيها خطوات واسعة، وقضى كما تقضي الوردة داخل الكمام قبل أن ترى ضوء النهار وحرارة الشمس بل ذوى هلالا في أيامه الأولى.
كان - رحمه الله - طيب القلب، شابا مملوءا صحة ونشاطا، وغيورا، محبا لإخوانه، كريم الأخلاق، متفانيا في حب بلاده، عالي الشعور رقيق الإحساس يتألم لمصائب الغير. وكفى أن نذكر له تلك الحادثة التي رفعته في نظر إخوانه إلى السماك الأعلى، ففي يوم حضور قرياقص أفندي ميخائيل قبض على أخيه متري أفندي وشاب آخر في القاهرة يدعى أحمد أفندي صبري، فحكمت المحكمة العسكرية بحبسه شهرا أو بغرامة عشرة جنيهات، فأبت عليه نفسه أن يرى أخاه حرا طليقا وذاك سجينا متألما لخلو يده من المال، فقام بين إخوانه حاثا إياهم على التبرع وقد توج الاكتتاب بكل ما يملك ومر على دور الحكومة جامعا من أولي الإحسان ما تجود به أنفسهم، وفي أيام قلائل جمع المال اللازم وأخرج الشاب من السجن، وكان لم يكن له به أدنى معرفة سوى أنه وطني مثله.
فيحزننا أيها الصديق المحبوب والراحل الكريم أن نذكرك اليوم باكين متأسفين، وإننا بفقدك فقدنا قمرا كنا نود أن نستعين به على عبور هذه الأيام المظلمة ودرعا ندافع بها إذا حلت المصائب. وليكن في موتك أيها الصديق مثالا حيا على الجهاد والعمل وقوة العزيمة والدأب وراء إعلاء شأن هذه الأمة الأسيفة، التي كتب عليها سوء الطالع أن ترى في كل يوم من معاكسة الدهر حادثا جديدا.
فإذا حق لنا البكاء فإننا نبكي منك النجابة والفتوة، نبكي فيك ذلك الإقدام الذي صوبك نحو طلب العلم وبلوغ الكمال، ونندب فيك كد نفسك وطموحها إلى المجد الأدبي غير مبال بما قد يعرض لك، ونبكي فيك الأخلاق والشعور الحي والفضيلة وكرم الأخلاق.
مات رزق وكان يود أن يعيش ليرى ثمرة أتعابه، كان يود أن يعيش ليخدم أمته وبلاده، كان يود أن يعيش حتى يرى أعلام الحرية ترفرف على هذه الدار، كان يود أن يعيش ليكون إنسانا عاملا في الحياة، ولكن شاء القدر أن يموت رزق فلا مرد لقضائه.
سلام عليكم أيها الشهداء الأبطال.
سلام عليكم من أمة ثكلتكم قبل أن تجني من ثماركم، وفقدتكم في ساعة محنتها ... أسكنكم الله فسيح جناته وأسبغ عليكم واسع رحمته، وبعث في قلوب أهلكم وإخوانكم الصبر والعزاء، وألهم الأمة جميعها الثبات والسلوى على هذا المصاب، إنه سميع مجيب. (12) ترجمة المرحوم عبد الحليم حلمي (12-1) مولده
ولد فقيد النشاط والجهاد العلمي الشهيد المرحوم عبد الحليم أفندي حلمي بقرية قطاوية من أعمال أبو حماد شرقية سنة 1898 ميلادية. وهو نجل حضرة الوجيه الحاج محمود حلمي من أعيان قطاوية ومن وجوه مديرية الشرقية ومن الرجال الذين يحبذون كثرة الإنفاق على أبنائهم وتربيتهم تربية عصرية صحيحة ويفضلون أن يورثوا أبناءهم علما وأدبا، وله نجل غير الفقيد بألمانيا هو الدكتور علي علوي أفندي من أذكياء الشبان المصريين ومن نجباء أبناء مصر في أوروبا الذين يتسابقون في طلب العلم ليكونوا أمثلة عالية لأبناء وطنهم وليرفعوا قدر الوطن وقدر الأمة المصرية بين الأوطان والأمم. (12-2) دراسة الفقيد
التحق الفقيد بمدرسة محمد علي الابتدائية بالقاهرة بعد إلمامه بمبادئ الكتابة والقراءة في قريته وأتم بها دروسه الأولية، وعندما حصل على شهادة الدراسة الابتدائية سافر إلى الإسكندرية وانتظم في سلك طلبة المدرسة العباسية ولبث بها عامين، ثم رأى أن يدخل مدرسة طنطا الثانوية ويتمم دراسته بها فسمح له والده بذلك لأنه كان يثق بذكائه ونشاطه تمام الثقة، فترك له حق تخير المدرسة التي يراها ملائمة له.
وقد أفرغ الفقيد جهده وحصل على الشهادة الثانوية ثم راقه أن يلتحق بمدرسة الطب لأنه كان في المئة الأولى من حائزي شهادة البكالوريا، وقد مكث بهذه المدرسة عاما كاملا متمشيا مع ميوله ومحبته للبحث والدرس.
المرحوم عبد الحليم أفندي حلمي من قطاوية من أعمال أبو حماد شرقية.
ولما رأى قوافل الطلبة تشد الرحال إلى مهد العلوم الحديثة والاكتشافات الطبية بألمانيا، سأل والده أن يأذن له بالسفر ليكون مع شقيقه هناك فوافقه الوالد على رغبته وسافر مع إخوانه الطلبة المرتحلين، وهناك على الحدود الإيطالية النمسوية لقي حتفه في حادثة القطار وكان عمره اثنتين وعشرين سنة فحمل إلى مصر وطنه العزيز، وبعد تشييع جنازته في الإسكندرية نقل إلى قريته حيث دفن بها باحتفال لم يسبق له مثيل، وقد توافد العمد وكبار الموظفين والأعيان لتعزية والده، وزاره مندوب من الوفد المصري ومندوب من الحزب الوطني لتعزيته في ذلك المصاب الفادح.
فرحم الله الفقيد رحمة واسعة وألهم عائلته الصبر والسلوان.
وقد رثاه ضمن إخوانه الشهداء صديقهم الحميم حضرة الكاتب الأديب هارون أفندي مصطفى ، طالب طب بجامعة برمنجهام بإنجلترا، بهذه الكلمة المؤثرة:
إلى أصدقائي الراحلين
عبد الحليم أفندي حلمي، وعلي أفندي حسن بكري، وشفيق أفندي سعيد ... أي إخواني:
عاجلتكم المنون وأنتم في ريعان الشباب فذوى غصنكم وذهبت نضارة حياتكم فكنتم كالهلال.
عجل الخسوف عليه قبل أوانه
فمحاه قبل مظنة الإبدار
لقد مضينا شطرا عظيما من حياتنا المدرسية سويا فكنتم مثال الجد والعمل، ولقد ألف الله بين قلوبنا فأصبحتم مثال الإخلاص والوفاء لصديقكم الذي خلفتموه للحزن والأسى.
تركتكم في مصر على أن تلحقوني لتتميم دراستكم ولكن أراد الله غير ذلك، فداهمتكم المنون وكان أمر الله مقضيا.
لطالما تمنيت أن أراكم في غربتكم مجاهدين للحصول على أمانيكم بعزيمة ماضية وبجدكم المعهود، ولطالما تمنيت أن أراكم وأنتم مثال ذكاء الشرق في هذه البلاد النائية.
ولطالما تمنيت أن أراكم بدورا ساطعة في سماء وادي النيل لترفعوا من شأن بلادنا العزيزة، ولكن:
الموت نقاد على كفه
جواهر يختار منها الجياد
فكان لخبر استشهادكم وقع عظيم على فؤادي الحزين. وإني لأسلو بنفسي في ديار غربتي بين كل آونة فيعيد التاريخ على الذاكرة أنباء الماضي فأحني رأسي إجلالا لتلكم الأرواح الطاهرة التي تحوم حولي لتسمع أنات قلبي الحزين.
فسلام عليكم يا رفاق الصبا ممن يتمنى أن لو كان لكم الفدى.
سلام عليكم من مخلص يسأل الله أن يجمعه بكم في جنات النعيم.
بعد وقوع الفاجعة
أسهبنا في كيفية وقوع الفاجعة الأليمة في مقدمة الكتاب. ونأتي هنا على ما حدث بعد وقوعها، فقد تابع من سلم من الطلبة طريقه إلى عاصمة الألمان إلا القليل منهم تخلفوا للعناية بأمر المنكوبين، ولما وصل الخبر إلى مسامع الطلبة المصريين في ألمانيا والنمسا وإيطاليا انتدبوا جماعة منهم للقيام بما يدعوهم إليه الواجب الوطني المقدس نحو مواطنيهم، وحملت الجثث إلى أودين وحمل إلى مستشفاها الجرحى وعددهم تسعة، وهم حضرات الأفندية محمود محمد التونسي وتقرر له علاج أربعين يوما، وأحمد نبيه عشرين يوما، وحسن إبراهيم خمسة وعشرين يوما، وعبد الرازق عنايات ثلاثين يوما، ونصر حسن ستين يوما، وحامد عبد الرحمن يوسف عشرة أيام، ومحمد توفيق عثمان عشرين يوما، وعبد الحميد حامد ثابت عشرين يوما، وعاصم محمد صقر عشرين يوما. وكان حضرة صاحب العزة عبد الحميد بك سعيد قد خف إلى مكان الحادث وبذل جهده في خدمة أبناء وطنه وأبدى همة تذكر له بالشكر والثناء الجميل.
وقد أثر هذا الحادث في أمة الفنون الجميلة، الأمة الطليانية أمة العواطف وصديقة مصر، تأثيرا لا أبالغ إذا قلت إنه لا يقل عن تأثيره في المصريين أنفسهم، وقد أفاضت صحفهم في وصفه وفي تعزية الأمة المصرية في أبنائها الأعزاء.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل كانت السيدات والأوانس الإيطاليات يبكين الشهداء كأنهم إخوانهن وأبناؤهن، وكانت تدفعهن عواطفهن الشريفة ومشاعرهن الجميلة فيجملن الأزاهر الغضة وأنواع الحلوى والتحف النفيسة ويفدن على المستشفى فيواسين الجرحى ويقمن مقام الأمهات في تخفيف آلامهم، فلله ما أرق هذا الشعور وما أسمى هذه العواطف!
ولقد أجريت عملية التحنيط للجثث وأبقيت في مكان خاص بها لتحمل إلى وطنها مصر فترقد في مضاجعها التي تطمئن فيها جنوبها وترتاح إليها أجسادها.
عناية الوفد المصري بالشهداء
رأى حضرات الأماثل أعضاء الوفد في باريس أن المصاب مصاب الأمة بأسرها، فقررت أن تنقل الشهداء على نفقتها إلى مصر، وأوفدت صاحب العزة عبد اللطيف بك المكباتي خصيصا إلى إيطاليا، وبادر صاحب المعالي رئيس الوفد سعد باشا زغلول فأرسل تلغرافات التعزية إلى الأمة فكان لها وقع جميل وكان لعمل الوفد استحسان عام، وأرسل صاحب المعالي سعد باشا هذا التلغراف لسعادة محمود سليمان باشا رئيس اللجنة المركزية للوفد المصري يعزي به الأمة:
إن الحادثة الفاجعة التي وقعت في محطة مونتبا من أعمال إيطاليا تلك الحادثة التي توفي فيها اثنا عشر من أبنائنا الأعزاء قد آلمت أفئدتنا وأحزنت نفوسنا، فنرجو أن تقدموا تعازينا لأسراتهم ولجميع مواطنينا، وتعربوا عن آلامنا ومشاركتنا للجميع في الحزن على هذا المصاب، فإن فقدان هؤلاء الشبان الذين كانوا مسافرين لإتمام دراستهم ليكونوا أنفع لوطنهم وأمتهم يعد خسارة كبرى للبلاد
سعد زغلول
وأرسل سعادة الشيخ الوقور محمود باشا سليمان رئيس لجنة الوفد المركزية إلى أسر شهدائنا الخطاب الآتي نصه:
مصاب مصر باستشهاد اثني عشر نجيبا من صفوة شبابها عظيم، ولكن أعظم منه ثواب الصبر وما أحرزوا للوطن بموتتهم تلك من الفخر. لقد اغترب هؤلاء الشهداء في تحصيل العلم على أن يرجعوا بعد ذلك إلى مصر مفخرة لها شاملة وقرة لها عاملة، فإذا كان القدر قد أعجلهم عن الحياة التي تمنتها لهم بلادهم فقد ماتوا موتة سجلت لهم ذكرا عاليا ولها فخرا باقيا.
حضرة صاحب المعالي سعد زغلول باشا رئيس الوفد المصري.
وإن القائمين بالدفاع في القضية الكبرى لأوفى إخوانهم نصيبا من الحزن على أولئك الأعزاء الذين كانوا يرون فيهم مددا لهم وذخرا لوطنهم. فتقبلوا تعزيتنا عن نجلكم المرحوم وعن إخوانه الشهداء جميعا، والله المسئول أن يعوض البلاد منهم خيرا ويفرغ على القلوب المحزونة صبرا، وأن يتغمدهم برحمته ورضوانه.
الإمضاء
محمود سليمان
وقد ذكرنا برقيات أسر الشهداء التي بعثوا بها إلى سعادته في تراجم مستشهديهم.
ولم يكتف معالي الرئيس بذلك فقد أرسل تلغرافا يوم أول أبريل إلى اللجنة المركزية بالقاهرة يقول فيه:
ولقد خابرنا سفير إيطاليا في باريس في مسألة حادثة التصادم فوعدنا أن يعنى بالمصابين عناية خاصة. وقد أرسل لنا مكباتي بك أسماء الموتى، وعدد الجرحى 9 وحالتهم حسنة. ونحن مشتغلون بأمر نقل الجثث إلى مصر على نفقات الوفد وسنحيطكم علما بما يتم.
وقد اجتمع المكباتي بك وعبد الحميد سعيد بك ومن معهم من المصريين وحصلوا على التصريح لهم بنقل الجثث، وقدم لهم محافظ أودين ورجال الحكومة الإيطالية غاية ما يمكن من المساعدات والتسهيلات التي يسرت عليهم مهمتهم العظيمة. (1) الاحتفال بنقل الشهداء
كان يوم 15 أبريل مشهودا في أودين، فقد اجتمع كل سكانها وطلبتها لتشييع جنازة الشهداء، وحملوا أكاليل الزهر فجللوا بها التوابيت، وعقدوا موكبا رهيبا كان يتقدمه القومنداتوري جيوزب ماري محافظ أودين والدكتور ألسندرو باجاردي الضابط الطبي التابع للحكومة وغيرهما من الصحفيين الإيطاليين ومن أعيان أودين. وسار الأهالي والموظفون والطلبة يحملون أعلامهم، وكان بينهم كثير من فضليات السيدات، وكانت النعوش محمولة على أكتاف الطلبة المصريين والأعيان من أهل الشهداء الذين سافروا إلى إيطاليا. ومشى الموكب على هذا النظام حتى وصل محطة السكة الحديدية، وهناك فاضت العواطف فتبادلها الطلبة المصريون والإيطاليون. ووقف أحد كبار المصريين فألقى خطابا نفيسا مؤثرا شكر فيه الأمة الإيطالية وحكومتها على ما أظهرتا من العطف نحو المصريين، فقوبل خطابه بهتاف عظيم لإيطاليا ومصر. وسار القطار يحمل الشهداء إلى برندزي فوصلها يوم 16 أبريل، ووضعت الجثث هناك حتى جاءت الباخرة حلوان فحملتها يوم الجمعة 23 منه إلى مصر وهى منكسة العلم حدادا عليهم. (2) الأمة أثناء ذلك
لقد كان حزن الأمة على أشد ما يكون، وقد لبس الطلبة شارات الحداد وأوقفت المدارس الدراسة بضع دقائق حدادا عليهم، وأقامت حفلات التأبين في جميع أنحاء القطر ورفعت الأعلام منكسة، وأرسل الطلبة المصريون تلغرافات التعزية للأمة، ومن ذلك ما جاء من الطلبة المصريين بمنشستر:
نشعر من أعماق قلوبنا بخسارة فقد إخواننا الطلبة في حادثة السكة الحديدية بإيطاليا، ونشاطر الأمة حزنها، ونقدم عزاءنا القلبي إلى أهل المتوفين.
وأرسل النادي المصري بلندن ما يأتي:
لندن في 29 أبريل
يعرب النادي المصري بلندن عن حزنه الشديد على الإخوان الاثني عشر الذين قتلوا في سبيل العلم والوطن، يقدم عزاء خالصا إلى أسراتهم.
النادي المصري بلندن
وأرسلت الجمعية المصرية بباريس مثل ذلك. وبالجملة فقد كان حزن المصريين في بلادهم وفي الخارج بالغا حده. (3) لجنة الاحتفال بالإسكندرية
تألفت لجنة بالإسكندرية من حضرات أصحاب السعادة والعزة أحمد يحيى باشا رئيسا، ومحمود باشا الديب وكيلا، وعبد الله باشا الغرياني، ومحمد بك فهمي الناضوري، وعبد العزيز بك الحديني، ومحمد بك الكلزه، والسيد بك مرسي، ومصطفى بك الخادم، ورمضان بك يوسف، وإبراهيم بك سيد أحمد، والدكتور أحمد عبد السلام، وسليمان أفندي أنطون، وعبد الحليم أفندي جميعي، وأحمد بك زكي، والدكتور ظيفل بك حسن، وفهمي بك غانم، وسعيد بك طليمات، وصادق أفندي أبو هيف أعضاء، برعاية صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون باشا، وقررت إعداد الاحتفال بتشييع جنازة الشهداء على الترتيب الذي يجيء في وصف الجنازة.
وصول الباخرة إلى الإسكندرية
وصلت الباخرة حلوان التي تقل جثث الشهداء إلى ميناء الإسكندرية عند الساعة السادسة من صبيحة يوم الثلاثاء 27 أبريل ، ورست الساعة السابعة والدقيقة 50، فأنزلت منها الجثث ووضعت في مسجد الشيالين بالجمرك، وكان موجودا في ذلك الوقت أعضاء لجنة الوفد المركزية يتقدمهم أصحاب السعادة والعزة إبراهيم باشا سعيد وعبد الخالق باشا مدكور وفتح الله باشا بركات وواصف بك غالي وعبد الستار بك الباسل وعلي بك حفني محمود ونجيب بك الغرابلي وأمين بك إسماعيل ومحمود بك عبد النبي وحسنين بك عبد الغفار وعلوي بك الجزار، وأعضاء لجنة الاحتفال بالإسكندرية، يتقدمهم أحمد يحيى باشا ومحمود الديب باشا وعبد الله الغرياني باشا ومصطفى الخادم بك، ثم كتب على كل تابوت اسم صاحبه ولف بالعلم المصري.
وقد كانت لجنة الوفد قد انتدبت اثني عشر عضوا برئاسة صاحب السعادة الشيخ الوقور إبراهيم باشا سعيد للاشتراك في تشييع الجنازة، وانتدب الأب بولص غبريال عن رجال الدين، وانتدبت اللجنة الإدارية للحزب الوطني صاحب العزة عبد اللطيف بك الصوفاني، وانتدب حضرة الكاتب الفاضل السيد أفندي علي صاحب جريدة النظام لتمثيل الصحافة، وانتدب معالي وزير المعارف حضرات أصحاب العزة علي بك حافظ ناظر المدرسة العباسية، ومحمد بك السيد ناظر مدرسة رأس التين، وهدايت بك ناظر مدرسة محرم بك، وعلي بك الكيلاني مفتش التعليم الأولي؛ ليمثلوا الوزارة، وأرسلت كل مديرية وكل مدرسة من يمثلها في الاحتفال، وكذلك فعلت النقابات، واحتجبت صحف الإسكندرية يومئذ على اختلافها، وأغلقت البنوك والمحلات التجارية الكبرى وجميع حوانيت المدينة، ورفعت الأعلام منكسة موسومة بشارة الحداد لا فرق في ذلك بين وطني وأجنبي، فقد أظهر إخواننا الأجانب منتهى ما يكون من المودة والحب للمصريين باشتراكهم في الموكب وفي الحزن العام الذي كان يبدأ في كل ناحية من نواحي مدينة الإسكندرية.
وقررت مصلحة المواني انتداب 100 من حراسها للاشتراك في الاحتفال، وأرسلت مصلحة خفر السواحل 100 من رجالها ليتناوبوا جميعا حمل النعوش، وقد سعى ألوف من الأهالي للحصول على مقاعد، وهذه أول مرة أجر الإسكندريون شرفات منازلهم للمشاهدين.
نائب عظمة السلطان في الإسكندرية
وقد أناب حضرة صاحب العظمة مولانا السلطان فؤاد الأول عنه حضرة صاحب السعادة الجليل حسن عبد الرازق باشا محافظ الإسكندرية ليسير في تشييع الجنازة، فاهتم كثيرا في تنسيق النظام بما يذكر لسعادته بمداد الشكر والثناء، وقد نفذ رغائب صاحب العظمة السلطان أدام الله ملكه.
تلغراف نائب الملك
وفي صباح هذا اليوم ورد تلغراف من فخامة اللورد اللنبي على صاحب السمو الأمير عمر طوسون، يقول فيه:
حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون
بمناسبة تشييع جنائز الشبان المصريين الذين قضوا نحبهم في مصاب «بنتبا» أقدم خالص شعوري، وقد انتدبت الضابط القائد بالإسكندرية لينوب عني في حفلة الجنازة.
الموكب الرهيب بالإسكندرية
ما وافت الساعة الثالثة ونصف حتى تحرك الموكب الرهيب، وكان البوليس يحافظ على النظام في الطرق التي يمر بها الموكب، وكان الزحام شديدا جدا.
وسار الموكب على النظام الآتي بين نغمات الموسيقى المحزنة وبين الأعلام المرفوعة والشارات المحمولة الموسومة بشارات الحداد مبتدئا بموسيقى البوليس - فموسيقى الأمير عمر طوسون - فموسيقى الكشافة - ففرق الكشافة - فنعشا الشهيدين رزق يعقوب وفريد فتحي رزق الله يتقدمهما الشمامسة ورجال الإكليروس الموقرون - فنعوش بقية الشهداء - فطلبة المدارس والمعاهد الدينية على اختلافها - والعلماء الأعلام - فالرؤساء الروحيون - فحضرة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون باشا، وحضرة صاحب السعادة حسن باشا عبد الرازق محافظ الإسكندرية نائبا عن عظمة السلطان، وجناب قائد القوات البريطانية في الإسكندرية نائبا عن فخامة نائب الملك - فرئيس وأعضاء لجنة الاحتفال - وأعضاء لجنة الوفد المركزية بالقاهرة - وأعضاء بلدية الإسكندرية ورؤساء المصالح - فرجال القضاء - فرجال المحاماة - فالأطباء - فالمهندسون - فالصحفيون - فالجاليات الأجنبية - فالمحافل الماسونية - فوفود البلاد - فأعيان الإسكندرية - فالتجار - فنظار المدارس ومعلموها - فموظفو المصالح - فرؤساء وأعضاء مجالس إدارات الجمعيات الخيرية - فالنقابات على اختلافها، وبقية المشيعين. وظل الموكب سائرا على هذا الترتيب مخترقا باب الكراسة - فشارع السكة الجديدة - فشارع سوق الكانتو - فشارع فرنسا - فميدان محمد علي - فشارع شريف باشا - فشارع محطة مصر، ثم محطة مصر، وهناك وضعت التوابيت في القطار، وألقى سعادة المحافظ الجملة الآتية بصفته نائبا عن عظمة السلطان موجها بها إلى صاحب السمو الأمير عمر طوسون:
يا سمو الأمير، إني بالنيابة عن عظمة السلطان الذي أنابني عنه للاشتراك في تشييع الجنازات أبلغكم عظيم أحزاني، وأقدم التعزية بالنسبة لهذه الكارثة الكبرى. ونرجو الله أن يعوض الأمة خيرا، إنه سميع مجيب.
فأجاب سمو الأمير:
يا سعادة المحافظ، أرجو أن تبلغ تشكراتي لعظمة السلطان. وإني أرجو الله أن يجعل هذا المصاب آخر أحزان الأمة المصرية، وأن يجعل أيامها المقبلة أيام سرور، وأن يبلغها ما تتمناه في القريب العاجل إن شاء الله.
وبعد ذلك قصد أعضاء اللجنة المركزية للوفد المنتدبين لتشييع الجنازة بالإسكندرية إلى سراي صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون باشا، وصاحب السعادة أحمد يحيى باشا يشكر لجنة الإسكندرية على عنايتها بأمر الاحتفال.
وأرسل سعادة محافظ الإسكندرية للمجلس البلدي ومصالح الحكومة الرئيسية شكره على اشتراكها في جنازة شهداء العلم وسير رؤسائها في ذلك الموكب العظيم وطلب إلى الصحف نشر ما يلي:
محافظ الإسكندرية يشكر الجاليات الأجنبية في الثغر على ما أبدته من جميل العطف على الأمة المصرية في المصاب الذي نزل بها في اثني عشر طالبا من زهرة شبيبتها، كما يشكر لفرق الكشافة وطلبة المدارس وطلبة المعاهد والطوائف المختلفة ما أخذته على نفسها من حفظ النظام والترتيب في موكب الجنازة.
ومما يستحق الذكر الإعجاب من مميزات هذا الاحتفال، فإنه مع شدة الازدحام ومع اشتراك نحو المئتين وخمسين ألفا فيه فإنه لم يحدث حادث مكدر وانصرفت الجماهير في سكون، مع أن مثل هذا الازدحام لا يخلو من الحوادث. وأرسل الحزب الوطني الوفود إلى بلدان الشهداء لتعزية عائلاتهم، فأوفد إلى دمياط بعض الأفاضل برئاسة الأستاذ محمد أفندي حسين العرارجي المحامي، وإلى طنطا وفدا برئاسة فضيلة الشيخ علي عبد العليم أحد علماء المعهد السكندري، وإلى دمنهور حضرتي السيد علي المغازي العضو بمجلس مديرية البحيرة، وأحمد أفندي الصوفاني، وإلى نوسا الغيط بمركز أجا وفدا برئاسة حضرة الأستاذ الشيخ عبد السلام العسكري أحد علماء معهد الإسكندرية.
قطار الشهداء
وقف قطار الشهداء بدمنهور حيث أنزلت جثة الشهيد محمد إبراهيم زويل، وأنزلت جثة المرحومين إبراهيم أفندي العبد ورمضان أفندي هدايت في طنطا، وأنزلت جثتا عبد الوهاب أفندي أحمد سبع ومحمود أفندي عبد الرحمن سليم بها ليحملها إلى المنصورة، وأنزلت جثة المرحوم شفيق أفندي سعيد ببنها، وتابع القطار سيره إلى القاهرة حيث وصلها بعد منتصف ليلة الأربعاء 28 أبريل، وأنزلت الجثث منه استعدادا لاحتفال القاهرة العظيم. (4) اليوم المشهود
احتفال العاصمة بجنازة الشهداء
لم تشهد العاصمة المصرية يوما أشد روعة وجلالا من يوم الأربعاء 29 أبريل سنة 1920، فما كاد ينتصف النهار حتى أغلقت المتاجر والحوانيت والبنوك ورفعت الأعلام منكسة على الدور، وهرع سكان العاصمة إلى باب الحديد لتشييع جنازة الأربعة الشهداء، وخرجت فرق الكشافة وتلاميذ المدارس وطلابها وأعضاء النقابات والجمعيات ميممة مكان الاحتفال، وكانت لجنة الوفد المركزية قد أعدت رسما كروكيا متقنا بينت فيه موضع انتظار كل جماعة في فناء المحطة لجلوس العظماء وكبار المشيعين، وقد صف مائتا مقعد ولم تكن كافية. وكان في داخل المحطة من الأمراء: صاحب السمو الأمير يوسف كمال والأمير إسماعيل داود، وصاحب الدولة الوزير حسين رشدي باشا، وأصحاب المعالي الوزراء عبد الخالق ثروت باشا وإسماعيل صدقي باشا وإبراهيم فتحي باشا وجعفر ولي باشا وأحمد حشمت باشا ويوسف سابا باشا، وأصحاب السعادة محمد شكري باشا وإسماعيل حسنين باشا، وعدد كبير من الضباط العظام، وسعادة الشيخ الوقور محمود سليمان باشا، والشيخ الجليل إبراهيم باشا سعيد، وأمين سامي باشا، ومرقص بك حنا، وواصف بك بطرس غالي، وعبد الخالق مدكور باشا، واللواء عبد الرحيم فهمي باشا، والأستاذ محجوب بك ثابت، وعبد الستار بك الباسل، ومصطفى بك النحاس، ومحمد بك محمود، وعلي بك لهيطة، وفخري بك عبد النور، وعبد الرحمن بك فهمي سكرتير لجنة الوفد المركزية والقائم بتنظيم الموكب، وعلي بك فهمي كامل وكيل الحزب الوطني، والدكتور إسماعيل بك صدقي، ومحمد بك زكي علي المحامي.
وكان من العلماء: حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية وهيئة كبار العلماء، وصاحب السعادة السيد عبد الحميد البكري ومعه مشايخ الطرق، ووكيل البطريركية ومعه كبار القسس، وثلاثة من رجال الدين الإسرائيليين، وثلاثة من الإكليروس الأرمن، ومعهم وفد يحمل إكليلا من الزهر، ورؤساء مدارس الفرير، ونائب معتمد فرنسا، ونائب معتمد إيطاليا، ومعتمد الحكومة الهاشمية. وكان صاحب المعالي محافظ العاصمة محمود فخري باشا، وزير المالية اليوم، وجناب رسل بك حكمدار البوليس يبذلان الجهد في سبيل راحة جمهور المشيعين.
وكان صاحب السعادة حسن باشا عبد الرازق محافظ الإسكندرية قد حضر لتشييع الجنازة في القاهرة، وكان يحيط به وفد مؤلف من حضرات أصحاب العزة عبد السلام بك رجب ومحمد بك سراج وفهمي بك الناضوري وسالم بك الفروني وبشير بك توتونجي ومصطفى بك جميل برتو ومحمد بك بدير ورمضان بك يونس وعمر أفندي المراكشي، وغيرهم من أعيان الإسكندرية وكبار تجارها.
نائب عظمة السلطان في العاصمة
وقد أناب حضرة صاحب العظمة مولانا السلطان فؤاد الأول عنه حضرة صاحب السعادة المفضال الفريق شحاتة كامل باشا كبير الياوران في القصر السلطاني للسير في تشييع الجنازة، فاهتم اهتماما عظيما في تنسيق النظام بما يذكر لسعادته بالشكر والثناء، وقد نفذ رغبة صاحب العظمة السلطان في تأدية ما يلزم نحو أولئك الشهداء، كلأ الله عرش عظمته بعين العناية الصمدانية.
مندوب فخامة اللورد اللنبي
وقد أناب فخامة اللورد اللنبي الكابتن موريس ليكون مندوبا من قبله في احتفال تشييع الجنازة بالقاهرة.
وأوفد جناب الجنرال كونجريف قائد القوات البريطانية بالعاصمة ضابطين من كبار الضباط ليمثلاه، وكان بين الحاضرين من الموظفين البريطانيين جناب الجنرال كلايتون باشا مستشار وزارة الداخلية، والمستر باترسون مستشار وزارة المعارف العمومية، والجنرال هربرت باشا قومندان قسم المحروسة، والمستر أنتوني مدير عموم مصلحة الأملاك الأميرية، وجناب المستر جريج المدير العام للخارجية المصرية، والمستر براون المراقب العام بوزارة المعارف.
وما وافت الساعة الثانية بعد الظهر حتى خرجت العاصمة رجالا ونساء وشبانا تستقبل جثث أربعة من أبنائها، وتحيي في هذه الأربع أرواح شهدائها.
أجل لقد كانت العاصمة ماثلة في ذلك الموكب الرهيب المبكي الذي يقصر عنه الوصف ولا يبلغ مداه الطرف، وكان هذا الموكب من روعته وفخامته وجلالته فوق ما يتمثله الخيال. وقد تعذر السير ووقفت حركة المدينة من كل ناحية إلا في طريق مرور الموكب، ولم أر العاصمة أشد بكاء وحزنا من ذلك اليوم.
وكان طريق المشهد من باب الحديد إلى القلعة مزدحما بحيث لا تجد موضعا للوقوف، وكانت شرفات المنازل ملأى بالعقائل اللواتي لم يستطعن مشاركة رجالهن وإخوانهن فوقفن في الشرفات مرتديات ملابس الحداد، وقد سالت دموعهن وتصاعدت زفراتهن، وكان إخواننا النزلاء قد نكسوا أعلامهم على طول الطريق مشاركة لنا في مصيبتنا العامة.
وفي الساعة الرابعة تحرك الموكب من محطة العاصمة تتقدمه موسيقى الأحداث عازفة ألحانا محزنة، وكان أفرادها يلبسون ثيابا سماوية اللون، ففرق الكشافة السلطانية تتقدمها موسيقاها وعلمها منكس، فكشافة مدرسة السعادة، ففرقة الكشافة الإلهامية، فكشافة المدرسة الخيرية الإيرانية، فكشافة وادي النيل، فالكشافة الأهلية، فكشافة مدارس التوفيق، ففرقة كشافة المستقبل، فكشافة الجمالية، فكشافة الأرمن، فمتطوعو جمعية الإسعاف، وكانت كل فرقة تحمل علمها الخاص.
ويلي هؤلاء طلبة مدرسة البوليس، فطلبة المدرسة الحربية، ففريق من الجالية الإيطالية وهيئتها الرسمية والعلم الإيطالي، وقد قابل الجمهور المصري صنيعهم بالشكر والامتنان، وتلاهم طلبة المدرسة الخديوية، فالتوفيقية، فالسعدية، فالعباسية، فالإعدادية الثانوية والابتدائية، فمدرسة وادي النيل، فالرشاد، فالهياتم، فالأقباط الكبرى، فمدارس الجمعية الخيرية الإسلامية، فالمدرسة الخيرية الإيرانية، فكلية مصطفى كامل، فمدرسة ثمرة التوفيق، فالكلية الأهلية، فالاتحاد الوطني، فالمدرسة السلطانية، فالمدرسة الأهلية المصرية، فمدرسة باب الحديد الثانوية، فمدرسة الفنون الجميلة، فورشة مصر الصناعية الأميرية، فورشة الصنائع الإلهامية، فالطلبة المصريون في المدرسة الفرنسوية الليلية، فطلبة مدرسة الأمريكان الثانوية، فمدرسة صدق الوفاء، فالمدرسة الناصرية فمدرسة العقادين، فمدرسة عابدين، فالمدرسة المحمدية الأميرية، فمدرسة الجيزة، فمدرسة الفنون والزخارف المصرية، فأعضاء نادي خريجي مدرسة المحاسبة والتجارة المتوسطة، فطلبة مدرسة المحاسبة والتجارة المتوسطة، فطلبة مدرسة مشتهر الزراعية، فطلبة الأزهر الشريف، فالمدرسة الإكليريكية القبطية، فمدرسة إليانس الإسرائيلية، فمدرسة المعلمين الأولية في القاهرة، فمدرسة المعلمين التابعة لمجلس مديرية الجيزة، فوفد من طلبة مدرسة بني سويف، فطلبة مدرسة دار العلوم، فمدرسة القضاء الشرعي، فمدرسة الفنون والصنائع السلطانية الأميرية، فطلبة مدرسة التجارة العليا وخريجوها، فطلبة مدرسة الهندسة، فالحقوق، فطلبة الحقوق في الجامعة المصرية، فطلبة مدرسة الحقوق الفرنسية، فمدرسة الزراعة العليا، فمدرسة المعلمين العليا، فمدرسة الطب السلطانية. وكانت كل مدرسة تحمل علمها منكسا وصور الشهداء وباقات الزهر.
وتلا الطلبة أعضاء المحفل الوطني المصري الأكبر، وكان يتقدمهم حضرة صاحب العطوفة الأستاذ الأعظم إدريس راغب بك وأمامه حامل علم الماسون، فموظفو وزارة المعارف العمومية، فوفد من الجيزة تصحبه الموسيقى تعزف بنغماتها المحزنة، فموظفو التلغراف المصري، فأعضاء نادي النسر الذهبي، فنادي المتحف الفني، فنادي موظفي البريد، فموظفو وزارة الحربية، فنادي المعارف، فوفود من الجمعيات اللبنانية يحملون علم لبنان الجديد وهو أبيض في وسطه شجرة خضراء تمثل أرز لبنان، فجمعية اتحاد الشبان المسيحيين، ويليهم أعضاء نادي النجم الأبيض، فتلميذات جمعية المرأة الجديدة، فالآباء القساوسة، فموسيقى ملجأ الأيتام التابع لوزارة الأوقاف، فطلبة الطب البيطري. ويلي هذه الجموع كلها نعشا المرحومين أحمد طلعت ورزق يعقوب، فنعشا المرحومين فريد رزق الله وحسين چلبي ملفوفين في الراية المصرية، وأمامهما أكاليل لطيفة بيضاء محمولة على أيدي كثيرين من الرجال، فالمشيعون من العظماء والكبراء والأعيان والتجار يتقدمهم حضرة صاحب السعادة الفريق شحاتة كامل باشا كبير الياوران في القصر السلطاني موفدا من قبل عظمة السلطان، فمندوب من فخامة نائب الملك، فمندوب من قائد القوات البريطانية في القطر المصري، وآخر من سمو الأمير عبد الله أحد أنجال ملك الحجاز، فحضرة صاحب السعادة محمد شكري باشا نائبا عن وزارة الحقانية، فحضرة صاحب السعادة إسماعيل حسنين باشا نائبا عن وزارة المعارف العمومية، فحضرات أصحاب الدولة والمعالي والسعادة حسين رشدي باشا وجعفر ولي باشا وإسماعيل صدقي باشا وعبد الخالق ثروت باشا وأحمد حشمت باشا ويوسف سابا باشا، والجنرال السير جيلبرت كلايتون، والمستر رجنالد بترسون مستشار وزارة المعارف العمومية، ومحمود فخري باشا، فالشيخ الجليل محمود سليمان باشا رئيس لجنة الوفد المركزية محوطا بأعضاء لجنته الأماثل، فآخرون ممن لا تحضرنا أسماؤهم.
ويلي هذا الجمع العظيم كله موظفو وزارة المالية، فموظفو مصلحة الأملاك، فموظفو نزع الملكية ، فموظفو المطبعة الأميرية، فأعضاء نقابة الحلاقين، فموظفو مصلحة الورش الأميرية، فأعضاء نقابة عمال الصنائع اليدوية، فموظفو مصلحة السكك الحديدية، فموظفو وزارة الزراعة، فموظفو مصلحة الصحة ، فتجار الصاغة والجوهرية، فأعضاء جمعية تضامن العمال، فأعضاء نقابة عمال النسيج وملحقاته، فأعضاء سائر النقابات الأخرى، ومن جملتهم أعضاء نقابة الترام في القاهرة ومصر الجديدة، فأرتال من السيارات والمركبات مجللة بالرايات المطوقة بشارات الحداد تقل كرائم العقائل والأوانس الوطنيات، فثلة من فرسان البوليس جعلت ساقة للموكب لتمنع إطباق العامة عليه.
وقد سار الموكب على هذا النظام المؤثر وكان يموج بالمشيعين موجا حتى تكاد تحسب الجماهير بحرا زخارا وتوابيت الشهداء سفنا عائمة فوقه، وكان الموكب يتحرك كأنه كتلة واحدة لشدة التزاحم، وكنت لا تسمع غير أصوات النائحات من كل ناحية، وقد أغمي على بعض السيدات من التأثر.
واخترق الموكب عند سيره من محطة القاهرة ميدان باب الحديد، فشارع نوبار، فشارع كامل، فميدان الأوبرا، فشارع محمد علي، فجامع قيسون حيث أقيمت الصلاة على المرحومين أحمد طلعت وحسين چلبي. ثم انقسم الموكب إلى أربعة أقسام، الأول سار بالمرحوم رزق يعقوب مخترقا الحلمية الجديدة، فدرب الجماميز، فالسيدة زينب، فمصر القديمة إلى دير مار مينا بفم الخليج، وكان يرافقه الأستاذ محجوب بك ثابت موفدا من لجنة الاحتفال.
والثاني سار بالمرحوم فريد رزق الله إلى دير أنبا رويس بالمحمدي مخترقا شارع الخيامية، فالسكرية، فالغورية، فأمير الجيوش، فالحسنية، فشارع النزهة، فشارع عباس، وكان يرافقه معالي جعفر باشا ولي وعلي بك إسماعيل موفدين من اللجنة.
والثالث سار بالمرحوم أحمد طلعت مخترقا شارع محمد علي، فميدان القلعة، فشارع الإمام، وكان يرافقه علي بك لهيطة ومصطفى بك النحاس.
والرابع ذهب إلى قرافة المجاورين، وكان يرافقه سعادة محمد عبد الخالق مدكور باشا.
وقد لوحظ أثناء مرور الجنازة في ميدان الأوبرا أنها استغرقت نحو ثلاث ساعات تعطل في أثنائها سير قطر الترام في القاهرة والضواحي.
وورد على إدارات الصحف ألوف من الرسائل التلغرافية والبريدية والمراثي، وقد كانت تألفت لجنة لإقامة حفلة تأبين بدار الأوبرا برعاية حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون باشا، مؤلفة من حضرات أصحاب السعادة والعزة محمود سليمان باشا وإبراهيم سعيد باشا وعبد الخالق مدكور باشا وأمين سامي باشا وعبد الرحمن فهمي بك وواصف غالي بك وعبد الستار الباسل بك والدكتور حافظ عفيفي بك وأمين الرافعي بك وداود أفندي بركات.
ولما دنا موعد الاحتفال أوقفت لأمر لا نعلمه، بيد أن الأمة أقامت حفلات التأبين في سائر مدن القطر وفي مدارس القاهرة العالية والثانوية وفي المجتمعات العامة، وسيرد تفصيل ذلك في موضعه. (5) عدد مشيعي الجنازة
قدر بعض الذين شهدوا جنازة الشهداء معنا أن عدد المشيعين يبلغ أربعمائة ألف نسمة، وقد كانوا لا يقلون عن ذلك.
ففي ذمة الله أيها الشهداء! لقد كان مصابنا فيكم عظيما وخطبنا جسيما، ولكن الأمة التي اعتادت أن تتحمل الكوارث بصبر وثبات ستتحمل هذه أيضا وإن ضاق بها ذرع الصبر وغالبها الدمع والجزع. ففي ذمة الله أيها الشهداء الأعزاء. (6) احتفال مدينة قنا بتأبين الشهداء
في مساء السبت 8 مايو 1920 الساعة 8 مساء اجتمع مئات من أعيان قنا وأدبائها وموظفيها في المسجد «العتيق» بناء على دعوة من جمعية «الشبيبة الوطنية» بقنا، وكان المسجد مجللا بالزهور والرياحين، والأعلام على شرفاته منكسة، وكانت منصة الخطابة محاطة بالزهور وشارات الحداد، وكان علم الاتحاد الذي يجمع بين الهلال والصليب يرفرف عليها ويملأ قلوب المجتمعين من العنصرين أملا وحياة في المستقبل رغم هذا الموقف الرهيب، وكان بجوار منصة الخطابة صورة جامعة للشهداء عليها إطار من الزهر والريحان.
وافتتحت الحفلة عند الساعة الثامنة ونصف بتلاوة آيات الذكر الحكيم وكان الخشوع باديا والأسف مخيما والحزن عاما والسكوت عميقا.
وما كاد المقرئ يختم تلاوته حتى وقف الأديب محمد أفندي محمود سكرتير مجلس مديرية قنا، وكان قد انتخب رئيسا للحفلة، فارتجل كلمة الافتتاح. ثم دعا الأستاذ الشيخ علي إسماعيل الإدفاوي فألقى كلمة ألم فيها بذكر مجد مصر القديم والآمال التي تحوم حول الشهداء ورفقائهم المحروسين بعناية الله في إحياء معالمه التي درست وآثاره التي عفت، وألقى كلمة مؤثرة في تأبين الشهداء. ثم دعا بعده الأستاذ الشاعر الشيخ علي إبراهيم عيد الجيزاوي من خريجي الأزهر الشريف وكبار التجار بالوجه القبلي، فألقى هذه القصيدة التي أسالت الدموع وحركت الشجون، وقد ضمن الشطر الأخير منها تاريخا محكما لوفاة الشهداء وجعله مطلع القصيدة وختامها فجاءت محبوكة الطرفين، وهي:
طويتم محبين للمكرمات
فيا لك من أنفس عاليات
هوى عقد آمالنا وتوارت
دراريه في الترب منتثرات
أفي كل يوم لمصر خطوب
تفتت أكبادها الداميات
دهتها الحوادث من كل فج
وجاءت بكلكلها مسرعات
أبادت بصرح بنته ورامت
رجوع معالمها الدارسات
فقد قام نخبة أبنائها
إلى الغرب يستبقوا في الحياة
ولبوا النداء نداء المعالي
وما علموه نداء الممات
نفوس عوالي كنوز غوالي
مثال الكمال وخير نبات
فما وصلوا الغرب حتى دهاهم
هصور من الأسد الضاريات
ومنها:
ألا لا رعى الله يوما عبوسا
تولى بأفلاكنا النيرات
مصاب بأودين حل فأدمى
فؤاد الكنانة بالزفرات
وقد عم في الكائنات أساه
فصرن يغردن بالحسرات
ألا فاذكروا أهل روما ومن تا
بعوهم فيا لهم من أساة!
أجلوا بني النيل أي جلال
وفاضت محاجرهم عبرات
ويوم سروا خاشعين سكوتا
على مهل ناثري الزهرات
فلست ترى غير قلب خفوق
ولؤلؤ دمع من الباكيات
لك الشكر طليان يا خير شعب
عرفناكم قبل أي ثقات
ومنها:
ويا شهداء غرام المعالي
مآثركم لم تزل باقيات
فردوا الجنان بأعلى الفرا
ديس واسمعوا على هامة الشرفات
وإن جاءكم مصطفى فريد
لكي يسألاكم عن الأمنيات
فقولوا تركناهم ساهرين
على وشك ذللوا العقبات
عليكم من النيل ألف سلام
ومن مصر مستمطر الدعوات
ولا زال يهمي عليكم إلهي
بمنته صيب الرحمات
إذا ما نعي المجد وهو يؤرخ
طويتم محبين للمكرمات
سنة 1238 [طويتم = 465، محبين = 112، للمكرمات = 761]
ثم نهض بعده الأستاذ الشاعر الشيخ مصطفى محمد المملوك المدرس بمدرسة ولي العهد بقنا ومن خريجي مدرسة دار العلوم فوقف وألقى قصيدة غراء، مطلعها:
تبكي البلاد شبابا كان يحميها
يا ليته ما نأى عن ثغر واديها
ومنها:
ما للخطوب غدت دوما تعاكسنا
فهل إلى مصر قد ألقت مراسيها؟
واثكل مصر على ما كان فقدهم
يهد ركنا حصينا من معاليها!
فغض يا دهر طرفا عن شبيبتها
أكنت من حزبها أم من أعاديها
وجد يا شعب فيما بت تنشده
لعل مصرك تحظى من أمانيها
واصبر على الدهر لا تظهر له جزعا
فهي المقادير تجري في مجاريها
ثم تلاه الأديب مصطفى أفندي عبد الرحمن الطالب بمدرسة الهندسة السلطانية، فألقى كلمة استرعت الأسماع وصعدت الزفرات، ووقف بعده الشيخ محمد المحرزي المدرس بمدرسة الأمريكان فارتجل كلمة أبان فيها مآثر أولئك الشهداء وشجاعتهم الأدبية وإقدامهم النادر وهم في سن الشباب.
ومن ثم وقف حضرة رئيس الحفلة فشكر الخطباء والحاضرين على اشتراكهم في تأبين الشهداء واستمطر لهم الرحمة من سماء الرضوان، وختمت الحفلة بتلاوة آي الذكر الحكيم، وكانت الجمعية المحتفلة قد أعدت الصدقات فوزعتها للفقراء صدقة على أرواح الشهداء، وانفض المحتفلون بسلام.
وكان الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الحليم متولي الطالب بالقسم العالي بالأزهر الشريف قد أعد قصيدة غراء لتلقى في الحفلة، مطلعها:
يا مصر أدمى القلب موت بنيك
من هاجروا يا مصر حبا فيك (7) احتفال كوم حمادة بتأبين الشهداء
في اليوم الأول من حمل شهداء العلم إلى أرض الوطن أقام أعيان مركز كوم حمادة سرادقا فخما، صفت فيه المقاعد ووضع فيه منبر للخطابة وذلك احتفالا بتأبين شهداء العلم والوطن الذين كانت مصيبتهم من المصائب العامة التي يشترك فيها الناس على اختلاف مراتبهم وتباين مشاربهم.
وما وافت الساعة المحددة للحفلة حتى أم السرادق نحو الثلاثة آلاف نسمة يتقدمهم العمد والأعيان ومعلمو المدارس لتخليد ذكرى أولئك الشبان المجاهدين الذين كانوا يؤمنون بعظمة بلادهم الخالدة ويعملون لمجدها ورفعتها وتشييد صرح مستقبلها على دعامة قوية من العلم والعرفان لا تزعزعها الحوادث ولا تهدها عواصف الأيام.
ومن ثم تعاقب الخطباء في اعتلاء منبر الخطابة وإلقاء كلمات الرثاء، وكان في مقدمتهم الشاعر البحيري محمد عبد الهادي عمار الذي كان في وفد كوم حمادة الذي سافر مع الأعيان والوجهاء لتشييع جنازة الشهداء في الإسكندرية، فقد وقف وألقى هذه الكلمة النثرية المؤثرة:
أيها السادة
ما اجتمعنا في هذا اليوم إلا لنحتفل بذكرى شبان مخلصين ضحوا بشبابهم الغالي في سبيل العلم وخدمة الوطن.
نحتفل بأنجم كانت تتلألأ في سماء العلم فأفلت، وزهور أذبلها القضاء في رياض مصر.
نحتفل بذكرى شباب فارق هذه الحياة الدنيا ولو استمهله القدر لكان عدة لهذه البلاد المنكودة الحظ، وما كان أحوج الأمة لذلك الذكاء في ساعاتها الرهيبة وأوقاتها العصيبة وهي تطالب بحقها في الحياة ونصيبها من الحرية والاستقلال التام!
نحتفل بمثال الشباب الناهض، والذكاء المشتعل، والهمة الوثابة، والحياة النامية.
نحتفل اليوم بذكرى غصون شباب عصفت بها يد الدهر فتقصفت. نحتفل بذكرى من فارقونا لورود مناهل العلم العذبة، واقتطاف ثمراته الجنية من رياضه الحافلة، ليعودوا حاملين لبلادهم الشرف والرفعة وليبعثوا مجدها الوطني الذي أورثهم إياه السلف الصالح والأجداد الأمجاد، فقطع القضاء عليهم الطريق وأوردهم موارد الحتوف وأرغم الأنوف، واأسفاه!
نحتفل اليوم بإحياء ذكرى الشهداء بعد أن احتفلت بهم الأمة الطليانية في بلادها وفاء منها لمصر وعطفا على أبناء مصر، فما أكرم تلك الأمة وأوفى ذلك الشعب!
ولقد كان للوفد المصري، مثال الجهاد الوطني الصحيح، اليد الطولى في حمل رفاتهم إلى مصر على نفقته والعناية بهم تخفيفا لمصاب الأمة فيهم، وتعزية لقلوب آبائهم المرزوءة، وما قام الوفد إلا بالواجب الوطني المقدس.
نحتفل بإحياء ذكرهم وهم الشهداء الذين سيدخلون الجنة بغير حساب لأنهم هاجروا في سبيل العلم والوطن، وأراد بارئ النسمات أن يسكنهم جواره فأخذهم إليه، ونعم الجوار جوار الله! «وإنا لله وإنا إليه راجعون»!
ألا رحم الله هذا الشباب الغض، هذه النفوس العالية التي تركت الأهل والأصدقاء وهي في مقتبل العمر للسعي وراء رفعة الوطن.
ثم أنشد قصيدته العصماء، منها:
يا قادمين إلى مصر وما وهنوا
في خدمة لا ولا ضلوا ولا أفنوا
إنا بكيناكمو يا فتية عرفوا
حق البلاد وفيكم يأسف الوطن
قضيتمو شهداء العلم فانقشعت
عنكم سحابة دهر كله محن
ضللت عقلي إذ وافى النعي بكم
يسري بعقول رجال العلم قد محنوا
وسايرتني هموم لو أبوح بها
إذن لحارت لها من قولي الفطن
يا ويح برق لقد وافى بنعيكمو
من نعيه هاج في أحشائنا الشجن
يا ليتني قطعت أسلاكه إربا
أو حل فيها الأسى أو أسكن الحزن!
وقد تلاه حضرة الأستاذ الأديب والشاعر المجيد الشيخ محمد علي خطاب، وألقى هذه الأبيات:
قضوا نحبا وما نالوا مراما
ب «أودين» وما وجدوا سلاما
وولوا في سبيل العلم صرعى
وأمسوا في الثرى قوما كراما
أرادوا خدمة الأوطان حبا
برفعتها فأسكنهم رغاما
وقد ركبوا البحار وجاوزوها
أولي بأس شديد لن يراما
ولما أن نجوا منها ليوثا
توخوا بر أوروبا عظاما
هنالك سامهم سيف المنايا
وما وجدوا بقطرهما قواما (8) حفلة التأبين الكبرى لشهداء العلم والوطن بدار المرحوم الأستاذ إسماعيل بك عاصم
رأت السيدة فاطمة هانم حرم الأستاذ المرحوم إسماعيل بك عاصم أن المصاب في شهداء العلم مصاب الأمة بأجمعها، فوزعت رقاع الدعوى على شريفات العقائل وكريمات الأسر وأعدت لهن بهو دارها، فصفت فيها المقاعد وأقامت منصة للخطابة أقيم بجانبها العلم المصري المحبوب منكسا وموسوما بشارة الحداد، وكان في صدر البهو صورة الشهداء الاثني عشر في إطار واحد مكللا بالزهور.
ووقفت اثنتا عشرة تلميذة من تلميذات مدرسة البنات في ناحية من المكان بملابسهن البيضاء وأوشحتهن السوداء، فكن كالحمائم المطوقة وكن يزدن الحفلة جلالا والمكان رهبة وخشوعا.
وما وافت الساعة المضروبة لافتتاح الحفلة حتى غص المكان بالفضليات من عقيلات وزراء مصر وكبرائها وأديباتها وخطيباتها حتى ضاقت بهن الدار على رحبها، وكن لابسات ثياب الحداد، وكان الحزن يعلو وجوههن المشرقة بنور الأمل بمستقبل بلادهن فيزدن جلالا على وقارهن ووقارا على جلالهن، وكانت ربة الدار تقابل المدعوات ويقابلنها بكلمات التعزية. وبعد افتتاح الحفلة بآي الذكر الحكيم قامت حضرة السيدة فاطمة هانم عاصم وألقت هذه الكلمة:
إليكم أقدم رثائي يا أنجما هوت من سماء العلم، وإلى أرواحكم الطاهرة أوجه مقالي يا حبات القلوب، إليكم أبث حزني يا عقدا من الجوهر انتثرت حباته ثم فقدت بين طيات الوجود، وكانت أمكم مصر توشك أن تتحلى به. وعليكم أسكب الدمع الغزير يا باقة من الزهر جمعت من مصر، وكنا نود أن نستنشق شذاها العطر ولكن حال الدهر بين ما نريد، فهناك في بلاد الغربة مع جميل رونقها هصرت كما يهصر الحديد، هناك في بلاد الغربة تدرجوا بالدماء، هناك بعيدا عن أمهم مصر ماتوا غرباء شهداء، فإليك يا مصر نقدم العزاء. ومعكن يا نساء الشرق يحق البكاء، ابكين هذه الوجوه النضرة، انتحبن على هذا الشباب الغض، ذهبوا متضافرين وكلنا آمال برجوعهم سالمين فائزين، وكلهم آمال بانضمامهم إلى رجال العلم العاملين، فإذا بنا وبهم وقد خيب الدهر آمالنا وآمالهم، فتبا لك يا دهر! هلا رحمت شبابهم! هلا أشفقت على آبائهم! وهلا ترأفت بقلوب أمهاتهم! لا هذا ولا ذاك، فتبا لك من غادر خئون! القلوب تتوجع والعيون تدمع وإنا لفقدهم لمحزونون، أقمار هوت وآمال اضمحلت وعلوم قبرت وشباب هصر وأنوار أطفئت ولم يبق منها غير هذه الرسوم التي لا تجيب، اضمحلت منهم الآمال فيا له من يأس قتال!
إني أرى صورهم أمامي فهل يسمعون كلامي؟! نعم، نعم، فأرواحهم بيننا ممتزجة بأرواحنا، فمهلا، مهلا يا روحي يا أليفة الأحزان على من فقدت، لا تسترسلي في أحزانك وأفيقي.
اللهم إني أتوسل إليك أن تلقي علي الصبر لأتحمل بلاء الموت! الموت، الموت، ويالهول الموت! ما أصعبه! كم مزق من قلوب وأدمى من مقل!
سيداتي، أراني قد استرسلت في أحزاني لدرجة أني شاعرة كأني الحزن المجسم بينكن الآن، هذا مع علمي وعلم حضراتكن أن الحزن لا طائل تحته، بل الواجب علينا أن لا نسترسل في أحزاننا مخافة أن تهبط عزائم شبابنا، ولنجعل نصب أعيننا قول الشاعر:
إذا مات منا سيد قام سيد
قئول بما يرضي الكرام فعول
وإني يا حضرات السيدات، مع احترامي لشعوركن السامي وتقديركن الأعمال الجليلة حق قدرها يسرني أن المرأة الشرقية قد قاربت أن تستعيد سابق مجدها ورفعتها، إذ كانت في ذاك العهد لها القدح المعلى والكلمة النافذة والفكرة الراجحة بين مصاف الرجال، فبتعاضدنا هذا مع مساعدة رجالنا العاملين أريد أن أقترح اقتراحا هو عندي أجل وأسمى من كل ما عمل لأبنائنا الشهداء، وهو أنني أريد أن تقوم هيئة موقرة من رجال وسيدات لجمع مبلغ من المال يكفي لإرسال اثني عشر طالبا يتلقون العلم حتى النهاية ليكونوا شموسا لنا في المستقبل عوضا عن أقمارنا التي غربت، ونكون في نظر جميع الأمم الغربية قد قمنا بأحسن تذكار لتخليد ذكرى شهدائنا.
هذا وإني أستميحكم العذر يا أيتها الأرواح الطاهرة الزكية إذا أنا قصرت في رثائكم الآن، فهناك في دار البقاء في جنة الخلد في فردوس النعيم سيقوم لكم رب هذا البيت بما هو أجل وأعظم كعادته في تكريم النابغين، فكم له من أياد بيضاء! ولكنه راح ورحتم فسبحان من له البقاء!
ثم دعت بعد ذلك الخطيبات لإلقاء كلماتهن، فقامت الآنسة لبيبة حسن المدرسة بمدرسة عباس، وألقت هذه المرثية الشائقة المؤثرة:
سيداتي
والموت نقاد على كفه
جواهر يختار منها الجياد
لقد اندمل فؤاد العلم، وتصدعت جوانب مصر، وتزعزعت أركان الأهرام، وأزعجت رفات الفراعنة من أهوال زلزال الصاعقة، ثم انفجرت براكين الأحزان فتطايرت قذائفها على آل وادي النيل، وأصابت نفوسهم حتى عم الخطب وساد الأسى. ابك يا مصر، واسكبي عبراتك على فتية قضت من أجل رفعتك وهنائك. قيل إنك لا تزالين في مهد حضارتك، ولم تأخذي من العلم القسط الذي يؤهلك لأن تقفي في صف الأمم الراقية، فعز ذلك على أبنائك فغادروك ليعودوا إليك رجالا عاملين يصدون عنك تلك الغربة ويخرجون بك من ركن انزوائك، ذهبوا وكل آمالهم أن سوف يعودون إليك فيرونك مفككة من أصفاد الرق وأغلال الاستعباد، ذهبوا وهم يتزودون منك بالهتاف لاسمك وحياتك وحريتك، ذهبوا بصدور تهيم بحب العلم وقلوب تضيئها شعلة الذكاء المصري الوهاجة، ولكن عاجلهم القضاء فقضى على تلك الآمال وأطفأ تلك الشعلة حتى أظلمت في وجهك! فما أعظم بلواك يا مصر!
كان من بين أولئك أيتها السيدات من قضت السلطة بحرمانهم من التعلم في معاهدهم دون جرم لهم في ذلك سوى أنها رأت منهم هياما بحب ذلك الوطن وتفانيا في حب العلم الذي يستعيدون به مجد آبائهم المؤثل، ولكن ترى ماذا كانت نتيجة الحرمان؟ لم يثن ذلك من عزمهم شيئا، بل زادهم تعلقا بأذيال العلا فغادروا بلادهم إلى غيرها، ولكن أبى القدر إلا أن يفجع مصر فيهم وهم من أعز أبنائها، ففي ذمة الله ذلك الشباب الغض، وألف سلام على تلك الأرواح العالية، وأنت يا مصر فخففي عنك قليلا لأنك وإن كنت ثكلتيهم فقد عدوا من صفوة أبنائك، فهم لم يستشهدوا حتى سجلوا لك ولهم مفخرة عظمى وأنزلوا علينا آية نتعلم منها الشهامة والعزم والإقدام ورخص النفوس أمام خدمتك.
وأنتم يا آل العلم، فاستمطروا الرحمات على أولئك الشهداء. وأنت يا ماء النيل، فانزل بردا وسلاما على ثراهم. وأنت يا خير الراحمين، أغدق عليهم رحماتك ورضوانك، وهب مصر الثكلى عزاء وصبرا واجعل لها خير العوض في أبنائها العاملين!
ثم وقفت الآنسة بسيمة محمد خريجة المدرسة السنية، فألقت كلمتها هذه:
سيداتي
تلك المصيبة أنست ما تقدمها
وما لها مع طول الدهر نسيان
المصاب عميم، والخطب جلل، مصاب تتصدع له المسامع، وترتج منه الأضالع، مصاب أذاب الدموع الجامدة، وألهب الهموم الخامدة، مصاب زلزل الأرض وأقرح الأكباد.
إيه يا مصر! ما للقضاء في أمرك يتحكم، ومن شبابه يتهكم؟! لا يخشى الدهر زفراتنا الحارة وأنيننا المحزن فيكف عن التمثيل بنا: هذا صريع ظلم وعدوان، وذلك صريع وطنية وأمان، أو ضحية أمنية وآمال.
أي مصر، لقد أصبحت بعد الترف والمدنية والرفعة مسرحا للنوازل والكارثات، آجال المصلحين فيك قصيرة، وأرواح العاملين لحياتك مخطوفة، ولم يبق لنا بعد هؤلاء إلا ذكراهم والتأسي لفقدانهم، وتلك والله أكبر بلية أودت براحة أمة تعمل لغاية هي من أجل الغايات وأخطرها، فصبرا صبرا على هذا الرزء!
سيداتي
ما هذا الاجتماع اليوم إلا مأساة تندب فيها نساء النيل شبابا قضى في سبيل العلم، قضى في سبيل أشرف غاية وأجمل مقصد، قضى في سبيل نصرة الأوطان بعيدا عن الأهل والديار. ففي ذمة الله أرواح فارقت ربها إلى النعيم وخلفت بعدها في النفوس آلاما تستقر نارها ولا تنطفئ أبدا وفي القلوب جروحا لا تندمل ، خلفت نفوسا كانت قد علقت آمالها على هذا الشباب الناضر في نصرة الأوطان وعز البلاد:
هيهات أن يأتي الزمان بمثلهم
إن الزمان بمثلهم لبخيل
في ذمة الله أرواح خلصت من هذه الحياة وهي في ميدان الجهاد، فأقبلت على العالم الباقي تقية طاهرة تسمع وهي مقبلة أصوات المنادين:
يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي .
ثم قامت بعدها حضرة الآنسة الفاضلة ثريا علي العموري، فألقت مرثاة مؤثرة نقتطف منها ما يأتي:
أيتها السيدات
لقد فجعنا فاجعة كبرى بموت هؤلاء الشبان الذين اغتربوا عن وطنهم في سبيل العلم لكي يعيدوا بعد ذلك مجده القديم وعزه التالد، ولكن الموت لم يمهلهم بل كان لهم بالمرصاد فاختطفهم من بين تلك الحياة التي تمنتها لهم بلادهم وماتوا موتة سجلت لهم ذكرا عاليا وفخرا باقيا.
فيا عيون أمطري دما، ويا قلوب تفطري حزنا وأسى على هؤلاء الشهداء الذين لم تمهلهم أيدي القضاء بل أنشبت فيهم أظفارها قبل أن يبلغوا مأربا أو ينالوا مطلبا.
فذهبوا وفي القلوب من أجلهم حسرات مترددة وزفرات متصعدة، وفي مثل هذا الخطب قد عظم الأمر.
ونهضت الدكتورة الأديبة أمينة محمد فألقت هذه الكلمة الطيبة:
أيتها السيدات الفضليات
ما كاد وادي النيل الخصب ينبت زهرات غضة كانت حلية لجيده حتى جنت يد المقادير جمال تلك الأزاهير، وأصبح ما كان من قبل بهجة وادي النيل مبعث الحزن ومصدر الأسى، كانت تلك الزهرات تتطلب ماء من العلم ومنهلا من العرفان، فوجدت في ذلك الماء ظمأها، وفي المنهل العذب موتها الزؤام. ماتت وهي تسعى وراء حياتها وحياة بلادها، وكيف لا يكون ذلك كذلك والحياة ليست إلا ما يجنيه الإنسان من العلم وما يعلمه في سبيل الإصلاح والخير وفائدة سائر البشر؟
وأزاهر شرقت بما تحيا به
فذوت وأورق شوكها بفؤادي
كانت مصر تهم بأن تكفكف دمعها الذي سال من أجل المصائب التي دهمتها قديما ولكن سرورها لم يتم، إذ إن الفجر الجديد [الذي] بدأ ينتشر منه نور الأمل انطفأ فجأة وجلله الظلام الدامس. مات الذين كانوا ضحكة في فم مصر الحزينة وأملا مشرقا في ظلام اليأس، مات شبانها النجباء وقبلهم مات كامل في ريعان شبابه وفريد بعيدا عن أوطانه وغيرهما، لقد قيل إن قلب مصر لم ينبض إلا من جراء حادثتين: موت مصطفى كامل وكارثة دنشواي، أما اليوم فقد نبض قلب مصر للمرة الثالثة، إذ دهمها الموت في أعز شيء لديها، دهمها في خيرة أولادها وخلاصة نجبائها. تجتاز مصر التعسة اليوم عقبة سياسية كئودا، وهي في حاجة إلى جميع أولادها وكل قواتها لتحمل في سبيل نيل آمالها المنشودة، ولكن القدر لم يشأ أن يتركها تدأب وتجاهد وإنما جعل يخطف منها عاملا بعد عامل ويطفئ أملا بعد أمل كأنه يريد أن يصرفها عن عزمها، ولكن هيهات ذلك! فإن كل جثة تذهب في سبيل إعلاء شأن مصر لا تزيد المصريين إلا تمسكا بمطالبهم واعترافا في سبيل نيل مأربها. إن كل جثة من جثث أولئك الشهداء ستظل تذكارا لكل مصري، تذكار المجاهدة في سبيل سعادة مصر والمصريين، وهيهات أن يغفل مصري عن واجبه ما دام يجد من أولئك الشهداء مذكرا ومنبها. إن المصري لا يحقر شهداءه أو يضيع ما بناه أولئك المجاهدون بدمائهم الزكية الطاهرة. وإنني أطلب من الله أن يلهم مصر والمصريين جميل الصبر عن هذا المصاب الجلل.
وألقت السيدة فردوس بالعباسية كلمة مؤثرة نقتطف منها ما يأتي:
أيتها السيدات المحترمات
علوت منصة الخطابة قبل الآن ولكن شعورا استفزني وعاطفة حدت بي أن أقوم بينكن خطيبة لأعبر عما امتلأ به فؤادي من الأسى والحزن على شهداء العلم. سيداتي العزيزات: كنت أتمنى أن يهبني سبحانه وتعالى ملكة الشعر ويلهمني قريحة وقادة في النثر حتى أوفي هذا المقام حقه من رثاء هؤلاء الأبطال الذين ذهبوا ضحية العلم واستشهدوا في سبيل المدنية والارتقاء.
نعم، إني أتكلم الآن بقلب منفطر يكاد يتمزق، وفؤاد كليم يكاد يلتهب حزنا وولها على هؤلاء البواسل الذين قضوا نحبهم في سبيل العلم المجيد. نعم؛ كنت أود أن أسطر بدمي بدل دمعي مرثية لهؤلاء الشجعان الذين قصفت يد المنون غصن شبابهم الرطب قبل أن يرتشفوا من منهل العلم الراقي الذي فدوه بأنفسهم فطوبى لهم! نعم، همدت أجسامهم ولكن أرواحهم لا تزال ترفرف فوق رءوسنا وتسري مبادئهم مندمجة في دمائنا، فوالله إن أثرهم لخالد وذكرهم باق.
سيداتي، إني لعاجزة عن أن أوفي هؤلاء الأبطال ما لهم من الحق في الرثاء، فإني ما قمت إلا لأظهر ما اشتدت به عواطفي نحو شهداء الغربة والعلم، فما يقع من التقصير في إيفائهم حقهم من التمجيد والتكريم فمعذرة، حيث إني لست أوسع علما منكن وأكثر دراية في هذا المجال. وها إني أكرر عبارات الأسى والحزن على أبنائنا، ولتحي ذكراهم منطبعة على قلوبنا إلى الأبد.
حكم المنية في البرية جاري
ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يرى الإنسان فيها مخبرا
حتى يرى خبرا من الأخبار
وقامت بعدها الآنسة الأديبة منضورة علي، وألقت هذه المرثاة:
أيتها السيدات، إن فاجعتنا بموت هؤلاء الشهداء عظيمة جدا لا يحتملها قلب مصري شرب من ماء النيل أو تغذى من ثمار مصر، فقد بكت السماء بدموعها الحارة وشجت الطيور بنغماتها المحزنة، فأهاجت ما في القلب من الأسى وحركت ما في المهجة من الشجن.
أيها السيدات، جرت العادة بأن الدهر إذا داهم قوما داهمهم بخطب واحد يمكن احتماله، أما مصر فكان حظها من الدهر أن داهمها بخطوب متعددة وأرزاء مختلفة، ففي كل يوم فاجعة جديدة ورزء أعظم مما قبل: رمانا الدهر أولا بموت المرحوم محمد بك فريد فحزنا عليه كثيرا، ولكن ما وضعناه من الأمل في غيره من الأبطال العاملين خفف عن القلب كثيرا، ورمانا ثانيا بموت المرحوم إسماعيل بك عاصم هذا الرجل الوطني الغيور، فأقتم الجو في أعيننا وزادت همومنا وعظمت نكبتنا. هذا كله ولم يغفل عنا لحظة واحدة يدعنا نفرج فيها همنا وكربنا، فقد رمانا بموت هؤلاء الشهداء الذين هاجروا من بلادهم ليستقوا العلم من مناهله ويعيدوا للوطن ما كان له من المجد القديم وكأنما الموت كان لهم بالمرصاد، فغفر الله لهم وأسكنهم الجنة وألهم أهلهم الصبر والعزاء، إنه سميع قريب.
قصائد مشاهير الشعراء في رثاء الشهداء
رثاء أمير الشعراء أحمد شوقي بك
ألا في سبيل الله ذاك الدم الغالي
وللمجد ما أبقى من المثل العالي
وبعض المنايا همة من ورائها
حياة لأقوام ودنيا لأجيال
أعيني جودا بالدموع على دم
كريم المصفى من شباب وآمال
تناهت به الأحداث من غربة النوى
إلى حادث من غربة الدهر قتال
جرى أرجوانيا كميتا مشعشعا
بأبيض من غسل الملائك سلسال
ولاذ بقضبان الحديد شهيده
فعادت رفيفا من عيون وإظلال
سلام عليه في الحياة وهامدا
وفي العصر الخالي وفي العالم التالي •••
خليلي قوما في ربى الغرب واسقيا
رياحين هام في التراب وأوصال
من الناعمات الراويات من الصبا
ذوت بين حل في البلاد وترحال
نعاها لنا الناعي فمال على أب
هلوع وأم ب «الكنانة» مثقال
طوى الغرب نحو الشرق يعدو مليكه
بمضطرب في البر والبحر مرقال
يسر إلى النفس الأسى غير هامس
ويلقي على القلب الشجا غير قوال
سرى فنعاهم للديار أهلة
فمن هالة عطل ومن منزل خال
سماء الحمى بالشاطئين وأرضه
مناحة أقمار ومأتم أشبال •••
وأدهام تدري الريح أن قد أعاذها
بساطا ولكن من حديد وأثقال
يريك جياد السبق في الحضر كلما
رمى بذراعيه وبالمرجل الغالي
يقل من الفتيان أشبال غابة
غداة على الأخطار ركاب أهوال
ثنته العوادي دون «أودين» فانثنى
بآخر من دهم المقادير ذيال
قد اعتنقا تحت الدخان كما التقى
كميان في داج من النقع منجال
فسبحان من يرمي الحديد وبأسه
على ناعم غض من الزهر منهال
ومن يأخذ السارين بالفجر طالعا
طلوع المنايا من ثنيات آجال
ومن يجعل الأسفار للناس همه
إلى سفر ينوونه غير قفال •••
فيا ناقليهم لو تركتم رفاتهم
أقام يتيما في وصاية الآل
وبين غريبا لدي وكافور مضجع
لنزاع أمصار على الحق نزال
فهل عطفتكم رنة الأهل والحمى
وضجة أتراب عليهم وأمثال؟
لئن فات مصرا أن يموتوا بأرضها
لقد ظفروا بالبعث من تربها الغالي
وما شغلتهم عن هواها قيامة
إذا اعتل رهن المحبسين بأشغال
حملتم من الغرب الشموس لمشرق
تلقى شفاها مظلما كاسف البال
عواثر لم تبلغ صباها ولم تنل
مداها ولم توصل ضحاها بآصال
يطاف بهم نعشا فنعشا كأنهم
مصاحف لم يعل المصلي على التالي
توابيت في الأعناق تترى زكية
كتابوت موسى في مناكب إسرال
ملففة في حلة شفقية
هلالية من راية النيل تمثال
أظل جلال العلم والموت وفدها
فلم تلق إلا في خشوع وإجلال
تفارق دارا من غرور وباطل
إلى منزل من جيرة الحق محلال
فيا جلبة رفت على البحر حلية
وهزت بها «حلوان» أعطاف مختال
جرت بين إيماض العواصم بالضحى
وبين ابتسام الثغر بالموكب الحالي
كثيرة باغي السبق لم ير مثلها
على عهد إسماعيل ذي الطول والنال
لك الله! هذا الخطب في الوهم لم يقع
وتلك المنايا لم يكن على بال
بلى كل ذي نفس أخو الموت وابنه
وإن جر أذيال الحداثة والخال
وليس عجيبا أن يموت أخو الصبا
ولكن عجيب عيشه عيشة السالي
وكل شباب أو مشيب رهينة
بمعترض من حادث الدهر مغتال
وما الشيب من خيل العلا فاركب الصبا
إلى المجد تركب متن أقدر جوال
يسن الشباب البأس والجود للفتى
إذا الشيب سن البخل بالنفس والمال
ويا نشأ النيل الكريم عزاءكم
ولا تذكروا الأقدار إلا بإجمال
فهذا هو الحق الذي لا يرده
تأفف قال أو تلطف محتال
عليكم لواء العلم فالفوز تحته
وليس إذا الأعلام خانت بخذال
إذا مال صف فاخلفوه بآخر
وصول مساع لا ملوم ولا آل
ولا يصلح الفتيان لا علم عندهم
ولا يحرزون السبق أنصاف جهال
وليس لهم زاد إذا ما تزودا
بيانا جزاف الكيل كالحشف البالي
إذا جزع الفتيان من وقع حادث
فمن لجليل الأمر أو معضل الحال؟
ولولا معان في الفدا لم تعانه
نفوس الحواريين أو مهج الآل
فغنوا بهاتيك المصارع بينكم
ترنم أبطال بأيام أبطال
ألستم بني القوم الذين تكبروا
على الضروبات السبع في الأبد الخالي
رددتم إلى فرعون جدا وربما
رجعتم لعم في القبائل أو خال
قصيدة شاعر مصر الكبير محمد بك حافظ إبراهيم
علمونا الصبر تطفئ ما استعر
إنما الأجر لمفجوع صبر
صدمة في الغرب أمسى وقعها
في ربوع الشرق مشئوم الأثر
زلزلت في أرض مصر أنفسا
لم يزلزلها قرار المؤتمر
ما اصطدام النجم بالنجم على
ساكن الأرض بأدهى وأمر
قطف الموت بواكير النهى
فجنى أجمل طاقات الزهر
وعدا الموت على أقمارنا
فتهاووا قمرا بعد قمر
في سبيل النيل والعلم وفي
ذمة الله قضى الاثنا عشر
أي بدور الشرق ماذا نابكم
في مسار الغرب من صرف الغير؟
نبأ قطع أوصال المنى
وأصم السمع منا والبصر
كم بمصر زفرة من حرها
كنس الأعفر والطير وكر!
كم أب أسوان دام قلبه
مستطير اللب مفقود الظهر
ساهم الوجه لما حل به
سادر النظرة من وقع الخبر
كم بها والدة والهة
عضها الثكل بنار فعقر!
ذات نوح تحت أذيال الدجى
علم الأشجان سكان الشجر
تسأل الأطيار عن مؤنسها
كلما صفق طير واصطخر
تسأل الأنجم عن واحدها
كلما غور نجم أو ظهر
تهب العمر لمن ينبئها
أنه أفلت من كف القدر
ويح مصر كل يوم حادث
وبلاء ما لها منه حفر!
هان ما تلقاه إلا خطبها
في تراث من بنيها مدخر
قد ظلمتم مجدهم في نقلهم
إنما نقلتهم إحدى الكبر
فسواء في تراب الشرق أم
في تراب الغرب كان المستقر
أأبيتم أن نرى يوم لنا
في ربوع العلم شبرا فنسر؟
أضننتم أن تقيموا بينهم
شاهدا منا لكتاب السير
ومزارا كلما يممه
ناشئ حيا ثراه وادكر
ودليلا لابن مصر كلما
قام في الغرب بمصر فافتخر؟
كم ملأت لنا في أرضهم
صورة معجزة بين الصور!
فمن رمز العصور قد خلت
أشرق العلم عليها وازدهر
فاجعلوا أقواسنا اليوم بها
خير رمز لرجاء منتظر •••
أمة الطليان خففت الأسى
بصنيع من أياديك الغرر
جمعت كفاك عقدا زاهيا
من بيننا فوق واديك انتثر
وسعى كل امرئ مفضل
بادي الأحزان مخفوض النظر
وبكت أفلاذكم أفلاذنا
بدموع روضت تلك الحفر
وصنعتم أحسن الله لكم
فوق ما يصنعه الخل الأبر
قد بكينا لكم من رحمة
يوم «مسينا» فأرخصنا الدرر
فحفظتم وشكرتم صنعنا
وبنو الرومان أولى من شكر •••
أي عناوين العلا أشبهتموا
بسملات الله توجن السور
أي شباب النيل لا تقعد بكم
عن خطير المجد أخطار السفر
إن من يعشق أسباب العلا
يطرح الإحجام عنه والحذر
فاطلبوا العلم ولو جشمكم
فوق ما تحمل أطواق البشر
نحن في عهد جهاد قائم
بين موت وحياة لا تقر
ورثاهم حضرة الشاعر المعروف عبد الحليم المصري بهذه القصيدة:
أفيك مجن يا قلوب من الردى
ومنك لنفس يا عيون وفاء؟
سلام على من طالعوا الموت فجأة
ولما ينوه بالمنية داء
فيا باقة من زهر مصر تضوعت
نثرت على الوادي فأتت هباء
وبقيا ورود فاح من جانب الربى
عبيران منها فطنة وذكاء
نودعكم لم ندر أن سيضيفكم
من الله قبل الأصدقاء قضاء
ولو علمته الأمهات لشفعت
عيونا فأجدى قبل ذاك بكاء
أفي حين نرجو من نواحيكمو المنى
يقولون من ترجونهم شهداء
ونصبح نرجوكم عظاما بواليا
كما ترتجى ورد النمير ظماء؟
بنا لو حملناها لنطرح دونها
من الدمع ما لم تدخره سماء
كنانة آمال نريش سهامها
هوين وما أدى السهام مضاء
يصوبها الرامون منهم مسيئة
لأغراضهم والله ليس يشاء
تفديكمو عنا العيون بضوئها
وهيهات منكم أعين وضياء
وإنكم عن مصر لم تتغربوا
ونحن بمصر بعدكم غرباء
عرائس ساحات خضبتم أكفها
فهل من رأى الحناء وهي دماء؟
ترف خزاماها علينا كأنما
يرف على وجه العليل شفاء
أفوق الثرى يأس لنا ومنية
وتحت الثرى عيش لنا ورجاء؟
فيا مصر كم ذا روعتك مصيبة
لها بالخطوب التاليات دواء!
ألا ركب إلا وهو فيك جنازة
ولا شعر إلا وهو فيك رثاء
ولا رعد إلا وهو فيك صواعق
ولا صبح إلا وهو فيك مساء؟
صبرنا على ما يجزع الصخر دونه
وأكبر ظني أننا كرماء
وعدنا لحكم الله طوعا لذاته
وعلما بأن الحب فيه بلاء
وحيث يكون العمر كانت منية
وحيث يكون الحي كان فناء
فلا تقنطوا من رحمة الله خيفة
فموت الفتى والخوف منه سواء
ولا تأخذونا بالقصور فإنها
كوارث تعيي دونها الشعراء
إلى مشيعي الشهداء بالقاهرة
ورثاهم حضرة الشاعر الأديب سيد يوسف أفندي (المدرس) بقوله:
انثروا الدمع وسيروا خشعا
واحملوا تلك الشموس الأربعا
واغرسوا في الترب أزهارا لنا
ما أحيلاها شذا ما أبدعا!
وأودعوا الآمال في تابوتها
إن في التابوت شعبا مودعا
وأنصتوا للموت في تجواله
فجلال الموت في أن نسمعا
خبت الأضواء جمعا عندما
ضمت الأرض نجوما طلعا
واكفهر الجو في أرجائنا
يالهول اليوم يوم الأربعا
رب إن الشعب باك موجع
فاستجب رب إذا الشعب دعا
وأنل مصر حياة حرة
وكفى تضحية من فجعا
يشترى العلم بمال وهنا
بنفوس قد أبت أن تهجعا
فليقم في مصر تذكار لهم
إنهم ساروا إلى الخلد معا
ورثاهم حضرة الشاعر البليغ الشيخ أحمد الزين بقوله:
أكذا الزمان بأهله يتقلب
والمرء يحسن ظنه فيكذب؟
والنفس تخدعها الأماني ضلة
ويروقها ذاك البريق الخلب
ما أكذب الإنسان يخدع نفسه
ويعاتب الزمن الذي لا يعتب!
ويرى مصارع أهله وصحابه
عن جانبيه وإنه لمعقب!
عجبا! أأمزح بالحياة وطولها
وأرى حمامي كل يوم يقرب؟!
ويطيب لي عيشي وأتراب الصبا
نهلوا بكأس للردى لا تعذب؟
شوقا إلى الكأس التي شربوا بها
والموت إن غر الوفاء محبب
وإذا تنكرت الحياة ولم تجد
حلا تطيب به فموتك أطيب
عشرون من بعد اثنتين لبثتها
وودت لو أني صريع يندب
أأعيش في قوم يقر عيونهم
والأرض مخصبة وداد يجدب؟
لا أخصبت أرض ولا نزل الحيا
في معشر أخلاقهم لا تخصب
الشمس تشرق بالضياء عليهم
وتسوءها أخلاقهم فتغيب
وتعود ثانية وتحسب أنهم
صلحوا فتكذبها الظنون فتغرب
والزهر يضحك ساخرا مما يرى
فالبشر منه لو علمت تقطب
وتراه يذبل حين تقطفه يد
تمسي وتصبح بالمآثم تخضب
وصموا القرود بأنها أصل لهم
والقرد مما قال «درون» يغضب
ماذا أؤمل في حياة صفوها
كدر يجرعه الجهول فيطرب؟
ليس الذي عرف الحياة معذبا
لكن من طلب الصفاء معذب
رد العزاء فهذه آمالنا
يطوي صحائفها الزمان القلب
كم مدمع كالسحب ترسل فيضه
أم وزفرات يصعدها أب!
قد ودعا أنس الحياة وطيبها
بوداع بدرهما وضعضع منكب
ذكراه في جنح الظلام تعلة
فجرت شئونهما دما يتصبب
يتساءلان أآب من أسفاره
أم عاقه عنا قضاء أغلب؟
يتجاذبان عليه أطراف الأسى
أما ألم خياله المتأوب؟
من لي بقلبي كي أقطعه أسى
لكواكب أخفا سناها المعزب؟
ولو أن أفئدة الأنام تكون لي
أمست عليهم لوعة تتشعب
راموا الحياة وإنها [لأمينة]
ليست لغير الموت فيها توهب
كانوا لمصر سراجها إن أظلمت
فقد استطال بها عليهم غيهب
وسهامها أمسى يسدد سهمه
صرف الزمان إليهم ويصوب
هجروا ديارهم فهل ضاقت بهم
أرض بها حمد السرى المتغرب?
أنآهمو طلب العلوم فعلموا
سرا من الأسرار عنا يحجب
لا تيأسوا إنا إذا ما كوكب
منا خبا جلى الغياهب كوكب
ورثاهم الأديب الفاضل الشيخ أحمد عبد الماجد المدرس بمدرسة المعلمات بالإسكندرية بهذه القصيدة:
يا موت حسبك قد قطعت أكبادي
بين الممالك لا في النيل والوادي
للعلم كان رحيلهم فما لك لا
تميز بين ذوي غي وإرشاد؟
هلا رحمت شبابهم وغربتهم
أم لست ترحم ذا نأي وإبعاد؟
صدمتهم فتزلزلت لصدمتهم
أرض الكنانة من سهل وأطواد
بكى المقطم والأهرام نائحة
والنيل بينهما يرثي لأولاد
بكت مدارسنا فقدان زهرتها
وعادها ألم من حزنها البادي
دمع العلوم على طلابها انسجما
يا دمعة العين دومي ذات إمداد
وكوني سحبا في الجو سائرة
فوق الجنائز تروي هام روادي
سقيا لكم شهداء العلم والوطن
ورحمة لضحايا السائق العادي
لولا مفاجأة المنون ما قصرت
تلك العزائم عن إحراز إسعاد
ومن يهاجر إلى العليا ليحرزها
ومات فيها تولى أجره الهادي
لئن بعدتم فما نأت فضائلكم
عنا فلا يشمتن بالموت حسادي
إن الفضائل ملك لا زوال له
فاحفظ عهودك من غدر وإفساد
لا شيء أثبت من حق يعززه
حفظ العهود وإيفاء لميعاد •••
يا مصر قد وقذتك النائبات فلا
تبغي المنام فهذا وقت إجهاد
دعى المنام فقد مستك قارعة
واسعى لترقية التعليم في الوادي
لو كان في قطرنا التعليم أجمعه
ما مات في صدمة سباق آماد
إن الحوادث للإنسان موقظة
هيهات أن ندع التعليم كالعادي
خطب وفجع بمصر كل آونة
صبرا لهذا البلاء الرائح الغادي
يا ملهم الصبر إن الصبر حاجتنا
فامنن بصبرك وارحم أنة الوادي
يا مسبل الستر خلي الستر منسبلا
على كنانتك الثكلى لأمجاد
ورثاهم حضرة الشاعر الأخلاقي عباس محمود العقاد بقصيدة منها:
خير الوفود وأكرم الركبان
هذا الوداع أم اللقاء الثاني؟
عدتم فهل شفي الغليل بعودكم
بعد الفراق وقرت العيان؟
وتجمع الشمل الشتيت فهل دنا
ما كان في «أودين» ليس بدان؟
والهفة القطان إن مآبكم
غير المآب لوصلة القطان
ورثاهم عبد القادر أفندي المازني بقصيدة مطلعها:
بستان آمالنا لقد ذبلت
فيك زهور من آنق الزهر
ومنها:
قد مالت الشمس صوب مغربها
في برد حسن في الأفق مستطر
همت بتوديعنا وقد لبست
أفواف زين لها ومفتخر
تنأى الهوينى كأن عالمنا
معهد لداتها لدى الصغر
وأي جمع لنا متى انحدرت
يخطو على دق طبلة القدر؟
ورثاهم حضرة أحمد رامي أفندي الشاعر المعروف بقصيدة، منها:
أيها الراحلون في طلب
العلم ولا عودة ليوم المعاد
قد صبرنا على النوى وارتقبنا
فرحة للقاء بعد البعاد
فإذا بالوداع كان إلى المو
ت كأن كنتم على ميعاد
ورثاهم حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ مهدي أحمدي خليل بقصيدة، منها:
أمل تعثر في رجاء خائب
في فتية درجوا كأمس الذاهب
هي صدمة ب «أودين» كانت إنما
آلامها في صدر مصر الواجب
والهفتاه على الدم الزاكي جرى
فسقى أديم الأرض سقي سحائب!
للترب تستبق الدماء غزيرة
فاعجب لماء وارد للشارب!
ورثاهم الشاعر الوجداني محمود أفندي رمزي نظيم بهذه القصيدة:
يا بدورا تغيبت قبل تم
ونجوما من أفقها قد تهاوت
وغصونا قد هزها المجلد للعلم
ولكن تقصفت حين مالت
رحلت تطلب المعالي ولكنه
وقف الموت في الطريق فماتت
إيه رفقا بأنفس هي لولا
أنها عدت لمصر لسالت
وعزاء شبيبة النيل منهم
أي حال تحت السماء ما استحالت؟
إن أردتم أن تملئوا أنفس المو
تى حياة وإن تكن قد زالت
دولة النيل شيدوها فما من
دولة شادها الشباب فدالت
ورثاهم محمد أفندي توفيق خاكي بهذه القصيدة:
دمع عيني من دماء اندفعا
لغصون أخجلت غض النقا
وفروع أصلها دوح العلا
بسواها ما اتخذنا مرتقى
بيد الأقدار غدرا هصرت
يالغصن كان فيها مورقا
لبثت في قطرها راشقة
من مياه العلم ما قد أغدقا
بارحته آمة تلك الربى
كي تزيد الزهر منها رونقا
ما لها قد حطمت من صدمة
في سبيل العلم قبل الملتقى؟
يا له من نبأ قد شيبت
حادثات الدهر فيه مفرقا!
يا قطارا لو مشى متئدا
بشباب القطر هل كان الشقا؟
قد أضاع الأمس منا أملا
ودماء طاهرات دفقا
لا «أدين» القطر يا ذا أبدا
إن سهما للقضا قد أرشقا
إن هذا الخطب خطب فادح
كل رأس من صداه أطرقا
دك طود الصبر منه دكة
خر موسى الرشد منها صعقا
لو قضى بالخطب شخص واحد
لتأسى القطر عما أحدقا
لو حبا فرط البكا عودتهم
غرق الجثمان منا غرقا
أيهذا لا تخل إن الذي
قد ألم الوهن منه لحقا
نحن قوم قد صدقنا عزمة
لا يرى اليأس إلينا طرقا
إن تكن منا نجوم أفلت
فهلال العلم فينا أشرقا
في جنان الخلد يا من قد قضوا
وديار الصالحين الملتقى
ضمد الله جراحا للأولى
قد نجوا في عمرهم طال البقا
ونما من جدهم نبت العلا
لنراه للذرى منبثقا
كلمات الكتاب في رثاء الشهداء
كلمة الكاتب القدير الأستاذ الشيخ عبد العزيز جاويش نزيل برلين.
دمعة محزون
لقد كان للنبأ الذي هبط بنا في يوم الاثنين 29 مارس من التأثير ما لا يكاد يستطيع القلم وصفه، فوجئنا بنبأ تلك الصدمة الكبرى التي فقدت بها بلادنا العزيزة اثني عشر من خيرة شبابها.
فجاءتنا بذلك الشركات التلغرافية دون تفصيل ولا إيضاح، فأبكت منا العيون وخلعت القلوب لولا بقية من الصبر ألقاها الله علينا، فأمكنتنا من التفكر فيما عسى أن نستطيع عمله في سبيل إسعاف الجرحى وتدبير أمر من فقدنا من الشهداء، ولقد استطاع بعض الإخوان الحصول على الإذن بالسفر إلى فينا لاطلاعهم على الخبر في بكرة ذلك اليوم. أما كاتب هذه السطور فقد كنت في أحد المستشفيات لأشهد عملية جراحية بسيطة لبعض إخواني من الطلبة، فلم أعد إلى منزلي حتى كانت الساعة الثانية من ظهر ذلك اليوم، إذ كانت سائر المصالح معطلة فلم يسعني سوى الصبر إلى الغد، وهنالك استأنفت اتخاذ التدابير اللازمة للسفر، تلك التدابير التي استغرقت الصباح برمته، وكنا نظن أنا واثنان معي أن التدابير قد تمت، ولكن حينما كنا بدار قنصل الشيكوسلوفاكية رأينا من الأسباب ما اضطرنا إلى إرجاء السفر إلى اليوم التالي؛ لا سيما وأنه لم يكن ثمة إكسبريس للسفر في ذلك اليوم، فلم يسعنا سوى الانتظار الذي قضت به الضرورة، ولكن هون علينا الأمر وصول إخواننا الذين سبقونا إلى فينا، ثم ما علمنا من أن ما معنا من البسابورتات لا يبيح لنا الدخول في الحدود الإيطالية، ولكننا في اليوم الثالث سعينا في إنجاز المساعي اللازمة للسفر إلى فينا، وبينا نحن نفكر بعيد الظهر في أمر القطار والتأهب للرحيل إذ بشابين وفدا إلي وإذا هما من جملة البعثة التي نزلت بها تلك الفاجعة الموجعة، فأخذا يقصان علي الحادثة الفظيعة، فأخبراني بما كان من إعادة الجرحى وهم ثمانية نفر إلى تريستا ودفن الاثني عشر الشهداء في مكان الحادثة، بعد أن أخذت صورهم الفتوغرافية وعلمت مضاجعهم هنالك بأرقام، وأن الباقين الناجين من تلك الحادثة قد قدموا بالفعل فينا وقرروا أن يقدموا برلين زمرة زمرة، فكان هذان الزائران أول الفئات القادمة.
نعم قصا علي من أمر تلك الكارثة ما ضاعف آلامي وأحزاني لا سيما بعد إذ علمت أن ضحايانا بالأمس كانوا خيرة البعثات العلمية التي أمت هذه البلاد بعد الحرب. لم يستطع هذان الزائران أن يزوداني إذ ذاك بسائر الأسماء والنعوت، ولكن الزمرة التي قدمت بالأمس (3 أبريل الجاري)، وكانت تتألف من ثلاثة، وفدت إلى منزلي بعيد الظهر من ذلك اليوم فعلمت منها أسماء الشهداء والجرحى وتفاصيل الكارثة التي قصها علي أحدهم وكان في نفس العربة التي تحطمت تقريبا، وقد اتصل بي الآن تلغراف من الوفد الذي ذهب إلى مكان الحادثة يفيد أن الجرحى في حالة حسنة، وأن الشهداء اتخذت لهم الوسائل التحنيطية لإرسالهم بعد إلى وطنهم الحزين.
وهنا أتقدم إلى وطني العزيز بالتعزية في طائفة من خيرة شبابه وأبر أبنائه لم يهجروه في لعب ولا لهو ولم يفارقوه في قلى ولا جفاء، ولكن وقفوا حياتهم على خدمته وأرواحهم على تفديته وسائر مواهبهم على نصرته، فما فارقوه إلا في سبيله ولا حرموا أعينهم الاكتحال بمنظره إلا ليتزودوا له بالأعمال الصالحة والفنون النافعة، ثم ينقلبوا إليه ليكونوا حماة استقلاله ودعائم مجده وزينة شعبه. فرحم الله تلك الأرواح الطاهرة رحمته بالشهداء الأبرار والمجاهدين الأخيار.
أما أنتم آباء أولئك الشهداء وذوي قرابتهم، فحسبكم عزاء فيما أصابكم فيهم أن القطر برمته ألم كما ألمتم وانتحب كما انتحبتم، فكارثتهم ليست مصاب الاثني عشر بيتا التي نبتوا فيها وشبوا بين جدرانها ثم برزوا للأمة بما زودتهم من نبيل شيمها ومكارم أخلاقها، ولكنه مصاب أربعة عشر مليونا من البشر يتألف منهم جسم أمتنا العزيزة ومصاب وادي النيل الذي يرتقب من بنيه النجباء من سيأخذ بيديه إلى ساحل السلامة وينتشله من الأرزاء التي لا يزال يخوض غمارها. فصبر جميل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
برلين في 3 أبريل
عبد العزيز جاويش (1) أي شهداء مصر، لحضرة الكاتب البليغ صادق أفندي عنبر المحرر بجريدة الأخبار
على تلك الآمال التي حالت آلاما، وتلك الأماني التي عدت عليها المنايا.
على تلك الأهلة التي هوت في غير هالتها ثم حملت إلى دارتها.
على أولئك الذين حيوا بموتهم ذلك حياة لا يلم عليها فناء ولا يلحقها عفاء.
على أولئك الذين رمت بهم همتهم وراء آمالهم ثم لج بهم العثار.
على أولئك الذين رحل كل منهم عن مصر وقد احتواها قلبه الآمل ثم أدخلوا إليها ليحويهم قلبها الثاكل.
على أولئك الذين خرجوا من ديارهم يتدفقون منى ونضرة وشبابا، وأبى القدر إلا أن يعودوا إليها أجساما هامدة وفكرا على الدهر خالدة.
على أولئك الذين أعجلتهم مناياهم من أمانيهم فقضوا نحبهم من قبل أن يقضوا من العلا أربهم تحية مصر وسلامها.
أي شهداء مصر، لقد رحلتم عن دياركم لا قالين ولا سالين، ولكن نزعة إلى ورود العلم صفوا من كل شائبة صوبت بكم إلى تلك الديار فانبعثتم أعلى ما كنتم همة وأوفى ما عهدتم للمجد ذمة، فلم تكادوا تقطعون المرحلة الأولى حتى ملك عليكم السبيل منزل الكواكب في غير داراتها ومحيلها عن قراراتها، فلما نعاكم النعاة إلى مصر نعوا إلى كل نفس جميل صبرها.
لقد كان خطبكم خطب هذا الوطن الذي إليه تعتزون وكنتم به تعتزون، فإنكم ما رحلتم عنه إلا لأجله ولا فصلتم عنه إلا لوصله، وإن أرواحكم المطلة من عليين لترى مصر اليوم وقد استحالت مأتما وتشهد هذا الوادي عليه سواده وتجتلي للنيل وقد أظله حداده جزعا عليكم وإشفاقا مما حل بكم.
أي شهداء مصر، لقد خلعتم عليها شبابكم، ولعل طيفها كان آخر ما مر بمخيلاتكم واسمها كان آخر ما لفظته أفواهكم، وربما كان آخر خفقات قلوبكم خفقة التعلق بها والتوجع لها، فحري بها اليوم وقد عاقها القدر أن تقيم لكم المواكب أحياء أن تقيم عليكم المآتم شهداء.
لقد بكتكم بلادكم إذ دخلتموها لا كما خرجتم منها، فقد زايلتموها وأنتم لها ذخر ورجعتم إليها وأنتم لها فخر، ولعزيز عليها أن تهب بكم فلا تجيبون لها نداء وتدعوكم فلا تسمعون لها نداء.
فسلام عليكم يوم رحلتم عن بلادكم، وسلام عليكم يوم عدا عليكم القضاء فأذبل منكم الزهر الجني وأذوى الأمل الفتي، وسلام عليكم يوم بلغت جثتكم هذا الوطن الأسيف، والله المسئول أن يتغمدكم برحماته ويفرغ على قلوب المحزونين فيكم صبرا جميلا. (2) ضحايا الغربة
اهتزت القلوب جزعا وانهمرت العبرات حزنا لذلك النبأ المروع الذي مات فيه عدد من الطلبة المصريين النازحين إلى أوروبا طلبا للعلم وجرح فيه آخرون. ولا شك أن خسارة الأمة بفقد أبنائها مما يستوجب الحزن الشديد والأسف العام، فإنها لم تفقد بهم أفرادا منها وأعضاء عاملين من مجموعها فقط، بل فقدت ما كانت ترجوه من الخير على أيديهم ، فقدت تلك الكنوز العلمية الغالية التي تطوعوا لنقلها إلى وطنهم، فقدت من أبنائها فريقا لم يعبأ بما يتجشمه من المشاق لتحقيق أمنية هي أشرف ما تتوق إليه النفوس وأمجد ما يضحى في سبيله بكل عزيز.
على أبناء كل أمة واجبة مقدسة منها ما تضحي من أجله النفوس بلا تردد، فإنك إذا نظرت إلى الملايين من الشبان الذين ضحوا بحياتهم في الحروب القديمة والحديثة لرأيتهم يهرعون إلى ميادين القتال ويقابلون الموت بصدر رحب قياما بواجبهم في الدفاع عن كيانهم أو انتصارا لمبادئ عالية مقدسة تقضي محبة الإنسانية وحمايتها بالدفاع عنها، ولئن عم الحزن الأوطان التي ينتمي إليها أولئك المجاهدون ففخرها بشممهم وشهامتهم مخلد على ممر الأيام. ولئن ألقينا بنظرة على سطح الكرة الأرضية رأينا الملايين من أبناء كل أمة منتشرين على وجهها بعيدين عن أوطانهم وأسراتهم، إما لعودة بمال أو بعلم، أو لتوطيد سلطان دولتهم في الأنحاء المختلفة من العالم، وكم يموت منهم في كل يوم بحادث أو بغير حادث!
وكم من ألوف من الناس غرقت بهم البواخر! وكم ألوف منهم تحطمت بهم الطيارات! وكم من ألوف فتكت بهم الحميات في مجاهل أفريقيا؟ وكم من الألوف لاقوا حتفهم في الاكتشافات العلمية والجغرافية! وكم وكم! كل ذلك لم يثن عزم مواطنيهم عن الدأب على تحقيق الغرض الأسمى، فإن الموت نتيجة طبيعية للحياة:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
تنوعت الأسباب والموت واحد
فلو كان للقضاء والقدر حساب في نظر الأمم الراقية لما رأينا أحدا من أبنائها خارج موطنه، بل لما رأيناه خارج بيته، وهيهات أن يمنع ذلك من وقوعه!
سافر ذلك الفريق من الأمة في طلب العلم، وأنعم به من مطلب! فكان من المقدور أن يقع ذلك الحادث غير المنتظر الذي فقد بعضهم أرواحهم فيه. حادث محزن تنفطر له القلوب ويعم الأسف الأمة بأسرها من أجله، ولكنه ليس بالحادث الفريد في بابه ولا بالذي يقل من عزم شبابنا على ورود مناهل العلم ويضعف في شجاعتهم، ولا هو بالذي يثير في نفوس الأباء والأمهات عواطف الحنو الأبوي فيقيم منها حاجزا بين أبنائهم وبين أن يكونوا رجالا نافعين لوطنهم وللدنيا ولأنفسهم، بل هم أولى بأن يتخذوا منه محركا إلى سد النقص الذي طرأ على ذلك الصف المجاهد في سبيل أشرف الغايات وأقدسها.
ولا شك أن الأمة ستعمل واجبها حيال الذين ماتوا في سبيل خدمتها بتكريمهم وتخليد ذكراهم، وهي وإن كانت ستبكيهم فهم فخر لها ولآبائهم الذين أنجبوا رجالا صادفتهم المنية في طريقهم إلى العلم والعلا.
متألم (3) جلال الموت وذكراه، لسيد أفندي علي رئيس تحرير النظام
كنت أود أن أيمم إلى الإسكندرية لأحيي شهداءنا الأعزاء يوم عودتهم إلى بلادهم مزودين بالعدة التي أرادوا أن يستعدوا بها ويعتمدوا عليها في كفاحهم بمعترك الحياة وجهادهم لخير أمة تعشقوا مجدها وسعادة وطن هاموا بحريته وسؤدده.
ولكن أراد القدر المحتوم - ولا راد لإرادته القاسية - أن أقصد ذلك الثغر في يوم عبوس مكفهر لبس فيه ثوب الحداد لأودع زهرة كنا نرجو أن نراها في القريب يانعة من شباب مصر الزاهر، ولأسكب فوق تربة الشهداء الطاهرة دمعة حرى هي كل ما يستطيع قلب الصدوع أمام الموت القاهر.
حقا إن رزءنا فيهم عظيم وخسارتنا بفقدهم جسيمة، فهم النبت الصالح الذي كنا نرجو أن يصبح دوحة تتفيأ الأمة ظلالها الوارفة ويجتني ثمارها الطيبة، ولولا جلال الموت وذكراه لما رضينا من وداعهم إلا بمطاورتهم في منزلهم الأخير عند رب كريم رحيم.
أما ومصر في عنفوان نهضتها وشرخ شبابها تنشد الحياة الخالدة وتدعو أبناءها إلى التفاني في شخصها العظيم الجليل، فإنا نكفكف الدمع ونمسك العبرات لنقف حيال الخطب الجسيم موقف من يقدر أثره في تاريخ مصر الحديث القدر اللائق لسمو نهضتها ونيل مراميها. ولم يضن المصريون بشيء في جهادهم بحريتهم واستقلالهم، فأثبتوا في مبدأ حركتهم الوطنية استهانتهم بأنفسهم لتحيا بلادهم، وقد جاء الحادث المؤلم أخيرا فشهد لهم بالرغبة في العلم الصحيح ليكون لهم منه العدة التي تكفل لوطنهم بلوغ آماله وتحقيق أمانيه.
والأمة التي يصبو أبناؤها إلى حريتها فيفدونها بالأرواح، ويتشوق شبابها إلى العلم فيحجون إلى مناهله العذبة على بعد مزارها إنما تكون أمة قد بلغت من الرقي النفساني مبلغا ينأى بها عن مواطن الضعف والمذلة.
فإن ودع المصريون اليوم شهداءهم محزونين متوجعين فإنهم يستقبلون لبلادهم عهدا جديدا يبشر بحسن المآل ودنو الآمال. (4) لتحيا ذكرى شهداء العلم، لحضرة الكاتب الأديب محمود رمزي نظيم أفندي
يا شبابا قد كان للنيل يرجى
كيف لاقيت في الطريق المنية؟
خبرونا بربكم عن بنينا
كيف سالت تلك الدماء الزكية؟
أيها المغمضون عنا المآقي
قد رزئنا بكم أشد الرزية
قد عرجتم إلى السماء وكانت
ترتجيكم حياتنا العلمية
إلى رسل العلم، إلى الشهداء الذين فاضت أرواحهم الزكية، وأغمض الموت جفونهم، وأسكت أصواتهم، وأوقف دقات قلوبهم التي كانت تخفق على الآمال الواسعة، والمجد المنشود، والحياة العالية.
إلى الذين سالت دماؤهم بالقضاء والقدر، إلى الذين ناموا إلى الأبد، وضاقت عن سعة نفوسهم الأرض فالتمسوا سعة في السماء.
إلى الأنجم الزاهرة التي هوت من عليائها، وأفلت بعد بزوغها، إلى إخواننا الذين باغتهم الردى في اتقاد الصبا وشرخ الشباب، تقدم مصر المرزوءة المنتحبة المتشحة بأثواب الحداد تحية ملفوفة بالزفرات الحرى، والحسرات المنبعثة من فؤادها المشتعل. فيا رجاء مصر، ويا أملها، ويا رسلها الذين أوفدتهم لطلب العلم من بلاد النور والحياة، إنا ليحزننا أن ترجعوا إلينا قبل أن تشتفي نفوسكم المتعطشة، يحزننا أن نستقبلكم باكين متحسرين مرزوئين، وأن لا تقابلونا باسمين، وقد أطفئ نور الحياة من ثغوركم البسامة وعيونكم التي كانت تنبعث منها أشعة الذكاء.
يحزننا أن نستقبلكم بأثواب الحداد وأن نحدثكم فلا تنطقون ونناجيكم فلا تجيبون.
فسلام على تلك النفوس التي راحت تنشد المجد، وخرجت إلى العلم كما يخرج الجندي الباسل فاستشهدت في الميدان، ألا وإن الجندي الذي يخرج إلى الكفاح لا يبالي قتل أم جرح أم انتصر، سلام على الأرواح التي فاضت في هجرتها إلى العلم فراحت شهيدة.
سلام على الخلود في شباب مصر، ألا واعلموا أن القدر لا يحول بيننا وبين إرسال الرسل تلو بعضها إلى الغاية التي كنتم تسعون لها حبا في وطنكم المحبوب، فلتطمئن نفوسكم، ولترتاح جنوبكم في مضاجعها، فمصر لا تنام بعد يقظتها. ناموا أيها الشهداء بورك في جهادكم الشريف وموتكم المجيد، أنتم شهداء العلم فلتحي ذكراكم إلى الأبد:
إن مات منا شباب يوم هجرتهم
فمجدنا بالشباب الحي مرتهن
يا عائدين رفاتا قبل أن يصلوا
إلى المنى كيف لا يبكيكم الوطن؟
اليوم عدتم ولم نعدد لمقدمكم
إلا دموعا دعاها الوجد والشجن
وحظنا كان حزنا يوم عودتكم
وكان حظكم الأزهار والكفن
محمود رمزي نظيم (5) كلمة للأديب حسن أفندي أحمد الصعيدي طالب هندسة ببرلين
إنا لا نقدر - وايم الحق - أن نصف ما أصاب قلوب المصريين أجمع النازلين في أوروبا الوسطى ولا مقدار حزنهم لما أصاب إخوانهم الطلبة النازحين من القطر المصري لبرلين لتلقي العلوم في أشهر جامعاتها، ولا مقدار العواطف الشريفة التي أظهروها في وقت الشدة والضيق، فإن كل ذلك نتركه للتاريخ يسجله في صفحاته الخالدة لرجال المستقبل العاملين.
وردت رسالة برقية من فينا تاريخها 26 مارس تنعي شقيقا لأحد إخواننا الطلبة توفي في حادثة غير عادية في السكك الحديدية وهو في طريقه إلى فينا. فكان لهذا النعى وقع شديد مؤلم في نفوس الطلبة جميعا وظهرت على وجوههم أمارات الحزن والأسى لهذا المصاب العظيم، فشاطروا صديقهم أحزانه وخففوا آلامه التي لا اندمال لها ولا برء بعدها، وليت القدر أمهلنا حتى نستفيق من أحزاننا وتندمل جراحنا، ولكن أسرع في نعي اثني عشر طالبا من الطلبة المصريين وهم في طريقهم إلى فينا، فلم نتمالك أنفسنا من البكاء لهول المصاب وفداحة الرزء، ولكن شددنا العزائم وظهرنا بمظهر الرجال، فأسرع كل من رئيس الجمعية المصرية ببرلين الدكتور العناني ووكيلها الدكتور الشربيني وسكرتيرها حسن أفندي إسماعيل بالسفر من برلين مساء إلى ويانه للقيام بما تقتضيه المروءة والشهامة المصرية في أمثال هذه الحوادث، فودعناهم بعيون تذرف الدمع على شباب مصر الناهض وقلوب مفعمة أسى وحسرات على هذه الأرواح الطاهرة والنفوس الزكية التي راحت ضحية العلم، في سبيل مستقبل مصر أرواحهم وفي جنة الخلد مثواهم، رحمهم الله جميعا وأمطر أجداثهم شآبيب الرحمة والرضوان.
والآن نتقدم بالعزاء لمصر الأسيفة لضياع اثني عشر رجلا يعملون لمستقبلها قضوا ولم يتمموا أعمالهم، وكذا العزاء الجميل لشباب مصر الناهض وأهل الشهداء وذويهم.
أموت بعيدا عن دياري وعن أهلي
فمن يا ترى يبكي حوالي من أجلي؟
أموت بعيدا في ربوع شبيبتي
ولا صاحب عندي يمرض أو يسلي؟
سيقتادني حتفي إلى الموت صاغرا
ويقطع عن دنياي سيف الردى حبلي
هذا لسان حال إخواننا الشهداء، طيب الله ثراهم وجعل الفردوس مثواهم! وإنا لله وإنا إليه راجعون. (6) كلمة رثاء، لحضرة الكاتب الفاضل والأديب المعروف بسيم شكري أفندي
نزول كما زال آباؤنا
ويبقى الزمان على ما ترى
نهار يمر وليل يكر
ونجم يغور ونجم يرى
أبو العلاء المعري
لا كان فجر يوم نعى فيه الناعي اثني عشر شابا من شبابنا الناهض لفظوا مع الشهادتين كلمتي «نموت لتحيا مصر الفتية».
لا كان يوم عبوس قمطرير داهمهم فيه المنون وداهمت أفئدتنا المكلومة.
لا كان يوم غربت فيه عنا آمالنا وأمانينا فيهم. لقد اتحدتم في الموت كما اتحدتم في الحياة فتلقيتم تلك الصدمة المروعة متكاتفين ومبدؤكم الاتحاد فعلمتمونا هذا الدرس حين صدمت قلوبنا الكسيرة بهذا النبأ فاتحدنا في العزاء وفي البكاء.
تصدع المقطم وزلزل الزلزال وخرجت ربات الخدور نائحات باكيات، وقد خرجتم للجهاد في ميدان الحياة، وحملتم معكم آمال أمة رءوم وجئتم تسعون على آلة حدباء جريمة القدر المحتوم، جئتم تتهادون جنبا لجنب وقد توسدتم الثرى على مبدأ «الاتحاد»، لا كانت تلك الساعة التي رأيناكم فيها تشيعون إلى المقابر.
أودعناكم الثرى وأودعنا معكم أمانينا، وذهبنا إلى النيل لنقسم أنا لا نحيد عن طلب العلم في مطارح الغربة، مهما لاقينا من صروف القدر وعاديات الحادثات، فإذا بالنيل يرغي ويزبد وقد توشح بسواد الليل البهيم ثم انساب في جريانه كمن به جنة، يرتطم بصخره حتى إذا ما كل مشى هادئا مشية البائس المفئود.
أمطر الله قبوركم شآبيب الرحمة وعوض الآل والأمة الصبر والعزاء. (7) كلمة لحضرة أبادير أفندي بقطر
يقولون إن أودين بلد إيطالي وقلبي يقول إن أودين بلد مصري، فإن فيه اثني عشر مليونا من قلوب أبناء أبي الهول.
فتشت عن أودين على ضفاف النيل فما وجدتها، والآن أنا أفتش عن أودين في ربوع إيطاليا «أين أودين؟ أين أودين؟»
هذه هي أودين فاركعي يا قدمي، اركعي خشوعا وإجلالا، واركعي لأنني لا أستطيع الوقوف على مقربة من هذا المكان مصرع شهدائنا. هناك سالت قطرات دمائهم الصافية، واحسرتاه! وهناك سمعت الريح يهمس في أذني أبي الهول أنه في تلك الساعة الرهيبة المشئومة سمع صوتا ملأ الفضا وما كاد يتضاءل حتى سمع الصدى يردده قائلا: سلام على مصر، قلوبنا فداء لمصر.
صفحة غير معروفة