شعراء النصرانية قبل الإسلام
الأب لويس شيخو
القسم الأول شعراء اليمن
(كندة)
أعمام امرئ القيس (548م)
هم حجر وشرحبيل ومعدي كرب وسلمة وعبد الله ورد لهم شعر قليل أحببنا إثباته في خلال قصتهم. وسيجيء في ترجمة امرئ القيس أن جده الحارث بن عمرو المقصور بن حجر آكل المرار لما تفاسدت القبائل نم نزار وأتاه أشرافهم وشكوا إليه ما نزل بهم ففرق أولاده في قبائل العرب فملك حجرا أبا امرئ القيس على بني أسد وغطفان. وملك ابنه شرحبيل على بكر بن وائل بأسرها وعلى بني حنظلة. وملك ابنه معدي كرب المسمى بغلفاء على بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة بن تميم. وملك ابنه سلمة على قيس جمعاء. وملك عبد الله على بني قيس وبقوا على ذلك إلى أن مات أبوهم. فقتل بنو أسد حجرا ملكهم وتشتت أمرهم وتفرقت كلمتهم ومشت الرجال بينهم وكانت المغاورة بين الأحياء الذين معهم وتفاقم الأمر حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع. فسار شرحبيل ومن معه من بني تميم والقبائل فنزلوا الكلاب وهو ماء بين الكوفة والبصرة على سبع ليال من اليمامة وأقبل سلمة بن الحرث في تغلب والنمر ومن معه وفي الصنائع وهم الذين يقال لهم بنو رقية وهي أم لهم ينتسبون إليها. وكان نصحاء شرحبيل وسلمة قد نهوهما عن الحرب والفساد والتحاسد وحذروهما عثرات الحرب وسوء مغبتها فلم يقبلا ولم يبرحا وأقاما على التتابع واللجاجة في أمرهم فقال امرؤ القيس بن حجر في ذلك (من المنسرح) :
أنى علي استتب لومكما ... ولم تلوما حجرا ولا عصما
كلا يمين الإله يجمعنا ... شيء وأخوالنا بني جشما
حتى تزور السباع ملحمة كأنها من ثمود أو ارما
وكان أول من ورد الكلاب من جمع سفيان بن مجاشع بن دارم وكان نازلا في بني تغلب مع إخوته لأمه فقلت بكر بن وائل بنين له فيهم مرة بن سفيان قتله سالم بن كعب بن عمرو.
صفحة ١
وأول من ورد الماء من بني تغلب رجل من عبد جشم يقال هل النعمان بن قريع بن حارثة بن معاوية بن عبد جشم وعبد يغوث بن دوس أخو الفدوكس وعم الأخطل دوس على فرس له يقال له الحرون وبه كان يعرف. ثم ورد سلمة بن خالد ببني تغلب وهو السفاح المار ذكره وكان ينشد يومئذ:
إن الكلاب ماؤنا فخلوه ... وشاجرا والله لن تحلوه
فاقتتل القوم قتالا شديدا وثبت بعضهم لبعض حتى إذا كان في آخر النهار من ذلك اليوم خذلت بنو حنلظة وعمرو بن تميم والرباب بكر بن وائل وانصرفت بنو سعد وأحلافها عن بني تغلب وصبر ابنا وائل بكر وتغلب ليس معهم غيرهم حتى إذا غشيهم الليل نادى منادي سلمة: من أتى برأس شرحبيل فله مائة من الإبل. وكان شرحبيل نازلا في بني حنظلة وعمرو بن تميم ففروا عنه. وعرف مكانه أبو حنش وهو عصم بن النعمان بن مالك بن غياث بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب فصمد نحوه فلما انتهى إليه رآه جالسا وطوائف الناس يقاتلون حوله فطعنه بالرمح ثم نزل إليه فاحتز رأسه وألقاه إليه. ويقال أن بني حنظلة وبني عمرو بن تميم والرباب لما انهزموا خرج معهم شرحبيل فلحقه ذو السنينة واسمه حبيب بن عتيبة بن بعج بن عتبة بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر وكانت له سن زائدة فالتفت شرحبيل فضرب ذا السنينة على ركبته فأطن رجله. وكان ذو السنينة أخا أبي حنش لأمه أمهما سلمى بنت عدي بن ربيعة بنت أخي كليب ومهلهل. فقال ذو السنينة: قتلني الرجل. فقال أبو حنش: قتلني الله إن لم أقتله فحمل عليه فلما غشيه قال: أنه قد كان ملكي. فطعنه أبو حنش فأصاب ردافة السرج فأصاب ردافة السرج فورعت عنه ثم تناوله فألقاه عن فرسه ونزل إليه فاحتز رأسه فبعث به إلى سلمة مع ابن عم له يقال له أبو أجا بن كعب بن مالك بن غياث فألقاه بين يديه فقال له سلمة: لو كنت ألقيته إلقاء رفيقا. فقال: ما صنع به وهو حي أشد من هذا. وعرف أبو أجا الندامة في وجهه والجزع على أخيه فهرب وهرب أبو حنش فتنحى عنه. فقال معدي كرب المعروف بغلفاء أخو شرحبيل وكان صاحب سلامة معتزلا عن جمي هذه الحروب (من الوافر) :
صفحة ٢
ألا أبلغ أبا حنش رسولا ... فمالك لا تحبي إلى الثواب
تعلم أن خير الناس طرا ... قتيل بين أحجار الكلاب
تداعت حوله جشم بن بكر ... واسملمه جعاسيس الرباب
قتيل ما قتيلك يا ابن سلمى ... تضر به صديقك أو تحابي
فقال أبو حنش مجيبا له:
أحاذر أن أجيئكم فتحبو ... حباء أبيك يوم صنيبعات
فكانت غدرة شنعاء تهفو ... تقلدها أبوك إلى الممات
ويقال أن الشعر الأول لسلمة بن الحرث. وقال معدي كرب يرثي أخاه شرحبيل بن الحرث (من الخفيف) :
إن جنبي عن الفراش لناب ... كتجافي الأسر فوق الظراب
من حديث نمى إلي فلا تر ... قا عيني ولا أسيغ شرابي
مرة كالذعاف أكتمها النا ... س على حر ملة كالشهاب
من شرحبيل إذ تعاوره الأر ... ماح في حال لذة وشباب
يا ابن أمي ولو شهدتك إذ تد ... عو تميما وأنت غير مجاب
لتركت الحسام تجري ظباه ... من دماء الأعداء يوم الكلاب
ثم طاعنت من ورائك حتى ... تبلغ الرحب أو تبز ثيابي
يو ثارت بنو تميم وولت ... خيلهم يتقين بالأذناب
ويحكم يا بني أسيد أني ... ويحكم ربكم ورب الرباب
أين معطيكم الجزيل وحابيكم م على الفقر بالمئين اللباب
فارس يضرب الكتيبة بالسيف م على نحره كنضح المذاب
صفحة ٣
فارس يطعن الكماة جريء ... تحته قارح كلون الغراب
قال ولما قتل شرحبيل قامت بنو سعد بن زيد مناة بن تميم دون عياله فمنعوهم وحالوا بين الناس وبينهم دفعوا عنهم حتى ألحقوهم بقومهم ومأمنهم ولي ذلك منهم عوف بن شجنة بن الحرث بن عطارد بن عوف بن سعد بن كعب وحشد له فيه رهطه ونهضوا معه فأثنى عليهم في ذلك امرؤ القيس بن حجر ومدحهم به في شعره فقال (من الطويل) :
ألا إن قوما كنتم أمس دونهم ... هم استنفذوا جاراتكم آل غدران
عوير ومن مثل العوير ورهطه ... وأسعد في يوم الهزاهز صفوان
وهي قصيدة معروفة طويلة. وكان أوارة بعد ذلك بزمان كان بني المنذر بن امرئ القيس وبين بكر بن وائل وكان سببه أن تغلب لما أخرجت سلمة بن الحرث عنها التجأ إلى بكر بن وائل كما ذكرناه آنفا فلما صار عند بكر أذعنت له وحشدت عليه وقالوا: ألا يمكنا غيرك فبعث إليهم المنذر يدعوهم إلى طاعته فأبوا ذلك فحلف المنذر اسيرن إليهم فإن فظفر بهم فليذبحهم على قلة جبل أوارة حتى يبلغ الدم الحضيض. وسار إليهم في جموعه فالتقوا بأوراة فاقتتلوا قتالا شديدا وأجلت الواقعة عن هزيمة بكر وأسر يزيد بن شرحبيل الكندي فأمر المنذر بقتله فقتل وقتل في المعركة بشر كثير وأسر المنذر من بكر أسرى كثيرة فأمر بهم فذبحوا على جبل أوارة. وكان ذلك نحو سنة 548م.
وكان لسلمة بن الحرث ولد اسمه قيس فأغار على ذي القرنين المنذر بن النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي فهزمه حتى أدخله الخورنق ومعه ابناه قابوس وعمرو ولم يكن ولد له يومئذ المنذر بن المنذر فجعل إذا غشيه قيس بن سلمة يقول: يا ليت هندا ولدت ثالثا. وهند عمة قيس وهي أم ولد المنذر. فمكث ذو القرنين حولا ثم أغار عليهم بذات الشقوق فأصاب منهم اثني عشر شابا من بني حجر بن عمرو كانوا يتصيدون وأفلت امرؤ القيس على فرس شقراء فطلبه القوم كلهم فلم يقدروا عليه. وقد المنذر الحيرة بالفتية فحبسهم بالقصر الأبيض شهرين ثم أرسل إليهم أن يؤتى بهم فخشي أن لا يؤتى بهم حتى يؤخذوا من رسله فأرسل إليهم أاضربوا أعناقهم حيث ما أتاكم الرسول. فأتاهم الرسول
صفحة ٤
وهم عند الجفر فضربوا أعناقهم به فسمي جفر الأملاك وهو موضع دير بني مرينا فلذلك قال امرؤ القيس من أبيات يريثهم (من الطويل) :
ألا يا عين بكي لي شنينا ... وبكي لي الملوك الذاهبينا
ملوكا من بني حجر بن عمرو ... يساقون العشية يقتلونا
فلو في يوم معركة أصيبوا ... ولكن في ديار بني مرينا
روينا أخبار أعمام امرئ القيس عن كتاب الأغاني وتاريخ ابن الأثير ومعجم البلدان لياقوت وأمثال الميداني.
صفحة ٥
امرؤ القيس (565م)
هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو المقصور بن حجر آكل المرار بن معاوية بن ثور المعروف بكندة وكنيته أبو وهب وقيل أبو الحارث. وجاء في كتاب بغية الطلب للوزير ابن قاسم المغربي أن اسمه جنح وامرؤ القيس لقب غلب علي لما أصابه من تضعضع الدهر ومعناه رجل الشدة. وقيل أن اسمه قيس ود ذكره مؤرخو الروم في تواريهم بهذا الاسم. ولد امرؤ القيس نحو سنة 520 للمسيح في نجد. وأمه فاطمة بنت ربيعة بن الحارث أخت كليب والمهلهل التغلبيين. وكان يقال له الملك الضليل وقيل له أيضا ذو القروح كما سيأتي في أثناء أخباره. وكان سبب ملك أبائه على بني وائل ما ذكره أبو عبيدة قال: لما تسافهت بكر بن وائل وقطعت بعضها أرحام بعض اجتمع رؤساؤهم فقالوا: إن سفهاءنا قد غلبوا علينا حتى أكل القوي الضعيف ولا نستطيع دفع ذلك فنرى أن نملك علينا ملكا نعطيه الشاء والبعير فيأخذ للضعيف من القوي ويرد على المظلوم من الظالم ولا يمكن أن يكون من بعض قبائلنا فيأباه الآخرون فيفسد ذات بيننا ولكنا نأتي تبعا فنملكه علينا. فأتوه وذكروا له أمرهم فملك عليهم حجرا ملك كندة. فلما ملك سدد أمورهم حجرا ملك كنجة. فلما ملك سدد أمورهم وساسهم أحسن سياسة وانتزع من اللخميين ما كان بأيديهم من أرض بكر بن وائل وبقي حجر آكل المرار كذلك حتى مات. ثم ملك عمرو ابنه إلى سنة 524 م ثم الحارث بن عمرو وهو جد امرئ القيس وأمه بنت عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان ونزل الحيرة وكانت فيها النصرانية وبقي عليها. ثم تفاسدت القابئل من نزار فأتاه أشرافهم فقال: إنا في دينك ونحن نخاف أن نتفانى فيما يحدث بيننا فوجه معنا بنيك ينزلون فينا فيكفون بعضنا عن بعض. وكان للحارث خمسة بنين
صفحة ٦
حجر ومعدي كرب الملقب بالغلفاء لأنه كان يغلف رأسه بالطيب وشرحبيل وسلمة وعبد الله ففرقهم الحارث أبوهم في قبائل العرب فملك ابنه حجرا على بني أسد وغطفان. وملك شرحبيل على بكر بن وائل وبني حنظلة وملك معدي كرب على بني تغلب وطوائف بن دارم وبني رقية. وملك عبد الله على بني عبد القيس. وملك سلمة على قيس. وبقي الحارث مدة في ملكه حتى طلبه أنوشروان وكان ينقم عليه لأمر صدر منه في أيام والده قباذ. فبلغ ذلك الحارث وهو بالأتبار وكان بها منزله. فخرج هاربا في هجائنه وماله وولده فمر بالثوية وتبعه المنذر بالخيل من تغلب وبهراء وإياد. فلحق بأرض كلب فنجا وانتهب ماله وهجائنه وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفسا من بني آكل المرار فقتلوهم بجفر الأملاك في ديار بني مرينا العباديين بين دير هند والكوفة وفيهم يقول امرؤ القيس (من الوافر) :
ألا يا عين بكي لي شنينا ... وبكي لي الملوك الذاهبينا
ملوكا من بني حجر بن عمرو ... يساقون العشية يقتلونا
فلو في يوم معركة أصيبوا ... ولكن في ديار بني مرينا
فلم تغسل جماجمهم بغسل ... ولكن في الدماء مرملينا
تظل الطير عاكفة عليهم وتنتزع الحواجب والعيونا
(قالوا) ومضى الحارث وأقام بأرض كلب وكلب يزعمون أنهم قتلوه. وعلماء كندة يزعمون أنه خرج إلى الصيد فالظ بتيس من الظباء فأعجزه فآلى بالية ألا يأكل أولا إلا من كبده فطلبته الخيل ثلاثا فأتي به بعد الثالثة وقد هلك جوعا. فشوي له الكبد وتناول منه فلذة فأكلها حارة فمات.
أما حجر ابنه فكان على بني أسد وكانت له عليهم أتاوة في كل سنة موقتة فعمر كذلك دهرا ثم بعث إليهم جابيه الذي كان يجيبهم. فمنعوه ذلك وحجر يومئذ بتهامة وضربوا رسله وضرحوهم ضرحا شديدا قبيحا. فبلغ ذلك حجرا فسار إليهم بجند من ربيعة وجند من جند أخيه من قيس وكنانة فأتاهم وأخذ سرواتهم فجعل يقتلهم بالعصا فسموا عبيد العصا. وأباح أموالهم وصيرهم إلى تهامة وحبس أشرافهم ثم رق لهم فاستكانوا له حتى وجدوا منه غفلة
صفحة ٧
تمالأوا عليه فقتلوه. وخلف حجر أولادا منهم نافع وكان أكبر ولده وامرؤ القيس. وهو أصغرهم.
وكان امرؤ القيس ذكيا متوقد الفهم. فلما ترعرع أخذ يقول الشعر وقيل أن المهلهل خاله لقنه هذا الفن فبرز فيه إلى أن تقدم على سائر شعراء وقته بالإجماع. وكان مع صغر سنه يحب اللهو ويستتبع صعاليك العرب وينتقل في أحيائها فيغير بهم وكان يكثر من وصف الخيل ويبكي على الدمن ويذكر الرسوم والأطلال وغير ذلك وقيل أن أول شعر نظمه قوله (من المتقارب) :
أذود القوافي عني ذيادا ... ذياد غلام جريء جوادا
فلما كثرن وعنينه ... تخير منهن ستا جيادا
فأعزل مرجلنها جانبا ... وآخذ من درها المستجادا
فبلغ قوله إلى والده فغضب عليه لقوله الشعر وكانت الملوك تأنف من ذلك. فأمر رجلا يقال له ربيعة أن يذبح امرأ القيس فحمله ربيعة حتى أتى به جبلا فتركه فيه وأخذ عيني جوذر فجاء بهما إلى أبيه. فأسف حجر لذلك وحزن عليه. فلما رأى ذلك ربيعة قال: ما قتلته. قال: فجئني به. فرجع إليه فوجده يقول (من الطويل) :
لا تسلمني يا ربيع لهذه ... وكنت أراني قبلها بك واثقا
مخالفة نوى أسير بقرية ... قرى عربيات يشمن البوارقا
فأما تريني اليوم في رأس شاهق ... فقد اغتدي أقود أجرد تائقا
وقد أذعر الوحش الرتاع بغرة ... وقد اجتلي بيض الخدور الروائقا
فعاد امرؤ القيس إلى والده إلا أنه لم يكف عن قول الشعر فطرده أبوه وأبى أن يقيم معه أنفة من قول الشعر. فكان يسير في أحياء العرب ومعه أخلاط من شذاذهم من طي وكلب وبكر بن وائل فإذا صادف غديرا أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه في كل يوم وخرج إلى الصيد فتصيد ثم عاد فأكل وأكلوا معه وشرب الخمر وسقاهم وغنته قيانه ولا يزال كذلك حتى ينفد ماء ذلك الغدير ثم ينتقل عنه إلى غيره.
صفحة ٨
وفي أثناء ذلك قال معلته (راجع نخبة هذه المعلقة في الجزء السادس من مجاني الأدب مع شرحها) . فلقي يوما عبيد بن الأبرص الأسدي فقال له عبيد: كيف معرفتك بالأوابد. فقال: قل ما شئت تجدني كما أحببت. فقال عبيد (من البسيط) :
ما حية ميتة قامت بميتتها ... درداء ما أنبتت سنا وأضراسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الشعيرة تسقى في سنابلها ... فأجرت بعد طول المكث أكداسا
فقال عبيد:
ما السود والبيض والأسماء واحدة ... لا يستطيع لهن الناس تمساسا
فقال امرؤ القيس: تلك السحاب إذا الرحمان أرسلها=روى بها من محول الأرض إيباسا فقال عبيد:
ما مرتجات على هول مراكبها ... يقطعن طول المدى سيرا وامراسا
فقال امرؤ القيس:
تلك النجوم إذا حانت مطالعها ... شبهتها في سواد الليل اقباسا
فقال عبيد:
ما القاطعات لأرض لا أنيس بها ... تأتي سراعا وما يرجعن انكاسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الرياح إذا هبت عواصفها ... كفى بأذيالها للترب كناسا
فقال عبيد:
ما الفاجعات جهارا في علانية ... أشد من فيلق مملؤة باسا
صفحة ٩
فقال امرؤ القيس:
تلك المنايات فما بيقين من أحد ... يكفتن حمقى وما يبقين أكياسا
فقال عبيد:
ما السابقات سراع الطير في مهل ... لا يشتكين ولو ألجمتها فاسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الجياد عليها القوم قد سبحوا ... كانوا لهن غداة الروع أحلاسا
فقال عبيد:
ما القطاعات لأرض الجو في طلق ... قبل الصباح وما يسرين قرطاسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الأماني يتركن الفتى ملكا ... دون السماء ولم ترفع به رأسا
فقال عبيد:
ما الحاكمون بلا سمع ولا بصر ... ولا لسان فصيح يعجب الناسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الموازين والرحمان أنزلها ... رب البرية بين الناس مقياسا
وكان امرؤ القيس معنا ضليلا كثيرا ما ينازع الشعراء. قيل أنه نازع التؤام اليشكري جد قتادة بن الحارث فقال: إن كنت شاعرا فاجز أنصاف ما أقول. فقال التؤام: قل ما شئت. فقال امرؤ القيس (من الوافر) :
أصاح ترى بريقا هب وهنا
فقال التؤأم: كنار مجوس تستعر استعارا
صفحة ١٠
فقال امرؤ القيس: ارقت له ونام أبو شريخ فقال التؤأم: إذا ما قلت قد هدا استطارا فقال امرؤ القيس: كان هزيزة بواء غيب فقال التؤأم: عشار وله لاقت عشارا فقال امرؤ القيس: فلما أن علا كنفي أضاخ
فقال التؤأم: وعت أعجاز ريقه فحارا فقال امرؤ القيس: فلم يترك بذات السر ظبيا فقال التؤأم: ولم يترك بجلهتها حمارا قال أبو عمرو: فلما رأى امرؤ القيس قد ماتنه ولم يكن في الزمن الأول شاعر يماتنه آلى ألا ينازع الشعر أحدا بعده.
أخبر محمد بن القاسم أن امرأ القيس آلى بالية ألا يتزوج امرأة حتى يسألها عن ثمانية وأربعة واثنتين. فجعل يخطب النساء فإذا سألهن عن هذا قلن: أربعة عشر. فبينا هو يسير في جوف الليل إذا هو برجل يحمل ابنة له صغيرة فأعجبته. فقال لها: يا جارية ما ثمانية وأربعة واثنتان. فقالت: أما ثمانية فأطباء الكلبة. وأما أربعة فاخلاف الناقة. واثنتان فثديا المرأة. فخطبها إلى أبيها فزوجه إياها وشرطت عليه أن تسأله عن ثلاث خصال فجعل لها ذلك وعلى أن يسوق إليها مائة من الإبل وعشر أعبد وعشر وصائف وثلاث أفراس ففعل ذلك. ثم أنه بعث عبدا له إلى المرأة وأهدى إلهيا نحيا من سمن ونحيا من عسل وحلة من عصب. فنزل العبد ببعض لمياه فنشر الحلة ولبسها فتعلقت بشعره فانشقت. وفتح النحيين فطعم أهل الماء منها فنقصا. ثم قدم على حي المرأة وهم خلوف فسألها عن أبيها وأمها وأخيها ودفع إليها هديتها فقالت له: اعلم مولاك أن أبي ذهب يقرب بعيدا ويبعد قريبا وأن أمي ذهبت تشق النفس نفسين وأن أخي يراعي الشمس وإن سماءكم انقشت وأن وعاءكم نضبا. فقدم الغلام على مولاه وأخبره. فقال: أما قولها أن أبي ذهب يقرب بعيدا ويبعد قريبا فأن أباها ذهب
صفحة ١١
يحالف قوما على قومه. وأما قولها ذهبت أمي تشق النفس نفسين فإن أمها ذهبت تقبل امرأة نفساء. وأما قولها أن أخي يراعي الشمس فإن أخاها في سرح له يرعاه فهو ينتظر وجوب الشمس ليروح به. وأما قولها أن سماءكم انشقت فإن البرد الذي بعثت به انشق. وأما قولها إن وعاءكم نضبا فإن النخيين اللذين بعثت بهما نقصا. فاصدقني. فقال: يا مولاي إني نزلت بماء من مياه العرب فسألوني عن نفسي وأخبرتهم أني ابن عمك ونشرت الحلة فانشقت وفتحت النحيين فأطعمت منهما أهل الماء. فقال: أولى لك. ثم ساق مائة من الإبل وخرج نحوها ومعه الغلام فنزلا منزلا فخرج الغلام يسقي الإبل فعجز فأعانه امرؤ القيس ورمى به الغلام في البئر وخرج حتى جاء المرأة بالإبل وأخبرهم أنه زوجها فقيل لها: قد جاء زوجك فقالت: والله ما أدري أزوجي هو أم لا ولكن انحروا له جزروا وأطعموه من كشرها وذنبها. ففعلوا. فقالت: اسقوه لبنا حازرا وهو الحامض فسقوه فشرب. فقالت: افرشوا له عند الفرث والدم ففرشوا له فنام. فلما أصبحت أرسلت إليه أني أريد أن أسألك. فسألته عن أشياء لم يحسن جوابها. قال: عليكم بالعبد فشدوا أيديكم به. ففعلوا. قال: ومر قوم فاستخرجوا امرأ لقيس من البئر فرجع إلى حيه فاستاق مائة من الإبل وأقبل على امرأته. فقيل لها: قد جاء زوجك فقالت: والله ما أدري أهو زوجي أم لا ولكن انحروا له جزورا فأطمعه من كرشها وذنبها ففعلوا فلما أتوه بذلك قال: وأين الكبد والسنام واللحاء. فأبى أن يأكل فقالت: اسقوه لبنا. حارزا. فأبى أن يشربه وقال: فأن الصريف والرثيئة. فقالت: افرشوه عند الفرث والدم. فأبى أن ينام وقال: افرشوا لي فوق التلعة الحمراء وأضربوا لي عليها خباء. ثم أرسلت إليه هلم شريطتي عليك في المسائل الثلاث. فقال لها: سلي عما شئت: فقالت: مم تختلج كشحاك قال: للبسي الحبرات. قالت: فمم تختلج فخذاك. قال: لركضي المطيات. قالت: هذا زوجي لعمري فعليكم به واقتلوا العبد. فقتلوه وتزوج الجارية.
ثم لم يزل امرؤ القيس مع صعاليك العرب حتى أتاه خبر مقتل أبيه وهو بدمون من أرض اليمن وقيل من الشام. وأخبر ابن السكيت أن حجرا أباه لما طعنه بعض بني أسد ولم يجهز عليه أوصى ودفع كتابه إلى رجل من بني عجل يقال له عامر الأعور وقال له: انطلق إلى ابني نافع فإن بكى وجزع فاله عنه واستقر أولادي واحدا واحدا حتى تأتي امرأ القيس وكان أصغرهم فإن لم يجزع فادفع إليه سلاحي وخيلي ووصيتي. وقد كان بين في وصيته من قتله وكيف كان خبره. فانطلق الرجل بوصيته إلى نافع ابنه فأخذ التراب فوضعه على رأسه.
صفحة ١٢
ثم استقراهم واحدا واحدا فكلهم فعل ذلك حتى أتى امرأ القيس فوجده في دمون مع نديم له يشرب ويلاعبه بالنرد فقال له: قتل حجر. فلم يلتفت إلى قوله وأمسك نديمه. فقال له امرؤ القيس: اضرب. فضرب حتى إذا فرغ قال: ما كنت لأفسد عليك دستك. ثم سأل الرسول عن أمر أبيه كله فأخبره فقال (من الرجز) :
تطاول الليل علينا دمون ... دمون إنا معشر يمانون
وإنا لأهلنا محبون
وقال أيضا (من الطويل) :
خليلي ما في الدار مصحى لشارب ... ولا في غد إذ ذاك ما كان مشرب
ثم قال: ضيعني أبي صغيرا وحملني دمه كبيرا. لا صحو اليوم ولا سكر غدا اليوم خمر وغدا أمر. اليوم فخاف وغدا نقاف. فذهب القولان مثلا. ثم شرب سبعا فلما صحا آلى أن لا يأكل لحما ولا يشرب خمرا ولا يدهن بدهن ولا يلهو بلهو ولا يغسل رأسه من جناية حتى يدرك بثأر أبيه فيقتل من بني آله مائة ويجز نواصي مائة وفي ذلك يقول (من الطويل) :
أرقت ولم يأرق لما بين نافع ... وهاج لي الشوق الهموم الروادع
ولما جنه الليل رأى برقا فقال (من المتقارب) :
أرقت لبرق بليل أهل ... يضيء سناه بأعلى الجبل
أتاني حديث فكذبته ... بأمر تزعزع منه القلل
بقتل بني أسد ربهم ... ألا كل شيء سواه جلل
فأين ربيعة عن ربها ... وأين تميم وأين الخول
صفحة ١٣
ألا يحضرون لدى بابه ... كما يحضرون إذا ما استهل
وروى الهيثم بن عدي: أن امرأ القيس لما قتل أبوه كان غلاما قد ترعرع وكان في بني حنظلة مقيما لأن ظئره كانت امرأة منهم فلما بلغه ذلك قال (من الرجز) :
يا لهف هند إذ خطئن كاهلا ... القاتلين الملك الحلاحلا
خير معد حسبا ونائلا ... وخيرهم قد علموا شمائلا
نحن جلبنا القرح القوافلا ... تالله لا يذهب شيخي باطلا
يحملننا والاسل النواهلا ... وحي صعب والوشيج الذابلا
مستثفرات بالحصى جوافلا ... يستشرف الأواخر الأوائلا
حتى أبيد مالكا وكاهلا
وقال أيضا في ذلك وهو بدمون (من الطويل) :
أتاني وأصحابي على رأس صيلع ... حديث أطال النوم عني فأنعما
فقلت لعجلي بعيد مآبه ... ابن لي وبين لي الحديث المجمجما
فقال أبيت اللعن عمرو وكاهل ... أباحا حمى حجر فأصبح مسلما
وقال الهيثم: لما قتل حجر انحازت بنته هند وقطينة إلى عوير بن شيخة بن جابر. فقال له قومه: كل أموالهم فإنهم مأكولون. فأبى. فلما كان الليل حمل هندا وقطنيها وأخذ بخطام
صفحة ١٤
جملها واشأم بهم في ليلة طخياء مدلهمة فرمى بها النجاد حتى اطلعها نجران وقال لها: إني لست أغني عنك شيئا وراء هذا الموضع وهؤلاء قومك وقد برئت خفارتي. فمدحه امرؤ القيس بعدة قصائد منها قوله (من المنسرح) :
إن بني عوف أثبتوا حسبا ... ضيعه الدخللون إذ غدروا
أدوا إلى جارهم خفارته ... ولم يضع بالمغيب إذ نصروا
لم يفعلوا فعل آل حنظلة ... أنهم جير بئس ما ائتمروا
لا حميري وفي ولا عدس ... ولا أست عير يحكها الثفر
لكن عوير وفي بذمته ... لا عور عابه ولا قصر
وقال يمدحه ويمدح بني عوف رهطه (من الطويل) :
ألا إن قوما كنتم أمس دونهم ... هم منعوا جاراتكم آل غدران
عوير ومن مثل العوير ورهطه ... وأسعد في ليل البلابل صفوان
ثياب بني عوف طهاري نقية ... واوجههم عند المشاهد غران
هم بلغوا الحي المضلل أهله ... وساروا بهم بين العراق ونجران
فقد أصبحوا والله اصفاهم به ... ابر بإيمان وأوفى بجيران
ثم أخذ امرؤ القيس يعد العدد ويجهز الأسلحة لمحاربة بني أسد. فبلغ بني أسد ما يعده لهم امرؤ القيس فأوفدوا عليه رجالا من قبائلهم كهولا وشبانا فيهم المهاجر بن خداش ابن عم
صفحة ١٥
عبيد بن الأبرش وقبيصة بن نعيم وكان في بني أسد مقيما وكان ذا بصيرة بمواقع الأمور وردا وإصدارا يعرف ذلك له من كان محيطا بأكناف بلده من العرب. فلما علم امرؤ القيس بمكانهم أمر بإنزالهم وتقدم بإكرامهم والإفضال عليهم واحتجب عنهم ثلاثا. فسألهم من حضرهم من رجال كندة. فقال: هو في شغل بإخراج ما في خزائن أبيه حجر من السلاح والعدة. فقالوا: اللهم غفرا إنما قدمنا في أمر نتناسى به ذكر ما سلف ونستدرك به ما فرط فليبلغ ذلك عنا. فخرج عليهم في قباء وخف وعمامة سوداء وكانت العرب لا تعتم بالسواد إلا في الترات. فلما نظروا إليه قاموا له وبدر إليه قبيصة: إنك في المحل والقدر والمعرفة بتصرف الدهر وما تحدثه أيامه وتنتقل به أحواله بحيث لا تحتاج إلى تبصير واعظ ولا تذكرة مجرب ولك من سودد منصبك وشرف أعراقك وكرم أصلك في العرب محتمل يحتمل ما حمل عليه من إقامة العثرة ورجوع عن هفوة. ولا تتجاوز الهمم إلى غاية إلا رجعت إليك فوجدت عندك من فضيلة الرأي وبصيرة الفهم وكرم الصفح في الذي كان من الخطب الجليل الذي عمت رزيته ترارا واليمن ولم تخصص كندة بذلك دوننا للشرف البارع. كان لحجر التاج والعمة فوق الجبين الكريم وإخاء الحمد وطيب الشيم. ولو كان يفدى هالك بالأنفس الباقية بعده لما بخلت كرائمنا على مثله ببذل ذلك ولفديناه منه. ولكن مضى به سبيل لا يرجع أولاه على أخراه ولا يلحق أقصاه أدناه فأحمد الحالات في ذلك أن تعرف الواجب عليك في إحدى خلال. إما أن اخترت من بني أسد أشرفها بيتا وأعلاها في بناء المكرمات صوتا فقدناه إليك بنسعه يذهب مع شفرات حسامك تنائي قصيدته فقول: رجل امتحن بهلك عزيز فلم تستل سخيمته إلا بتمكينه من الانتقام. أو فداء بما يروح من بني أسد من نعمها فهي ألوف تجاوز الحسبة فكان ذلك فداء رجعت به القضب إلى أجفانها لم يردده تسليط الأحن على البراء. وأما إن توادعنا حتى تضع الحوامل فنسدل الأزر ونعقد الخمر فوق الرايات. _قال (فبكى امرؤ القيس ساعة ثم رفع رأسه. فقال: لقد علمت العرب أن لا كفء لحجر في دم وأني لن اعتاض به جملا أو ناقة فاكتسب بذلك سبة الأبد وفت العضد. وأما النظرة فقد أوجبتها الأجنة في بطون أمهاتها ولن أكون لعطبها سببا وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك تحمل القلوب حنقا. وفوق الأسنة علقا (من المتقارب) :
إذا جالت الخيل في مأزق ... تدافع فيه المنايا النفوسا
أتقيمون أم تنصرفون. قالوا: بل ننصرف باسوأ الاختيار. وأبلى الاجترار لمكروه
صفحة ١٦
وأذية وحرب وبلية. ثم نهضوا عنه وقبيصة يقول متمثلا:
لعلك أن تستوخم الموت إن غدت ... كتائبنا في مأزق الموت تمطر
فقال امرؤ القيس: لا والله لا أستوخمه فرويدا ينكشف لك دجاها عن فرسان كندة وكتائب حمير ولقد كان ذكر غير هذا أولى بي إذ كنت نازلا بربعي ولكنك قلت فأجبت. فقال قبيصة: ما نتوقع فوق قدر المعاتبة والإعتاب. قال امرؤ القيس: فهو ذاك.
ثم ارتحل امرؤ القيس حتى نزل بكرا وتغلب وعليهم إخوته شرحبيل وسلمة فسألهم النصر على بني أسد. ثم بعث عليهم فنذروا بالعيون ولجأوا إلى بني كنانة وكان الذي أنذرهم بهم علباء بن الحرث. فلما كان الليل قال لهم علباء: يا معشر بني أسد تعلمون والله أن عيون امرئ القيس قد أتتكم ورجعت إليه بخبركم فارحلوا بليل ولا تعملوا بني كنانة. ففعلوا وأقبل امرؤ القيس بمن معه من بكر وتغلب حتى انتهى إلى بني كنانة وهو يحسبهم بني أسد فوضع السلاح فيهم وقال: يا لثارات الملك يا لثارات الهمام. فخرجت إليه عجوز من بني كنانة. فقالت: أبيت اللعن لسنا لك بثأر نحن من كنانة فدونك ثأرك فاطلبهم فإن القوم قد ساروا بالأمس. فتبع بني أسد ففاتوه ليلتهم فقال في ذلك (من الوافر) :
ألا يا لهف هند إثر قوم ... هم كانوا الشفاء فلم يصابوا
وقاهم جدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب
وافلتهن علباء جريضا ... ولو أدركته صفر الوطاب
ثم سار وراء بني أسد سيرا حثيثا إلى أن أدركهم وقد تقطعت خيله وقطع أعناقهم العطش وبنو أسد جامون على الماء. فنهد إليهم فقاتلهم حتى كثرت الجرحى والقتلى فيهم وحجز الليل بينهم وهربت بنو أسد. فلما أصبحت بكر وتغلب أبوا أن يتبعوه وقالوا له: قد أصبت ثأرك. قال: والله ما فعلت ولا أصبت من بني كاهل ولا من غيرهم من بني أسد أحدا. قالوا: بلى ولكنك رجل مشؤوم. وكرهوا قتالهم بني كنانة وانصرفوا عنه.
صفحة ١٧
فلما امتنعت بكر بن وائل وتغلب من اتباع بني أسد خرج من فوره ذلك إلى اليمن فاستنصر ازدشنوءة فأبوا أن ينصروه. وقالوا: إخواننا وجيراننا: فنزل بقيل يدعى مرثد الخير بن ذي جدن الحميري وكانت بينهما قرابة فاستنصره واستمده على بني أسد فأمده بخمسمائة رجل من حمير. ومات مرثد قبل رحيل امرئ القيس بهم وقام بالمملكة بعده رجل من حمير يقال له قرمل بن الحميم وكانت أمه سوداء فردد امرأ القيس وطول عليه حتى هم بالانصراف وقال (من الطويل) :
وإذ نحن ندعو مرثد الخير ربنا ... وإذ نحن لا ندعى عبيدا لقرمل
لإأنفذ له ذلك الجيش. وتبعه شذاذ من العرب واستأجر من القبائل رجالا فسار بهم إلى بني أسد ومر بتبالة وبها للعرب صنم تعظمه يقال له ذو الخلصة. فاستقسم عنده بقداحه وهي ثلاثة: الآمر والناهي والمتربص. فاجالها فخرج الناهي ثم أجالها فخرج الناهي. ثم أجالها فخرج الناهي. فجمعها وكسرها وضرب بها وجه الصنم وقال: ويحك لو أبوك قتل ما عقتني. ثم خرج فظفر ببني أسد. وقال في نيله منهم ما أراد من ثأره (من السريع) :
يا دار ماوية بالحائل ... فالسهب فالخبتين من عاقل
صم صداها وعفى رسمها ... واستعجمت عن منطق السائل
قولا لدودان عبيد الععصا ... ما غركم بالأسد الباسل
قد قرت العينان من مالك ... ومن بني عمرو ومن كاهل
ومن بني غنم بن دودان إذ ... نقذف أعلاهم على السافل
نطعنهم سلكي ومخلوجة ... لفتك لأمين على النابل
صفحة ١٨
إذ هن أقساط كرجل الدبا ... أو كقطا كاظمة الناهل
حتى تركناهم لدى معرك ... أرجلهم كالخشب الشائل
حلت لي الخمر وكنت امرءا ... عن شربها في شغل شاغل
فاليوم اسقى غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل
(قالوا) والح المنذر في طلب امرئ القيس ووجه الجيوش في طلبه من إياد وبهراء وتنوخ ولم تكن لهم به طاقة. فأمدهم أنوشروان بجيش من الأساورة فسرحهم في طلبه وتفرق حمير ومن كان مع امرئ القيس فنجا في عصبة من بني آكل المرار حتى نزل بالحرث بن شهاب من بني يربوع بن حنظلة ومعه أدرع خمس الفضفاضة والضافية والمحصنة والخريق وأم الذيول كن لبني آكل المرار يتوارثونها ملكا عن ملك. فما لبثوا عند الحرث بن شهاب حتى بعث إليه المنذر مائة من أصحابه يوعده بالحرب إن لم يسلم إليه بني آكل المرار. فأسلمهم ونجا امرؤ القيس ومعه يزيد بن معاوية بن الحرث وبنته هند بنت امرئ القيس والأدرع والسلاح ومال كان بقي معه. فخرج على وجهه وأقبل على فرسه الشقراء لاجئا إلى ابن عمته عمرو بن المنذر وأمه هند بنت عمرو بن حجر بن آكل المرار وذلك بعد قتل أبيه وأعمامه وتفرق ملك أهل بيته. وكان عمرو يومئذ خليفة لأبيه المنذر ببقة وهي بين الأنبار وهيت. فمدحه وذكر صهره ورحمه وإنه قد تعلق بحباله ولجأ إليه. فأجاره عمرو ومكث عنده زمانا. ثم بلغ المنذر مكانه عنده فطلبه وأنذره عمرو. فهرب إلى هانىء بن مسعود بن عامر أحد رؤساء بني شيبان. فاستجاره فلم يجره وقال له: أنا في دين الملك فأتى سعد بن ضباب الإيادي سيد قومه فأجاره وكان سعد من أنسبائه. فقال يمدح سعدا ويهجو ابن مسعود وكان أفوه شاخص الأسنان (من الطويل) :
صفحة ١٩
لعمرك ما قلبي إلى أهله بحر ... ولا مقصر يوما فيأتيني بقر
ألا إنما الدهر ليال واعصر ... وليس على كل شيء قويم بمستمر
ليال بذات الطلح عند محجر ... أحب إلينا من ليال على أقر
لعمرك ما أن ضرني وسط حمير ... وأقوالها غير المخيلة والسكر
وغير الشقاء المستبين فليتني ... أجر لساني يوم ذلكم مجر
لعمرك ما سعد بخلة آثم ... ولا نأ نإ يوم الحفاظ ولا حصر
لعمري لقوم قد نرى أمس فيهم ... مرابط للأمهار والعكر الدثر
أحب إلينا من أناس بقنة ... يروح على آثار شلئهم النمر
يفاكهنا سعد ويغدو لجمعنا ... بمثنى الزقاق المترعات وبالجزر
لعمري لسعد حيث حلت دياره ... أحب إلينا منه فافرس حمر
وتعرف فيه من أبيه شمائلا ... ومن خاله ومن يزيد ومن حجر
سماحة ذا وبر ذا ووفاء ذا ... ونائل ذا إذا صحا وإذا سكر
وقال أيضا يمدح سعدا (من الوافر) :
صفحة ٢٠