٣٢- الإتيان بالضمير العائد على المثنى مفردًا
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يُرضوه إن كانوا مؤمنين) (١) .
ذكروا هذه الآية، ولفت نظرهم ذكر الله، ثم ذكر رسوله معطوفًا عليه، ثم إيقاع الفعل " يُرضى " على الضمير المفرد، وهو " الهاء " فى " يُرضوه " وهو شاهدهم فى هذه الشبهة، ثم قالوا:
" فلماذا لم يثنِّ الضمير العائد على الاثنين، اسم الجلالة ورسوله فيقول: أن يُرضوهما "؟!
الرد على الشبهة:
هذه الآية، والتركيب الذى حسبوه أو عاندوا وقالوا إنه خطأ لغوى نحوى، إنما هى لمحة قرآنية تتعلق بعقيدة توحيد الله ﷿.
ومثيرو هذه الشبهات، لا يعرفون عن حقيقة " التوحيد " شيئًا، وضوابطهم فيه مثل الغربال إذا وضع فيه سائل لا يبقى فيه منه شىء.
وقد فات هؤلاء أمر عظيم، ترتب عليه جهل شنيع ذلك أنهم لم يعرفوا أصلًا، أو لم يستحضروا فى أذهانهم وهم يسطرون هذه الشبهة، متى يُثنَّى المعدود، ومتى يجمع، ومتى يظل مفردًا.
وهى من البديهات، بيان ذلك: أن هناك شرطًا موضوعيًّا فى تثنية المعدود وجمعه ذلك الشرط هو:
التجانس بين الأفراد فى الواقع، فقَلَم يثنى فيقال: قلمان ويجمع فيقال أقلام.
لكن حمارًا - مثلًا - لا يثنى مع القلم ولا يجمع، لأنك لو ثنيت القلم والحمار، فقلت قلمان، أو حماران، وأنت تريد قلمًا وحمارًا لم يفهم أحدٌ من العقلاء ما تريد.
وحتى الرجل والمرأة، وهما فردان بينهما تجانس من جهة، واختلاف من جهة أخرى. فإنك لا تستطيع أن تثنيهما فتقول: رجلان، أو تقول: امرأتان، وأنت تريد رجلًا وامرأة. هذا لا يجوز عند العقلاء، ولا يجوز فى الواقع الذى يحسه الناس ويحترمونه.
هذا التمهيد ضرورى جدًّا لبيان لماذا ورد فى القرآن " أن يُرضوه " دون أن يُرضوهما كما اقترح مثيرو هذه الشبهات؟
وذلك لأنه ليس بين الله، وبين رسوله، ولا بين الله وبين أىِّ شىء فى الوجود تجانس من أى نوع من الأنواع.
فالله هو الفرد الصمد، الواحد الأحد، الذى لم يلد فليس له ولد، ولم يولد فليس له أم ولا أب. هو الخالق البارئ المصوِّر، ليس له كفوًا أحد، وليس كمثله شىء فى الوجود وغيره، هو المخلوق المبروء المصوَّر (اسم مفعول) .
من أجل هذا؛ فإن الله لا يُجمَع ولا يُثنىَّ. لا فى ذاته ولا مع أحدٍ من خلقه.
وعلى هذا جرى بيان القرآن المعجز، فلم يقل كما يقترح هؤلاء الغافلون:
والله ورسوله أحق أن يُرضوهما. لأن الله ليس فردًا من جنس الأفراد الذين ينتمى إليهم رسوله ﷺ.
بل هو فرد لا مثيل له فى الوجود أبدًا، فلا يكون مع غيره ثانى اثنين، أو ثالث ثلاثة، تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا.
فالخطأ كل الخطأ هو ما توهمه مثيرو هذه الشبهات. أما ما عليه النظم القرآنى الحكيم، فهو ليس كل الصواب فحسب ولكنه الإعجاز المفحم، فى أَجْلَى معارضه، وآلق آفاقه ومَنْ أحسن من الله حديثًا.
التوحيد فى القرآن عقيدة متمكنة فى الواقع الخارجى مستقرة كل الاستقرار فى قلوب المؤمنين.
وهو - كذلك - عقيدة فى البيان القرآنى، فلم يأت الله فى لغة القرآن إلا واحدًا أحدًا، ليس اثنين، وليس ثلاثة (ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) (٢) وليس ما لفت أنظار مثيرى هذه الشبهات فى الآية المتقدمة هو الوحيد فى القرآن، بل له نظائر عميت عنها أبصارهم وبصائرهم:
ففى الآية الثالثة من سورة التوبة نفسها، ورد قوله تعالى:
(.. أن الله برئ من المشركين ورسوله..) (٣) .
لم يقل: إن الله ورسوله بريئان من المشركين، لأن وصف الله بالبراءة من المشركين، وصف توحيدى تابع للواحد الأحد، الذى ليس له مثيل فى كل الوجود.
ولذلك قال: " أن الله برئ من المشركين ورسوله " أى ورسوله برئ منهم، والذى دل على هذا، ما ذكره فى جانب الله أولًا.
كما تقول: محمد (من أُولى العزم من الرسل، وموسى ﵇، أى وموسى من أُولى العزم من الرسل. تثبت الوصف المحذوف لموسى، استنادًا إلى ذكر ذلك الوصف خبرًا عن محمد، عليهما الصلاة والسلام. هذا ما يفهمه العقلاء من بليغ الكلام.
وفى سورة التوبة نفسها - كذلك - ورد قوله تعالى: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنَّا إلى الله راغبون) (٤) .
روعيت عقيدة التوحيد فى النظم القرآنى المعجز المفحم فى ثلاثة مواطن:
الأول: " ما آتاهم الله ورسوله " حيث عطف رسوله على اسم الجلالة، دون عود ضمير مثنى.
الثانى: " حسبنا الله " دون عطف رسوله على اسم الجلالة. لأن الحسب لا يكون إلا لله.
الثالث: " سيؤتينا الله من فضله ورسوله " دون أن يُثَنِّى فيقول: من فضلهما.
وإنما عُطِف " رسوله " بعد تمام الجملة الأولى.
ثم حذف من جملة " ورسوله " ما دل عليه الكلام السابق، أى:
وسيؤتينا رسوله من فضله.
هذا هو التوحيد فى القرآن، دقة وإحكام، ومبالغة فى تنزيه الله عن المساوى والمثيل والكفء حتى فى اللفظ توحيد نقى، خالص، مبرأ عن الشبهات المعنوية ومبرأ عن الشبهات اللفظية.
ولم يرد فى القرآن الحكيم اسم يكون ثانيًا لله، ولا اسم يكون ثالثًا لله، لا فى المعانى، ولا فى الألفاظ وذلك هو التوحيد الخالص. رسالة كل الرسل والأنبياء.
والخلاصة:
أن فى الآية أسلوب الإيجاز البليغ لأن معناها الذى لم يهتدوا إليه هو: " والله أحق أن يُرضوه ورسوله أحق أن يرضوه " فحُذف " أحق أن يرضوه " من الأول، لدلالة الثانى " ورسوله أحق أن يرضوه " عليه.
وهذا فن بلاغى يطلقون عليه: " الاحتباك " وهو نوعان:
الأول: أن يحذف كلام من جملة أولى ويذكر ما يدل عليه فى جملة ثانية جاءت بعدها مباشرة. مثل الآية التى اتخذوها منشأ لهذه الشبهة.
والثانى: أن يحذف من جملة ثانية كلام يدل عليه ما ذكر فى الجملة التى قبلها، ومثاله قوله تعالى: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرًا..) (٥) .
والمعنى: والنهار مبصرًا ليسعوا فيه، فحذف لأن " ليسكنوا " دليل قوى عليه.
وقد تلحظ حذفًا من الأول - كذلك - لدلالة الثانى عليه، وهو: مظلمًا، أى جعلنا الليل مظلمًا، وحذف لأن ما فى الثانى، وهو " مبصرًا " دليلًا عليه.
_________
(١) التوبة: ٦٢.
(٢) سورة ص: ٢٧.
(٣) التوبة: ٣.
(٤) سورة: ٥٩.
(٥) النمل: ٨٦.
1 / 82