فقد تبين إذن أن تقدم الثلاثة على الأربعة إنما هو فى الوجود؛ وهو غير معنى العدد، وليس ذلك فى معنى العدد. وكذلك تقدم الهيولى والصورة على المركب هو فى الوجود؛ وهو غير معنى الجوهرية. فمعنى المقولة إذن إنما يتقدم الأنواع ويتأخر عنها لا لنفسه، بل لمعنى يضاف إليه فيه التقديم والتأخير وهو الوجود. فهذا أصل نافع لك فى معرفة الفرق بين تقدم أنواع المقولة بعضها على بعض الذى لا يمنع كون المقولة مقولة لها وبين تقدم أصناف الموجود، وما يجرى مجراه، بعضها على بعض، الذى يمنع كون الموجود، أو مايجرى مجراه، مقولة لها.
وقد علمت من تحصيل ما سلف لك ذكره واتضح لك أن الوحدة والنقطة ليستا من الكم؛ وأن المادة والصورة هما من الجوهر. وأما قولهم إن الوحدة فى العدد، والعدد من الكم فالوحدة من الكم، فهو قول المجازفين أيضا. فليس كل شئ يوجد فى نوع مقولة فهو منها، وإلا فالأعراض كلها جواهر؛ إذ هى موجودة فى أنواع الجواهر. بل لو كانت الوحدة موجودة فى العدد وجود النوع فى الجنس، ثم كان العدد نوعا من الكم لكان يجب أن تكون الوحدة من مقولة الكم؛ فإما إذا كانت الوحدة فى العدد وليست بعدد؛ ثم حمل على العدد شئ؛ فليس يجب أن يحمل عليها؛ فليس ما قالوه واجبا. ولو كان ما قالوه واجبا؛ لكان بالحرى أن تكون يد الإنسان إنسانا، ورجل البقرة بقرة أ حيوانا.
وأما المبحوث عنه من حال العدم فيكشفه إذا عرف أن العدم قد يقال على الضد وقد يقال على العدم الذى ليس بضد؛ فأما الأعدام التى يعنى بها الأضداد، فإن الأضداد قد تسمى أعداما، كما ستعرفه. فهى تشارك المقولة. فأما الأعدام الحقيقية، فإنها ليست ذوات، بل أعدام ذوات. والمقولات هى مقولات ذوات وأمور وجودية؛ والأعدام لا حصة لها من الوجود والحقيقة. وإنما وجودها فى موضوعاتها وجود بالعرض كما يتبين. فإن دخلت فى مقولة دخلت بالعرض؛ والدخول فى المقولة بالعرض ليس دخول النوع فى المقولة، لأن النوع يدخل فى جنسه بالذات. وإذا لم يكن وقوع المقولة على الشئ وقوع الجنس، لم تكن جنسا له؛ وإذا لم تكن جنسا له، لم تكن مقولة بالقياس إليه حتى تشمله شمول المقولة لما تحتها من الأنواع. فالأعدام لا تدخل فى هذه المقولات.
واما ما قيل فى الشمال والجنوب وفى التغذى، فينبغى أن تعلم أولا أن ظنون هؤلاء المتخلفين بأن الشئ يدخل فى مقولات شتى ظنون فاسدة؛ وذلك أن لكن شئ ماهية وذاتا واحدة؛ وإن كانت له أعراض شتى. ويستحيل أن تكون الماهية والذات الواحدة، من حيث هى تلك الذات والماهية، تدخل فى مقولة ما وفى مقولة أخرى ليست هى؛ لأنها إن تقومت فى ذاتها بأنها جوهر، امتنع أن تقوم بأنها ليست بجوهر. فإن دخلت فى مقولة بذاتها ودخلت فى أخرى بالعرض، فلم تدخل فى الأخرى دخول النوع فى الجنس: لأن الأمر الذى بالعرض لا يقوم جوهر الشىء؛ وما لا يقوم جوهر الشىء لا يكون جنسا له؛ وما لا يكون جنسا للشىء لا يكون مقولة تشمله.
وقد يغلط فى هذا الباب شىء واحد؛ وهو ما لقائل أن يقوله إن للجسم، بما هو جسم، حقيقة ذات؛ وبما هو أبيض، حقيقة ذات لا محالة ليست هى حقيقة ذات الجسم، فإن كان الجسم جزءا منه، وكان معنى الأبيض أنه جسم أبيض؛ أو كان لازما لجزء منه؛ إن كان الأبيض ليس جسما أبيض، بل شيئا هو أبيض، لكن يلزم أن يكون ذلك الشىء جسما، فيجوز أن يكون لهذا الذى هو جزء أو لازم مقولة تقال على ذاته. وأما الأبيض فهو شىء غيره، وإن قارنه وله حقيقة ذات غير حقيقة ذاته. وليست المقارنة بموجبة أن لا تتغاير الذوات؛ فيجب إذن أن يكون للأبيض، بما هو أبيض، مقولة تخصه ذاتية له.
صفحة ٧٤