ومن جهة أن الشىء إنما يكون فى المطلقات بحسب الوهم، وكلامنا بحسب الوجود، وليس فى الوجود، كما تعلم، إلا أعيان موجودة فى أعيان كلها شخصية، وكلامنا فى نحو وجودها الذى لها، لا فى نحو التوهم. ولو اعتبرنا نحو التوهم، لم يبعد أن نجعل كثيرا من الأعراض مفارقة للموضوعات فى التوهم. وأما القمر فى فلكه فذلك أمر لزمه من خارج لزوما، لا أن علة وجود القمر، من حيث هى طبيعة القمرية، كونه فى مكانه. ولذلك يصح أن يفرض للقمر جزء بوجه ما؛ لأن كل جسم يصح أن يفرض له جزء بوجه ما، وما يفرض من أجزائه يكون غير موصوف بأنه يكون فى مكان الكل أو فى مكان البتة. تعلم هذا فى علم الطبيعة؛ ومع هذا، فليس ذلك لأنه فى المكان حتى يوجب كونه فى المكان أن لايفارق المكان؛ بل إنما يوجب ذلك فيه شئ غير كونه فى المكان. وأما العرض فإنما ذلك له لأنه فى موضوع. وأما الصورة التي فى المادة، فإنها ليست المادة علة قوامها عند الفلاسفة المحصلين، بل علة الصورة شئ هو أيضا علة المادة، لكنها كذلك بتوسط الصورة؛ ويلزم الصورة أن تكون ذاتها ملاقية لما تقومه موجودا بالفعل.
قال قوم: إن الفرق بين وجود الصورة فى المادة وبين وجود العرض فى الموضوع أن الصورة تكون جزاء من المركب؛ وأما العرض فلا هو جزء من الموضوع ولا من المركب. وصاروا من هذا إلى أن قال قوم: إنك إن لم تقس الصورة إلى المركب، بل إلى القابل، كانت عرضا؛ وإن قست العرض إلى الحاصل منه ومن الموضوع كان صورة.
وهذا كلام ردئ جدا مشوش. وذلك لأن الرسم المقدم لم يشترط فيه أن العرض لايكون جزءا من شئ البتة، ولا فيه أن يكون جزءا من المركب؛ بل فيه أن لايكون جزءا من الموضوع، حين قيل إنه لاكجزء منه، أى من الموضوع، أى من الذي هو عرض فيه. فليكن هذا فرقا بين وجود العرض فى الموضوع، وبين وجود الصورة فى المركب.
وليس المطلوب هذا؛ بل المطلوب هو الفرق بين وجود العرض فى الموضوع ووجود الصورة فى المادة الذي هو اعتبار غير اعتبار وجود الصورة فى المركب منها ومن المادة. فلو كان قيل فى الرسم إن العرض موجود فى شئ لاكجزء من شئ البتة، لكان الأمر على مايقولونه؛ ولو كان مع ذلك لايكون العرض جزءا من شئ البتة، لامن الموضوع ولا من المركب، وكانت الصورة جزءا من أحدهما، وهو المركب، وليست جزءا من المادة وكان ربما فرق هذا القول؛ ولكن ليس يفهم ذلك من قولنا: موجود فى شئ لاكجزء منه، وإنما يفهم من هذا القول إنه لايكون جزءا من الشئ الذى هو موجود فيه وجود الشئ فى محله؛ وإذ ليس ذلك مقولا، وليس أيضا حقا، فما ذهبوا إليه هذيان.
وإنما لم يكن ذلك حقا؛ لأن الأعراض قد تكون أجزاء من مركبات منها ومن الجواهر؛ فقد يحدث من تركيب جوهر وعرض معنى مركب منهما، كل واحد منهما جزءا منه، كالكرسي من الخشب ومن عارض فيه، والخشب موضوع له بالحقيقة ليس بمادة؛ وكالتقعير فإنه يحدث منه ومن الأنف شئ وهو الأفطس فإذن هذا الأعتبار ردئ فاسد.
وههنا شئ يجب أن تميل إليه كل الميل؛ وهو إنه يشبه أن يكون هذا الرسم الذى رسم به العرض لم يعن فيه بعرض ما، إذا تغلغل الإنسان فى الفلسفة، شعر به وبالفرق بينه وبين الصورة، بل عنى به معنى أعم من معنى هذا العرض، وهو المعنى الذى يعم هذا العرض والصورة، وهو الكون فى المحل، والحاصل هيئة له، سواء أكان ذلك المحل مادة أم موضوعا. فإن اسم العرض لايبعد أن يقال على الأمرين قولا يتفقان فيه وفى مفهومه بوجه؛ ولكن هذا الاشتباه ليس أمرا لامحيد عنه ولامحيص. وأما أمر المادة الكائنة فى صورة، لاتفارق المادة تلك الصورة إلى غيرها، فهو أمر مشكل؛ وكإنه يعيب هذا الرسم فينقصه، إذ يجعله عاما لهذه المادة والعرض؛ ومع ذلك فإن المادة يقال إنها فى هذه الصورة بتلك الشرائط الأخرى، فيشبه أن يكون من الوجوه التى يجاب بها عن هذا، ويكون جوابا عن أشياء أخرى أيضا، أن هذا الكتاب إنما يخاطب به الجمهور؛ فإن المبتدئ يعد فى درجة الجمهور، وهذا الرسم مبنى على لفظ متعارف؛ وإنما تفسر أحواله بحسب اللفظ.
ثم التعارف المشهور فى استعمال لفظة " فى " ليس يتناول نسبة الصورة إلى المادة، ولا المادة إلى الصورة، بل يتناول نسبة الجواهر إلى الأعراض، كقولهم: زيد في راحة؛ ونسبة الأعراض إلى الجواهر، كقولهم البياض في جسم، مع أمور أخرى جرى التعارف بها، كالشئ فى الزمان والمكان والإناء، والجزء فى الكل، وما جرى ذلك المجرى. وإن الفرق إذا حصل، باستثناء هذه الوجوه المشهورة، لم يبق فى المشهور شئ يقال إنه في شئ غير العرض، حتى يسبق إذا ظن المتعلم أن ذلك الوجود وجود العرض فى الجوهر، ولا يكون.
صفحة ٥٦