فغاية علم المنطق أن يفيد الذهن معرفة هذين الشيئين فقط؛ وهو أن يعرف الإنسان أنه كيف يجب أن يكون القول الموقع للتصور، حتى يكون معرفا حقيقة ذات الشئ؛ وكيف يكون، حتى يكون دالا عليه، وإن لم يتوصل به إلى حقيقة ذاته؛ وكيف يكون فاسدا، مخيلا أنه يفعل ذلك، ولا يكون يفعل ذلك، ولم يكون ذلك، وما الفصول التي بينها؛ وأيضا أن يعرف الإنسان أنه كيف يكون القول الموقع للتصديق، حتى يكون موقعا تصديقا يقينيا بالحقيقة لايصح انتقاضه؛ وكيف يكون حتى يكون موقعا تصديقا يقارب اليقين؛ وكيف يكون بحيث يظن به أنه على إحدى الصورتين، ولا يكون كذلك، بل يكون باطلا فاسدا؛ وكيف يكون حتى يوقع عليه ظن وميل نفس وقناعة من غير تصديق جزم؛ وكيف يكون القول حتى يؤثر في النفس ما يؤثره التصديق والتكذيب من إقدام وامتناع، وانبساط وانقباض، لا من حيث يوقع تصديقا، بل من حيث يخيل، فكثير من الخيالات يفعل في هذا الباب فعل التصديق؛ فإنك إذا قلت للعسل إنه مرة مقيئة، نفرت الطبيعة عن تناوله مع تكذيب لذلك ألبتة، كما تنفر لو كان هناك تصديق، أو شبيه به قريب منه، وما الفصول بينها ؟ ولم كانت كذلك ؟ وهذه الصناعة يحتاج متعلمها القاصد فيها قصد هذين الغرضين إلى مقدمات منها يتوصل إلى معرفة الغرضين؛ وهذه الصتاعة هي المنطق. وقد يتفق للإنسان أن ينبعث في غريزته حد موقع للتصور، وحجة موقعة للتصديق، إلا أن ذلك يكون شيئا غير صناعي، ولا يؤمن غلطه في غيره؛ فإنه لو كانت الغريزة والقريحة في ذلك مما يكفينا طلب الصناعة، كما في كثير من الأمور، لكان لا يعرض من الاختلاف والتناقض في المذاهب ما عرض، ولكان الإنسان الواحد لا يناقض نفسه وقتا بعد وقت إذا اعتمد قريحته؛ بل الفطرة الإنسانية غيركافية في ذلك ما لم تكتسب الصناعة، كما أنها غير كافية في كثير من الأعمال الأخر، وإن كان يقع له في بعضها إصابة كرمية من غير رام. وليس أيضا إذا حصلت له الصناعة بالمبلغ الذى للإنسان أن يحصل له منها كانت كافية من كل وجه، حتى لا يغلط ألبتة؛ إذ الصناعة قد يذهب عنها ويقع العدول عن استعمالها في كثير من الأحوال، لا أن الصناعة في نفسها غير ضابطة، وغير صادة عن الغلط، لكنه يعرض هناك أمور: أحدها من جهة أن يكون الصانع لم يستوف الصناعة بكمالها؛ والثاني أن يكون قد استوفاها، لكنه في بعض المواضع أهملها، واكتفى بالقريحة؛ والثالث أنه قد يعرض له كثيرا أن يعجز عن استعمالها، أو يذهب عنها. على أنه وإن كان كذلك، فإن صاحب العلم، إذا كان صاحب الصناعة واستعملها، لم يكن ما يقع له من السهو مثل ما يقع لعادمها؛ ومع ذلك فإنه إذا عاود فعلا من أفعال صناعته مرارا كثيرا تمكن من تدارك إهمال، إن كان وقع منه فيه؛ لأن صاحب الصناعة، إذا أفسد عمله مرة أو مرارا، تمكن من الاستصلاح، إلا أن يكون متناهيا في البلادة؛ فإذا كان كذلك فلا يقع له السهو في مهمات صناعته التي تعينه المعاودة فيها، وإن وقع له سهو في نوافلها . وللإنسان في معتقداته أمور مهمة جدا، وأمور تليها في الاهتمام. فصاحب صناعة المنطق يتأتى له أن يجتهد في تأكيد الأمر في تلك المهمات بمراجعات عرض عمله على قانونه. والمراجعات الصناعية فقد يبلغ بها أمان من الغلط، كمن يجمع تفاصيل حساب واحد مرارا للاستظهار، فتزول عنه الشبهة في عقد الجملة.
فهذه الصناعة لابد منها في استكمال الإنسان الذي لم يؤيد بخاصية تكفيه الكسب. ونسبة هذه الصناعة إلى الروية الباطنة التي تسمى النطق الداخلي، كنسبة النحو إلى العبارة الظاهرة التي تسمى النطق الخارجي، وكنسبة العروض إلى الشعر؛ لكن العروض ليس ينفع كثيرا في قرض الشعر، بل الذوق السليم يغنى عنه، والنحو العربي قد تغنى عنه أيضا الفطرة البدوية، وأما هذه الصناعة فلا غنى عنها للإنسان المكتسب للعلم بالنظر والروية، إلا أن يكون إنسانا مؤيدا من عند الله،فتكون نسبته إلى المروين نسبة البدوي الى المتعربين.
الفصل الرابع فصل في موضوع المنطق
صفحة ٥