118

والمعنى الثانى والثالث قد يظن بهما أنهما معنى واحد؛ وذلك للغفلة، فإن النار أشد تخلخلا من الهواء بمعنى زيادة الحجم، وليس أقبل منه للتشكك والتقطيع، إذ الهواء رطب جدا والنار يابسة، والهواء إذا استحال نارا قبلت حجما أكبر وصارت أشد مقاومة ويبسا. لكن الماء إذا سخن فصار هواء، عرض له ازدياد الحجم ورقة القوام، فيظن من لا يتثبت فى حكمه ويتبع عفو التمثيل والاستقراء أن الأمرين واحد. وأما نحن فنقول: أما المعنى الأول فهو من باب الوضع، وأما المعنى الثانى فمن باب الكيف، وأما المعنى الثالث فمن باب الكم المقارن للإضافة أو الإضافة المقارنة للكم ، لأنه زيادة حجم. وقد اتفق أن كانت العناصر ذوات البرد تقارن فيه التخلخل الذى بمعنى زيادة الحجم، التخلخل الذى بمعنى الرقة؛ والتكاثف الذى بمعنى نقصان الحجم، التكاثف الذى بمعنى الغلظ والمقاومة. وكانت العناصر ذوات الحر بالضد، مثل الهواء أذا صار نارا فازداد تخلخل حجم ولم يزدد تخلخل قوام، والنار إذا صارت هواء، كان بالضد فى ذلك. وأما البارد فإنه إذا صار حارا، عرض له التخلخلان جميعا؛ والحار إذا صار باردا، عرض له التكاثفان معا. فهذا هو الذى يجب أن يتحقق؛ ولا تلتفت إلى ما كتب فى مواضع أخرى.

ولنقتصر على هذا المبلغ من شرح هذا الجنس، ولنحاذ بعبارتنا نظم التعليم الأول، لنفهم ما قيل فيه على وجه تزول معه الشكوك فنقول: إن هذا الجنس منه كيفيات انفعالية هى التي تكون قارة راسخة فى الشىء، كحلاوة العسل، وسواد الغراب، وليس يقال لها إنها انفعاليات، لأنه يجب أن تكون ما هى فيه لا محالة قد انفعلت بها بل لأنها تنفعل عنها على النحو المذكور. أما الحواس فقط، أو الحواس وغيرها، وبعض هذه، فلها مزية نسبة إلى الانفعال، مثل البياض والسواد، فإنهما لا توجد فى أجسامها إلا أن يكون قد وقع قبلها انفعالات فى موضوعها فى الكيفيات الأولى الملموسة حتى حصل مزاج يوجبها؛ فإن ما سوى الملموسات بالحقيقة يتبع الملموسات، فإنك ترى الإنسان يعتريه من الخجل والوجل حر أو برد، فيتبع ذلك حمرة كما فى الخجل، أو صفرة كما فى الوجل؛ فإن عرض مثل تلك الأسباب فى أصل الكون والولادة، فثبت، فاستقر مزاجا ، وتبعها حمرة أو صفرة، صارت الحمرة والصفرة لازمتين، فكانت من جملة الكيفيات الانفعالية. وكذلك إذا عرض بعد الكون فثبت كمزاج يحدث فيثبت ما يوجبه.

وأما الذى يعرض للزوال فهو مثل الشىء الذى إذا سئل عن قوم عرض لهم لانفعال ما، لم يصلح أن يجاب به، ولم تلتفت إلى ما عرض لهم منه. وقد جرت العادة أنه إنما يعرفون بالكيفيات التى تلزمهم، فلا يقال لمن خلق أحمر البشرة أنه مصفار اللون بسبب عارض من وجل أو حرد غير لونه، فلذلك لم تسم هذه كيفيات بل انفعالات.

وأعلم أن هذا على سبيل المجاز والتوسع فى الكلام، وإلا فالكيفية تقال على المعنيين جميعا؛ وذلك لأنه إذا سئل عن الذى أصفر للوجل، أنه كيف هو فى هذه الحال، فقيل أصفر اللون، لم يكن الجواب كاذبا؛ وإذا سئل عنه، أنه كيف هو مطلقا، فلا يجاب فى العادة بأنه أصفر إذا كان محمار الخلقة. والسبب فى ذلك أن المجيب يستشعر أن السائل يسأله، أنه كيف هو فى طبيعته الصحيحة، وفى حالة الأكثرية، ويكون عنده أن السائل توسع فترك بعض ما يجب أن يتم به عبارته، فيجيبه حينئذ بما يجيبه. وإذا سأل مطلقا أيضا، أنه كيف زيد، وكان السؤال لا يقتضى زيادة استشعار، أو كان السؤال يوهم المجيب أنه يسأل عن حاله فى الوقت، فلا يكذب، لو قال: مغموم أو محموم، وإن كان ذلك سريع الزوال.

صفحة ١٢٢