وإذ لا بد لنا فى التعليم والتعلم من الألفاظ، فإنا نقول: إن اللفظ إما مفرد و إما مرمكب. والمركب هو الذى قد يوجد له جزء يدل على معنى هو جزء من المعنى المقصود بالجملة دلالة بالذات، مثل قولنا: الإنسان وكاتب، من قولنا، الإنسان كاتب؛ فإن لفظة الإنسان منه تدل على معنى، ولفظة كاتب أيضا تدل على معنى، وكل واحد منهما جزء قولنا: الإنسان كاتب، ومعناه جزء المعنى المقصود من قولنا: الإنسان كاتب، دلالة مقصودة فى اللفظ، ليس كما نقول: حيوان، فيخظن أن الحى منه مثلا دال إما على جملة المعنى، و إما على بعض منه، لوكان من غير أن كان يقصد فى إطلاق لفظة الحيوان أن يدل الحى منه تلك الدلالة. وأما المفرد فهو الذى لا يدل جزء منه على جذء من معى الكل المقصود به دلالة بالذات، مثل قولنا "الإنسان'، فإن "الإن "و"السان' لا يدلان على جزأين من معنى الإنسان، منهما يأتلف معنى الإنسان، ولا يلتفت فى هذه الصناعة إلى التركيب الذى يكون بحسب المسموع، إذا كان لا يدل جزء منه على جزع من المعنى، كقولنا: عبد شمس، إذا أريد به اسم لقب ولم يرد عبد الشمس. وهذا وأمثاله لا يعد فى الألفاظ المؤلفة، بل فى المفردة، والموجود فى التعليم الأقدم من رسم الألفاظ المفردة أنها هى التى لا تدل أجزاؤها على شىء. واستنقص فريق من أهل النظر هذا الرسم، وأوجب أنه يجب أن يزاد فيه: أنها التى لا تدل أجزاؤها على شيء من معنى الكل، إذ قد تدل أجزاء الألفاظ المفردة على معان، لكنها لا تكون أجزاء معانى الجملة. وأنا أرى أن هذا الاستنقاص من مستنقصه سهو، وأن هذه الزيادة غير محتاج إليها للتتميم بل للتفهيم. وذلك أن اللفظ بنفسه لا يدل ألبتة البتة ، ولولا ذلك لكان لكل لفظ حق من المعنى لا يجاوزه، بل إنما يدل بإرادة اللافظ فكما أن اللافظ يطلقه دالا على معنى، كالعين على ينبوع الماء، فيكون ذلك دلالته، ثم يطلقه دالا على معى آخر، كالعين على الدينار، فيكون ذلك دلالته. كذلك إذا أخلاه فى ا إطلاقه عن الدلالة بقى غير دال، وعند كثير من أهل النظر غير لفظ فإن الحرف والصوت فيما أظن لايكون، بحسب التعارف عند كثير من المنطقين، لفظا، أو يشتمل على دلالة. وإذا كان ذلك كذلك، فالمتكلم باللفظ المفرد لا يريد أن يدل بجزئه على جزء من معنى الكل، ولا أيضا يريد أن يدل بجزئه على معنى اخر من شأنه أن يدل به عليه وقد انعقد الاصطلاح على ذلك. فلا يكون جزؤه ألبتة البتة دالا على شىء حين هوجزؤه بالفعل، اللهم إلا بالقوة، حين نجدالإضافة المشار إليها، وهى مقارنة إرادة القائل دلالة به. وبالجملة فإنه إن دل، فإنما يدل، لا حين ما يكون جزءا من اللفظ المفرد، بل إذا كان لفظا قائما بنفسه؛ فأما وهو جزء فلا يدل على معنى ألبتة البتة . واللفط إما مفرد و إما مركب، وقد علم أن النظر فى المفرد قبل النظر فى المركب. ثم الفظ المفرد إما أن يكون معناه الواحد الذى يدل عليه لا يمتنع فى الذهن، من حيث تصوره، اشتراك الكثرة فيه على السوية، بأن يقال لكل واحد منهم إنه هو، اشتراكا على درجة واحدة، مثل قولنا: الإنسان، فإن له معنى فى النفس، وذلك المعنى مطابق لزيد ولعمرو ولخالد على وجه واحد لأن كل واحد منهم إنسان. ولفظة الكرة المحيطة بذى عشرين قاعدة مثلثات، بل لفط الشمس والقمر، وغير ذلك، كل منها يدل على معنى لا يمنع تصوره فى الذهن من اشتراك كثرة فيه، وإن لم يوجد مثلا بالفعل، كالكرة المذكورة، أوكان يمتنع ذلك بسبب خاج عن مفهوم اللفظ نفسه كالشمس وإما أن يكون معناه بحيث يمتنع فى الذهن إيقاع الشركة فيه، أعنى فى المحصل الواحد المقصود به، كقولنا زيد؛ فإن لفط زيد، وإن كان قد يشترك فيه كثيرون، فإنما يشتركون من حيث المسموع؛ وأما معناه الواحد فيستحيل أن يجعل واحد منه مشتركا فيه، فإن الواحد من معانيه هو ذات المشار إليه، وذات هذا المشار إليه يمتنع فى الذهن أن يجعل لغيره، اللهم إلا أن لايراد بزيد ألبتة البتة ذاته، بل صفة من صفاته المشترك فيها، وهذا القسم، وإن لم تمتنع الشركة فى مسموعه، فقد يمتنع أن يوجد فى المعنى الواحد من المدلول به عليه شركة. فالقسم الأول يسمى كليا، والثانى يسمى جزئيا وأنت تعلم أن من الألفاظ ما هو على سبيل القسم الأول، ومن المعانى ما هو على سبيل معنى القسم الأول، وهو المعنى الذى المفهوم منه فى النفس لا تمتنع نسبته إلى أشياءكثيرة تطابقها نسبة متشاكلة ولا عليك من حيث أنت منطقى أنه كيف تكون هذه النسبة، وهل لهذا المعنى من حيث هو واحد مشترك فيه وجود فى ذوات الأمور التى جعلت لها شركة فيه؛و بالجملة وجود مفارق وخارج غير الذى فى ذهنك أوكيف حصوله فى الذهن؛ فإت النظر فى هذه لصناعة أرى أو لصناعتين. فقد علمت أن اللفظ إما أن يكون مفردا، وإما أن يكون مؤلفا؛ وأن المفرد إما أن يكون كليا، وإما أن يكون جزئيا. وقد علمت أنأ أوجبنا تأخير النظر فى المركب. واعلم أيضا أنا لانشتغل بالنظر فى الألفاظ الجزئية ومعانيها، فإنها غيرمتناهية فتحصر، ولا لوكانت متناهية كان علمنا بها من حيث هى جزئية يفيدنا كمالا حكميا، أو يبلغنا غاية حكمية، كما تعلم هذا فى موضع العلم به، بل الذى يهمنا النظر فى مثله، هو معرفة اللفظ الكلى، وأنت تعلم أن اللفط الكلى إنما يصيركليا، بأن له نسبة ما، إما بالوجود، وإما بصحة التوهم، إلى جزئيات يحمل عليها. والحمل على وجهين: حمل مواطأة، كقولك: زيد إنسان فإن الإنسان محمول على زيد بالحقيقة والمواطأة؛ وحمل اشتقاق، كحال البياض بالقياس إلى الإنسان فإنه يقال: إن الإنسان أبيض أو ذو بياض، ولا يقال: إنه بياض، و إن اتفق أن قيل: جسم أبيض، ولون أبيض، فلا يحمل حمل المحمول على الموضوع،؛ وإنما غرضنا ها هنا ما يعمل هو ماكان على سبيل المواطأة. فلنذكر أقسام الكلى الذى إنما ينسب إلى جزئيات مواطأة عليها، ويعطيها الاسم والحد، لكنه قد تضطرنا إصابتنا لبعض الأغراض أن لا نسلك المعتاد من الطرق فى قسمة هذه الألفاظ فى أول الأمر، بل نعود إليه ثانيا. فنقول: إن لكل شىء ماهية هو بها ما هو، وهى حقيقته، بل هى ذاته. وذات كل شىء واحد ر بما كان معنى واحدا مطلقا ليس يصير هو ما هو بمعان كثيرة، إذا التأمت يحصل منها ذات لاشى ع واحدة. وقلما تجد لهذا من الظاهرات مثالا، فيجب أن يسلم وجوده. ور بما كان واحدا ليس بمطلق، بل تلتئم حقيقة وجوده من أمور ومعان إذا التأمت حصل منها ماهية الشىء، مثال ذلك الإنسان، فإنه يحتاج أن يكون جوهرا، ويكون له امتداد فى أبعاد تفرض فيه طولا وعرضا وعمقا، وأن يكون مع ذلك ذا نفس، وأن تكون نفسه نفسا يغتذى بها ويحس ويتحرك بالإرادة، ومع ذلك يكون بحيث يصلح أن يتفهم المعقولات، ويتعلم صناعات ويعلمها إن لم يكن عائق من خارج لا من جملة الإنسانية فإذا التأم جميع هذا حصل من جملتها ذات واحدة هى ذات الإنسان. ثم تخالطه معان وأسباب أخرى، يتحصل بها واحد واحد من الأشخاص الإنسانية، ويتميز بها شخص عن شخص، مثل أن يكون هذا قصيرا وذاك طويلا، وهذا أبيض وذاك أسود. ولا يكون شى من هذه بحيث لو لم يكن موجودا لذات الشخص، وكان بدله غيره، لزم منه أن يفسد لأجله؛ بل هذه أمور تبع وتلزم وإنما تكون حقيقة وجوده بالإنسانية، فتكون ماهية كل شخص هى بإنسانيته، لكن إنيته الشخصية تحصل من كيفية وكمية وغير ذلك، وقد يكون أيضا له من الأوصاف أوصاف أخرى غير الإنسانية، يشترك فيها الناس مع الإنسانية، بل تكون بالحقيقة أوصافا لانسان العام مثل كونه ناطقا، أى ذا نفس ناطقة، ومثل كونه ضاحكا بالطبع. لكن كونه ناطقا أمر هو أحد الأمور التى، لما التأمت، اجتمع من جملتها الإنسان، وكونه ضاحكا بالطبع هو أمر، لما التأمت الإنسانية بما التأمت منه، لم يكن بد من عروضه لازما فإن الشىء إذا صار إنسانا بمقارنة النفس الناطقة لمادته ، أعرض للتعجب الموجب فى مادته هيئة الضحك، كما أعرض لأمور أخرى: من الخجل والبكاء والحسد والاستعداد للكتابة وقبول العلم، ليس واحد منها لما حصل، أعرض الشىء لحصول النفس الناطقة له، فيكون حصول النفس الناطقة إذن سابقا لها، ويتم به حصول الإنسانية وتكون هذه لوازم بعدها، إذا استثبتت الإنسانية لم يكن بد منها. فقد لاح لك من هذا أن هاهنا ذاتا حقيقية للشىء، وأن له أوصافا بعضها تلتئم منه ومن غيره حقيقة الشىء، و بعضها عوارض لا تلزم ذاته لزوما فى وجوده، وبعضها عوارض لازمة له فى وجوده، فما كان من الألفاظ الكلية يدل على حقيقة ذات شىء أو أشياء، فذلك هو الدال على الماهية، وما لم يكن كذلك فلا يكون دالا على الماهية، فإن دل على الأمور التى لابد من أن تكون متقدمة فى الوجود على ذات الشىء، حتى يكون بالتئامها يحصل ذات الشىء، ولا يكون الواحد منها وحده ذات الشىء، ولا اللفظ الدال عليه يدل على حقيقة ذات الشىء بكالها، بل على جزء منه فذلك ينبغى أن يقال له اللفظ الذاتى الغير الدال على الماهية. وأما ما يدل على صفة هيى خارجة عن الأمرين، لازمة كانت أو غير لازمة، فانه يقال له لفظ عرضى، ولمعناه معنى عرضى. ثم هاهنا موضع نظر: أنه هل يجب أن يكون معنى اللفظ الذاتي مشتملا على معنى اللفظ الدال على الماهية اشتمال العام على الخاص أو لا يكون: فإن قولنا: لفط ذاتى، يدل على لفط لمعناه نسبة إلى ذات الشى،ومعنى ذات الشىء لا يكون منسوبا إلى ذات الشىء، إنما ينسب إلى الشىء ما ليس هو. فلهذا بالحرى أن يظن أن لفظ الذاتى إنما الأولى به أن يشتمل على المعانى التى تقوم الماهية، ولا يكون اللفظ الدال على الماهية ذاتيا، فلا يكون الإنسان ذاتيا لانسان، لكن الحيوان والناطق كونان ذاتيين للإنسان. فإن لم يجعل الإنسان ذاتيا للانسان، بما هو إنسان، بل لشخص شخص، لم يخل إما أن تكون نسبته بالذاتية إلى حقيقة ماهية الشخص ، وذلك هو الإنسان أيضا وإما أن تكون نسبته بها إلى الجملة التى بها يتشخص، فيكون ليس هو بكماله، بل هوجزء مما هو منه، من حيث هو جملة. فحينذ يعرض أن لا يكون الحيوان الناطق والإنسان وما يجرى مجراها ذاتيا لشخص تخص فقط، بل الأمور العرضية أيضا، مثأل لونه، وكونه قصيرا، وكونه ابن فلان، وما يجرى هذا المجزى قد تكون ذاتية، لأنها أجزاء مقومة للجملة. فحينئذ لا يكون للإانسان، من حيث هو ذاتى للشخص، إلا ما لهذه فهذه الأفكار تدعوإلى أن لا يكون الذاتى مشتملا على المقول فى جواب ماهو، لكن قولنا ذاتى، و إن كان بحسب قانون اللغة يدل على هذا المعنى النسبى، فإنه بحسب اصطلاح وقع بين المنطقيين يدل على معى آخر. وذلك لأن اللفظ الكلى، إذا دل على معنى نسبته إلى الجزئيات التى تعرض لمعناه نسبة يجب، إذا توهمت غير موجودة، أن لا يكون ذات ذلك الشىء من الجزئيات موجودا، لا أن ذات ذلك الشىء يجب أن يكون يرفع أولا، حتى يصح توهم رفع هذا، بل لأن رفع هذا موجب رفع ذلك الشىء، سواء كان لأن هذا المرفوع هوحقيقة ذاته، أوكان هذا المرفوع مما تحتاج إليه حقيقة ذاته ليتقوم فإنه يقال له ذاتى، فإن لم يكن هكذا وكان يصح فى الوجود أو فى التوهم أن يكون الشى ء الموصوف به حاصلامع رفعه، أوكان لايصح فى الوجود، ولكن ليس رفعه سبب رفعه، بل إنما لايصح ذلك فى الوجود لأن رفعه لا يصح إلا أن يكون ذلك، ارتفع أولا فى نفسه، حتى يكون رفعه بالجملة ليس سبب رفعه فهو عرضى، فأما المرتفع فى الوجود فكالقيام والقعود، وذلك ما يسرع رفعه، وكالشباب فإنه يبطؤ رفعه، وكغضب الحليم فإنه يسهل إزالته، وكالخلق فإنه يصعب إزالته. وأما المرتفع فى الوهم دون الوجود فكسواد الحبشى، وأما الذى لا يرتفع، ولايرفع رفع السبب، فككون الإنسان بطبعه معرضا لتعجب والضحك، وهوكونه ضحاكا بالطبع، فإنه لا يجوز أن يرفع عن الإنسان فى الوجود، فإن توهم مرفوعا، فإن الإنسانية تكون مرفوعة، لا أن رفع الأعراض بالطبع لهذا المعنى هو سبب رفع الإنسانية، بل لأنه لا يتاتى أن يرفع، إلا أن تكون الإنسانية أولا مرفوعة، كما أنها ليست سببا لثبوت الإنسانية، بل الإنسانية سبب لثبوتها. فقد بان اختلاف مابين نسبة الحيوان والناطق والإنسان إلى الأشخاص، وبين نسبة الأعراض إليها، فإن النسبة الأولى إذا رفعتها، أوجب رفع الشخص وأما النسبة الثانية فنفس رفعها لا يوجب رفع الشخص، بل منها ما يرتفع، ومنها ما لا يجوز أن يرتفع أويرتفع الشخص؛ وأما رفعها فلا يرفع الشخص ألبتة البتة . وإذا كان الأمر على هذه الجهة، فالذاتى يشتمل على الدال على الماهية. فقد اتضح لك أن اللفط المفرد الكلى منه ذاتى يدل على الماهية، ومنه ذاتى لا يدل على الماهية، ومنه عرضى.
[الفصل السادس] (و) فصل فى تعقب ما قاله الناس فى الذاتى والعرضى
صفحة ٣٣