والحب والبغض أي صاحبة الصدور فإنها لما كانت فيها قائمة بها نسبت إليها نسبة الصحبة والملازمة وقد اختلف في إعراب من خلق هو النصب أو الرفع فإن كان مرفوعا فهو استدلال على علمه بذلك لخلقه له والتقدير أنه يعلم ما تضمنته الصدور وكيف لا يعلم الخالق ما خلقه وهذا الاستدلال في غاية الظهور والصحة فإن الخلق يستلزم حياة الخالق وقدرته وعلمه ومشيئته وإن كان منصوبا فالمعنى ألا يعلم مخلوقه وذكر لفظة من تغليبا ليتناول العلم العاقل وصفاته على التقديرين فالآية دالة على خلق ما في الصدور كما هي على علمه سبحانه به وأيضا فإنه سبحانه خلقه لما في الصدور دليلا على علمه بها فقال: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَق﴾ أي كيف يخفى عليه ما في الصدور وهو الذي خلقه فلو كان ذلك غير مخلوق له لبطل الاستدلال به على العلم فخلقه سبحانه للشيء من أعظم الأدلة على علمه به فإذا انتفى الخلق انتفى دليل العلم فلم يبق ما يدل على علمه بما ينطوي عليه الصدر إذا كان غير خالق لذلك وهذا من أعظم الكفر برب العالمين وجحد لما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم وعلم بالضرورة أنهم القوة إلى الأمم كما ألقوا إليهم أنه إله واحد لا شريك له
فصل: ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم أنه قال: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ وقوله: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً﴾ وقوله حكاية عن زكريا أنه قال عن ولده: ﴿وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ وقال في الطرف الآخر: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ وقال: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ وهذه الأكنة والوقر هي شدة البغض والنفرة والإعراض التي لا يستطيعون معها سمعا ولا عقلا والتحقيق أن هذا ناشئ عن الأكنة والوقر فهو موجب ومقتضاه فمن فسر الأكنة والوقر به فقد فسرهما بموجبهما ومقتضاهما وبكل حال فتلك النفرة والإعراض والبغض من أفعالهم وهي مجعولة لله سبحانه كما أن الرأفة والرحمة وميل الأفئدة إلى بيته هو من أفعالهم والله جاعله فهو الجاعل للذوات وصفاتها وأفعالها وإراداتها واعتقاداتها فذلك كله مجعول مخلوق له وإن كان العبد فاعلا له باختياره وإرادته فإن قيل هذا كله معارض بقوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ﴾ والبحيرة والسائبة إنما صارت كذلك بجعل العباد لها فأخبر سبحانه أن ذلك لم يكن بجعله قيل لا تعارض بحمد الله بين نصوص الكتاب بوجه ما والجعل ههنا جعل شرعي أمري لا كوني قدري فإن الجعل في كتاب الله ينقسم إلى هذه النوعين كما ينقسم إليهما الأمر والإذن والقضاء والكتابة والتحريم كما سيأتي بيانه إن شاء الله فنفى سبحانه عن البحيرة والسائبة جعله الديني الشرعي أي لم يشرع ذلك ولا أمر به ولكن الذين كفروا افتروا عليه الكذب وجعلوا ذلك دينا له بلا علم ومن ذلك قوله تعالى: ﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ فأخبر سبحانه أن هذه الفتنة الحاصلة بما ألقى الشيطان هي بجعله سبحانه وهذا جعل كوني قدري ومن هذا قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه: "اللهم اجعلني لك شكارا لك ذكارا لك رهابا لك مطواعا لك مخبتا لك أواها منيبا" فسأل ربه أن يجعله كذلك وهذه كلها أفعال اختيارية واقعة بإرادة العبد واختياره وفي هذا الحديث وسدد لساني وتسديد اللسان جعله ناطقا بالسداد من القول ومثله قوله في الحديث الآخر: "اللهم اجعلني لك مخلصا" ومثله قوله
1 / 56