وأنا، إن خفت على هذا الشعر العامي من شيء، فلست أخاف عليه إلا من تفاصحه.
لا يا أصحابي، إياكم ثم إياكم! اسمعوا نصيحتي وافهموا ما يعنيه أبو الأدب، أبو عثمان المليح الذوق والروح. سوف أتحدث إليكم وعنكم، وسوف أتناولكم بالنقد فلا أبخل عليكم بالإطراء حيث يقتضي الحال، إنكم تقولون شعرا حيا، من وحي مدرسة «تحت السنديانة» ونعمت المدرسة هي! وسيظل أشعر الناس منكم ذاك الذي لا يبرح ظلها ليقعد بين أربعة حيطان.
وبعد، فما أنا ببخيل بالثناء كما تظنون، ما حاولت لذع الأدباء والشعراء إلا بقصد الإصلاح وعن حسن نية. ولكن النقد مكروه كيفما دارت به الحال، والإنسان يحب الثناء، ما جرحت أديبا أو شاعرا تشفيا أو حسدا، كما يتهم المؤلفون نقادهم، فأنا لم أبغ إلا استقامة أدبنا العربي وتوجيهه توجيها متينا صحيحا، فلبنان كان، ولا يزال، الخادم الأمين لهذا اللسان، وكذلك يجب أن يظل دائما، فهلموا بنا، يا إخواني، إلى درس أدبكم درسا يحله المنزلة التي أوليناها أدبنا الناطق باللغة الفصحى.
تعود الناس، كلما ذكروا أدبا، أن يؤرخوه، وهذا الأدب العامي أرخه كثيرون، وأحدث هؤلاء كان صديقنا أمين نخلة حين قدم لديوان أبيه، أمير الزجل، المرحوم رشيد بك نخلة. إن تلك المقدمة، على قصرها، كافية وافية، وفيها تحقيق كثير. وأخيرا ظهر كتاب نفيس للعالم النفساني الأستاذ منير وهيبة الخازني الغساني. ضم هذا الكتاب تاريخ الزجل وأدبه وأعلامه قديما وحديثا، وقد أعجب الناس حين ظهر عام أول، فتنادوا إلى تكريم صاحبه، ولقد استحق الأستاذ وهيبة هذا التكريم مرتين: الأولى لأنه مؤلف ملحمة «يأجوج ومأجوج»، التي أخرجت الزجل من نطاقه الضيق، والثانية بمناسبة صدور كتابه «تاريخ الزجل».
إنني أهنئ الأستاذ وهيبة بكتابه، وإن كنت لا أشايعه على كل ما جاء كتأييد العامية تأييدا مطلقا، فأنا عدو هذه العامية بعفشها ونفشها، ولا أحب أن أسمع أن فينا من يدعو إليها في الأدب لأنني أخاف على مجد لبنان الأدبي أن يتزعزع أساسه.
كنا مرة نفحص تلامذة البكالوريا في مدرسة حوض الولاية، ومدرسة حوض الولاية كانوا يقولون: إنها عايبة، فشرع سميي الخوري مارون غصن، داعي دعاة اللغة العامية، في ذلك الحين، يحدثني عن كتابه الذي عنوانه «ما في متلو هالكتاب»، فاحتدم الجدل بيني وبينه. كان رحمه الله كبير الهامة، وقد عملوه منسنيورا جديدا، ولكل جديد بهجة. فكبر الأزرار الحمر، وعرض الزنار البنفسجي، وغل عنقه بسلسلة ذهبية ضخمة، وحمل عصا كالنبوت، فكان يخبط بها الأرض عند كل جملة. ولما خفت أن يغلبني بتهاويله، استعنت بالنكتة فلبتني حالا، كعادتها في الأزمات، قلت له: على مهلك يا محترم، يقولون: إن هذه البناية مزعزعة فكيف تحمل مارونين؟ فشمع أبونا الخيط، وقعدنا نضحك.
إن في استطاعتنا أن نستعمل ألفاظا وتعابير كثيرة دون أن تكتب بالعامية، فهي أداة غير صالحة للنثر الفني، فالروعة الفنية التي تجدها في شعر «جلنار» ميشال طراد لا تجد شيئا منها في مقدمته التي كتبها الشاعر سعيد عقل.
إن لبنان لم يبرز في الشعر ولم تكن له فيه مدرسة إلا في هذا الزمن، أما زجله فتفوق على زجل جميع الأقطار العربية. ولما كان لا بد من كلمة تاريخية، أقول: إنني قرأت في كتاب الزجل للأستاذ وهيبة وغيره أن الناس يسألون: من أين نشأ وكيف؟! فالجواب عندي، بدون قيل وقالوا وزعموا: إنه سرياني اللحن في أول عهده، وعربيه فيما بعد، فالزجل الذي يعرف بالقرادي هو وليد أحد ميامر مار أفرام، الموجود في صلاة ستار الأحد:
شوبحو وهدرو وقولوسو
لا لوهو ايتيو شبيحو
صفحة غير معروفة