نزول أكثر من آية في واقعة واحدة
أيضًا قد تتعدد الآيات والسبب واحد.
ومثال سبب واحد نزلت فيه آيتان ما أخرجه البخاري من حديث زيد بن ثابت، وزيد بن ثابت كاتب الوحي للرسول ﷺ، ومعلوم أنه ما كان يكتب ولا يقرأ ﵊ وإنما ينزل عليه جبريل بالوحي وبحكمة الله ﷿ يتم الحفظ، كما قال سبحانه: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ [القيامة:١٦ - ١٧] يعني: قراءته، ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة:١٩]، فالرسول ﷺ لما كانت تنزل عليه الآية أو الآيات، يدعو واحدًا من كتاب الوحي كالخلفاء الأربعة، كـ أبي بكر أو عمر، أو عثمان، أو علي، أو زيد بن ثابت، أو ابن مسعود، أو معاوية بن أبي سفيان أو غيرهم ليكتب له، وبعضهم أحصى كتاب الوحي فبلغ بهم بضعًا وأربعين نفسًا، فيدعو النبي ﷺ أحدهم ويملي عليه، ومنها هذه الآية: ﴿لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ﴾ [النساء:٩٥]، فجاء ابن أم مكتوم وكان رجلًا أعمى فقال: يا رسول الله! لو أستطيع الجهاد لجاهدت، فأنزل الله ﷿: «غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ»، فصارت الآية: ﴿لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ﴾ [النساء:٩٥].
هناك آية أخرى نزلت بالسبب نفسه، يقول زيد بن ثابت: كنت أكتب لرسول الله ﷺ وإني لواضع القلم على أذني إذ أمر بالقتال، فجعل رسول الله ﷺ ينظر ما ينزل عليه، إذ جاء أعمى فقال: يا رسول الله! كيف لي وأنا أعمى؟ يعني: كيف أجاهد وأنا أعمى؟ فأنزل الله: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة:٩١]، فنزل قول الله ﷿: «لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ»، هذه في سورة النساء، وقوله: «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ»، في سورة التوبة، آيتان كلاهما نزلتا بسبب مجيء الأعمى، سواء كان ابن أم مكتوم أو غيره، فقد شكا للرسول ﷺ أنه لا يستطيع الجهاد، وممكن أن يكون الأعمى في المرة الثانية غير ابن أم مكتوم كالذي ذكر في حديث التوسل المعروف.
ومن أمثلة ذلك أيضًا: أن أم سلمة ﵂ قالت: (يا رسول الله! لا أسمع الله ذكر النساء بشيء في الهجرة -يعني: أم سلمة ﵂ قالت للرسول ﷺ: الآيات التي نزلت في شأن الهجرة كلها في شأن الرجال والنساء لم ينزل فيهن شيء- فأنزل الله: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [آل عمران:١٩٥]) أي: الرجال والنساء بعضهم من بعض، يعني: نحن الرجال من النساء، باعتبار أننا جميعًا خرجنا من أرحام أمهاتنا، وقد يكون المعنى: بعضكم من بعض: النساء من الرجال، باعتبار الخلقة الأولى أن حواء خلقت من ضلع آدم.
فهذه الآية نزلت بسبب سؤال أم سلمه.
وأخرج الحاكم عن أم سلمه قالت: يا رسول الله! تذكر الرجال ولا تذكر النساء.
يعني: آيات القرآن كلها في الرجال، وليس هناك شيء في النساء، فأنزل الله ﷿: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٣٥]، فهنا سألت أم سلمة، فنزل بسبب سؤالها آيتان، وفي كلتا الآيتين ذكر للنساء بجوار ذكر الرجال.
8 / 5