وضحك العجوز ضحكة ساخرة واستطرد: وقد كان لجندي ابن قواد! - ابن جندي الأعور؟! - نعم، وقيل إنه ابن حرام، وإن جندي كان يؤمن بذلك ولكنه كان يخشاه، ولذلك أخذه معه اتقاء لشره، ولعل الولد كان يراقب أباه وزوجة عويس حتى لا يفلتا من قبضته بالغنيمة، وقد تزوج الابن من امرأة محترفة جميلة وكان يقدمها للأعيان!
فتساءل يحيى: ترى ماذا يفعل عويس لو عثر على جندي الأعور فوجده خلافا لظنك ينعم بالجاه والثروة؟!
فقهقه العجوز وقال: ماذا بقي من عويس القديم؟ هل يقتل؟ هل يبسط يديه في ذل سائلا ما يجود به الآخر؟ كلهم لصوص برمجية أوغاد، وليرحم الله ضحاياهم المساكين!
11
رآه واقفا كالنائم مركونا إلى جدار الربع. هيكل خلا من مقومات القوة، كليل البصر لا يرى أبعد من متر، غائر العينين بارز الجبهة أصلع نابت شعر الذقن يمرق عنقه من جلباب لا لون له من تلبد الغبار والأوساخ عليه حافي القدمين. مر أمامه ذهابا وإيابا فلم ينتبه الرجل إليه ولم يشعر هو نحوه بأي عاطفة، ولكن اجتاحه إحساس شامل بالتقزز والاحتجاج والتمرد. لا يستطيع أن يقدم له شيئا ولا أن يأخذ منه شيئا، إنه غريب تماما ولكنه رغم غربته قلب حياته رأسا على عقب. مضى ورأسه يشتعل بالأفكار المحمومة. هذا هو أبوه عويس الدغل وهذه هي أمه جميلة الأسطى. وهناك أيضا والدا وداد محروس جندي وشريفة الدهل. إنه ليس الفقر ما يخجل ولكنه الانحطاط. في هذه القضية يستحق السارق والمسروق لعنة واحدة. وقد أراد أن يتثبت فجاءه اليقين نافثا رائحته النتنة. ما عسى أن يفعل؟ ماذا يقبل وماذا يرفض؟ الحيرة تمزقه وعليه أن يتخذ موقفا قبل أن يتبعثر بددا. إنه يحترق، لا يمكن أن يحتمل النار إلى ما شاء الله، ولا يمكن أن تمضي الحياة كما مضت على عهد الغيبوبة السعيدة. وله أن يفكر، ولكن فليحذر الدوران مع الدوامة بلا عمل حاسم. إنه بحاجة ماسة إلى وداد، ليتبادلا الرأي، وليتفقا على خطة موحدة. هل يطلق الكلاب المسعورة بعضها على بعض لتقول العدالة كلمتها القاسية في عويس وجندي ومحروس والجميع؟! قواه الغاضبة تود أن تفعل ذلك وإلا فلا معنى لأي شيء. وإلا فكيف يخرج من الجحيم؟ ولكن لا بد من مشاورة وداد. يجب أن تتكلم جميع جوانب نفسه. إنه يرفض أباه وأمه وعمه، ويود أن يوجه ضربات مذهلة.
12
وافته وداد إلى كازينو جليم. من أول نظرة من وجهه ارتسم القلق في وجهها. قال لها محذرا: لا أحد يعلم بوجودي في الإسكندرية.
فسألته بدهشة: ولم تخفيه؟ - ربما رجعت إلى القاهرة مرة أخرى ...
فقالت متوجسة: هل دعوتني لتحملني مزيدا من الهم؟ إني أعيش أتعس أيام حياتي ...
فقال بهدوء مخيف: يسعدني أن أسمع ذلك، شعور التعاسة في مثل حالنا هو ما يهبنا الجدارة بالحياة الكريمة، فلنترك السفلة ينعمون بالحياة في غمرة سفالتهم ...
صفحة غير معروفة