9
إنه يقوم بأخطر رحلة في حياته. رحلة المغامرة والتضحية والحقيقة. هي أيضا رحلة الهروب من العذاب. ربما إلى عذاب أعمق وأكثف. كأنه لم ير القاهرة قط، كأنه من مواليد الإسكندرية. هجرها وهو ابن ثلاث ورجع إليها وهو ابن عشرين. دهمته القاهرة كأخطبوط خرافي. لم يجد شوقا للتقلب في جنابتها، فاخترق قطاعها الأوسط إلى الحي العتيق. أودع حقيبته في حجرة بالكلوب المصري وراح يدور من شارع إلى حارة. إلا حارة التكية، أجل اقتحامه لها حتى يتشبع بالاستعداد. وقال له صوت من الداخل: «ماذا تفعل؟ لا تكن سخيفا، ارجع من حيث أتيت، انجح في الامتحان، انتظر وداد عامين، تزوج منها ملقيا بالهموم جانبا، مستهينا بجندي وعويس، بجميلة وشريفة، ليس في الأمر مشكلة حقيقية.» ولكن انتصب أمامه إغراء الحقيقة القاسي. رغم شعوره بالعبث. وهل كانت إلا معركة بين لصين؟ ونادى عزيمته واقتحم الحارة. اقتحم الألوان الفاقعة والأصوات المتفجرة، الحاضر الصاخب والماضي المتحفز، النظرات المحملقة والقهقهات المتحشرجة، نداءات الحرف المختلفة بالأصوات والدقات والروائح النافذة، ومهرجان الأزياء من البدل والقفاطين والجلابيب فضلا عن الأجساد شبه العارية، والعطفات والأزقة، والبيوت المتداعية والعمارات الجديدة الشاهقة. ها هي امرأة تنادي مثلما كانت تفعل أمه، وها هو رجل يتصعلك كما فعل أبوه وعمه، وها هو طفل يلعب بفأر ميت ربما كما فعل هو. هنا تقررت مصائر عويس الدغل وجندي الأعور وجميلة الأسطى وشريفة الدهل. ذهب وجاء وهو يتساءل عن الراوي الذي سيهتك له حجب الظلام، من يكون؟ وأين يجده؟ ووقعت عيناه على عجوز قابع وراء صندوق الماركات في المقهى الوحيد، فحدس أنه يجد فيه بغيته. وقد صدق الحدس.
10
صدق حدسه، فالرجل عجوز مقيم ومقهاه من معالم الحارة الأثرية. اختار أقرب مجلس إليه وراح يفكر في وسيلة للنفاذ إليه واستدراجه للحديث. لفت نظر الرجل ببقائه المتواصل وكرمه مع صبي القهوة. ونفد صبر صاحب المقهى العجوز، فسأله باسما: أنت منهم؟
فتساءل - مرحبا بالحديث - عمن يقصدهم، فقال العجوز: رجال الجرائد.
فانتهز الفرصة وزعم أنه منهم، فقال العجوز: كثيرا ما يجيئون ويصورون ويأخذون ما يشاءون ...
فقال يحيى بدهاء: إني أبحث عن حكايات، ولكل حكاية ثمنها!
فاختلج جفنا العجوز فوق عينيه الكليلتين، وقال بإغراء: حارتنا حارة الحكايات ... ولكن لا بد من جلسة كيف!
فوافق على شروطه، ولكنه قال: تحت شرط أن نكون منفردين ... •••
هكذا جمعهما سطح مسكن العجوز. جلسا على وسادتين فوق كليم تحت ضوء النجوم تسعى حولهما دجاجات ناقة مقوقئة. تظاهر يحيى بأنه يدخن فجعل يملأ شدقيه بدخان الجوزة وينفثه في قرف لم تتح للرجل رؤيته. ولم يضن عليه بما طلب من نقود. وصبر على ثرثرته عن أسعار البن والسكر والشاي وحكيه لبعض النوادر الدارجة، ثم عجز عن كبت لهفته، فقال: اسمع يا معلم سليمان، لقد سمعت من آخرين نتفا عن حكايات، فلم يحظ بانتباهي إلا حكاية رجل يدعى عويس الدغل، ولكنها جاءت ناقصة لا تشبع، فهل تعرف أصل هذه الحكاية؟
صفحة غير معروفة