وكتب يوما إلى بعض عماله أن أعط الناس أعطياتهم، فكتب إليه عامله ذاك: إنا قد أعطيانهم وبقي شيء كثير. فكتب إليه عمر: إن هذا الفضل الذي بقي عندك إنما هو فيئهم الذي أفاء الله عليهم ليس هو لعمر، ولا لآل عمر؛ فاقسمه بينهم.
13
وهذا الرفق، وهذا الحرص على أداء الحق إلى أهله، هما اللذان جعلاه شديدا كل الشدة على ولاته؛ فكان لا يولي منهم أحدا إلا كتب ماله قبل أن يذهب إلى عمله، فإن رآه قد زاد على هذا المال قاسمه هذه الزيادة، وقد رأيت تشديده في حساب خالد بن الوليد بعد عزله، وقد قاسم جماعة من ولاته أموالهم بعد عزلهم، وكان شديد المراقبة لهم أثناء ولايتهم، ولم تكن تأتيه شكوى من أحد من الرعية إلا حققها.
وكان يرسل بعض أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
لتحقيق ما يبلغه من شكاة الناس؛ أرسل محمد بن مسلمة - رحمه الله - وأمره بالتفتيش الدقيق على عمرو بن العاص في مصر، وأرسله إلى الكوفة حين بلغه أن واليها سعد بن أبي وقاص - رحمه الله - قد اتخذ لدار الإمارة بابا، وكان عمر يتقدم إلى عماله دائما في ألا يتخذوا أبوابا لدورهم تمنع الناس من الدخول إليهم في حاجاتهم، فلما بلغه أن سعدا قد اتخذ لقصر الإمارة بابا يريحه من ضوضاء السوق أرسل محمد بن مسلمة، وأمره إذا بلغ الكوفة أن يعمد إلى هذا الباب فيحرقه قبل أن يكلم سعدا أو يسمع منه؛ ففعل ذلك ابن مسلمة.
وزعم الرواة أن سعدا أراد أن يعطي بن مسلمة شيئا من مال فأبى عليه، وعاد إلى عمر فأنبأه بما فعل. وشكا بعض الناس من سعد وغلوا في شكواهم، فأرسل محمد بن مسلمة مرة أخرى، وأمره أن يسأل الناس مستقصيا عن سيرة سعد فيهم، فذهب محمد بن مسلمة إلى الكوفة، فسأل الناس أفرادا وجماعات، فلم يسمع إلا ثناء على سعد إلا نفرا زعموا أنه لا يحسن يصلي؛ فعزله عمر، فلما بلغ المدينة سأله عمر: كيف كنت تصلي؟ قال سعد: كنت أطيل في الأوليين وأقصر في الأخريين. قال عمر: ذلك الظن بك يا أبا اسحاق. وقاسمه ماله مع ذلك، فلما طعن أوصى الخليفة من بعده أن يولي سعدا فإنه لم يعزله عن عجز ولا عن خيانة.
وكان لا يمل من أن يقول لأهل المدينة ولمن ورد عليه من أهل الأمصار: إني لم أرسل عمالي ليضربوا أبشار الناس ولا ليظلموهم، وإنما أرسلتهم ليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم، ويقسموا بينهم فيئهم، ويقيموا أمرهم كله على العدل. وكان كثيرا ما يتقدم إلى عماله في ألا يضربوا المسلمين فيذلوهم، ولا يحرموهم فيكفروهم، ولا ينزلوهم الغياض فيضيعوهم. وكان لا يرى أحدا من بعض جيوشه إلا سأله عن أمره كله وعن أمر الجند وعن سيرة قوادهم فيهم، وكان يكره أن يطيل العرب مقامهم فيما يفتح عليهم من المدن مخافة أن يتأثروا بهذه الحياة الحضرية التي لم يألفوها.
14
ورأى بعض أفراد الجيش الذي فتحت عليه المدائن، فلاحظ تغير ألوانهم، فسألهم عما غير ألوانهم؛ فقالوا: وخامة البلاد وطعام لم نألفه. فكتب إلى سعد: إن العرب لا تصلح إلا على ما تصلح عليه إبلها، فارتد لهم مكانا بريا بحريا؛ فأنزلهم به.
صفحة غير معروفة