صلى الله عليه وسلم
من فتح الشام؛ ليحرر العرب المنتشرين فيه من سلطان الروم. ولعله إن يسر له أمر الشام أن يفكر في أمر العراق، ولكن الظروف أرادت غير ذلك، فقد شغل أبو بكر في العام الأول بحرب الردة كما رأيت، ولم يهم بالشام، وإنما اكتفى بأن يحمي حدود الجزيرة حتى لا يغير عليها مغير من الشام.
وانتصر جيش أبي بكر على المرتدين من ربيعة في البحرين، وإذا رجل من بكر بن وائل، ثم من بني شيبان ، يؤمر نفسه على من تابعه من قومه الذين أقاموا على الإسلام ولم يكفروا، وإذا هو يتتبع بمن معه المرتدين من العرب على ساحل الخليج الفارسي، ويتاح له الظفر فيما حاول من ذلك حتى يشرف على العراق، وفيه قبائل من العرب قد انتشرت فيه قبل الإسلام، فيتمنى هذا الرجل أن يتاح له الإمعان في العراق، وإخضاعه كله أو بعضه لسلطان المسلمين، ولكنه في حاجة إلى أمر من الخليفة يبيح له هذه المحاولة التي لا تخلو من مغامرة، والتي قد يتعرض فيها المسلمون لألوان من الخطر، فيذهب هذا الرجل - وهو المثنى بن حارثة الشيباني - إلى المدينة ويلقى أبا بكر، ويحدثه بما فعل وبما كان من حربه للمرتدين من العرب، وبما لقي من كيد الفرس هناك له، ومكرهم به، وتأليبهم عليه، ويطلب إلى أبي بكر أن يؤمره على قومه، وأن يأذن له في دخول العراق، ومحاربة الفرس إن اجتمعوا له.
وليس من شك في أن المثنى قد زين لأبي بكر فتح العراق وهون عليه أمره، وأنبأه بأن العرب من قومه بني بكر ومن غيرهم منتشرون في العراق، وأن من اليسير أن يستجيبوا له وأن يعينوه إن احتاج لمعونتهم. وقد فكر أبو بكر واستشار أصحابه ثم أذن للمثنى، فأقبل حتى اقتحم العراق، ولكنه لم يمعن فيه حتى عرف أن بأس الفرس شديد، وأنهم لن يفرطوا في العراق ولن يخلوا بين هذا الرجل العربي ومن معه من أهل البادية وبين جزء من ملكهم، ويغيرون عليه ويقيمون فيه، ثم ينتشرون بعد ذلك حتى يستخلصوا منهم أرضا طال سلطانهم عليها، واستقر أمرهم فيها منذ زمن طويل من أجل ذلك جمعوا له وتهيأوا لمقاومته.
وعرف الخليفة كل هذا، وأزمع ألا يرد المثنى عما أراد، وأن ينصره ويمده، فاختار خالد بن الوليد وكان قد فرغ من أمر اليمامة، وأمره أن يأتي العراق وأن يكون هو الأمير وأن يكون المثنى له تبعا.
وكان خالد قد أذن لكثير من جنده بالرجوع عن أمر أبي بكر، بعد أن لقي جيشه ما لقي من البأس والجهد في اليمامة، فلم يبق معه إلا عدد يسير لا يكاد يبلغ الألفين، وقد استمد أبا بكر فأمده بالقعقاع بن عمرو، وأمر خالدا أن يستنفر من العرب من ثبت على إسلامه، وألا يقل في جيشه منهزما من أهل الردة، وألا يكره الناس على الانضمام إليه. وأرسل أبو بكر في الوقت نفسه عياض بن غنم إلى دومة الجندل، وأمره أن يقضي على الردة فيها ثم يهبط إلى العراق قاصدا إلى الحيرة؛ فإن بلغها قبل خالد فهو الأمير وخالد تبع له وقائد من قواده، وإن بلغها خالد قبله فالإمرة لخالد وعياض تبع له وقائد من قواده.
ولكن خالدا كان سيفا من سيوف الإسلام وسهما نافذا من سهام المسلمين، فلم يكد يبلغ العراق حتى جد في الحرب وأبلغ فيها، وظفر بالفرس والعرب الذين تابعوهم في غير موطن، وانتهى إلى الحيرة، فاضطر أهلها إلى الصلح، واستقام له فتح العراق العربي وقهر الفرس وإذلالهم وإخراجهم من العراق في عدة أشهر. وعياض مقيم على دومة الجندل لا يبلغ منها شيئا حتى أعانه خالد، فأتيح له الفتح، وتم له من أمر العراق ما أراد الخليفة وما أراد هو، ولقي في حربه تلك من الخطوب، وأتيح له من الفوز ما أشرت إليه فيما مضى.
وكذلك تم لأبي بكر فتح العراق العربي بعد القضاء على الردة، ولكنه أرسل خالدا إلى الشام مددا للمسلمين هناك، فلم يثبت العراق على ما تركه خالد عليه من الخضوع لسلطان المسلمين، وإنما كاد الفرس ومكروا واستعدوا، ثم عادوا إلى العراق وقد انتفض أكثر أهله. ونظر المثنى بن حارثة فإذا خالد قد فارقه ومعه نصف الجيش إلى الشام عن أمر الخليفة، وإذا هو لا يستطيع بمن معه من المسلمين أن يقاوم الفرس والعرب مجتمعين، فعاد إلى المدينة، ولكنه حين بلغها صادف أبا بكر مريضا مرضه الذي توفي فيه، وقد استقبله أبو بكر على ذلك وسمع منه، وأوصى عمر أن يمده، وألا يهمل أمر العراق.
وكذلك تورط المسلمون في هذه الحرب التي كان أولها ميسرا، والتي أبلى فيها خالد أحسن البلاء، وكان جديرا أن يحملها إلى بلاد الفرس نفسها، وألا يقلع عن هذه البلاد حتى يزيل ملك الأكاسرة.
وليس لذلك مصدر إلا أن أبا بكر - رحمه الله - قد عني بأمر الشام قبل أن يفرغ من أمر العراق؛ إنفاذا لما كان النبي
صفحة غير معروفة