وقد حوله أبو بكر عن العراق وأرسله إلى الشام منجدا للمسلمين هناك، وأميرا عليهم فيما أرجح، فكان بلاؤه في الشام أبعد أثرا وأعظم خطرا من بلائه في العراق وفي حرب الردة؛ فلا غرابة في أن يثق به أبو بكر ويعرض عن عمر حين ألح عليه في عزله.
ولكن عمر - رحمه الله - كان ينظر إلى الأمور نظرة أخرى، كان يريد من القواد أن يسمعوا ويطيعوا، وألا يجاوزوا القصد في أمر من الأمور، وألا يعرضوا أنفسهم للوم جنودهم لهم وإنكارهم عليهم، فضلا عن لوم المسلمين وإنكارهم. وكان يريد أن يكون القواد حراصا أشد الحرص على العدل والنصفة، وأبعد عن السرف والجور، وكان أمر الدين ومثله العليا آثر عنده من أمر الحرب وما يكون فيها من انتصار أو هزيمة، وما يكون فيها وفي أعقابها من إخافة للناس وترهيب لهم.
فلما رأى خالدا قتل رجلا يشهد بعض المسلمين العدول من أصحاب النبي بأنه كان مسلما، ولما رأى أن خالدا أسرع بعد قتل هذا الرجل إلى التزوج من امرأته؛ ألقي في روعه أنه لم يقتله في ذات الله، وإنما قتله استجابة لما في طبعه من العنف أولا، وابتغاء لمتعة من متع الحياة الدنيا، وفي اتخاذه امرأة مالك لنفسه زوجا؛ فثار لذلك أشد ثورة وأعنفها، وأشار على أبي بكر بعزل خالد، فلما امتنع عليه أبو بكر سمع وأطاع وكظم ما في نفسه ولم يغير رأيه في وجوب عزل خالد.
ولما رأى أن جماعة من خيار أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار قد قتلوا في حرب اليمامة، وأن قتلى المسلمين في تلك الحرب قد بلغوا إحدى عشرة أو اثنتي عشرة مائة، ثم رأى أن هذا المصاب الفادح لم يمنع خالدا من أن يتزوج بنت مجاعة مع أن العهد لم يبعد بتزوجه أم تميم بعد قتل زوجها مالك ...
لما رأى عمر هذا كله بلغ الغضب منه غايته، وكأنه راجع أبا بكر في أمر خالد فلم يزد أبو بكر على تعنيف خالد بذلك الكتاب الذي رويناه آنفا.
ولست أحاول الفصل فيما كان من موقف الشيخين بإزاء خالد، وإنما أرى أن كليهما قد اجتهد رأيه، وأن كليهما أراد باجتهاده وجه الله ومصلحة المسلمين، نظر أبو بكر إلى أن خالدا رجل حرب، وإلى أنه أبرع قواده، وإلى أن الإسراع إلى عزل القواد في أثناء الحرب مضيع لمصلحة المسلمين، ويوشك أن يوهن عزائمهم وأن يفسد عليهم أمرهم بإزاء العدو.
ونظر عمر إلى المثل العليا خالصة من كل شائبة، ومن هنا أصر أبو بكر على الانتفاع بقوة خالد، وعلى ملاحظته يكفكفه إذا تجاوز القصد في الحرب، ويعنفه إذا تجاوز القصد في أمر من أمور نفسه؛ فعنفه حين تزوج امرأة مالك، وعنفه حين تزوج بنت مجاعة بعد وقعة اليمامة، وعنفه مرة أخرى حين رأى خالد أن الله قد صنع له في فتح العراق، فأراد أن يحج، وكره أن يعلن ذلك إلى جيشه، فاستخفى بحجه ولم ينبئ به إلا خاصته، وأظهر للجيش أنه يتفقد الساقة،
15
ثم سلك طريقا لا يسلكها الحاج، حتى بلغ مكة فأتم حجه، وعاد إلى جيشه بالحيرة، ولم يعلم أبو بكر بحج خالد إلا بأخرة، فكتب إلى خالد يعنفه ويعاقبه - فيما يقول الرواة - هذه المرة، فيأمره بالذهاب إلى الشام لإنجاد المسلمين هناك، وكان موقفهم حرجا.
وقراءة كتاب أبي بكر - كما يرويه الرواة - تدل على أن الخليفة قد عرف لخالد بلاءه وبراعته وتقدمه على سائر قواده، ولكنها تدل أيضا على أنه حذره من أن يعود لمثل ما فعل، فيترك الجيش ويحج مستخفيا، ويعرض الجند بذلك لما يمكن أن يدهمهم من الخطر، وقائدهم منهم بعيد. ثم وعظه أبو بكر، فنهاه عن أن يأخذه العجب والتيه بحسن بلائه ونكايته للعدو، فإن ذلك يفسد عمله، وألح عليه في أن يبغي بكل ما يفعل وجه الله - عز وجل - فإنه وحده ولي الجزاء. وأكبر الظن أن أبا بكر أحس من خالد بعض هذا العجب والإغراق في الثقة بالنفس؛ فترك الجيش على هذا النحو والاستهانة بالعدو تغرير بالمسلمين، وإسراعه إلى الحج يشعر بأنه قد أراد أن ينتهز هذه الفرصة ليظهر في مكة أيام الموسم، وليلم ببعض قومه من بني مخزوم.
صفحة غير معروفة