وربما جاءه الرجل بالحديث فأمره أن يأتي برجل آخر أو يوجعه ضربا، وكان يكره أن يكثر الناس الحديث عن النبي، وينذر المكثرين بالعقوبة، وقد أنذر أبا هريرة بالضرب والنفي إلى بلاده التي جاء منها؛ لأنه كان يكثر الحديث، فلما نهاه عمر كف عن رواية الحديث ولم يعد إليها إلا بعد وفاة عمر.
وكان عمر أول من أخذ الدرة يؤدب بها الناس إن جاروا عن القصد قليلا أو كثيرا، لا يفرق في ذلك بين كبار الصحابة وغيرهم من الناس. وقد ضرب سعد بن أبي وقاص بالدرة حين جلس يوما يقسم بين المسلمين مالا، وأقبل سعد وجعل يزاحم الناس حتى وصل إليه، فعلاه بالدرة وقال: إنك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض، فأردت أن أعلمك أن سلطان الله لن يهابك.
وكان يأخذ الدرة ويمشي في المدينة وفي سوقها خاصة ليرى كيف يبيع الناس وكيف يشترون، فإن رأى من أحد شيئا يكرهه ضربه بالدرة.
ورأى مرة رجلا يزحم الطريق، فضربه بالدرة، وقال: أمط عن الطريق. فلما حال الحول وأقبل موسم الحج لقي عمر ذلك الرجل، فقال له: تريد الحج؟ قال الرجل: نعم يا أمير المؤمنين. فأعطاه نفقة حجه، ثم قال له: أتدري لم أعطيتك هذا؟ قال الرجل: لا. قال عمر: إنما ذلك بالضربة التي ضربتك في الطريق. قال الرجل: والله يا أمير المؤمنين ما ذكرتها إلا حين ذكرتني بها.
وقد هم عمر أن يكتب السنة؛ فاستخار الله في ذلك شهرا ثم عدل عنه، وقال: ذكرت قوما كتبوا كتابا فأقبلوا عليه ونسوا كتاب الله. وإذا دل هذا على شيء فإنما يدل بنحو خاص على تردد عمر في رواية الحديث، فكيف بكتابة ما حفظ هو، وما حفظ الناس من حديث النبي؟! وكل هذا يصور احتياط عمر للدين وشدة حرصه على ألا يعرضه لشيء من الشك أو الخطأ.
18
على أن خلافة عمر كلها قد قامت على الدين في إجمالها وتفصيلها، فلم يعرف المسلمون بعد عمر خليفة أو ملكا كان يحضر نفسه ذكر الله في كل وقت من أوقات حياته، وكان أول ما يفكر في شيء إنما يفكر في ملاءمته - رضى الله - وبعده عن سخطه، وما أعرف أن عمر قضى ساعة من حياته يقظا لم يشعر فيها بالخوف من الله حين كان يقوم على قول أو عمل، فلم تكن خلافته وحدها قائمة على الدين، وإنما كانت حياته الخاصة أيضا قائمة على ذكر الله والخوف من عذابه، وقد رأيت فيما مضى أنه قال مرة لمن طلب إليه الرفق بنفسه فيما يطعم أو يلبس: سمعت الله - عز وجل - يقول لقوم نعموا بحياتهم الدنيا:
أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون .
وهو من أجل هذا فرض على نفسه أضيق الحياة، مع أنه لم يكن فقيرا، ومع أن المسلمين جعلوه في حل من أن يأخذ من بيت المال حاجته، وهو لم يفعل ذلك بخلا أو ضنا على نفسه بما كانت تقتضيه الحياة الراضية من المال، وإنما فعله إيثارا لما عند الله في الآخرة على ما في الدنيا من ألوان المتاع.
ومن أجل ذلك أيضا كان لا يولي عاملا من عماله على الأمصار إلا راعى في توليته رضى الله أولا، ومصلحة المسلمين بعد ذلك.
صفحة غير معروفة