هذا هو رأي المغربي في فهم نصوص القرآن وقد طبقه في تفسير كل ما ورد في القرآن من نعيم الجنة، فذكر في ذلك بحثا طويلا سماه «رسالة الحجج الظاهرة في ما هي ملذات الآخرة». أسهب فيها عن هذا الموضوع وأعاد وبدأ، وذهب إلى أن الوحي الإلهي أراد أن يصف للمخاطبين آيات الملذات في الجنة بما ألفوه وكلفوا به من ملذاتهم الدنيوية على نحو ما يشعرون به مفرغا، ذلك الوصف في التراكيب والأساليب التي اعتادوها في التخاطب بينهم ودرجوا عليها في ملاحن كلامهم؛ وذلك لعجز فطرهم وضعف استعدادهم عن فهم تلك الملذات الأخروية، وتعلقها بالكنه والحقيقة، فضرب لها مثلا ملذات الدنيا ووسائل اجتلابها وأسباب الشعور بها من مثل الحور، واللحم، والخمر، واللبن، والفاكهة، والأسرة، والحرير، والذهب، والفضة، واللؤلؤ، ولا يخفى أن تمتع النفس بهذه المذكورات وتقليب النظر فيها، وممارسة الحواس لها من أكبر ملذات الدنيا وأسباب الترف فيها عند البشر عامة، وعند العرب المخاطبين بالوحي لذلك العهد خاصة. فالمنعم في الجنة يشعر بلذة عجيبة، ثم يحس بمسرة غيرها شديدة التأثير في نفسه، ثم بلذة ثالثة وبأخرى غيرها رابعة وهكذا. فتتألف من مجموع هذه الملذات والمسرات وشعور النفس بها حالة صورها الوحي الإلهي للبشر بحالتهم التي يشعرونه بها، مذ يتناولون ملذوذاتهم الدنيوية المتعددة الأنواع والمختلفة الأشكال، ويمارسون أسبابها ووسائلها كل ذلك تشويقا لهم وحفزا لهممهم إلى الإيمان والعمل الصالح وطاعة الله. ولا يلزم من هذا أن تكون ملذات الجنة روحانية أو معنوية لا وجود لها في الخارج ولا يشعر بها الجسم؛ لأنك إذا ضربت جود حاتم المعهود لك مثلا لجود زيد لا يلزم منه أن يكون جود زيد أمرا معنويا لا وجود له في الخارج، وإذا ضرب الله لنا لحم الطير مثلا لملذة من ملذات الجنة، لا يلزم منه أن تكون ملذة الجنة روحانية لا يحس بها الجسد، ويوشك أن يكون الشرح قد نقل الكلمات الدالة على المسرات من معناها اللغوي الدنيوي إلى معنى اصطلاحي جديد أخروي، فنقل كلمات الخمر واللبن واللحم والطير والحور والولدان من معانيها المعهودة في الدنيا إلى معان أخرى؛ وهي وسائل اللذات والمسرات التي تكون في الجنة، فهذه الكلمات إذن لها معان لغوية أخرى، ومعان أخرى عرفية أو شرعية، وهذه الكلمات الصوم والصلاة والزكاة وغيرها مما له معان لغوية ومعان شرعية. ونحن نقول بأن لتلك الألفاظ «كالخمر والحور والولدان» مدلولات علوية تلائم الحياة الأخروية التي لا نستطيع اكتناهها في حياتنا الدنيا، وإنما فصل الشرع ذلك تفاديا من وضع كلمات جديدة لهذه المسرات الأخروية، ليست من لغة العرب المخاطبين ولا يفهمونها، والحكمة تقضي أن لا يخاطبهم إلا بما يفهمون لتنهض الحجة عليهم. ولما كانت اللذات المادية كما نفهمها في هذه الحياة الدنيا غير ممكنة في تلك الحياة الأخرى وجب أن نحمل آيات النعيم ووصف اللذائذ الأخرى على المعنى الكنائي والأسلوب التمثيلي - كما وقع في قول الخنساء وأقوال كثيرين غيرها من فحول فصحاء العرب وبلغائهم - ولا يضر تلك الآيات، ولا يحط ذلك من قدر بلاغتها وقيمة إعجازها، بل على العكس يزيدها رونقا وبلاغة وحسنا ويرفعها درجات في معارج الإبداع والإعجاز.
والمغربي في تفسير جزء «تبارك» يسلك طريقة المفسرين الأول من رجال مدرسة أبي عمرو بن العلاء، وأبي عبيدة الذين يمزجون التفسير بالآداب ويتفهمون القرآن بأساليب العرب، ولعل كتاب المجاز الذي ألفه أبو عبيدة وملأه بالشواهد الشعرية، وبحث فيه عن مجازات القرآن وكناياته دليل على ما قلناه.
وتفسير المغربي كتفسير محمد رشيد رضا وتفسير شيخهما محمد عبده، وهي من التفاسير الحديثة التي سار فيها أصحابها على مذهب السلف، ولعل رائد هذه الطريقة في العصور المتأخرة هو الإمام أبو الثناء الألوسي في العراق، والمصلح الشيخ جمال الدين القاسمي في الشام.
أما بعد فهذا بحث موجز عن المغربي المؤلف عمدنا فيه إلى دراسة بعض آثاره المطبوعة، لئلا يطول البحث بدراسة آثاره كلها، ولا بد لنا قبل ختام هذا الحديث من الوقوف أمام كتاب من أواخر كتبه التي نشرها هو شرح تائية عامر بن عامر البصري الصوفي الحكيم، فقد نشر التائية مع شرح موجز لأبياتها كشف فيه عن رموز الصوفية في أشعارهم وأفكارهم. ومن هذه الرسالة تتكشف لنا ناحية من نواحي الشيخ ما كنا لنعرفها عنه لولا هذه الرسالة، وهي معرفته الواسعة بالتصوف ومذاهبه، فقد قدم لنا الشيخ فيها «صورة من صور التفكير العربي جمع مصورها البارع في نقشها بين لونين: لون أدبي مشرق باسم، ولون صوفي عابس قاتم».
أما آثاره المخطوطة فنجمل الحديث عنها بما يلي: (5) «كتاب أحسن القصص أو التاريخ النبوي المقدس» في سيرة نبينا محمد
صلى الله عليه وسلم
وتاريخ نشأته إلى حين وفاته
هو كتاب في السيرة أتى فيه المؤلف على تفاصيل حياة نبينا محمد
صلى الله عليه وسلم
مبوبا ومرتبا ترتيبا عصريا وقد ضمنه كثيرا من الأبحاث والفوائد المتعلقة بأخلاق النبي الكريم وحقائق الشريعة التي أتى فيها بما يروق لدى الفضلاء المعاصرين، وصدره بمقدمة قال فيها: «إن الغرض من هذا الكتاب فائدتان الأولى، تقوية إيماننا وازدياد ثقتنا بصحة ديننا، والثانية هي التأمل في أخلاق النبي، وروائع آدابه، وتدبر أعمال الصحابة وجليل مآثرهم، والمقارنة بين جميع ذلك، وبين ما نحن عليه اليوم من الأخلاق والآداب، وأن نتخذ من سيرته
صفحة غير معروفة