دور حرية الفكر وانطلاقه ومحاكمة ما يسمع، وهو الدور الذي اتصل فيه بالشيخ حسين الجسر (1845-1909م)، وكان الشيخ الجسر هذا عالما فاضلا واسع الاطلاع على الثقافة الإسلامية، تلقى علمه في الأزهر على كبار شيوخه، ثم رجع إلى بلده طرابلس، وكان ذا نزعة إصلاحية، فرأى ما عليه المسلمون من الجهل بحقيقة الدين، وقواعد العقيدة الإسلامية الصحيحة، فعمد إلى تأليف الرسائل الصغيرة ونشر المقالات المفيدة، مقوما اعوجاج العقائد، وعاملا على نشر الإسلام الصحيح، ومن أشهر ما خلف لنا في ذلك كتاباه اللطيفان: «الحصون الحميدية» و«الرسالة الحميدية» في تبيين العقيدة الإسلامية السلفية النقية من الأوضار والضلالات، وقد كان واسع الاطلاع على العلوم الطبيعية والفلسفية فزاده ذلك رسوخا في فهم الدين وتنقيته مما علق به. وقد اتخذ الشيخ الجسر تلاميذه وكتبه جريدة «طرابلس الشام» وسائط لنشر دعوته الإصلاحية، وكان الشابان النابغان الطرابلسيان عبد القادر المغربي ورشيد رضا ألمع تلاميذه وأكثرهم استفادة من طريقته.
وثالثها:
دور التعمق في الدراسة والمناقشة والبحث، وهو الذي اتصل فيه بجريدة «العروة الوثقى» التي كان يصدرها في باريس الإمامان الأفغاني ومحمد عبده، واسمعوه يتحدث إليكم عن أول صلته بالإمامين وجريدتهما فيقول:
أول ما فوجئت باسم جمال الدين كنت تلميذا في المدرسة السلطانية، التي أمر بإنشائها في بيروت الوالي حمدي باشا سنة 1300ه/1882م، وكان ناظر المدرسة يومئذ الشيخ أحمد عباس الأزهري، المشهور في بلاد الشام بعلمه وفضله والتهاب وطنيته، رأيت يوما الشيخ أحمد بين الطلاب، وهم في ساحة المدرسة يرتعون ويلعبون وحوله طائفة منهم، وبيده جريدة يشير بها إليهم، وسمعته يقول لهم وقد سألوه عنها: إنها «العروة الوثقى»، يصدرها السيد جمال الدين الأفغاني، ويساعده في تحريرها صديقي الشيخ عبده المصري، وأفاض الشيخ أحمد في وصف «العروة»، والغرض من إنشائها ووصف الرجلين وعلو مكانتهما، وبدرت منه التفاتة، وإذا تلميذان صغيران يمران أمامه، فأشار إلى أحدهما وقال: هذا ابن الشيخ عبده، وأشار إلى الآخر قائلا: وهو أخوه حمودة، وكنت لا آبه بهذين التلميذين ولا أرتاح لرؤيتهما، فصرت من يومئذ أنظر إليهما بإجلال وأحب التقرب منهما والحديث إليهما، ورجعت إلى طرابلس الشام من المدرسة السلطانية عام 1301ه حاملا إلى صديقي الشيخ رشيد رضا صاحب المنار رحمه الله خبر «العروة الوثقى» ومنشئها، وأخذت أبحث عن أعدادها، وكانت ثمانية عشر عددا مبعثرة لدى بعض فضلاء طرابلس الذين كانت تأتيهم عفوا أو بطلب منهم، فجعلت ألتقطها من عندهم لأنسخها وأعيدها إليهم، وكان شريكي في هذا الحرص الشيخ رشيد، وكان هو ينسخ إليهم من مقالاتها، أما أنا فكنت أنسخها بقلمي من ألفها إلى يائها، ثم جمعت كراريسها في مجلد،
4
ثم يورد افتتاحية العدد الأول ويعلق عليها بقوله: «هذه الفاتحة هي خلاصة برنامج العرض الذي أنشئت مجلة «العروة الوثقى» من أجله؛ تنبيه الضعفاء إلى ما يريده الأقوياء بهم، وشرح الأسباب التي أدت إلى ضعف الضعفاء وقوة الأقوياء، ويريد بالأقوياء سياسيي أوروبا وزملاءهم سياسيي الشرق الذين ساروا على آثارهم، وقلدوهم في استبدادهم بالضعفاء والتفريط في مصالحهم، فالأفغاني وعبده كانا يريدان أن يكون لهؤلاء الضعفاء - وهم المسلمون - دول قوية آخذة بأسباب المدنية والعمران الموصلة إلى العزة والاستقلال مع مراعاة تعاليم الإسلام الأساسية.
فالشيخ المغربي في طوره الثالث هو تلميذ «العروة الوثقى» التي سيطرت على لبه سيطرة عجيبة استمعوا إليه يقول: «أعطيت العروة الوثقى كل وقتي دراسة وتفهما، وكنت أحيانا أعنى بشرح ألفاظها وتعابيرها ... ولا جرم أن «العروة الوثقى» مهدت بين يدي ناشئة العرب مناهج في الكتابة وأساليب الإنشاء ما كانوا يعهدونها من قبل، ونبهت إلى وجوب استعمال كلمات اللغة الفصحى والاستعانة بها على إيراد المعاني العصرية ومطالب الحياة الاجتماعية ... وقد تضمن العدد الأول مما يحتاج إلى الشرح من فصيح اللغة نحو ثلاثين كلمة.»
5
فأنتم ترون أن الشيخ قد فنى في «العروة الوثقى» وفي تدارسها وشرح ألفاظها وانتقادها، وقد ذكر في كتابه عن «جمال الدين» طرفا يسيرا مما كان قد علق على نسخته المخطوطة من «العروة»، أحصى ما فيها من الكلمات اللغوية التي شرحها، فبلغت «في أعداد العروة كلها زهاء خمسمائة كلمة»
6
صفحة غير معروفة