حتى الأماني لا تحوم إزاءها
ولكن مما لا مرية فيه أنني أنا منذ أيام الشباب قلما نظمت الشعر رغبة فيه ونزوعا مني إلى الاتصاف بالشاعرية بعكس النثر الذي كان أبدا مرمى آمالي ومطمح خيالي. وسألني مرة إبراهيم بك المويلحي الكاتب المشهور عندما اجتمعنا في الآستانة سنة 1890 فقال لي: أيهما أفضل عندك النظم أم النثر؟ فأجبته: لا مقايسة عندي بينهما، إني أفتخر بأن أكون كاتبا وأستحي من أن أكون شاعرا. فاستحسن المويلحي هذا الجواب الذي لا شك أني بالغت فيه، ولكنه كان يعرب عن ذات صدري؛ لأنني طول حياتي لم أحاول أن أكون في الشعر سباق غايات وطلاع أنجد على حين أني كنت أرى منتهى السعادة في الدنيا في أن أكون من الكتاب المعدودين، وقلما نظمت الشعر انبعاثا من نفسي وإطاعة لمجرد خاطري، فليس لي على هذا الوجه إلا قصائد معدودات، وكل ما عدا ذلك من شعري إنما نظمته قياما بواجب أو امتثالا لرسم أو نزولا عند رغبة؛ ولهذا تجد أكثر شعري مراثي للأصحاب أو للأعلام الذين لا مناص من رثائهم، وسيظهر ديواني قريبا إن شاء الله، فيقف القراء منه على تحقيق كلامي هذا.
صنعة الشعر وإبداع شوقي فيها
ومن المعلوم أن صاحب الصنعة إنما يتقدم فيها إذا كان راغبا لا متكلفا ومغرما لا متبرما، وكان مجتهدا أن يبدع فيها لأجل الإبداع ولأجل سبق غيره من الصناع، فأما شوقي فكان كله شعرا قد وقف نفسه على هذه الصنعة؛ لا يهمه أن يتقن غيرها وصارت له غراما؛ فهو آناء ليله يفكر في الشعر، وأطراف نهاره يستنبط المعاني الغريبة، وكلما عن له معنى قيده، وكلما انفتق في ذهنه مرمى أحرزه وهيأ له قالبا رائعا حتى إذا جاءت أول فرصة أودعه إياها.
ومن أهم ما يغفل عنه الناس، وهو من أحق الحقائق أن نفوس الأدباء لها أوقات صفو وأوقات كدر، وأنها في أوقات الصفاء قد تبرم قوانين وتخلق معاني لا تتأتى لها في جميع الأحايين. وربما لاح في فكر الأديب خاطر في إحدى السويعات لو استرسل فيه لأتى فيه بالعجائب، على حين أنه إذا نشده في وقت آخر وحاول أن يستأنف ما كان يلوح له في ساعة الصفاء لوجد زنده فيه صلدا، ورأى أنه يهيب بتلك الخواطر السابقة فلا تجيبه، ويطمع أن يقتنص تلك الشوارد التي كانت بين يديه، فإذا هي الآن لا تطيعه ومنها ما ذهب غير معاود، ومنها ما عصى غير مقرن؛ ولذلك كان يجب على الأديب شفاف الطبع أنه إذا عن له في سويعات الصفاء معنى مبتكر أو خاطر شريف ووجد هذا الموضوع منثالا عليه أن يسرع إلى قيده أوابده، ويأخذ القلم فيحرره، وإذا كان شعرا نظمه وإذا كان نثرا دبجه حتى لا يفوته فيما بعد؛ فإن الأفكار من جملة حظوظ الدنيا تهب أحيانا وتركد أحيانا، فإذا هبت مرة وجب اغتنامها ولم يجز إهمالها على نية أن يعاد إليها مرة أخرى، وإن الأفكار نظير الأقدار ليس في مقدور الكاتب أو الشاعر أن يجيدها كل حين، وقد تفيض على الرءوس أشعة إذا ولت تعذر استردادها. فاللبيب اللبيب هو الذي يقتنص الشاردة لأول سنوحها ولا يدعها تذهب على أمل أنه يصطادها فيما بعد فإنها إذا شردت قد تفوت، والفلاة طويلة عريضة، فلا يحيط بها الصائد ولا تطوى له كيف يشاء.
وقد كان شوقي ممن يقيد الشوارد ولا يدعها تفوت، وممن يقف في المظان التي تختلف فيها الطرائد فكلما عن سانح رمى بسهمه، فلهذا عظم توفيقه في الصيد، وجاء بما لم يجئ به غيره، ولم يقل لنفسه في وقت من الأوقات: دعينا من هذا الآن؛ لأن لنا ما يشغلنا عنه وسنعود إليه في ساعة أخرى، بل كان المعنى المبتكر هدفا له كيفما عن وأنى عرض، فلا يكاد يتراءى له شيء إلا وتر قوسه وفوق سهمه.
وهكذا ينبغي أن يكون الشاعر إذا أراد أن يجيد وأن يقول فيه الناس: من ذا قالها؟ ولا يجوز للشاعر أن يجعل السياسة أو الاقتصاد أو الصناعة أو الفقه أو شيئا آخر من مناحي الحياة فوق الشعر، بل ينبغي أن يكون الشعر هو غرضه الأول، وأن تدور حياته من حوله، فجميع المشاغل تكون له فضلة ويكون الشعر هو العمدة؛ ولهذا قال خليل مطران: إن شوقي كان يفكر في الشعر قاعدا وقائما وحاضرا وباديا وسائرا وساريا وفي المركبة وماشيا إلى غير ذلك؛ فقد قام نحو الشعر بالواجب الذي لم أقم به أنا ولا غيري ممن جعل الشعر فضلة عمله ولم يقله إلا عند الضرورة. قد أعطى شوقي نفسه للشعر، فأعطاه الشعر ما لم يعط غيره في هذا العصر.
انصراف شوقي إلى الشعر
هذا، وكان شوقي متصلا بخدمة سمو الخديو السابق، ومنذ بداية نبوغه لقبوه بشاعر الأمير، فصار ذلك اللقب باعثا له على زيادة الاجتهاد وفرط الارتياد حتى تكون مكانته الشعرية متناسبة مع المقام العالي الذي يخدمه بشعره، وبعبارة أخرى من حيث قيل له شاعر الأمير آلى على نفسه أن يكون أمير الشعراء، فانصرف بكليته إلى الشعر حتى تعطيه الإجادة قيادها، ويعلم العزيز سيده أنه إن كان هو سيد الأمراء، فإن شاعره سيد الشعراء، وأن هذا المقام الذي يشغله شوقي برسمه يشغله أيضا بنظمه. فإذا لزم أن يكون شاعر الأمير سباق الحلبة ومقدام العصبة فإنه لكذلك، وإن سليقته قبل وظيفته. وقد كان هذا الحرص منه على إفهام سيده أنه الشاعر الذي لا يشق له غبار، والذي اتفقت على تقديمه الأقطار، هو الذي يدعوه أن يكون أبعد من غيره نجعة وأوسع فتوحات عقلية، فلا يقول الشيء الذي يقوله سائر الناس. فكان يقضي معظم أوقاته في تجويد نظمه وتسديد سهمه في تعمير صدره بالمعاني العالية، وشحذ خاطره بالمرامي الدقيقة والأغراض السنية حتى صار ذلك خلقا له غير منفك عنه، وصار إذا قال كلمة سارت في الآفاق وتطاولت إلى قراءتها الأعناق وبذخ فيها على الشعراء بالاتفاق. وأظن أن أصوب آراء شوقي هو أنه لم يرد أن يكون شيئا غير شاعر كبير لا يقال لسيده إنه يوجد في غير المعية السنية من هو أشعر منه. فكان طبع شوقي ظرفا لا يسع مع الشعر حاجة أخرى.
ولم يخلط شوقي الشعر بالسياسة ولا التجارة ولا الفقه ولا الإدارة ولا الزراعة ولا عمل من الأعمال الأخرى التي يتعاطاها الناس وكثيرا ما قرنوا بعضها ببعض فأخذ العمل الواحد من قوة العمل الآخر. وقلما زاول الإنسان عملين إلا غلب أحدهما عليه أو قصر في الاثنين، وقد علم شوقي بثقوب فكره أنه إن حاول أن يكون سياسيا عظيما أو إداريا ماهرا أو زراعيا متقنا أو اقتصاديا مدققا سلبت عنايته بمهنته هذه من ملكته الشعرية بمقدار انصرافه عنها إلى غيرها، فقصر عن إدراك الأمد الأقصى الذي لم يزل مطمح نظره في الشعر، وقعد عن الرتبة الأدبية اللائقة بمن يقال له شاعر الأمير وأمير الشعراء. وكما أن لقب شاعر الأمير وأمير الشعراء كان يزيد شوقي نفاذا في صنعته وصقالا لقريحته، كان يكسوه أيضا أمام الناس بهاء يستمده من منصبه، ويلمع عليه بسبب حظوته عند الجناب العالي، فكان كل من لقبه وأدبه عونا للآخر.
صفحة غير معروفة