السفر
قطعنا منذ أيام المسافة بين جدة والمدينة من طريق مهد الذهب، وهي ستمائة وخمسين ميلا في ثلاثة أيام. وبتنا في الطريق ثلاث ليال، ورأينا كثيرا من الناس والحيوان والشجر والجبال، واجتزنا حزونا وسهولا، وعبرنا سيولا ووطئنا أرضا ممطورة تتخللها غدر صغيرة.
واليوم خرجنا من المدينة نؤم جدة من الطريق الغربية؛ طريق رابغ، ولم يخل السير في هذه الطريق من استفادة على كثرة ما قطعت هذه الطريق قبل جيئة وذهوبا.
ولو سافرنا إلى المدينة وعدنا منها بالطائرة ما رأينا على الأرض إلا جبالا وأسودة لا ندري ما هي. ولو سرنا هذه الطريق على الإبل مرة واحدة لعرفنا من الأرض والماء والشجر والناس أكثر مما عرفنا في الأسفار المتوالية.
لماذا يعجل الناس بالطيران إلى غير ضرورة ، فيحرموا أنفسهم علما وتجربة ومتاعا ورياضة؟
إن في السفر بالطائرة بلوغ مقصد، وفوت مقاصد، وإن التمس المسافر الراحة فحسب، فالإقامة في الديار وترك الأسفار هي الراحة الكبرى لا محالة. إن الطائرة مركب الضرورة، فمن أعجلته الضرورة فليتوسل بها وإلا فخير أن نسير على الأرض أو البحر فنستفيد فوائد الأسفار.
السبت 12 رجب/29 أبريل
بعد الحضر عن الطبيعة
خرجنا من المدينة المنورة قبيل العصر نؤم جدة فأدركنا موضعا اسمه البستان، وقد مضى من الليل قرابة أربع ساعات فآثرنا المبيت؛ فنزلنا ومهدنا فرشنا تحت السماء الصافية المصحية، نرى النجوم شارقة وغاربة، ومطلة على الجبال وكانسة وراءها، وباتت الكواكب والبروج في جمالها وجلالها تسامرنا، وذهب التأمل مذاهبه في صورها ومعانيها.
ونمنا على نية المسير بغلس، وقمت قبل الفجر فإذا أحد الرفاق يوقظ الركب صائحا: قوموا لقد غاب القمر، وأوشكت الشمس أن تطلع! وجعل يكرر هذا القول ويؤكده حسبانا أن غروب القمر يعقبه طلوع الشمس، فضحكت وقلت: ياهذا إن القمر يغرب بالليل والنهار، ويغيب قبل طلوع الشمس وبعد طلوعها. ثم قلت لنفسي: لقد قطع الحضر الناس عن الطبيعة وحجبهم عن السماء، فقل من يعرف من أهل المدن أسماء النجوم والبروج وسيرها في أفلاكها واختلاف مواضعها باختلاف أيام السنة وساعات الليل، ولكن البادية يعرفون هذا كله ويهتدون به سائرين، ويوقتون به مقيمين.
صفحة غير معروفة