فضحكت سالمة لبغتته وقالت: «والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء.» وتحققت من أن الرئيس ممن لا يرجى إقناعهم بفضل العرب فسكتت، ولكنها خشيت أن يكون عليها بأس مما جاهرت به من ميلها إلى العرب، فألحت عليه أن يعتبر كلامها في هذا الشأن من قبيل سر الاعتراف، فوعدها بذلك وهو صادق في وعده؛ لأنهم شديدو المحافظة على ذلك السر.
الفصل التاسع والثلاثون
الجرح
وأرادت سالمة - بعد خروجها من عند الرئيس - أن تفتقد حسانا لكنها ظنته قد نام، فمضت إلى الغرفة التي أعدوها لها فباتت تلك الليلة، ونهضت في الصباح وهي تعتزم المسير فبعثت إلى حسان، فقيل لها إنه لا يستطيع السفر لجرح أصابه في رأسه فذهبت إليه بنفسها تتفقد شأنه، فرأته راقدا وقد شد رأسه بمنديل والتعب ظاهر في وجهه، فسألته عن حاله فقال: «لقد أصاب ذلك الشاب مني مقتلا بهراوته، ولولا لطف الله لذهب بحياتي فورا ولست أدري مع ذلك سببا لهذا التعدي.»
ولم تكن سالمة تخفي عن حسان أمرا وهو خزانة أسرارها، فقصت عليه حكاية الشاب واستطردت إلى ما ترتب على ذلك من مناقشات بينها وبين الرئيس إلى أن قالت: «ولا بد من الإسراع في المسير إلى بواتيه، ثم إلى تورس، قبل أن يفسد الأمر علينا، والمسلمون في انتظارنا على أحر من الجمر.»
فقال: «لو استطعت الحركة ما أمسكت عن السفر، ومع ذلك فإذا شئت المسير وحدك على أن ألحق بك حين أستطيع الركوب فعلت.»
فأطرقت سالمة وأخذت تفاضل بين أن تمكث هناك بضعة أيام ريثما يشفى حسان فتفوتها الفرصة، أو أن تذهب وحدها وتعرض نفسها لأخطار الطريق وبعد التفكير مدة رأت أن تتصرف تصرفا وسطا فقالت لحسان: «إني باقية في انتظارك هنا إلى الغد فإذا شفيت واستطعت الركوب سرنا معا وإلا فإني أسير وحدي.» فأثنى عليها وقال: «غدا ستظهر نتيجة الجرح فإذا لم تصبني الحمى كان الشفاء قريبا بإذن الله.»
فعملت سالمة على الاهتمام بجرح حسان كأنه كان في بدنها؛ لأنها كانت تحترمه وتكرمه لانقطاعه لخدمتها أعواما، ولأنها في حاجة إليه، خصوصا في هذا السفر فذهبت إلى الرئيس وطلبت إليه الاهتمام بحسان فأذعن لها؛ لأنه شعر بأنه مظلوم، فاستدعى راهبا كان قد تفقه في الطب، وكان أهل الدير يرجعون إليه في مثل هذه الحوادث، وأوصاه بمعالجته والعناية به، فذهب إليه ومعه سالمة، فلما نزع الرباط وشاهد الجرح زم شفتيه وأبرزهما ورفع حاجبيه، وكانت سالمة ترقب ما يبدو منه، فلما لمست قلقه خفق قلبها خوفا على حسان، ولكنها لم تظهر اضطرابها فسكتت لترى ما يقوله الطبيب فإذا به قد التفت إلى راهب آخر كان في خدمته، وأومأ إليه أن يأتي بالزجاجة فذهب ثم عاد ومعه زجاجة وكأس ، وكان الطبيب في أثناء ذلك قد قص شعر رأس الجريح وأكثره متلبد متلاصق من الدم المتجمد عليه، فاشتمت سالمة رائحة كريهة، ثم صب الطبيب من الزجاجة شيئا كالخمر لونا ورائحة، واستعان بالراهب الآخر على غسل الجرح به، فوقع نظر سالمة على الجرح فإذا هو طويل عميق فازداد خوفها عليه ولكنها تجلدت لتسمع قول الطبيب على حدة.
وبعد الغسيل شد الطبيب الجرح باللفافة وأشار إلى حسان أن يستلقي ويستريح ليرى ما يكون من جرحه في الغد، وتركوه نائما وخرجوا، فلما صاروا خارجا تقدمت سالمة إلى الطبيب تستطلع رأيه فقال: «لقد أبطأنا عليه في العلاج، وكان يجب علينا أن نعجل بتطهير الجرح حينما أصيب، وعلى كل حال لا يمكننا معرفة النتيجة الآن.»
فاستعاذت سالمة بالله وصبرت نفسها إلى الغد، فجاءته في الصباح فإذا هو لا يزال نائما فنادته فلم يجبها فجست يده فرأتها شديدة الحرارة فعلمت أنه يعاني من شدة الحمى، فاستدعت الراهب الطبيب فلما جاء وفحصه، قال: «إن الرجل في غمرة الحمى وفي خطر حتى يفيق.»
صفحة غير معروفة