شارل وعبد الرحمن

جرجي زيدان ت. 1331 هجري
135

شارل وعبد الرحمن

تصانيف

فجلست سالمة وأصلحت ثوبها وأخذت تقص حديثها فقالت وهي توجه خطابها لمريم: «أنت تعلمين يا مريم أن والدتك سالمة ولكنك لا تعرفين من هي سالمة هذه، وقد سألتك عن والدك فقلت إنك لا تعرفينه؛ لأنه توفي وأنت طفلة ولم أذكره لك قط، ولم يكن أحد يعرف نسبك غير ذلك الشيخ المسكين حسان وقد قتل، ولو أصبت أنا بنبلة لذهب هذا السر أدراج الرياح ولذلك عجلت في كشفه لصاحبه، فاعلمي يا مريم أن أمك التي تسمينها سالمة هي أجيلا زوجة رودريك ملك الإسبان الذي قتله العرب في وقعة فحص شريش منذ بضع وعشرين سنة عندما جاء طارق لفتحها.

وبعد أن قتل رودريك المسكين جاء موسى بن نصير فأتم الفتح حتى بلغ طليطلة، عاصمة إسبانيا في ذلك الحين، وكنت أنا هناك فانطويت على نفسي بعد وفاة زوجي وأقمت مكرمة وعشت في هناء ورغد كما كنت في أيامه، وكانوا يسمونني أم عاصم ولم يمسني أحد بسوء؛ لأن موسى - رحمه الله - كان عادلا رفيقا يعلم كيف يفتح البلاد ولكن مدة حكمه لم تزد على بضع سنين إذ وشى به الواشون، فاستقدمه الخليفة إلى الشام وسجنه، وكان نصب عيني موسى بعد أن فتح الأندلس وجمع غنائمها أن يواصل بالفتح فيما وراءها حتى يبلغ القسطنطينية ويتقدم منها إلى الشام، ويفتح ما في طريقه من البلاد حتى يصير البحر الأبيض محاطا بالمسلمين من كل جهة، ولو فعل ذلك يومئذ لكان هينا على المسلمين؛ لأن البلاد كانت ضعيفة مفككة والحكام في انقسام.

فلما أخذ موسى إلى الشام استخلف على الأندلس ابنه عبد العزيز بن موسى (قالت ذلك وتنهدت) وكان عاقلا حكيما عادلا، وقد أطلعه أبوه على ما كان في عزمه من فتح هذه البلاد التي يسميها العرب الأرض الكبيرة، وكنت أنا لا أزال في طليطلة فلما تولى عبد العزيز ورآني ورأيته أحبني وأحببته فطلب الزواج مني، ولم أكن أطمع في رجل أرفع منه مقاما، فقبلت على أن أبقى على النصرانية، فرضي ولكنه علمني الإسلام فوجدته كثير الشبه بمذهب أجدادنا القوط (الأريوسية) ثم انتقل بي إلى إشبيلية فأقمنا هناك بضع سنوات كان في أثنائها مثال العقل والحزم، وقد أسر إلي أمورا كثيرة كان عازما على القيام بها خدمة العرب والمسلمين، أهمها فتح هذه الأرض الكبيرة (أوروبا) وقد كان ذلك هينا كما قدمت، وخصوصا لعبد العزيز؛ لأنه - رحمه الله - كان يعامل أهل البلاد بالعدل والحسنى والرفق، فأصبح الناس على اختلاف طوائفهم يحبونه، وشاع ذلك عنه إلى أقصى بلاد النصرانية، ولو طال مقامه لفتح هذه البلاد في غير عناء؛ لأن أهلها كانوا ينتظرون من يمكنهم من حقوقهم وحريتهم، ولا عبرة بمذهبه عندهم وكثيرا ما كان عبد العزيز يحدثني عن رغبته في ذلك الفتح، وأنا أحثه على إكرام الأهالي والإحسان إليهم وهو يطيعني لما يترتب على ذلك الإحسان من الكسب العظيم، وقد بذل جهده من الجهة الأخرى في جمع كلمة المسلمين من العرب والبربر وغيرهم؛ لأنه بغير هذا الاتحاد لا يستطيع عملا.

وإنه لفي هذه الآمال إذ وشى به الحساد كما وشوا بأبيه واتهموه بأنه طامع في الملك لنفسه، وقد بنوا أدلتهم على محاسنته أهل البلاد، وقالوا إني سيطرت على عقله حتى حملته على أن يرغم أصحابه ورعيته على السجود له إذا دخلوا عليه، كما كان يفعل زوجي رودريك على زعمهم، ومن مفترياتهم أني جعلته يفتح بابا قصيرا في مجلسه الذي يجلس فيه حتى إذا دخل أحدهم منه طأطأ رأسه كالراكع، والله يعلم إنهم افتروا علي ذلك الافتراء ولم يفقهوا سر الأمر، ولما نفذت الوشاية به عند الخليفة لم يوفدوه إليه كما فعلوا بأبيه ولكنهم دسوا له من قتله وهو في المسجد وا لهفي عليه.»

وتوقفت عن الكلام برهة، ثم شرقت بريقها وهانئ ومريم كأنهما في حلم لا يجرؤ أحدهما على التلفظ لئلا يقطع كلامها، فقالت وهي تنظر إلى مريم وتحاول الابتسام: «وكنت قد ولدت منه وقد بلغت السنة الثالثة، وكان يحبك حبا لا مزيد عليه خلافا لمن ولد له من النساء الأخريات، وكان لا يهنأ له عيش إلا إذا قبلك وضمك إلى صدره صباحا ومساء، وإذا رجع من مجلسه وأتى قصره جعل يلاعبك ويبذل جهده فيما يرضيك حتى نسيني من أجلك، فلما علم بما نصبوه له من الحبائل وتحقق من وقوع القضاء دعاني ليلة مقتله قبل نزوله إلى المسجد، فأتيته وأنت على ذراعي فتناولك وجعلك في حجره وطفق يقبلك ويبكي بكاء مرا وهو يشهق شهيق الطفل، فانخرطت في البكاء معه؛ لأني أحببته حبا كثيرا لما رأيته من صدق محبته وكبر نفسه وحسن قصده، وبعد أن بكى وودعك نادى حسانا وأوصاه بي وبك ثم التفت إلي وقال: لقد أبى هؤلاء القوم إلا أن يضيعوا تعبي ويفسدوا ما هيأته لدولتهم مما لم يكونوا يحلمون به، أما موتي فبقضاء الله وقدره فلا اعتراض لي عليه، ولكنني أشفق على ما أضاعوه وسيضيعونه بقتلي مما دبرته لهم؛ لأني لا أظنهم سيوفقون إلى رجل آخر يغار على الإسلام غيرتي ويهيئ له مثل ما هيأت من الظروف المساعدة على الفتح وهي إرضاء الأهالي وجمع كلمة المسلمين وتوفر الأسباب الأخرى المؤدية إلى ذلك.» ثم أشار إليك وقال: لو كانت هذه الحبيبة غلاما لأوصيتك بتربيته لهذه الغاية، سأموت في الغد أسفا على الفرصة التي أضاعوها بجهالتهم، ولكنني أوصيك أن تربي ابنتنا هذه تربية عربية، وتعلميها ركوب الخيل، ولا تخبريها من هو أبوها، ولا تجعلي عربيا يعرف سرها إلا من توسمت فيه الغرض الذي ذكرته وتوفرت فيه الصفات المساعدة على تحقيقه، فإذا رأيت قائدا عربيا نهض للفتح وقد أدرك العوامل المساعدة على ذلك، فإن هذه الفتاة تكون له زوجة أو ابنة كما يشاء.»

ولما قال ذلك أخرج من جيبه هذه المحفظة (وأخرجت هي المحفظة من جيبها) ودفعها إلي وهو يقول: «وإذا وفق المسلمون إلى ذلك الرجل، فإنه فاتح هذه البلاد لا محالة، فإذا تمكن من الفتح حتى بلغ نهر لوار فقصي عليه خبري وأطلعيه على وصيتي وسلمي هذه الابنة له ومعها هذه المحفظة فإن فيها ما ينفعه وينفع المسلمين.» فأخذت المحفظة وحفظتها معي من ذلك الحين، ولم تفارقني يوما واحدا ولا ساعة واحدة وأنا لا أعلم ما فيها، فلما قتلوه تلك القتلة الشنيعة - سامحهم الله - لم يبق لي عيش في الأندلس، فغادرتها ومعي حسان وعنده كل أسراري، وقد كان خادم الأمير مخلصا له رحمه الله.

وقد تولى الأندلس بعد عبد العزيز عدة أمراء وأكثرهم تحفزوا للفتح، ولكنهم لم يظفروا به لطيشهم وتهورهم وطمعهم، حتى إذا سمعت بعبد الرحمن وما أتاه قبل النهوض للفتح من طوافه بإسبانيا وتعهده حكامها وعزل الضعفاء وأهل المطامع، ومحاسنة أهلها وسعيه في جمع كلمة الجند من العرب والموالي، قلت: هذا هو الرجل المنتظر وصبرت حتى أتى إلى بوردو وفتحها وكان ما كان مما تعرفينه.» ثم وجهت كلامها إلى هانئ وقالت: «فالذي أراه أن الأمير عبد الرحمن هو الرجل الذي عناه الأمير عبد العزيز، فمريم له وهذه المحفظة (ودفعتها إلى مريم) معها أيضا.

ولكن بالطبع لا يكون له شيء من ذلك إلا بعد قطع النهر.» فتناولت مريم المحفظة وخبأتها بين ثيابها.

الفصل الثالث والسبعون

الوداع

صفحة غير معروفة