أبطال الرواية
مراجع هذه الرواية
1 - فتوح العرب في بلاد الإفرنج
2 - فتح بوردو
3 - الغنائم والسبايا
4 - بسطام
5 - التنازع
6 - مريم
7 - الخلوة
8 - هانئ
9 - عبد الرحمن وبسطام
10 - العرب في أسر الإفرنج
11 - بعض السر
12 - نهر لوار
13 - الآنية
14 - الخباء
15 - ميمونة
16 - سران
17 - العقد
18 - دسيسة
19 - لقاء الحبيبين
20 - البغتة
21 - المكر المتبادل
22 - من شق الحائط
23 - المكاشفة
24 - الاطمئنان
25 - المنديل
26 - البحث عن مريم
27 - المنزل الخالي
28 - المكيدة
29 - الخنجر
30 - المعركة
31 - هانئان
32 - هانئ الآخر
33 - الإخلاص
34 - حيلة جديدة
35 - سالمة في بوردو
36 - رأي الإفرنج في المسلمين
37 - الدير
38 - داتوس
39 - الجرح
40 - شبح غريب
41 - المسافة طويلة
42 - خطر آخر
43 - الدوق أود
44 - التهديد
45 - الكتاب
46 - الطارق
47 - السفر
48 - الاستطلاع
49 - منظر هائل
50 - حصار القسطنطينية
51 - البلغاريون
52 - سوق الرقيق
53 - موكب الدوق
54 - الأحول
55 - تورس
56 - طارقان
57 - بشرى
58 - شهامة
59 - أول الأسرار
60 - الجوزة الكبيرة
61 - دير القديس مرتين
62 - أمل جديد
63 - الرهينة
64 - معسكر عبد الرحمن
65 - ساحة القتال
66 - مشكلة الغنائم
67 - رسول أمين
68 - لمباجة
69 - هانئ ومريم
70 - سالمة في الدير
71 - دعوة خطرة
72 - سر جديد
73 - الوداع
74 - ضوء القمر
75 - رسالة من شارل
76 - معسكر شارل
77 - الحرب
78 - بعد المعركة
79 - اللقاء الدائم
أبطال الرواية
مراجع هذه الرواية
1 - فتوح العرب في بلاد الإفرنج
2 - فتح بوردو
3 - الغنائم والسبايا
4 - بسطام
5 - التنازع
6 - مريم
7 - الخلوة
8 - هانئ
9 - عبد الرحمن وبسطام
10 - العرب في أسر الإفرنج
11 - بعض السر
12 - نهر لوار
13 - الآنية
14 - الخباء
15 - ميمونة
16 - سران
17 - العقد
18 - دسيسة
19 - لقاء الحبيبين
20 - البغتة
21 - المكر المتبادل
22 - من شق الحائط
23 - المكاشفة
24 - الاطمئنان
25 - المنديل
26 - البحث عن مريم
27 - المنزل الخالي
28 - المكيدة
29 - الخنجر
30 - المعركة
31 - هانئان
32 - هانئ الآخر
33 - الإخلاص
34 - حيلة جديدة
35 - سالمة في بوردو
36 - رأي الإفرنج في المسلمين
37 - الدير
38 - داتوس
39 - الجرح
40 - شبح غريب
41 - المسافة طويلة
42 - خطر آخر
43 - الدوق أود
44 - التهديد
45 - الكتاب
46 - الطارق
47 - السفر
48 - الاستطلاع
49 - منظر هائل
50 - حصار القسطنطينية
51 - البلغاريون
52 - سوق الرقيق
53 - موكب الدوق
54 - الأحول
55 - تورس
56 - طارقان
57 - بشرى
58 - شهامة
59 - أول الأسرار
60 - الجوزة الكبيرة
61 - دير القديس مرتين
62 - أمل جديد
63 - الرهينة
64 - معسكر عبد الرحمن
65 - ساحة القتال
66 - مشكلة الغنائم
67 - رسول أمين
68 - لمباجة
69 - هانئ ومريم
70 - سالمة في الدير
71 - دعوة خطرة
72 - سر جديد
73 - الوداع
74 - ضوء القمر
75 - رسالة من شارل
76 - معسكر شارل
77 - الحرب
78 - بعد المعركة
79 - اللقاء الدائم
شارل وعبد الرحمن
شارل وعبد الرحمن
تأليف
جرجي زيدان
أبطال الرواية
عبد الرحمن:
قائد الجيوش الإسلامية.
هانئ:
قائد الفرسان.
شارل (قارله):
قائد جيوش الإفرنج وحاكم أوستراسيا.
بسطام:
قائد البربر.
مريم:
حبيبة هانئ وابنة عبد العزيز بن موسى.
سالمة (أجيلا):
والدة مريم زوجة رودريك ملك الإسبان.
لمباجة:
بنت الدوق أود وزوجة القائد البربري.
أود:
حاكم أكتانيا ووالد لمباجة.
مراجع هذه الرواية
هذه المراجع هي التي اعتمد عليها المؤلف في تأليف الرواية ووقائعها التاريخية:
ابن الأثير.
مختصر الدول.
جبن.
فيسفوروس.
أبو الفداء.
نفح الطيب.
رومي.
نهاية الأرب في قبائل العرب.
رينو.
رينو ورومي.
دوزي.
البيان والتبيين للجاحظ.
المقري.
الفصل الأول
فتوح العرب في بلاد الإفرنج
فتح المسلمون إسبانيا سنة 92ه/811م بقيادة طارق بن زياد البربري، كما بينا ذلك في رواية «فتح الأندلس» وكان طارق من موالي موسى بن نصير عامل بني أمية على إفريقية أي من أتباعه، وموسى يومئذ شيخ قد ناهز الثمانين من عمره، فلما فتحت الأندلس أصبحت من توابع تلك الولاية أو فرعا من فروعها، وعامل إفريقية يقيم في القيروان، وهو الذي يولي عمال الأندلس، وما زال ذلك شأن الأندلس حتى استقلت على عهد الدولة الأموية الأندلسية بعد ظهور العباسيين في المشرق.
فلما تهيأت أسباب الفتح لموسى وهو في إفريقية، استشار الخليفة في ذلك فوافقه، وحذره، فلم يشأ موسى أن يفرط في جند العرب وهم يومئذ قليلون بالنسبة إلى أهل البلاد الأصليين في معظم البلاد التي فتحوها، وخصوصا في إفريقية، فأنفذ في تلك المهمة حملة أكثرها من البربر: سكان إفريقية الأصليين، وقائدهم مولاه طارق، فلما حدثت الوقعة بين طارق ورودريك في فحص شريش وقتل رودريك سنة 92ه، أصبح فتح الأندلس أمرا مقضيا، ولم تمض سنة حتى فتحت قرطبة ومالقة وطليطلة وغيرها من مدن الأندلس العظمى وتأيدت شوكة المسلمين هناك.
فلما بلغ خبر ذلك النصر السريع إلى موسى تمنى أن تكون له يد فيه، فكتب إلى طارق أن يتوقف ريثما يأتيه هو، وجند جندا آخر من العرب والبربر وقدم إلى إسبانيا من جهة أخرى، ففتح مريدة وسرقوسة وغيرهما، ولما رأى سهولة الفتح عليه أوغل في إسبانيا حتى تجاوز جبال البيرينة إلى فرنسا فغزا بلادا منها إلى نربونة وقد عزم على مواصلة الفتح في بلاد أوروبا حتى يعود إلى الشام من طريق القسطنطينية فيتم له فتح العالم المعمور يومئذ، ولم يكن باقيا منه إلى ذلك الحين غير أوروبا وكانت في غاية الاضطراب والانقسام.
وفي أثناء تلك الحروب شب خلاف بين موسى وطارق، واستفحل أمره فاضطر الخليفة في دمشق إلى استدعائهما إليه للنظر في أمرهما فشخصا إلى الشام، وولى موسى على إسبانيا ابنه عبد العزيز فجعل عاصمته إشبيلية ثم أتى هو إلى دمشق ومعه من الغنائم والسبايا ما لا يحصى، وجاء طارق أيضا (سنة 94ه) وتحاكم الاثنان إلى الخليفة الوليد، وفي أثناء المحاكمة توفي الوليد فخلفه أخوه سليمان بن عبد الملك سنة 96ه، وكانت بينه وبين موسى ضغائن، فشدد النكير عليه وعلى أولاده، فأوعز إلى بعض الأمراء في الأندلس أن يقتلوا عبد العزيز فقتلوه وحملوا رأسه محنطا إلى دمشق، وكان موسى في السجن، فاستقدمه سليمان وأراه رأس ابنه وسأله: هل يعرفه، فدعا موسى على قاتله وصدمه ذلك المنظر فمات بعد قليل، ولا ندري ماذا انتهى إليه أمر طارق.
ذهب موسى وطارق، ولم يذهب من فكر العرب فتح أوروبا، فكانوا يترقبون الفرص ويحول دون تحقيق هدفهم ما نشب من الخصام بين قبائلهم، على أنهم عادوا إلى مشروع موسى من طريق آخر، فأنفذ الخليفة سليمان سنة 98ه، حملة كبيرة عن طريق القسطنطينية بقيادة أخيه مسلمة بن عبد الملك فحاصرها، وطال حصارها حتى توفي سليمان، وتولى الخلافة عمر بن عبد العزيز سنة 99ه، فسحب الجند وقد امتنع عليهم الفتح من ذلك الطريق فعادوا إلى السعي إليه بطريق الأندلس.
وتوالى على الأندلس عدة أمراء فتحوا مدنا كثيرة من جنوبي فرنسا، لم تثبت أقدامهم إلا في قليل منها، ثم أفضت الإمارة إلى عبد الرحمن الغافقي سنة 112ه/730م وكان رجلا حازما تقيا محترما غيورا على الإسلام والمسلمين، فأخذ على عاتقه استئناف العمل لفتح أوروبا عن طريق غاليا (فرنسا) فألمانيا فالمملكة الرومانية إلى الشام وكانت عاصمة الأندلس يومئذ قد انتقلت إلى قرطبة، فأخذ عبد الرحمن في إعداد الجند للخروج على بلاد الإفرنج، وكانوا يسمونها يومئذ الأرض الكبرى، وكان عبد الرحمن حذرا، فخشي أن يخفق في مهمته كما أخفق أسلافه، وكان قد عرف علة إخفاقهم فعمد إلى تلافيها فطاف بإسبانيا بنفسه، وتعهد حكامها، فعزل الضعفاء وأهل المطامع من أمرائها وأبدلهم برجال ذوي دراية وحلم، ليحسنوا سياسة الناس من أهل الذمة، وأنصف هؤلاء فرد إليهم ما كان قد اغتصبه أسلافه من كنائسهم وأملاكهم، وأعادهم إلى ما كانوا عليه في زمن موسى بن نصير لعلمه أنه لا يفوز في مهمته إلا إذا أحسن سياسة الرعية وعاملهم بالحق والرفق، وإلا فإنهم يكونون عونا عليه، وكان عبد الرحمن وهو في ذلك الطواف يخطب المسلمين في المساجد، ويحرضهم على الجهاد في سبيل الله لفتح غاليا وما وراءها حتى يعم الإسلام كل العالم. •••
وكان لكلامه تأثير عظيم في المسلمين العرب وغيرهم، فتقاطروا من إفريقية ومصر والشام والحجاز واليمن، وفيهم العرب والبربر والمولدون من المصريين والسوريين على اختلاف القبائل والشعوب، وقد تدافعوا إلى الجهاد في سبيل الدين إجابة لدعوة عبد الرحمن، وهم إنما وثقوا به لما اشتهر من حزمه وكرم أخلاقه وعدله وصدق إسلامه، وتألفوا حوله فرقا باعتبار قبائلهم وأجناسهم وهو أميرهم الأكبر.
الفصل الثاني
فتح بوردو
وكانت فرنسا في ذلك الحين تسمى بلاد الغال أو غاليا، وكانت الدولة الرومانية قد تقلص ظلها عنها وتولتها عائلة من قبائل الجرمان يسميها المؤرخون ميروفنجيان، أول ملوكها كلوفس
Clovis
حكمها سنة 481م، وتتابع الحكم في أولاده إلى أوائل القرن الثامن، وقد ضعف أمرهم وانقسمت مملكتهم وأفضى النفوذ إلى رجال دولتهم شأن كل الدول في دور تدهورها، وكان وزير الملك في ذلك الحين رجلا من الإفرنج اسمه شارل، وكانت غاليا تنقسم إلى مقاطعات: كانوا يسمون الجنوبية منها سبتمانيا وعاصمتها نربونة، وكانت قد دخلت في حوزة المسلمين يليها من الشمال أكيتانيا وعاصمتها طولوزة، وهي مقاطعة كبيرة حاكمها أمير إفرنجي اسمه أود وحدودها من الشمال نهر اللوار، ومن الشرق نهر الرون، ومن الجنوب جبال البرينة، ومن الغرب الأوقيانوس، ويلي أكتيانيا من الشمال مقاطعة نوستريا ووراءها أوستراسيا، وحاكمها شارل المذكور، فضلا عن أقسام أخرى، وكان كل دوق أو حاكم يريد الاستئثار بالسلطة العامة لنفسه، وكان عبد الرحمن قد أدرك اختلاف أمورهم أو جاءه البشير بذلك، فعزم على فتح بلادهم.
فأمر عبد الرحمن بالرحيل للجهاد وقد بلغه - وهو في الطريق - أن قائدا من قادة المسلمين على الحدود الشرقية في جبال البرينة يخالف ذلك الرأي، وكان الأمير المذكور قائدا بربريا يسمى المنيذر، وكان شجاعا باسلا، غير أنه كان يأبى الاتحاد مع العرب، وينظر إلى أمرائهم نظرة الحسد، مثله في ذلك مثل أكثر قواد البربر، وكان المنيذر قد عقد عهدا مع أود دوق أكيتانيا، فزوجه أود ابنة له جميلة اسمها لمباجة، فلما علم عبد الرحمن بتلك المعاهدة أوجس خيفة من المنيذر، فبدأ به فبغته في إمارته وقتله واستولى على أمواله ونسائه، وأمر بإرسال لمباجة إلى الخليفة في الشام.
فلما اطمأن عبد الرحمن من ناحية المنيذر، وأمن على الأندلس، توجه برجاله وقواده إلى بلاد الإفرنج فاخترقها شمالا، وجنده يفتحون البلاد ويجمعون الغنائم وليس من يصدهم وقد استولى الرعب على الإفرنج وخافوا على بلادهم، و«أود» لا يقوى عليهم، حتى وصلوا إلى مدينة بوردو الشهيرة اليوم بخمورها ففتحوها بالسيف، وقبضوا على الكونت حاكمها وهم يحسبونه «أود» نفسه، فقطعوا رأسه ليرسلوه إلى الخليفة في الشام على ما جرت عليه العادة في أيامهم.
وبوردو كان اسمها يومئذ بورديغاليا، وهي واقعة عند نهر غارون على ضفته اليسرى وكانت من المدن الحصينة، يحيط بها سور مربع الشكل عليه الأبراج العالية، وكان الرومانيون يعدونها من أكثر مدن غاليا علما وأدبا، وفيها «أمفيتياتر» روماني عظيم كانوا يسمونه «أمفيتياتر غاليوس» وكنيسة كبرى اسمها كنيسة الصليب، ولا تزال آثار هذين البناءين باقية إلى اليوم.
فلما جاء المسلمون خيموا في ظاهرها، ثم فتحوها عنوة وأمعنوا فيها نهبا وسلبا فلما فرغوا من القتال عادوا بالغنائم والأسرى والسبايا إلى ساحة كبيرة أمام المعسكر، فأمر عبد الرحمن أميرا من أمرائه اسمه هانئ، كان قائدا لفرقة الفرسان وهي أهم فرق الجند عندهم ؛ لأن مهارة العرب في الفروسية كانت من جملة ما ساعدهم على الفتح وخصوصا في بلاد الإفرنج وكان هانئ شابا في نحو الخامسة والعشرين من عمره، اشتهر في معسكر عبد الرحمن بالبسالة وشدة البطش وقد شب على ظهور الخيل، وكان إذا ركب لا يبالي من يلاقي ولو كانوا مئات، وكان عبد الرحمن يحبه حبا شديدا، ويقدمه على سائر القواد على حداثة سنه، ومع أنه ليس من قبيلته؛ لأن عبد الرحمن من قبيلة بني غافق وهي من القبائل اليمنية، وهانئ من قيس وهي من قبائل الحجاز، وكان التنافر متمكنا يومئذ بين اليمنية والقيسية، فلم يبال عبد الرحمن بذلك، وكان هانئ من الجهة الأخرى يحب عبد الرحمن ويحترمه احتراما شديدا لكرم أخلاقه وسعة صدره، وكانا قد تحالفا سرا على الاتحاد الوثيق في أثناء هذه الحرب حتى يفرغا منها، لعلمهما أن الذين حاولوا فتح أوروبا قبلهما إنما كان سبب فشلهم الانقسام فكان عبد الرحمن - لثقته بهانئ - يعهد إليه بكل ما يحتاج إلى الثقة وحسن الظن، ومن هذا القبيل اعتماده عليه بعد فتح بوردو في تقسيم الغنائم وتدبير أمر الأسرى.
وكانوا يومئذ في أوائل الخريف سنة 114ه/732م وضواحي بوردو مكسوة بالكروم وقد نضجت أعنابها، وكان هانئ قد أبلى في ذلك الفتح بلاء حسنا حتى بهر الناس، ولم يتحول عن جواده طول ذلك اليوم، وهو يجول مقبلا مدبرا يحرض رجاله ويستحث القواد على الثبات والصبر، ولم يكن بين أمراء ذلك الجند من لا يحب هانئا ويعجب ببسالته وإقدامه إلا من حسده لتقربه من الأمير الكبير مع صغر سنه، لكن حساده لم يجدوا سبيلا إلى أذاه لشدة محبة عبد الرحمن له، وكان هانئ طويل القامة عريض الصدر، إذا مشى عرفه الناس لطوله وعرض كتفيه، وإذا أقبل إليك توسمت مناقبه مصورة في محياه، فقد كان على غضاضة شبابه واضح الملامح بارز الحاجبين والوجنتين، حاد العينين، صغير الأنف والفم، بارز الذقن، خفيف العارضين، أسود الشعر، لا ينفك وجهه باسما مع وقار، وركب في ذلك اليوم على جواد أدهم، لا يحب الركوب على سواه لخفة حركته وجمال مشيته وصبره في ساحة الوغى، وقد توسم فيه الخير؛ لأنه لم يركبه في قتال إلا عاد منصورا، ولم يكن في معسكر عبد الرحمن من لا يعرف تعلق هانئ بجواده حتى توهموا أنه شغل به عن ملاذ الدنيا، والحقيقة أنه كان يهتم اهتماما بالغا بمراعاة ذلك الجواد وإتقان عدته، حتى ألبسه لجاما مذهبا وسلسلة وركابين من فضة، وعلق على جبهته لؤلؤة كبيرة عثر عليها في بعض غزواته في غاليا فصاغها في شكل نجمة وعلقها هناك، وكان الجواد شديد التعلق بصاحبه إذا ناداه أتاه صاغرا، وإذا استحثه في ساحة الوغى أسرع حتى تظنه طائرا فإذا استوقفه أذعن له ووقف بغتة.
الفصل الثالث
الغنائم والسبايا
فأقبل هانئ في أصيل ذلك اليوم على جواده كأنه جبل يسعى، وقد تعمم بعمامة حمراء وتزمل بعباءة حمراء، وتقلد حساما وقد نقش اسمه على نصاله ورصع قبضته بالحجارة الكريمة، وأمر بعض رجاله أن يفرزوا الغنائم، كل صنف منها على حدة، فجعلوا الأسرى في جانب، والسبايا من النساء والأطفال في جانب، والغنائم من الأسلحة والآنية والأموال والمجوهرات في جانب، واستدعى هانئ أمراء الجند، وهم جماعة كبيرة وفيهم البربر من أهل إفريقية، وهؤلاء كثيرون؛ لأن العرب كانوا يعتمدون عليهم في حروبهم في الأندلس وفرنسا، وكان هؤلاء أهل بطش وشدة، ولكنهم لم يكونوا على قلب واحد في نصرة الإسلام، لما كان من امتهان العرب يومئذ لغير العرب ولو كانوا مسلمين، فكان البربر يصحبون العرب في حروبهم رغبة في الغنيمة أكثر من رغبتهم في نصرة الإسلام، على أن بعض قبائلهم كانوا يرافقون العرب في الجهاد، وما هم من الإسلام على شيء، أو ربما تظاهروا به وهم يهود أو وثنيون، ويقال نحو ذلك في سائر فرق الجند غير العرب، فقد كان في جملة رجال هذه الحملة أناس من الأسرى أو العبيد اشتراهم العرب وربوهم في حجر الإسلام، وهم في الأصل من الصقالبة (السلاف) أو من الإفرنج أو الروم أو غيرهم.
فلما اجتمع القواد على خيولهم بين يدي هانئ، أمر بالغنائم من الآنية والأموال فجيء بها، فأمر بالخمس - وهو حق بيت المال - فنحوه جانبا، ووزع ما بقي على الأمراء كل بنسبة عدد رجاله، وكان إذا رأى اختلافا بينهم على قسمة، بذل من نصيبه وأنصبة رجاله في سبيل التوفيق.
وبعد الفراغ من قسمة الغنائم تحولوا إلى جهة الأسرى وكانوا عديدين، وقد شدوا بعضهم إلى بعض بالحبال أو السلاسل وساقوهم سوق الأغنام، وجاءوا بهم حتى أوقفوهم بين يدي هانئ، فالتفت هانئ إلى القواد وقال لهم: «إن هؤلاء الأسرى من جملة الغنائم ولا يمكن اقتسامهم فاعرضوهم للبيع، أين التجار؟» ولم يتم كلامه حتى جاء جماعة من يهود القيروان وقرطبة وغيرهما من مدن الإسلام، وكانوا قد صحبوا الحملة للتكسب من أمثال هذه الصفقات واليهود لا تفوتهم هذه الفرص، فلما حضروا تقدم واحد منهم وعلى رأسه عمامة سوداء واسعة، ولحية مسترسلة على صدره وأنفه أعقف كبير وعليه قباء واسع، ووراءه أحمال من الدراهم والدنانير، فقال له هانئ: «بكم تشتري هؤلاء الأسرى، يا هارون؟»
قال: «بالذي يأمر به مولاي.»
فقال هانئ: «لولا عزمنا على السفر إلى الحرب ما بعناهم، بل كنا نستخدمهم في منازلنا أو نتوقع الفداء من أهلهم، فلعل بينهم من أولاد الأغنياء من يفتديه أهله بالأموال الطائلة، ولكننا على أهبة المسير للحرب ولا وقت لدينا فاشتر» قال هانئ ذلك في بساطة وأنفة، ولكن هارون تمسك بقوله وصمم على الاحتيال للشراء بأقل الأثمان، فقال: «صدق مولاي، ولكن ابتياع هذا القدر من الناس خطر علينا إذ لا ندري كيف ننقلهم إلى إسبانيا أو إلى إفريقية أو إلى الشام حيث يعرضون للبيع وفي ذلك من المشقة والنفقة ما فيه.»
فضجر هانئ من هذه المطاولة، وهو يود أن يفرغ من هذه الصفقة لأمر يهمه في الصفقة التالية: صفقة السبايا فقال: «اشتر الأسير بدينار، الكبير منهم كالصغير، على أن تكون أسلابهم لنا غير ما يكسو عوراتهم.»
فضحك هارون وهو يمشط لحيته ثم يقبضها بيده ويرسلها على صدره ويتظاهر بأنه استكثر المبلغ وقال: «ألا يكفي أن أدفع أثمان هؤلاء وهم مئات ثم تطالبني بأسلابهم وما عليهم منها إلا الثياب.»
فقال هانئ: «قد بعناك فادفع المال إلى هذا الكاتب وهو يحصي العدد ويقبض الثمن.» قال ذلك وأشار إلى كاتبه وساق فرسه إلى جانب آخر من تلك الساحة حيث كانت السبايا وفيهم النساء والأطفال فتبعه هارون وهو يقول: «لا تبع السبايا لسواي.» فاعترضه تاجر آخر شهد صفقة الأسرى وصاح فيه: «قد اشتريت الأسرى وحدك، فدع السبايا لنا.» فأجابه ذاك جوابا جافا، فانتصر بعض الوقوف من اليهود لهارون والبعض الآخر لرفيقه وعلت الضوضاء، فسمع هانئ ضوضاءهم فصاح فيهم قائلا: «لا تغضبوا إننا نقسم الصفقة بينكم على السواء.»
فلما وصلوا إلى موقف السبايا ساق هانئ جواده إلى آخر موقفهم، وكانوا قد وقفوا صفوفا نساء وأطفالا فمر بهم الهوينا وهو يتفرس في الوجوه كأنه يفتش عن ضائع، والنساء يتضرعن إليه بالإيماء والبكاء؛ لأنهن لا يعرفن العربية، وهو لا يلتفت إلى أحد حتى وصل إلى آخر الصف حيث عثر على ضالته، وهي فتاة لم ير الراءون أجمل منها وبجانبها امرأة في نحو الأربعين من عمرها، والهيبة والجلال ظاهران عليهما، وبرغم عويل سائر النساء والأطفال، فإنهما كانتا هادئتين لا تبديان حراكا وليس في ملامحهما ما يدل على الخوف أو الاضطراب، وكانت المرأة بيضاء اللون شقراء الشعر، زرقاء العينين، وقد لملمت شعرها وضمته في أعلى رأسها تحت خمار أسود، وارتدت ثوبا أسود يجللها كلها حتى ليحسبها الناظر إليها من سكان الأديرة، وكانت جالسة حينئذ على حجر وقد أطرقت كأنها تفكر في أمر ذي بال، وفي يدها محفظة من جلد قد حرصت عليها حرصا شديدا.
أما الفتاة فكانت واقفة بجانبها، وعليها لباس أسود مثل لباسها، وقد أسندت يدها إلى كتف المرأة وهي مكشوفة الزندين إلى الكوع وقد التف زنداها التفافا بديعا، وكانت طويلة القامة على اعتدال ورشاقة وقد بدت غضة، في محياها الحياة والنشاط، ويحسبها الرائي - أول الأمر - في الخامسة والعشرين، وهي في الحقيقة دون العشرين سمراء اللون، سوداء العينين، كحلاء الجفون، حادة البصر مع وداعة ورقة تدل وقفتها على الصحة والقوة معا، ويتجلى فوق ذلك كله لطف نسائي يسحر الألباب، وكان ثوبها الأسود بسيطا، وقد انفتح الرداء من أعلى الصدر فبدا عنقها وفيه مظاهر الصحة والقوة بامتلائه واستدارته، وصففت شعرها الكستنائي الجميل على هيئة ضفيرتين مستطيلتين أرسلتهما إلى صدرها من جانبي العنق، فبلغتا إلى تحت الخصر فوق منطقة من جلد، وغطت رأسها بنقاب أسود يكسو شعرها ويسترسل على كتفيها وظهرها، والناظر إلى الفتاة بجانب تلك المرأة يتبادر إلى ذهنه أنها والدتها وإن اختلفا خلقة وشكلا؛ لأن المرأة كانت بيضاء اللون شقراء الشعر والفتاة سمراء كما تقدم.
أقبل هانئ إليهما والفتاة تنظر إلى والدتها وتخاطبها همسا فلما وصل إليها رفعت نظرها إليه وتفرست في وجهه وتفرس هو فيها هنيهة، لا ندري ما دار في أثنائها بينهما من حديث العيون، ثم أمر بعض الغلمان ممن كانوا في ركابه أن ينقلهما إلى مكان منفرد ريثما يفرغ من مهمته، فلم يستغرب أحد طلبه؛ لأن ذلك من الأمور العادية في مثل هذه الحال، فالفاتحون يختارون من غنائمهم ما شاءوا لأنفسهم ويبيعون ما شاءوا.
ثم عاد هانئ إلى أواسط الصف ونادى التجار، وقال: «كيف تقسمون هذه السبايا؟»
فتقدم هارون وقال: «لا يمكن الاقتسام في هذه الحال؛ لأن ثمن الفتاة أو المرأة يختلف باختلاف درجة جمالها وعقلها وما تجيده من الأعمال، كالخياطة أو الطبخ أو الرقص أو الغناء، كما يتوقف على صحتها ودرجة احتمالها وما إلى ذلك فالأحسن إذا شاء مولاي أن ينتقي كل منا ما شاء من هؤلاء على شرط أن من يختار أولا يدفع الثمن غاليا، ثم يقل الثمن في الاختيار للثاني، فالثالث.»
فاستحسن هانئ هذه الطريقة، فقال: «إن الذي يتقدم أولا لاختيار من يريد من هؤلاء تحسب عليه المرأة بخمسة دنانير والغلام بدينار، والذي يتقدم ثانية فإنه يدفع نصف هذه القيمة.» قال ذلك والتفت إلى الكاتب وأمره أن يتم البيع ويستولي على الثمن ويقسمه على الجند باعتبار العدد ، وساق جواده إلى السبيتين.
الفصل الرابع
بسطام
وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب ، وتراجع المسلمون إلى مضاربهم وتركوا قسمة الغنائم إلى أمرائهم، وكان الأمراء في انتظار الفراغ من بيع الأسرى والسبايا حتى يقتسموا ما يجتمع من أثمانها فجلسوا في خيمة بجانب فسطاط الأمير عبد الرحمن لهذه الغاية، وكان في جملتهم أمير من البرابرة يقال له بسطام لم يدخل هو وقبيلته في الإسلام إلا طمعا في الكسب والنهب من الغنائم ونحوها، وكان قوي البدن فظ الخلق يكاد الناظر إليه يرتعد من منظره لضخامة هامته وسعة وجهه مع عظم أنفه وانتفاخ منخريه، وكان في عينيه احمرار وحدة خارقة حتى ليوهمك - إذا نظر إليك - أنه يخترق صدرك ببصره، وقد زاد منظره وحشة كثافة حاجبيه وبروزهما بروز الطنف واقترابهما كأنهما خط واحد غليظ فضلا عن لونه الزيتوني، وعما يتجلى في مجمل سحنته من القسوة والخشونة، وما يدل عليه غلظ شفتيه من الميل الشديد إلى الملذات الشهوانية، وكان بسطام رئيس قبيلة كبيرة من قبائل البربر، فلما سمع بحملة عبد الرحمن إلى بلاد الإفرنج - وكان يسمع بثروتها وخيراتها - تظاهر بالإسلام وادعى أنه يريد الجهاد في سبيل الدين ولم يكن حال هذا وأمثاله ليخفى على عبد الرحمن، ولكنه كثيرا ما كان يغضي عن ذلك رغبة في اكتساب القوة؛ لأن هؤلاء البرابرة أبلوا في تلك الحروب بلاء حسنا، وخصوصا بسطام فإنه كان يهاجم الأسوار ويتلقى السهام ويستقبل الفرسان بقلب لا يعرف الخوف.
وكان كلما فرغوا من معركة واقتسموا غنائمها انتخب ما يطيب له من السبايا، وعبد الرحمن يتساهل في معاملته حذرا من غضبه لئلا تسوقه الحدة والخشونة إلى الانقلاب على المسلمين فتنقلب معه قبيلته، وقد يقتدي بها غيرها من قبائل البربر أو غيرهم من غير العرب (الموالي) ممن انتظموا في تلك الحملة، وفي نفوسهم حسد لما يميز به العرب أنفسهم عن سائر المسلمين كالاستئثار بالسلطة، وإحراز الأموال، وكان التحاسد سائدا أيضا بين العرب أنفسهم اليمنية في جانب، والحجازية في جانب آخر، ناهيك بما بين الأمويين والهاشميين من التنازع على الخلافة، على أن المسلمين غير العرب إن كان قد حسن إسلامهم، فقد يغضون عن هذا التحاسد، وخصوصا في أثناء الجهاد، أما الذين كانوا يتظاهرون بالإسلام رغبة في الغنائم، فإذا فاتهم الهدف من انضمامهم انقلبوا إلى الضد.
فاتفق في وقعة بوردو أن بسطاما جاهد جهاد الأبطال، وهو الذي هجم بنفسه على المنزل الذي كانت فيه هاتان المرأتان وقبض عليهما وأرسلهما مع بعض رجاله إلى المعسكر في جملة الغنائم، على أمل أنه - متى عرضت السبايا للبيع - سيطلب الفتاة لنفسه، وهو لا يتوقع أن يكون له مزاحم أو معارض في ذلك. •••
وكان بسطام في جملة الأمراء المجتمعين في ذلك اليوم، ينتظرون قسمة الغنائم، وقد أوصى أحد رجاله أن يراقب تلك الفتاة لئلا تخرج من يده، فلما رأى هانئا قد اختارها مع رفيقتها لم يجسر الرجل على منعه أو الاعتراض عليه، ولكنه أسرع إلى بسطام فأخبره فغضب وصاح فيه: «اذهب وقل لذلك القيسي إن الفتاة للأمير بسطام؛ لأنها سبيتي وقد نلتها بحد سيفي.» فظل الرسول واقفا ولم يبد جوابا، فأدرك بسطام أنه لا يجرؤ على مخاطبة هانئ بمثل ذلك فقال له: «ما بالك لا تمشي؟» فتحول الرسول من الخيمة ومشى الهوينا وهو يغرس أنامله في شعره المتلبد المتكاثف كالعمامة السوداء ويحكه، وقد تأبط جرابا من جلد حرص عليه كل الحرص لما حواه من الأشياء الثمينة التي نهبها في أثناء الموقعة أو التقطها وهم يجمعون الغنائم، ولم يكن يرى سبيلا لحفظها إلا أن يحملها معه على ثقلها وكذلك كان يفعل أكثرهم وخصوصا الساعين في الجهاد رغبة في الغنائم، مشى ذلك البربري وهو يتباطأ في مشيته ويهم أن يلتفت إلى الوراء كأنه يتوقع من يسترجعه، وكان بسطام ينظر إليه ويراقب مشيته بعينيه الحمراوين، وقد حمي غضبه لما في ذلك التردد من الاستخفاف به، فصاح به فوقف وتراجع فقال له: «يظهر أنك خائف منه لا تكلمه بل اذهب أنت ومن شئت من رجالي، فأتوني بالفتاة سريعا.»
فمشى الرجل مثل مشيته الأولى، فازداد غضب بسطام ووثب وفي يده خنجر روماني كان قد قتل صاحبه طمعا فيه لإتقان صنعه، فاستله وضرب به الرسول، فأصابت الضربة ظهره فقتلته، وكان بالقرب من الخيمة جماعة من رجال قبيلته قد وقفوا لبعض الشئون، فصاح بسطام فيهم: «هلموا إلى غنيمة هذا الجبان، فهي وكل ما في خيمته من المنهوبات ملك حلال لكم.» فأسرعوا إلى جثته وهموا باقتسام ما في جرابه حتى كادوا يختصمون ويتضاربون. •••
أما بسطام فإنه رد الخنجر إلى مكانه ووثب إلى جواده فركبه، واستحثه نحو الساحة، وكان قد علم بمكان الفتاة ورفيقتها فسار توا إليهما، ولم يمر بهانئ ولا خاطبه في هذا الشأن، وكان هانئ لا يزال إلى ذلك الحين مشتغلا ببيع السبايا.
فلما فرغ من مساومة اليهود، ساق جواده نحو الفتاة وهي على مسافة ميل وبعض الميل منه والشمس قد توارت وراء أبنية بوردو، واختلطت ظلال تلك القصور حتى صارت ظلاما خيم على الغالب والمغلوب والقاتل والمقتول، خيم على المسلمين وقد اشتدت عزائمهم بما أوتوه من النصر، فاشتغلوا باقتسام غنائمهم، وعلى المغلوبين من أهل بوردو وقد غلبوا على ما في أيديهم فقتل رجالهم وسبيت نساؤهم ونهبت بيوتهم ومعابدهم.
ولولا اشتغال هانئ بما جاش في فؤاده من عوامل الغرام وما غشي بصيرته من عواطف الشباب لاعتبر بما كسا أفق بوردو من الشفق وقد اشتد احمراره حتى ليحسبه الناظر إليه رمزا للدماء التي سفكت في ذلك اليوم هناك ولكنه كان مشتغل الخاطر بشيء لا يعرفه غير الذي يعانيه - وهو الحب - ومن غريب أمر الحب أنه يقع على الناس وقوع السبات من حيث لا يعلمون، وربما كان الباعث على وقوعه نظرة واحدة، فلا تكاد تلتقي العين بالعين حتى تجيش العواطف وتتجاذب القلوب تجاذبا لا سبيل إلى دفعه، ولا يحدث ذلك عند كل نظرة ولا في كل إنسان وإنما هو تأثير بعض العيون على بعض القلوب، فإذا تفاهمت العينان استيقظ القلبان وتجاذبا كأنهما كانا على ميعاد ثم تاها، وكل منهما يبحث عن رفيقه، ثم التقيا بغتة وتعارفا بالنظر.
الفصل الخامس
التنازع
كذلك حدث لهانئ، فإنه لم يكن يعرف تلك الفتاة قبل ذلك اليوم فوقع نظره عليها للمرة الأولى وهو واقف بباب المدينة يراقب إخراج الغنائم والسبايا ويحصيها، وكانت الفتاة في جملة الخارجين وقد ساقها بعض البرابرة من رجال بسطام بإشارة منه كما تقدم، فرآها هانئ تمشي بثوبها ونقابها الأسودين وتحت النقاب الضفيرتان المرسلتان على صدرها وقد أطرقت لا تلتفت يمينا ولا شمالا، ورفيقتها بجانبها، فلما بلغت الفتاة إلى عتبة الباب سمعت هانئا ينادى كاتبه ويسأله عن عدد الذين خرجوا إلى ذلك الحين ثم قال له: «لا تحص هذه الفتاة في جملتهم.» فوقع صوته في أذنيها وقوع السهم في قلبها، فلم تتمالك أن رفعت بصرها إليه وحدقت فيه، فقرأ في تلك النظرة ما يعجز الخطيب عن أدائه في خطاب، ولا يستطيع الكاتب التعبير عنه في كتاب قرأ فيها الاستعطاف والاستنصار والحب والاستسلام مع الأنفة وعزة النفس، فأجابها بنظرة قرأت فيها جوابا صريحا على ما يتمناه قلبها فاطمأن بالها حدث ذلك كله في لحظة والناس حولهما في غفلة بين باك، ونادب، وراج، وخائف، أما هانئ فقد وقع نظره عليها فصمم على أن يستأثر بها لنفسه، ثم أكبر أن يتخذها سبية لما آنس من هيبتها وجمالها، فعزم على أن يتزوجها، ولم يكن قد تزوج ولا حدثته نفسه بالزواج إلى ذلك الحين لاشتغاله بالجهاد من نعومة أظفاره في بلاد الإفرنج التماسا لفتح أوروبا، ولذلك فإنه حينما دعاه عبد الرحمن إلى تلك الحرب لبى سريعا، فلما أحس بقلبه يتحرك لم يصبر عن التفكير في الزواج والكثرة في طالبي الزواج أن يلتمسوه على هذه الصورة فربما قضى أحدهم الأعوام الطوال وهو لا يفكر في الزواج ولا يسعى إليه، فإذا تحرك قلبه بنظرة أو كلمة بذل جهده في سبيله، ولذلك استبعد هانئ الفتاة وبعد الفراغ من البيع سار كي يتسلمها بنفسه ولم يعهد بذلك إلى أحد من رجاله مبالغة في الحرص عليها.
فلما ثنى عنان جواده نحو ذلك المكان، رأى بالقرب منه فارسا عرف - في نور الشفق - من شكل الفرس وعدته أنه بربري، فاستحث جواده وهو مطمئن الخاطر على حبيبته لعلمه أنه ليس في جند المسلمين من يجسر على مخاطبتها بعد أن أمر هو بإبعادها، ولكن الغيرة من أقوى مظاهر الحب ومن أكبر الأدلة عليه، وهي عمياء صماء لا تذعن للعقل ولا تصغي لنصحه، فركض هانئ فرسه وقلبه يخفق غيرة، وما لبث أن رأى الفارس قد وقف بجانب الفتاة وسمعه يهدد ويتوعد فساق جواده حتى تطايرت أطراف عباءته في الهواء، وقبل أن يصل إليهم عرف الفارس فناداه: «بسطام!» فالتفت بسطام وعيناه تقدحان شررا وهو يقول: «ما بالك أيها الأمير؟»
قال: «تنح عن هاتين فإني قد أخذتهما لنفسي.»
قال بسطام: «وكيف تفعل ذلك وهما غنيمتي؟»
ولو لم يكن هانئ قد تعلق بالفتاة وعشقها لما جادله عليها، ولكنه توقع أن يسترضي بسطاما من باب آخر، لعلمه بشره هؤلاء البرابرة للمال والغنائم فابتسم وهو يقول: «هب أنهما غنيمتك ورأيتني أريدهما لنفسي، ألا تتجاوز عنهما لي، ولك علي ما تطلبه من نصيبي في الغنائم.» قال ذلك وهو يتشاغل بتسوية عرف جواده إظهارا للاستخفاف بالمسألة وإخفاء لما ثار في قلبه من عوامل الغيرة.
فأجابه بسطام وهو لا يقوى على كظم ما في نفسه: «لا يمكنني ذلك، وإذا كان لا بد لك من مقاسمتي في هذه الغنيمة فإنهما امرأتان خذ تلك وأنا آخذ هذه.» قال ذلك وأشار بإصبعه أولا إلى العجوز، ثم إلى الفتاة.
وكانت الفتاة تقف بالقرب من رفيقتها، وكلاهما صامتتان تترقبان نتيجة ذلك الجدال، ومن الغريب أنه لم يبد في وجه تلك الفتاة شيء من أمارات الخوف كأنها قد وثقت بفوز حبيبها، ولكنها كانت إذا وقع بصره عليها ابتسمت، وفي ابتسامتها إطراء وتشجيع، فإذا حولت بصرها نحو بسطام قرأ هانئ في شفتيها كل ملامح الاستخفاف والبغض، وقد أدرك هانئ ذلك منها رغم ما تقاطر من جيوش الظلام، فلما سمع بسطاما يعرض القسمة على هذه الصورة عظم استخفافه به، فأجابه بصوت هادئ ولكن ملؤه التهديد قائلا: «لا أحب القسمة، وإنما هذه الفتاة لي، فارجع إلى معسكرك وخذ نصيبك مما بعناه من الغنائم والأسرى والسبايا.»
فازداد بسطام هياجا ووقف على الركاب بغتة حتى أجفل جواده وصاح قائلا: «لا يمكن لأحد أن يأخذ غنيمتي مني، ولو كان الأمير عبد الرحمن نفسه أما كفاكم معشر العرب ما تسوموننا من الخسف فتستأثرون بكل شيء دوننا كأن غير العرب ليسوا مسلمين، وأنت تعلم أني أستطيع أن أعرقل مسعاكم وأرجعكم على أعقابكم فلا تفتحون بلدا ولا تكسبون غنيمة.»
فلما سمع هانئ ذلك التهديد كبر عليه أمره، ولكنه تصور ما يترتب على مجافاته من الضرر، وهو يعلم أن بسطاما لا يهمه الإسلام ولا المسلمين، فإذا غضب وغضبت قبيلته ضعف الجند وهذا لا يرضاه هانئ ولا عبد الرحمن، على أن حدة الشباب غلبت عليه وهو بين يدي حبيبته فلم يتمالك أن هم بسيفه فاستله وهجم على بسطام لا يبالي أي عضو يصيب منه، فإذا بالمرأة تتقدم بثوبها الأسود ثم تمسك بعنان فرسه وتخاطبه بالعربية قائلة: «لا تقتتلا فما نحن غنيمة لأحد وكفى خصاما.»
قالت ذلك بلسان أهل اليمن مع شيء من العجمة، فبغت الأميران وتعجبا لما سمعاه بالعربية.
أما بسطام فإنه ظل مصمما على طلبه، وخصوصا بعد أن سمع تهديد هانئ له بين يدي تلك الفتاة وهي تفهم العربية فقال لها: «بل أنتما غنيمتي وإذا شئت الانحياز إلى هذا الأمير فلا بأس، وأما هذه الفتاة فإنها لي.» قال ذلك وانحنى عن سرجه ومد يده إلى الفتاة وهم أن يمسكها فتباعدت وهي تنظر إليه شزرا ولم تضطرب، فتبعها بفرسه ولما رأى هانئ تلك الجرأة لم يستطع أن يكتم غضبه، وقد سره تباعد الفتاة؛ لأن في تباعدها تصريحا بتفضيلها إياه ونفورها من بسطام، فأحس أن تعقله وكظمه لا ينفعان مع هذا البربري شيئا، فهمز جواده والسيف لا يزال مسلولا في يده، فوثب الجواد وصهل كأنه يشارك فارسه بعواطفه، وتباعدت المرأة وقلبها يختلج، وما كادت تفعل حتى سمعوا وقع حوافر جواد يعدو نحوهم من جهة المعسكر وصوتا ينادي: «هانئ، هانئ، أغمد سيفك!» فالتفتوا فإذا بالفارس قد أقبل حتى دنا منهم، وقبل أن يروا وجهه عرفوا من فرسه ولباسه أنه الأمير عبد الرحمن، فاستغربوا مجيئه في تلك الساعة على حين غفلة وبغتوا، ولم يفه واحد منهم بكلمة، ولم يستطع هانئ سوى إغماد سيفه.
الفصل السادس
مريم
وكان عبد الرحمن ربع القامة، جليل الطلعة، صبوح الوجه، عريض اللحية والجبهة، قد خالط شعره بياض، وكان واسع العينين مع حدة وذكاء بغير جحوظ، أقنى الأنف وقد تزمل بعباءة سوداء وعلى رأسه عمامة بيضاء كبيرة، فلما وصل، ساد الصمت على الجميع، فالتفت إلى هانئ وقال: «أراكم تختصمون وتتشاجرون، وكان قلبي قد دلني على ذلك منذ أن سمعت بسطاما يخاطب رسوله في خيمتي، فخشيت النزاع بين أمراء هذا الجند ونحن في أشد الحاجة إلى الاتحاد، وقد لاحظت خروج بسطام فلما أبطأ في العودة أسرعت إليكم، فأحمد الله على ذلك.»
فأعجب الجميع بسهر هذا الأمير على مصلحة جنده وسعيه في جمع كلمته، وأحس هانئ بتوبيخ ضميره؛ لأنه تعاهد هو وعبد الرحمن على الاتحاد والتعاون كما تقدم، فقال: «لم أكن لأخاصم مسلما على شيء وإن عز، ولكن بسطاما يعترضني في سبية اخترتها من بين مئات بعناهن الآن بيع السلع، فلو أننا بعناها لبعض أولئك اليهود فما الذي كان يفعله؟»
فاعترضه بسطام قائلا: «كنت أفتديها من شاريها بالذي يرضيه.»
فتقدمت المرأة نحو عبد الرحمن بقدم ثابتة وجأش رابط، وقالت: «أظنني واقفة بين يدي عبد الرحمن الغافقي أمير هذا الجند؟»
فاستغرب عبد الرحمن حديثها بالعربية، وقال: «نعم أنا هو وكيف عرفت ذلك؟»
قالت: «عرفتك من اهتمامك بشئون جندك، وقد كنت أسمع ذلك عنك إن الأميرين يختصمان علينا، وما نحن لواحد منهما، ولكن لنا أمرا نعرضه على الأمير.»
فرآها عبد الرحمن تخاطبه بجسارة لم يعهدها في الأسرى أو السبايا فهابها، وزاده تهيبا ما آنسه من رزانتها وبساطة لباسها وسواده، ووقعت عيناه في أثناء ذلك على الفتاة فأعجبه جمالها، ومال إلى استطلاع حقيقتها، فقال للمرأة: «قولي ما بدا لك.»
قالت: «لا أقول شيئا الآن، وإنما أقص حديثي على الأمير في خلوة.»
وكان في ركاب عبد الرحمن رجلا من خاصته، فأمرهما أن يأتيا بفرسين يحملان المرأة ورفيقتها إلى فسطاطه، على أنه لم يصبر وهو ينتظر قدوم الفرسين أن يسأل المرأة: «ومن هي رفيقتك؟» فقالت: «هي ابنتي.»
وكان هانئ يقف صامتا، وقد وقع في حيرة من أمر الفتاة وأمها، وخشي أن يكون في حديث الوالدة ما يحول بينه وبين ابنتها وقد ازداد تعلقا بها بعد ما لاحظه من رغبتها فيه، وأحس أنها تحبه حبا شديدا، فاغتنم فرصة اشتغال الأمير بالحديث مع المرأة، ودنا من الفتاة وقد أراد أن يسمع حديثها ويستطلع أمرها، فقال وصوته يدل على هيامه: «ما اسمك يا فتاة؟»
فأجابته بصوت دل على لواعج الحب، وبلسان عربي فصيح: «اسمي مريم.» فأعجبته غنة صوتها وزاد افتتانه بها لثغة في لسانها تنطق بها الراء غينا، فكأنه سمعها تقول: «اسمي مغيم.» فقال: «وأنا اسمي هانئ هل حفظته كما حفظت اسمك؟»
فأدركت ما يهدف إليه، وقالت: «لقد حفظته قبل أن أعرفه، فكيف بعد أن عرفته ورأيت منه ما رأيته.» ففرح بذكائها وسرعة خاطرها واطمأن باله، ثم أجابها وهو يقلد لثغتها تحببا: «أغجو أن تكون معغفة مباغكة.»
فابتسمت مريم ابتسامة أخذت بمجامع قلبه، وتوردت وجنتاها خجلا، وأطرقت إطراق الحياء وتشاغلت بإصلاح ذيل منطقتها.
أما بسطام فكان يراهما يتكلمان، والحنق يكاد يخنقه، وهو لا يجسر على الكلام في حضرة الأمير، ولكنه أضمر لها الشر، وبعد هنيهة جاء الجوادان، فركبت مريم وأمها وساقوا الخيول إلى المعسكر، وكان هانئ لا يرفع نظره عن مريم فرآها امتطت الفرس بأسرع من لمح البصر، كأنها ولدت على ظهور الخيل فازداد هياما بها، ولكنه ظل موجسا خيفة من تلك الخلوة، حتى إذا اقتربوا من فسطاط عبد الرحمن - وهي أكبر الخيام وعلى بابها الأعلام - التفت عبد الرحمن إلى هانئ وقال: «عد إلى تدبير أمر الجند، وكن كعهدي بك فإننا في بلاد العدو.» والتفت إلى بسطام، وقال: «وأنت يا بسطام أمير ذو بطش، فامض إلى شأنك وانس ما دار بينك وبين هانئ إننا مقبلون على فتوح كثيرة، وستصيب من الغنائم والسبايا ما يعوض عليك أضعاف هذه الخسارة.»
فسار الأميران، وتحول عبد الرحمن ودعا مريم وأمها للنزول، فنزلنا ودخلنا الخيمة في أثره، وفي يد الوالدة تلك المحفظة وقد شدتها إلى زندها وقبضت عليها بكفها كأنها تخاف أن يختطفها أحد.
الفصل السابع
الخلوة
فلما دخلوا الخيمة أشار عبد الرحمن إلى من كان فيها من الأمراء والحاشية، فخرجوا جميعا وبقي هو والمرأة وابنتها، وقد تشوق إلى سماع ذلك الحديث، فجلس في صدر الخيمة على بساط ثمين، كانوا قد خصوه به من غنائم ذلك اليوم، وأجلسهما بين يديه فالتفت كل منهما بردائها الأسود، والنقاب الأسود على رأسيهما، فنظر عبد الرحمن إلى وجه المرأة على نور المصباح، فرأى الجمال لا يزال باديا في وجهها مع أنها قد تجاوزت سن الشباب، ونظر إلى مريم، فرأى عينيها الجذابتين وقد زادها التفكير والإطراق هيبة، فسبح الخالق لذلك الصنع العجيب، ثم غلب شوقه إلى سماع تلك القصة، فحول نظره إلى المرأة فرأى الاهتمام ظاهرا في عينيها وهي تنتظر إشارة للشروع في الكلام، فقال لها عبد الرحمن: «ما خبرك يا فتاة؟ وما هو غرضك؟»
قالت: «أما خبري فسأطلعك عليه في فرصة أخرى، وأما غرضي فهو نصرة هذا الجند حتى تتحقق أمانيه.»
فلما سمع عبد الرحمن كلامها، استغرب تلك الغيرة من امرأة لا يعرف من هي، وقد توسم في كلامها - وإن كان عربيا - شيئا من العجمة، فأراد أن يستطلع حقيقتها، فقال لها: «ما الذي حملك على الحماس لنصرة العرب، وكلامك يدل على أنك غير عربية، ومظهرك ولباسك يدلان على أنك غير مسلمة فلا يعقل أن يكون هذا هو هدفك، فاصدقيني.»
فنظرت إليه نظرة استغراب، وقالت: «لم أمثل بين يدي الأمير عبد الرحمن الغافقي لألفق له حديثا مكذوبا، ولا أرى فراسته في صحيحة؛ لأني وإن كنت غير عربية ولا مسلمة، فليس ثمة ما يمنع غيرتي على نصرة العرب أو المسلمين وفي نفس هذه المدينة وغيرها من مدن النصارى والإفرنج من يؤثر انتصار المسلمين العرب على انتصار النصارى الإفرنج لأسباب لم أكن أظنها تخفى على مولاي الأمير.»
فأطرق عبد الرحمن وقد تضاعف استغرابه، ولكنه صبر إلى النهاية لعله يستشف شيئا من حديثها يكشف له الحقيقة فقال لها: «لم أفهم مرادك هل يتمنى أهل هذه البلاد انتصار المسلمين على ملوكهم؟»
قالت: «كانوا يتمنون ذلك منذ سمعوا بحال الإسبان بعد دخولهم تحت لواء العرب؛ لأنهم رأوهم قد انتقلوا تحت ظل الإسلام من الرق إلى الحرية ومن الظلم إلى العدالة.»
قال عبد الرحمن: «وهل عدلوا اليوم عن ذلك الرأي؟»
قالت: «نعم.»
قال عبد الرحمن: «ولماذا؟ أرجو الإفصاح.»
قالت: «لا يخفى على مولاي أن المسلمين عندما فتحوا إسبانيا منذ 22 عاما، عاملوا أهلها بالرفق والعدل فلم ينهبوا بيعة ولم يسفكوا دما بريئا، ومن اختار البقاء على دينه حافظوا على عهده، ومن اعتنق الإسلام وكان عبدا فإنه يصير حرا له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وكان حكام القوط يعدون رعاياهم عبيدا لهم يستخدمونهم في منازلهم وحقولهم استخدام الأرقاء، فلما جاء المسلمون وفتحوا بلادهم خيروهم بين الإسلام والجزية، وإن من أسلم وكان عبدا صار حرا، فتهافت جانب عظيم من أولئك الأرقاء على الإسلام لتتحقق لهم الحرية التي كانت عزيزة عليهم لا ينالها إلا أفراد قليلون مكافأة على شجاعة عظيمة أو خدمة ذات بال، ومع ذلك فإن المعتقين في أيام القوط والرومان لم يكونوا يتمتعون بكل حقوق الأحرار، وإنما كانوا وسطا بينهم وبين الأرقاء، أما المسلمون فمن أسلم من رعاياهم عاملوه معاملة الأحرار تماما، ومن ظل على النصرانية تركوا له الحرية في أداء مراسم دينه والتمسك بعاداته وآدابه وسائر معاملاته حتى الحكومة والقضاء، فأحس الإسبانيون بأنهم انتقلوا بالفتح الإسلامي من الضيق إلى الفرج ومن الرق إلى الحرية، فشاع ذلك في سائر أنحاء هذه البلاد فرأى موسى بن نصير سهولة الفتح عليه لهذا السبب، فعزم على أن يتم فتوحاته حتى يعود إلى دمشق من طريق القسطنطينية بعد أن يفتح كل أوروبا، ولكن المسلمين عجلوا عليه وعلى ابنه عبد العزيز، رحمهما الله، مما لا يخفى عليك، ولولا ذلك لتم الفتح للمسلمين من ذلك الحين، ولكانت هذه البلاد التي جئتم لفتحها الآن ملكا لهم منذ نيف وعشرين سنة، ولكن الذين خلفوهما على إمارة الأندلس كان معظمهم من أهل المطامع، فأساءوا إلى النصارى وإلى المسلمين من غير العرب ففسدت النيات، وشاع خبر ذلك في هذه البلاد فأصبح فتحها صعبا؛ لأن أهلها لا يرون فائدة من الانتقال إلى دولة غير دولتهم ودين غير دينهم.» «فقال لها عبد الرحمن: ما خبرك يا فتاة وما غرضك؟ قالت: أما خبري فسأطلعك عليه في فرصة أخرى، وأما غرضي فهو نصرة هذا الجند حتى تتحقق أمانيه.»
الفصل الثامن
هانئ
ولما بلغت في حديثها إلى هذا الحد، توقفت وتنحنحت وتشاغلت بمسح فمها، وعبد الرحمن ينظر إليها وهو يستغرب حديثها لما فيه من الحكمة وسعة الاطلاع، وجعل يتأمل ملامحها ويفكر فيمن عسى أن تكون هذه المرأة وصبر لعل في خاتمة حديثها ما يكشف له القناع عن حقيقتها ولكنه أراد أن يستوضحها الأمر، فاغتنم فرصة سكوتها وقال لها: «يظهر لي أنك أكثر اطلاعا على حقيقة الأحوال من معظم رجالنا، وأشد غيرة على مصلحة المسلمين من أنفسهم.» ثم تنهد وقال: «إن الأمر الذي ذكرته يا فتاة هو الواقع بعينه، وأظنك سمعت أني استدركته قبل إقدامي على هذا العمل فلم أخرج إلى هذه الحرب حتى تجولت بمدن الأندلس وغيرها مما فتحه المسلمون من بلاد الإفرنج (فرنسا) وتعهدت حكامها، وعزلت الضعفاء وأهل المطامع من أمرائها وأبدلتهم برجال من أهل الدراية والحكمة، ليحسنوا سياسة الناس على اختلاف المذاهب ورددت إلى النصارى كنائس كان بعض الأمراء المسلمين قد اغتصبوها منهم، وأعدت ما كان لهم من العهود منذ زمن موسى بن نصير وابنه عبد العزيز، وقد بذلت الجهد في هذا السبيل لعلمي أن الإسلام يأمرنا بذلك، وأن الصحابة الأولين لم يستطيعوا ما استطاعوه من الفتح إلا بما كانوا يتوخونه من الرفق ومعاملة أهل الذمة بالحسنى والعدالة.»
فقالت وهي تصلح نقابها والتفكير ظاهر في عينيها: «قد علمت بكل ما فعلته وما تفعله، وكل ما نويته وما تنويه، ولذلك كنت أتوقع لك الظفر، ولكني رأيت خلاف ما سمعته ، فصرت أخشى فشلك.»
فقال وهو يستغرب صراحتها وحصافتها: «وكيف ذلك؟»
قالت: «أظنك تعلم ما أعلمه من هذا القبيل، ويكفي ما شهدته الآن بنفسك ما بين هانئ وبسطام ألم يكد يسفك الدم بينهما من أجل هذه الفتاة؟» وأشارت إلى مريم وكانت جالسة بجانب والدتها تسمع حديثهما باهتمام وشوق، كأنها لم تكن تعرف منه شيئا.
فلما سمع عبد الرحمن كلام المرأة تشاغل بإصلاح شاربه، وحك عثنونه بين سبابته وإبهامه، وظهر التأثر في عينيه وجبينه، والتفت إلى المرأة وهو يحاذر أن يتنهد وقال: «إن ما رأيته إنما هو من قبيل المنافسة بين أميرين على سبية جميلة، وليس ذلك بالأمر الغريب.»
فضحكت ضحكة مصطنعة، وقالت: «الأمير عبد الرحمن الغافقي لا يجهل أن سبب هذه المنافسة إنما هو فساد نيات الأمراء فيما بينهم لاختلاف أغراضهم في هذه الحملة؛ لأن أكثرهم جاءوا للنهب والسلب وخصوصا البرابرة ومن على شاكلتهم فهؤلاء لا يفهمون معنى الجهاد أو الفتح، ولا يعرفون ما هو الإسلام؛ لأنهم إنما انتموا إليه رغبة في الغنائم، ومن كان هذا غرضه لا يهمه إذا رضي أهل البلاد أو غضبوا يدلك على ذلك ما رأيته بنفسي في أثناء هذا الفتح اليوم، فإن بعض رجالكم لم يميزوا بين المنازل والكنائس ولا بين الرهبان والعامة، فقد نهبوا كنيسة بوردو وهي من أعظم كنائس الغاليين، فأصبح هؤلاء فضلا عن نفورهم من المسلمين يعتقدون أن صاحب هذه الكنيسة سينتقم لهم منكم.»
فلم يتمالك عبد الرحمن عن قطع حديثها، فقال: «نهبوا الكنائس؟ نهبوها؟ رغم ما أوصيتهم به من المحافظة عليها وعلى كرامة القسس والرهبان.» ثم صفق وصاح: «يا غلام.» فدخل رجل من غلمانه الذين يقفون ببابه، خفيف اللباس خفيف العضل ممن يقتنونهم للمراسلة ونحوها فابتدره حال دخوله قائلا: «ادع الأمير هانئا الساعة.»
فأشار الغلام إشارة الطاعة وخرج، فعجلت المرأة بالكلام قبل خروجه وقالت للأمير: «فاتني أن أطلب إليك الإفراج عن خادمي، فإنه أخذ في جملة الأسرى على شيخوخته وبرغم أنه عربي.»
فنادى عبد الرحمن الغلام فوقف، فقال له: «وقل للأمير هانئ : إن بين الأسرى شيخا.» والتفت إلى المرأة، وقال: «وما اسمه؟» قالت: «اسمه حسان.» فقال: «قل للأمير إن بين الأسرى شيخا عربيا اسمه حسان فليأت به معه.»
ولا تسل عن مريم عندما سمعت اسم هانئ، فإنها أحست بنبضات قلبها تسرع بغتة وكانت جالسة مطرقة فتحركت واعتدلت في مجلسها، ولو انتبه عبد الرحمن لوجهها لرأى فيه احمرارا يشف عن عاطفة قلبية ظهرت آثارها في بريق عينيها.
قضوا مدة غياب الرسول صامتين وخصوصا عبد الرحمن، فإنه لبث مطرقا وهو يلاعب لحيته بين أصابعه ببطء، كأنه يخشى من العجلة أن يضطرب لها حبل أفكاره فتقطعه أو تعترضه، وسكتت المرأة تهيبا لمنظر عبد الرحمن وبعد قليل سمعوا وقع حوافر جواد، ثم سمعوا صهيله، فعرف عبد الرحمن أنه صهيل جواد هانئ وأن هانئا قادم، ولم تمض هنيهة حتى دخل ذلك الغلام، وقال: «إن الأمير هانئا بالباب.»
فقال عبد الرحمن: «فليدخل.»
وقبل أن يرجع الرسول بالإذن، أقبل هانئ كأنه يدخل بيته وذلك للدالة التي كانت له على الأمير، وكان لا يزال بثوبه الأحمر وسيفه المرصع وسائر سلاحه، فلما رآه عبد الرحمن داخلا بش له ورحب به ودعاه إلى الجلوس بجانبه، فجلس وهو يحدق في مريم ووالدتها، ولكنه تشاغل بالالتفاف بعباءته وهو يصلح مجلسه أما مريم فإنها أطرقت حياء وعيناها تسترقان النظر إلى هانئ، وترمق كل حركة من حركاته، ودخل في أثر هانئ شيخ طاعن في السن عليه لباس أهل غاليا، وعلى رأسه عمامة صغيرة، وقد شاب شعره مع كثاثة، واسترسلت لحيته كثيفة، وخف عضله وتغضنت جبهته، وتجعد خداه ورقبته حتى ليتوهم الناظر إليه أنه في سن التسعين، وإذا تكلم أو مشى أوهمك لخفة حركته وشدة عارضته أنه فيما دون الستين، فدخل الخيمة وعليه قباء إلى الركبة بعضه مبطن بالجلد، وأما ساقاه فكانتا عاريتين وقد غشاهما شعر كثيف لا يظهر الجلد من تحته، وقد شد بقدميه نعلين من صنع بوردو، ووقف الشيخ بباب الفسطاط، فلما رآه عبد الرحمن أشار إليه أن يجلس فجلس هناك متأدبا، أما هانئ فلما جلس قال له عبد الرحمن: «أظنك تعبت في هذا اليوم يا هانئ.»
قال هانئ: «ليس في الحرب تعب إذا كانت خاتمتها النصر، كما كانت خاتمة حربنا مع هذه المدينة بعون الله وسيف الأمير عبد الرحمن.»
قال عبد الرحمن: «لم يكن لعبد الرحمن يد في هذا النصر، وإنما تم بك وبرجالك وسائر المسلمين، على أني لم أدعك للبحث في ذلك، وإنما دعوتك لأمر ذي بال فأعرني سمعك.»
فأصاخ هانئ بسمعه، وقال: «قل.»
قال عبد الرحمن: «هل تعلم ما الذي ساعد المسلمين على الفتح والنصر منذ أيام الصحابة حتى اليوم؟»
قال هانئ: «أعلم أن الله نصرهم بالاتحاد والتعاون، وهذا هو الأمر الذي تتوخاه في كل حركة من حركاتنا.»
قال عبد الرحمن: «أنا أعلم ذلك، وأعتقد أنك أكبر ساعد لي في جمع كلمة هذا الجند الضخم وهو مختلف المقاصد والأغراض، وتحتمل معي مضض التوفيق بين نزعاتهم المختلفة وميولهم المتناقضة، ولكن هناك سببا آخر ساعد السلف الصالحين على الفتح وأيد دولتهم أتعلم ما هو؟»
الفصل التاسع
عبد الرحمن وبسطام
فأطرق هانئ وأعمل فكرته، وعبد الرحمن يتفرس فيه كأنه يستعجل جوابه، فقال هانئ: «الذي أعلمه أن دولة الإسلام تأيدت بالعدل والرفق.»
فقطع عبد الرحمن كلامه، وقال: «ذلك هو بعينه؛ لأن العدل أساس الملك، والرفق بالرعية يدعوهم إلى الطاعة والمحبة وخصوصا أهل الذمة من النصارى واليهود، وعلى الأخص الرهبان والقسس أصحاب البيع والكنائس، فقد ورد في كتاب الله وفي حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
النهي عن السعي في أذاهم، ولذلك كان الخلفاء الراشدون إذا أنفذوا جندا إلى حرب أوصوهم بأهل الذمة خيرا، ومنعوهم من أذاهم، وأمروهم بالكف عن الكنائس وأصحابها ألا تعلم ذلك؟»
قال هانئ: «نعم أعلمه جيدا ولطالما تحدثنا فيما قام به بعض الخلفاء وأمراء الأندلس من هذا القبيل، وتعاهدنا على منعه.»
قال عبد الرحمن: «فما معنى هجومكم على كنيسة بوردو في هذا اليوم ونهب آنيتها وإيذاء رهبانها؟»
فظهر الغضب على وجه هانئ مع الدهشة، وأطرق لحظة ثم هز رأسه وهو يقول: «قبح الله بسطاما ما أطمعه وما أقل طاعته إني نهيته بنفسي عن هذا الأمر - ونحن في أثناء الوقعة - بعد أن رأيت منه ومن رجاله ميلا إلى النهب في غير تفرقة، وقد علمت بما في كنيسة بوردو من آنية الفضة والذهب، فخشيت أن تسوقه المطامع أو تسوق أحدا من قبيلته إلى نهبها، فاستوقفته في وسط المعركة وقلت له: «احذر أن يسطو أحد من رجالك على الكنائس أو المعابد أو القسس.» فأجابني بالسكوت فبدا لي في تلك الساعة أنه لا ينوي الإذعان للتحذير، لما نعلمه من طمعه وقسوته و ...»
فابتدره عبد الرحمن قائلا: «أتظن أن تلك فعلة بسطام؟»
قال هانئ: «لا أظن أحدا سواه يجرؤ على ذلك بعدما كان من تشديدنا في منعه، وقد رأيته مع بعض رجاله وهم يقتسمون صلبانا من ذهب ومباخر من فضة مما لا يكون في غير الكنائس.»
فصفق عبد الرحمن ونادى غلامه فدخل، فقال: «ادع الأمير بسطاما.» وبعد خروج الغلام التفت عبد الرحمن إلى هانئ، وقال: «لا تخف من غضبي عليه، فإني سأخاطبه باللين لما أعلمه من فظاظته وغلظته وإلا أفسد الجند علينا.»
فقالت المرأة: «مالكم ولهذا النصير الخطير ما كان أغناكم عنه وعن قبيلته.»
فتنهد عبد الرحمن وقال: «لو شئنا أن نستبعد من جندنا أمثال هؤلاء الغلاظ لاقتضى أن نجرده من أشد رجاله وأكثرهم عددا؛ لأن في جملة رايات هذا الجند قبائل من البربر وجماعات من الصقالبة والجرامقة والجراجمة والأقباط والأنباط وغيرهم، وفيهم من لا يزال على اليهودية أو النصرانية أو الوثنية أو المجوسية وإنما يتظاهرون بالإسلام - والبربر من أشجع الأمم لا يهابون الموت ولا يخافون العدد - والحق يقال إنهم هم الذين فتحوا لنا إسبانيا وسلموها إلينا، ولو أردنا الاستغناء عنهم لامتنع علينا هذا الفتح؛ لأن العرب لا يزالون إلى اليوم قليلي العدد بالنسبة إلى مثل هذا المشروع العظيم، فاستخدام البربر في هذه الحروب يفيدنا كثيرا، وكل ما يطلب منا أن نحسن السياسة في معاملتهم لئلا نغضبهم، وهم إنما يرضيهم الكسب من الغنائم ونحوها، وهذا أمر ميسور لهم؛ لأننا كثيرا ما نتنازل لهم عن الغنيمة لنطعمهم في الجهاد لمصلحة المسلمين، وإن لم يكونوا كلهم مسلمين مخلصين.»
فأعجبت المرأة بتفكير عبد الرحمن وسعة صدره، وقالت له: «إن جندا أنت قائده جدير بأن يعود ظافرا منصورا.»
فلما سمع ذلك الإطناب، مال بيمناه إلى هانئ وألقى يده على كتفه، وقال: «هذا هو يدنا اليمنى؛ لأنه قائد فرساننا.» فخجل هانئ لهذا الإطراء وأراد أن يعتذر وإذا بالرسول قد دخل وهو يقول: «الأمير بسطام بالباب.»
فقال عبد الرحمن: «فليدخل.»
فدخل بسطام وعباءته مطلقة من الأمام، وسيفه يجر وراءه، وعمامته مع صغرها منحرفة من جانب رأسه إلى الأذن، وفي يده عنقود من العنب كان يأكله في أثناء الطريق فلما رأى نفسه في حضرة الأمير تراجع ورمى تلك البقية، وعاد وفي مشيته تيه وإعجاب، ولكنه مع ذلك لم يكن يستطيع مخاطبة عبد الرحمن إلا بالاحترام؛ لأنه لم يكن يسمع منه إلا كل ما يطيب خاطره ويدعوه إلى احترامه لما قدمناه من حسن سياسة عبد الرحمن ورقة جانبه وربما توهم بعضهم أن الرياسة إنما يتأيد نفوذ صاحبها بالغلظة والكبرياء وشدة الوطأة، ولكن ذلك من الأوهام الباطلة؛ لأن الرئيس الشديد الوطأة قد يملك ألسنة مرءوسيه وأما الوديع الرقيق الجانب فإنه يملك قلوبهم ورقابهم، فلما دخل بسطام حيا، فبش له عبد الرحمن ودعاه للجلوس، فجلس وهو يجيل نظره في أطراف الخيمة، فرأى مريم وهانئا فتوهم لأول وهلة أنه دعي لأمر يتعلق بهما، ثم سمع عبد الرحمن يخاطبه قائلا: «دعوناك يا أمير لنسألك عن أمر يهمك كما يهمنا؛ لأن المصلحة واحدة، وهي رفع منار الإسلام وتأييد كلمة الله.»
فانشرح قلب بسطام لهذا الإطناب؛ لأن العرب لم تكن تعامل البربر إلا معاملة الموالي كما تقدم، فلما سمع بسطام ذلك الكلام قال: «يأمر الأمير بما شاء، وله ما يرضيه مني فإني أطوع له من بنانه.»
قال عبد الرحمن: «بورك فيك، ونفع الله المسلمين بسيفك، أما الأمر الذي استقدمناك لأجله، فهو أن بعض نصارى هذه المدينة يشكون مما أصاب بيعتهم من النهب، وهم كما لا يخفى عليك أهل كتاب قد أوصانا الله برعايتهم وبحرمة كنائسهم وبيعهم، وخصوصا أننا في أحوال تقضي علينا بمحاسنة أهل هذه البلاد حتى يهون علينا الفتح، ونحن سائرون إلى بلاد أمنع ورجال أشد من أهل هذا البلد، فإذا اعتقدوا فينا الرفق والعدل ساعدونا، ولذلك كنت كثيرا ما أوصيكم بالإغضاء عن أماكن العبادة على يد أخينا الأمير هانئ، فإذا كنت على بينة من أمر كنيسة بوردو ونهبها أرجو أن تسعى في رد ما نهب من آنيتها وأدواتها.»
الفصل العاشر
العرب في أسر الإفرنج
فقال بسطام: «لا أنكر على الأمير سداد رأيه في هذا الشأن، وقد كنا إلى اليوم نرعى هذه القاعدة ونحترم البيع حتى رأيت في هذا الصباح أمرا اقشعر له بدني ولم أتمالك عن الانتقام بنهب تلك الكنيسة رأيت في بعض منازل هذه المدينة رجالا من المسلمين وغلمانا ونساء يستخدمهم أهلها استخدام العبيد الأرقاء نعم لا أنكر حقهم في ذلك؛ لأننا نفعل بأسراهم مثل هذا الفعل، ولكني رأيت بعض الأسرى المسلمين مقيدين بالأغلال الحديد في أرجلهم والأحمال الثقيلة على ظهورهم، وقد ساقوهم إلى العمل في الكروم سوق الدواب فلم أتمالك عند مشاهدتي هذه القسوة من الانتقام بنهب كل ما تقع يدي عليه ولم أستثن كنيسة ولا ديرا.»
فلما بلغ بسطام إلى هذا الحد، التفت عبد الرحمن إلى المرأة كأنه يسألها عن ذلك، فقالت: «لا أنكر على مولاي أن معاملة الإفرنج لأسراهم من العرب أكثر قسوة من معاملة المسلمين لأسراهم من الإفرنج، وإن تساوى الفريقان في اعتبار الأسرى ملكا للغالبين يبيعونهم بيع السلع، ومتى دخل الأسير في حوزة مالكه استخدمه فيما ينفعه من فلاحة أو زراعة أو خدمة، ولا يزالون عبيدا هم وأولادهم إلى سلالات عديدة حتى يفتديهم أهلهم أو أصدقاؤهم بالمال أو غيره، أما المسلمون، فإن رجوع الأسرى إلى الحرية عندهم أسهل مما عند الإفرنج، وأما تقييدهم بالسلاسل فالغرض منه - على ما أظن - هو منعهم من الفرار وربما حاولوه مرة ولم يظفروا، فأثقلوهم بالأغلال ليمنعوهم منه.»
فقطع عبد الرحمن كلامها، ووجه خطابه إلى بسطام قائلا: «هب أنهم فعلوا ما تقول، فالعبرة بالنتيجة وإذا كنا نسلك مثل ما سلك هؤلاء فأي فضل لنا، وبماذا تتوقع النصر في الدنيا والنعيم في الآخرة فالذي يهمنا أن نعمل بمقتضى الكتاب والسنة ونقتدي بالسلف الصالحين، وزد على ذلك أن طمعنا في القليل من الغنائم قد يؤدي إلى فشلنا ويقف في سبيل الفتح فنخسر أضعاف تلك الغنائم، ناهيك بالفشل وما قد يلحقنا بسببه من العار.» ثم وجه خطابه إلى هانئ وقد بدا الاهتمام بين حاجبيه، وقال: «لا يخفى عليكم أننا نعتزم عملا أثمن كثيرا من الذهب والفضة والآنية، وأعظم من أن يقاس بالحطام الفانية، نحن نعتزم فتح هذا العالم الكبير فإذا وفقنا في فتحه كسبنا الأموال والأرواح ونشرنا الإسلام في قبائل من النصرانية والوثنية لا يحصيها إلا الله، فنملك المدن والرقاب وتخفق رايتنا على رومية والقسطنطينية وغيرهما من عواصم النصرانية، ويصير صعلوكنا أميرا وفقيرنا غنيا فتحرز يا هانئ ما استطعت من الذهب والفضة والجواهر، وتملك ما تريده من الجواري والغلمان وإذا كنت مخطئا في قولي فنبهوني.»
فأدرك هانئ أن عبد الرحمن إنما ينتظر الجواب من بسطام احتيالا عليه في إجابة الطلب، فقال بسطام وقد سحر بلطف عبد الرحمن: «إنك على صواب، والحق يقال إن البربر وغيرهم من الموالي لم ينصفوا في حقوقهم بإزاء العرب مثلما أنصفوا في أيامك، لقد كان أسلافك - ولا يزال كثيرون من أمراء العرب إلى اليوم - يعدون المسلمين من غير العرب عبيدا، فإذا حاربوا معهم في معركة لا يقاسمونهم الغنائم كما يقاسمون العرب، فلا تظننا غافلين عن هذا الفضل.»
فقطع عبد الرحمن حديثه قائلا: «أنا لم أعامل غير العرب إلا بالعدل؛ لأن المسلمين أخوة، والآن أسرع إلى الغنائم قبل اقتسامها ومعك الأمير هانئ، واستبعدا آنية الكنيسة واحملاها إلينا لننظر في أمر إعادتها إلى أصحابها.»
خرج بسطام وهو منتفخ الصدر بما آنسه من الرعاية والإطراء، ونسي ما كان في نفسه على هانئ بسبب مريم وأهل الفظاظة والخشونة من أقرب الناس إلى المصافاة لخلو قلوبهم من نتائج الكظم، فإذا أساء إليهم أحد بعمل جاهروا بما في نفوسهم عليه فهم لا يحقدون، وخصوصا في موقف يشبه موقف بسطام بالنسبة إلى مريم، فإنه كان يطلبها؛ لأنه استلطفها ووعد نفسه بها، ولكنه لم يتعلق بحبها كما فعل هانئ، أما هانئ فإنه سار في أثر بسطام، وظل قلبه في ذلك الفسطاط، أو لعله استعاض عنه بقلب مريم؛ لأنها أحست عند خروجه كأن قلبها اقتلع من صدرها، وخشيت الفضيحة لظهور أثر ذلك على وجهها فتشاغلت بإصلاح الخمار الأسود.
فلما خرج الأميران التفتت المرأة إلى عبد الرحمن، وقالت: «هل يأذن مولاي الأمير بإرسال فتاتي هذه مع هذا الشيخ إلى مقر تقيم فيه تحت حمايتك ريثما أتم حديثي معك ونرى ما يكون.»
فصفق عبد الرحمن وصاح: «يا غلام.» فدخل أحد الغلمان، فقال: «أبلغ هذا الشيخ وهذه الفتاة إلى خباء نسائي، وأوص قيمة الخباء بإكرامها، وألا تعدها في جملة الجواري وإنما هي ضيفة علينا إكرامها ورعايتها.»
فاستحسنت المرأة ذلك والتفتت إلى حسان، وقالت: «سر يا عماه مع مريم في رعاية مولانا الأمير، وكن معها حتى آتيك.»
فأشار مطيعا وخرج وهو يتوكأ على عكازه، وخرجت مريم في أثره والغلام أمامهما.
الفصل الحادي عشر
بعض السر
فلما رأى عبد الرحمن من تلك المرأة التماس الخلوة، توهم أنها ستطلعه على سرها، فلما خلوا بدأها بالكلام قائلا: «أطلعيني يا أخية على اسمك قبل كل شيء؛ لأناديك على الأقل.»
قالت: «إذا كان هذا هو المراد من معرفة اسمي فنادني سالمة.»
قال عبد الرحمن: «لقد أدهشني يا سالمة ما رأيته من غريب شأنك، وأراني كلما سمعت حديثك أزداد رغبة في استطلاع حقيقة أمرك، وكأني بك قد التمست الخلوة رغبة في مكاشفتي بسرك.»
فأصلحت سالمة من شأنها والتفت بثوبها، وأخفت يديها في كمها وفيه المحفظة، ونظرت إلى عبد الرحمن والاهتمام باد في عينيها، وقالت: «اعلم أيها الأمير أنك تخاطب امرأة غير عربية وغير مسلمة، ولكنها من أشد الناس غيرة على العرب وعلى المسلمين، وأستأذن مولاي الأمير بالاقتصار على ما عرفه من أمري لأسباب ستتضح له قريبا إن شاء الله، وأما الآن، فإني أهب نفسي لتحقيق المشروع الذي قمتم لأجله فأبذل ما في وسعي في سبيله.»
فاستغرب عبد الرحمن تسترها، وخشي أن يكون من ورائه خديعة أو دسيسة، فقال لها: «ومن يضمن لنا أنك تقولين الصدق؟»
قالت: «لقد أعجبني سوء ظنك في ولو لم يبد ذلك منك لاستضعفتك؛ لأن من كان قائدا لمثل هذا الجند الكبير لا ينجو من أهل الخداع والدسائس، فإن لم يسئ الظن فيمن يصادفهم بات في خطر من دسائسهم، أما دعواي، فلو صرحت لك بأمري لهان عليك تصديقها، ولكن الآن يكفي دليلا على صدق ما أقول أن أجعل ابنتي ووحيدتي رهنا بين يديك، فإن بدرت مني بادرة تدل على الخيانة أو الغدر فافعل بها ما شئت.»
وكان كلام سالمة قد نبهه إلى ما يحدق به من أسباب الخداع والمكر، فبالغ في إساءة الظن بها فقال لها: «ومن يؤكد لنا أنها ابنتك، فإن الشبه بعيد بينكما ويظهر أنها عربية ولست أنت كذلك.»
فأطرقت سالمة هنيهة، ثم قالت: «أما هذا فلا سبيل إلى إثباته بغير السؤال من الفتاة نفسها والخادم الشيخ، فإنه عربي مسلم وهو وحده المطلع على سري، ولكنه لا يبوح به إلا في حينه فاسألوه.» قالت ذلك ودلائل الإخلاص وصدق اللهجة يتجليان في عينيها، وبما بدا على وجهها من أمارات الحياء والاهتمام.
فتحقق عبد الرحمن بفراسته أنها تقول الصدق، فقال: «لقد صدقتك يا سالمة، فأخبريني متى يحين الوقت لكشف سرك؟»
قالت: «إن كشف هذا السر غير مقيد بزمان، وإنما هو مرهون بحادث، إذ لا يجوز كشفه إلا بعد أن يقع هذا الحادث.»
قال عبد الرحمن: «وما هو ذلك الحادث.»
قالت: «لا أقوله الآن، وإنما يقربنا منه صدق النية في فتح هذه البلاد وهذا هو الأمر الذي وهبت نفسي له، فإذا أذن مولاي أن أساعده فيه فعلت.»
فلبث عبد الرحمن صامتا، وهو مطرق يفكر فيما سمعه ويحلله في ذهنه، فرأى مفتاح السر كله في معرفة والد الفتاة مريم فرفع بصره إلى سالمة، وقال وهو يلاعب أطراف حمائل السيف بين أنامله: «لا بأس من تأجيل الاطلاع على سرك وإنما ألتمس منك أمرا، فهل تصدقينني فيه؟»
قالت: «إذا استطعت ذلك فعلته.»
قال عبد الرحمن: «أريد منك فقط أن تخبريني من هو والد هذه الفتاة، وأين هو؟»
فلما سمعت سؤاله بغتت وتصاعد الدم إلى وجهها وتغيرت سحنتها وبدت الكآبة في جبينها وحول فمها، وأطرقت مدة لا تتكلم ثم رفعت بصرها إليه وقد أبرقت عيناها بما ترقرق فيهما من الدمع وقالت: «تسألني عن مكان أبيها وأنت تراني في هذا الثوب الأسود؟» قالت ذلك وأمسكت طرف الخمار بين الإبهام والسبابة، وقد غصت بريقها.
فندم عبد الرحمن على سؤاله عن المكان، فقال: «لم أتعمد أن أذكرك بمصابك، بوفاة زوجك وإنما أردت معرفة اسمه، ولا أرى مانعا من إطلاعي عليه ونحن في خلوة ليس فيها ثالث، وأعاهدك على كتمان ذلك عن كل إنسان، إنني لا أطلب منك الاطلاع على سرك، وإنما أريد معرفة زوجك.» قال ذلك وهو يتوقع إجابة على سؤاله.
أما هي فلما رأت إلحاحه في معرفة اسم زوجها بدا الغضب على وجهها، وقالت: «يظهر أني أخطأت فيما عرضته من خدمتكم وأنا أصادف ما أراه من الإلحاح علي والضغط على أفكاري، لو كان التصريح باسم ذلك المسكين ممكنا لفعلت ولم أكلفك هذا العناء في السؤال، ثم إني لا أرى فائدة من ذكره الآن وسيأتي وقت تعرف فيه كل شيء.»
فاستغرب عبد الرحمن تكتمها، وازداد رغبة في معرفة سرها، ولكنه لم ير أن يرغمها على ذلك قهرا مراعاة لشعورها وطمعا في الانتفاع بخدمتها، فجاءها من جهة أخرى، فقال: «حسنا بقي سؤال واحد أرجو ألا يكون حظي في الجواب عليه مثل حظي في سواه هل أقوله؟»
قالت: «قل ما بدا لك.»
قال عبد الرحمن: «أرى ابنتك من الجمال فيما ليس بعده غاية، وهي في سن الزواج، وأنت وحيدة فلماذا لم تزوجيها بشاب تعيشين في حمايته؟ ولا ريب عندي أنك تجدين من الطلاب من تقر به عينك لما هي عليه من الجمال والهيبة.»
فالتفتت سالمة وقد انقشعت مظاهر الكآبة عن محياها، وتحول انقباضها إلى انبساط، وقالت: «أما هذا السؤال، فلا بأس من الجواب عليه.»
فاستبشر عبد الرحمن وقال: «وما هو؟»
قالت: «إن الابنة مخطوبة منذ طفولتها.»
قال عبد الرحمن: «لمن؟»
قالت: «لرجل مسلم يغار على الإسلام والمسلمين ويكره الظلم والظالمين، باسل شجاع واسع الصدر كريم النفس.»
قال عبد الرحمن: «وما اسمه؟»
قالت: «لست على يقين من معرفة اسمه الآن.»
قال عبد الرحمن: «وهل تعرفه ابنتك؟»
قالت: «لا أعرفه أنا ولا تعرفه هي، ولا يعرفه أحد سوانا.»
فدهش عبد الرحمن، وقال: «كيف يكون ذلك يا سالمة؟ يظهر أنك تمزحين أو تدافعين بالباطل.»
قالت: «أقسم بالرب المعبود إنني أقول الصدق.»
فقال عبد الرحمن: «وكيف تكون ابنتك مخطوبة لرجل لا تعرفون له اسما ولا لقبا؟»
قالت: «أما لقبه، فإننا نعرفه.»
قال عبد الرحمن: «وما هو؟»
قالت: «يلقب بفاتح بلاد الإفرنج بالسيف ومؤيد الإسلام فيه بالحق والعدل.» •••
ففهم عبد الرحمن أنها تريده هو، إذ لا يصدق ذلك اللقب على سواه، ولذلك أراد أن يتحقق من ظنه، فقال وهو يتجاهل مرادها: «ومتى يكون الزواج؟ وأين؟»
قالت: «يجوز الزواج في أي وقت يريده الخطيب، ولكنه لا يكون إلا وراء نهر لوار.»
قالت ذلك وهي تنظر إلى عبد الرحمن نظرة استفهام، كأنها تقول له: «هل فهمت من هو؟»
الفصل الثاني عشر
نهر لوار
فأدرك عبد الرحمن أن المراد بتقييد الزواج بذلك المكان هو تعجيل الفتح حتى يقطع المسلمون نهر لوار، وهو آخر حدود أكيتانيا من جهة الشمال، في الطريق الذي هم سائرون فيه، فثار في خاطره حب الفتح، وأحس من تلك الساعة بميل إلى مريم بنت سالمة، وكان قد استلطفها منذ شاهدها في ذلك المساء، وهو في شاغل من أمر الحرب والنصر وتنظيم الشئون، فلما سمع ما قالته سالمة وتذكر الفتاة وما في عينيها من الجاذبية، شعر بميل إليها أحياه فيه الأمل في الظفر بها وذلك أمر طبيعي في مثل هذه الحال فقد يرى أحدهم الفتاة مرارا ويستلطفها، ولكنه لسبب من الأسباب لا يرجو الظفر بها، فإذا تنسم خبرا يثير في نفسه الأمل في الحصول عليها يشعر للحال بانعطاف ينمو فيه حتى يصبح شغفا، ولا تقتصر هذه القاعدة على الحب ونحوه، بل إنها تنطبق على سائر مطامع بني الإنسان باعتبار ميولهم فقد يكون أحدهم محبا للسلطة مثلا، ولا يكون له مطمع فيها لإحساسه بالعجز عنها بضعفه أو فقره، فإذا ظهر له من بعض ثقاته أن ذلك في إمكانه شغف بها، وبذل نفسه في سبيل الحصول عليها، وقد أصاب عبد الرحمن الغرضين معا؛ لأن عبارة سالمة أثارت حماسته لإتمام الفتح، وأحيت فيه الميل إلى مريم فاكتفى بما دار من هذا القبيل، لئلا يبدو منه ما لا يليق بمكانته فتجاهل وعاد إلى مجاراتها في كتمان اسم زوجها وهدفها من الاندفاع إلى مساعدتهم، على أمل أن يعرف ذلك في فرصة أخرى، وقال لها: «دعينا الآن من هذا وأخبريني ما الذي تنوين مساعدتنا فيه لتحقيق هذا الفتح؟»
قالت: «ليس لي سيف أناضل به عنكم أو أشترك فيه معكم، ولكنني خبرت طبيعة هذه البلاد وعرفت من أحوالها ما لو عرفه المسلمون لفتحوها على أهون سبيل.»
فقال عبد الرحمن: «وما ذاك؟»
قالت: «هل يخفى على الأمير عبد الرحمن أن الغاليين أهل هذه البلاد هم غير الإفرنج الذين يحاربونكم ليمنعوكم منها؟ وأن الدوق أود حاكم أكيتانيا هذه وجنده ليسوا أقرب إلى قلوب الغاليين من قائد جند المسلمين ورجاله؟»
قال عبد الرحمن: «وكيف ذلك؟»
قالت: «إن سكان هذه البلاد أخلاط من الروم والغال ومعنى ذلك أن الغاليين أهل هذه البلاد الأصليين كانوا أمة كبيرة، وقد ظلوا في حال البداوة والاستقلال حتى جاءهم الروم في القرن الأول قبل الميلاد ففتحوها على يد يوليس قيصر القائد الشهير، وما زالت في حوزتهم نحو خمسة قرون، وقد ضعفت دولة الروم فهاجمتها قبائل الجرمان من الشمال كما هاجمتها قبائل العرب بعد ذلك من الجنوب والإفرنج إحدى قبائل الجرمان ففتحوا غاليا هذه واستولوا عليها، ويعرف حكامهم بعائلة ميروفي نسبة إلى أول من تولاها منهم، وتوالى الحكم في هذه العائلة إلى الأمس، وقد أفضى الأمر إلى ملوك ضعفاء طمع فيهم وزراؤهم وأمراؤهم فاقتسموا البلاد بينهم، ومن أقسامها أكيتانيا التي نحن فيها، وآخر حدودها من الشمال نهر لوار ويحكمها الدوق أود صاحبكم، ثم أوستراسيا وراء هذا النهر وحاكمها شارل (قارله) وزير آخر ملوك الميروفية وكلاهما من قبائل الفرنك، ولكن كلا منهما ينظر إلى الآخر بعين الحذر، والأهالي ينظرون إلى كليهما بعين المقت لعلمهم أنهما إنما يرغبان في فتح بلادهم للتمتع بها، ثم جئتم أنتم والفتح إما لكم وإما لهما فالغاليون محكومون في الحالتين، ولا يهمهم لمن تكون الغلبة من الجندين إلا إذا رأوا في أحدهما ميزة على الآخر تضمن لهم مصلحتهم وراحتهم.»
فلم يتمالك عبد الرحمن أن قطع حديثها بقوله: «وبالطبع هم يفضلون الإفرنج؛ لأنهم نصارى مثلهم؟»
فابتسمت سالمة وقالت: «ليس الأمر كذلك يا مولاي إن الدين لا دخل له في هذه الحرب، وإنما ساق قبائل الإفرنج إلى هذا الفتح حب السلطة والطمع في الكسب، ولذلك فإنهم انقسموا فيما بينهم، فإن أود حاكم أكيتانيا التي نحن فيها الآن يحاذر من شارل حاكم أوستراسيا كما قدمت، ويخشى سلطانه، وكل منهما يجتهد في الانتقاص من الآخر في عين الأهالي وهؤلاء يبغضون كليهما؛ لأنهم لم يروا في معاملتهما ما يبشرهم بخير لما تعلمونه من عادتهم في استبعاد الرعية وابتزاز أموالهم وسائر قواهم خلافا للعرب عند أول الفتح، فإنهم لما فتحوا إسبانيا تركوا لأهلها الحرية في كل معاملاتهم، ولم يتعرضوا لهم في شيء من دينهم، وأفضل أمراء المسلمين في ذلك موسى بن نصير وابنه عبد العزيز وخصوصا هذا الأخير، ولو لم يعجلوا عليه - رحمه الله - لفتحت هذه البلاد على يده إذ أحس الإسبان في أيامه أنهم انتقلوا من الضيق إلى الفرج، ولكنهم ما لبثوا أن ذاقوا مرارة الظلم من بعض الذين خلفوه من أمراء المسلمين، ثم أفضت الإمارة إليكم ، وبلغني أنكم سائرون على خطة ذلك الفاتح العظيم في محاسنة الناس وإنصاف أهل الذمة، ورعاية العهود معهم فيما يتعلق بكنائسهم وديانتهم، وقد تحقق لي ذلك الآن فالغاليون إذا ضمنوا سلامتهم وسلامة أهلهم ومعايشهم على يد المسلمين، فإنهم يكونون عونا لهم على الفتح ولا تنس اليهود فإنهم أنصاركم في كل فتوحاتكم من أول ظهور الإسلام فهؤلاء إنما نصروكم حينما تحققوا مما تنوونه من أسباب الراحة لهم، وكذلك النصارى وغيرهم من أهل هذه البلاد، وأما ما يبدو لكم من شارات النصرانية والغيرة عليها فمحصور في طائفة الأكليروس، ومن يهمهم نصرة الكنيسة من بقايا الرومان، ومن انتمى إليهم من الغاليين، أما قبائل الإفرنج، فبينهم من اتخذ الدين ذريعة للسلطة وكسب الأموال كما فعل بعض قبائل البربر وغيرهم من جنودكم.»
فلما سمع عبد الرحمن قولها، تحقق من سداد رأيه فيما شرع فيه من محاسنة أهل الذمة وتوخي العدل والإنصاف، وقال: «أنت تعلمين أني فاعل ذلك من تلقاء نفسي، فما الذي تفعلينه أنت في هذا السبيل؟»
قالت: «إني أقدم نفسي للذهاب في أية مهمة تفرضونها، والأفضل على ما أرى أن أتقدمكم في البلاد التي تنوون المسير لفتحها، فأغرس في قلوب أهلها الاطمئنان للمسلمين وسلطانهم، ويساعدني على ذلك مبالغتكم في إكرام نصارى بوردو وطمأنة قلوبهم ومحاسنتهم واحترام شعائر دينهم والمحافظة على أعراضهم وأرواحهم، فإذا فعلتم ذلك هان علي إقناع أولئك بأن المسلمين الفاتحين أهل حرمة وذمام، يخافون الله ويعملون بالعدل، وليس كما يتوهم بعض ذوي الأغراض أن المسلمين قساة القلوب لا دين يردعهم عن ارتكاب المحرمات ولا حنان في قلوبهم يمنعهم من الظلم والعسف، وقد حمل الناس على تصديق ذلك ما كان يرتكبه بعض الذين كانوا يرافقون جند المسلمين لمجرد الرغبة في النهب والقتل، ولم يكن أميرهم حكيما عاقلا مثل عبد الرحمن ليصلح ما يفسدونه مما رأيناه منه في هذا المساء.»
فازداد عبد الرحمن إعجابا بتفكير تلك المرأة وغيرتها على المسلمين، وقال: «افعلي ما يتراءى لك وإني فاعل بنصارى بوردو ما تريدينه فما الذي يرضيهم؟»
فقالت : «إنما يرضيهم المحافظة على شعائرهم الدينية واستبقاء كنائسهم ومعابدهم ثم رد أسراهم بالفدية مثلما جرت العادة، وهناك أمر ذو بال أوجه نظركم إليه، وذلك أن بيع أسرى النصارى إلى اليهود مما يسيء إلى النصارى لما تعلمه من الضغائن بين الطائفتين، وخصوصا بعد ما ظهر من ممالأة اليهود لكم وتسهيل الفتح عليكم.»
فقطع عبد الرحمن كلامها قائلا: «ولكن اليهود تجار نبيعهم الأسرى بالمال، فمن أراد من أهل البلاد أن يفتدي أسيره افتداه منهم بالمال.»
قالت: «ولكن بعض اليهود يبتاعون الأسرى للتنكيل بهم تشفيا مما كان النصارى يسومونهم إياه من قبل، وكثيرا ما كان اليهود يبتاعون الأسرى النصارى ويذبحونهم فإذا تجنبت هذا الأمر كان خيرا على كل حال.»
الفصل الثالث عشر
الآنية
ولم تتم سالمة حديثها حتى سمعوا قرقعة وضوضاء خارج الفسطاط، ثم دخل أحد الغلمان وهو يقول: «الأمير هانئ بالباب، ومعه أناس يحملون أكياسا.»
ثم دخل هانئ ووراءه عبيد يحملون أكياسا وأدوات وهو يقول: «هذه أدوات الكنيسة لم نستطع جمعها إلا بشق الأنفس؛ لأنها كانت قد وزعت بين أصحاب الغنائم.» قال ذلك وأمر الرجال أن يفرغوا ما في الأكياس بين يدي الأمير، ولم تمض لحظة حتى امتلأ البساط بالشمعدانات والصلبان والكئوس وفيها الفضة والذهب، فضلا عن أنواع من الملاعق والصحون والصور المذهبة والمفضضة وقطع من الذهب اقتلعوها من التماثيل الكبيرة التي لم يستطيعوا حملها من جدران الهيكل وأعمدته.
فلما خرج الحمالون ولم يبق في الخيمة إلا عبد الرحمن وهانئ وسالمة، التفت عبد الرحمن إلى سالمة وقال لها: «هذه هي الآنية، فماذا نفعل بها؟»
قالت: «أرى أن نرسلها إلى أسقف الكنيسة في بوردو مع رجل يخبره أن نهب هذه الكنيسة قد وقع بغير إرادتك ثم يعتذر له عن ذلك ويخبره بأن الأسرى باقون إلى مساء الغد في هذا المعسكر فمن أراد أن يفتدي أسيره افتداه ولا حرج عليه، وبعد رجوع الرسول أذهب أنا إلى الأسقف، فأغتنم فرصة إعجابه برفق المسلمين وعدلهم وأطلب إليه أن يحاول إقناع أهل البلاد الأخرى الواقعة في طريقكم إلى نهر لوار بالمراسلة بأن المسلمين أرفق بهم من الإفرنج، وأنهم سيكونون تحت حكم المسلمين أحرارا في ديانتهم وعاداتهم وحكومتهم وقضائهم وسائر أحوالهم كما كان أهل الأندلس في أول الفتح.»
فلم يستطع عبد الرحمن أن يزيد على رأي سالمة كلمة واحدة ولم يزدد إلا إعجابا بسداد رأيها وسعة اطلاعها فقال لها: «فليكن ما تقولين، ويجب أن يبقى كل ما دار بيننا مكتوما عن كل إنسان غيرنا، لئلا يفسدوا سعينا.» والتفت إلى هانئ وقال له: «اعهد إلى رجل من خاصتك تثق برجاحة تفكيره وحسن أسلوبه أن يوصل هذه الآنية إلى الأسقف ويبلغه هذه الرسالة.»
ولم يكن هانئ أقل إعجابا بسالمة من عبد الرحمن، فلما سمع رأيها استحسنه، وزاد احترامه لها وحبه لابنتها، وبادر في الحال إلى رجال حملهم الآنية وخرج لإنجاز تلك المهمة.
ثم نهضت سالمة والتمست من عبد الرحمن أن يرسلها إلى مقر ابنتها لتبيت هناك إلى الصباح، ثم تخرج لمهمتها فأراد عبد الرحمن المبالغة في إكرامها فطلب هانئا مرة أخرى وقال: «ادع لي رجلا من خاصتك يصحب سالمة إلى خباء النساء حيث تقيم ابنتها.»
فاعتبر هانئ تلك المهمة فرصة يجب اغتنامها فقال: «ومثل هذه السيدة الفاضلة لا يليق لخدمتها غير الأمراء إني ذاهب إلى قرب ذلك الخباء، ولذلك فإني سأصحبها إليه.»
فاستحسن عبد الرحمن شعور هانئ في احترام سالمة تشجيعا لها فابتسم وقال: «بورك فيك إنها أهل لأكثر من ذلك.»
فمشت سالمة في أثر هانئ وظل عبد الرحمن وحده وقد بهره ما شاهده في ذلك المساء من الغرائب، وتوسم خيرا في نجاح حملته وزاد رغبة في تفقد جنده والسهر على جمع كلمته.
الفصل الرابع عشر
الخباء
أما مريم فإنها خرجت مع خادمها حسان من خيمة الأمير عبد الرحمن والغلام دليلهما إلى الخباء كما تقدم وكان الليل قد أسدل ستاره فمكثت مريم وحدها وقد شغلها حب هانئ.
وأحست بجاذبية نحوه لا تدري ما هي وقد ذهب من خاطرها ما كانت تسمعه من والدتها عن أهمية مستقبلها، والواقع أنها لم تسمع منها شيئا صريحا بهذا الشأن ولكنها كانت تحملها على إتقان النطق بالعربية ، وتعليمها ركوب الخيل وفنون الفروسية وسائر الألعاب الرياضية، حتى خشنت عظامها وقوي عضلها وشبت على الحمية وعزة النفس والشجاعة، ولكن رقة الجنس اللطيف ظلت غالبة على طبيعتها وإنما زادتها تلك الرياضة صحة، وأكسبت وجهها رونقا وإشراقا.
مشت في أثر الغلام وبجانبها حسان يتوكأ على عكازه بنشاط وخفة، وقد تزمل بقبائه وعلى رأسه قبعة (طاقية) قد لصقت من كل أجزائها برأسه، وكان رأسه حليقا فظهرت كأنها جلد ثان له، فمروا في أثناء الطريق بجماعات من الرجال كل جماعة من قبيلة، بعضهم في الخيام والبعض الآخر فيما بينها وقد علت الضوضاء، وأكثر ما يسمع من أصوات الرجال عبارات الاختصام على قسمة الغنائم، وخصوصا ما كان ثمينا من الأثواب الموشاة أو الآنية الذهب أو الفضة أو الدروع أو الطنافس، فربما أفضى الخصام في بعضها إلى تجزئتها إلى قطع وتوزيعها بين المختصمين على حين أن أجزاءها لا تفيدهم شيئا، وكانت مريم تسمع أصوات الأمراء يهددون رجالهم أو يوبخونهم، ولا تسل عن قلبها حينما سمعت صوت هانئ في خيمته على بعد بضع خطوات منها وهو يحاسن بعض الناس، ليقنعهم بتسليم آنية الكنيسة عملا بإشارة عبد الرحمن، فلما سمعت صوته اختلج قلبها في صدرها، وودت لو أنها وقفت هناك برهة لتسمع حديث حبيبها وتستأنس بصوته، وتمنت لو أن الخباء كان على مقربة منها ليمر بها هانئ إذا خرج، فنادت الغلام وسألته عن موقع الخباء فقال: «إنه خارج هذا المعسكر يا مولاتي.»
قالت: «وهل هو بعيد عنا؟»
فمد الغلام عنقه وهو ينظر نحو الأفق ثم قال: «إن الخباء يا سيدتي بالقرب من هذه النار.» وأشار بإصبعه إلى نار موقدة وراء حدود المعسكر.
فنظرت مريم فإذا هي لا تزال بعيدة عن المكان فقالت: «ولماذا جعلوا الخباء بعيدا بهذا المقدار؟»
قال: «لأنه دار النساء، والعادة في هذه الدور أن تقام خارج المعسكر ومتى وصلنا إلى هناك ترين أخبية عديدة لنساء الأمراء والقواد وغيرهم من رجال الجند، ولولا من يقوم بخدمتهن من الخدم والخصيان والعبيد لحسبت نفسك في مدينة من النساء.»
فصبرت مريم نفسها وسكتت وهي تجد في المشي، وحسان إلى جانبها يمشي ساكتا، وكأنه استأنس بصوت خفق نعاله ووقع عكازه على الحجارة، حتى إذا خرجوا من المعسكر سمعت عند خروجهم أصواتا آتية من أطراف المعسكر تشبه أن تكون تهديدا فأجفلت وتراجعت فطمأنها حسان قائلا: «لا تخافي يا بنية إن حراس الجند يطلبون منا شعار الليل، فإذا لم نجبهم به اشتبهوا في أمرنا.»
فقالت: «وكيف ذلك؟ وما هو الجواب؟»
قال: «هو عند هذا الغلام.» والتفت إليه ليسأله فإذا به يقول بصوت عال جوابا على ما قاله الحراس: «طليطلة وقرطبة.» فتحول حسان نحو مريم وقال: «هذا هو شعارهم الذي يتعارفون به اليوم.» فسكت الحراس، ومشت مريم وحسان على أثر الغلام حتى انتهوا إلى الأخبية فسمعوا من حراسها مثل ذلك النداء فأجابوا عليه مثل ذلك الجواب، واتجه بهم الغلام إلى خباء منفرد أمامه نار عظيمة فعلمت مريم أنه الخباء الذي تقصده فلما دنت منه رأت الخدم ببابه وفيهم البيض من الصقالبة الذين يباعون في تلك البلاد والسود والزنوج الذين رافقوا الحملة من أفريقيا وأكثرهم من الخصيان، ولما أقبلت مريم على الخباء تأملت فيه، فإذا هو يتكون من بناء من نسيج أحمر متين مربع الشكل قائم على أعمدة من الخشب مخيطة بالقماش، وربما بلغت مساحة الخباء خمسين ذراعا في خمسين، يكتنفه سور من ذلك النسيج مسند بالأعمدة ومشدود إلى الأرض بالأوتاد والأمراس، وسقف الخباء يشبه قبة كبيرة صنعت من ذلك النسيج قائمة على عمد متينة، وقد قسم الخباء داخل السور إلى غرف وأفنية يفصل بينها جدران من نسيج أخضر مسندة بالعمد أيضا.
وبينما هي تتأمل في ذلك البناء أقبل عليهم رجل من خصيان الخباء أبيض اللون، عرفت مريم من سحنته أنه صقلبي فاستقبله الغلام وتعارفا وتفاهما، وكان الغلام قد أفهم الخصي المهمة التي قدم من أجلها فتركه وهو يقول بلسان عربي تخالطه عجمة: «إني ذاهب إلى القهرمانة قيمة الخباء أستقدمها لاستقبالها .» ومضى حتى دخل الخباء فوقفت مريم وحسان والغلام في انتظاره ثم عاد وهو يقول: «تفضلي يا مولاتي بالدخول ويبقى خادمك معنا في إكرام ورعاية.»
فمشت مريم وقد التفت بثوبها وأصلحت نقابها الأسود وتعهدت شعرها استعدادا لاستقبال القهرمانة قيمة الخباء.
فدخلت باب الخباء في أثر الخصي، فرأت نفسها في دهليز انتهت منه إلى شبه قاعة فيها مصباح أضيء بالزيت وقد علقوه بحبل في سقف الخباء بين عمودين من أعمدته، ولم تشك مريم في أنه من مصابيح إحدى الكنائس في البلاد التي فتحوها، وكانت أرض الخباء مفروشة بأبسطة ثمينة، وكان بالخباء معظم ما يحتاجون إليه من الآنية الضرورية كأن أهله مقيمون هناك منذ أعوام.
فلما دخلت القاعة سبقها الخصي وأخبر القهرمانة، فتقدمت لاستقبال ضيفتها، وكانت القهرمانة مفرطة في البدانة، ثقيلة الحركة، عريضة الوجه، كبيرة العينين، خشنة الصوت، متدلية الخدين، غليظة الشفتين، قد نبت على شفتها العليا وحول ذقنها شعر متفرق مستطيل، وقد غطت صدرها وعنقها بالقلائد والعقود وفيها الذهب بين مرصع وغير مرصع، وحول زنديها الأساور والدمالج، وفي أذنيها الأقراط وفي رجليها الخلاخل، حتى ليكاد الناظر إليها وهي تمشي وتتوكأ على فخذيها يتوهم أنها تنوء تحت أثقال تلك الحلي، مع أن دلائل القوة ظاهرة في ضخامة وجهها ووضوح تقاطيعها، وكان بينها وبين عبد الرحمن قرابة نسائية، وقد ألقى إليها مقاليد خبائه وفوض إليها تدبير شئون نسائه وجواريه، وفيهن القوطيات والصقلبيات والروميات والبربريات وغيرهن، فلما رأت مريم وما هي فيه من الجمال والهيبة وخفة الروح أحبتها، فاستقبلتها ورحبت بها وخصوصا بعد أن علمت برغبة عبد الرحمن في إكرامها، وكانت مريم قد استوحشت من منظر تلك القهرمانة، فلما سمعت ترحابها استأنست بها، وهمت بتقبيل يدها فامتنعت وقالت لها: «أهلا بك يا حبيبتي ما اسمك؟»
قالت: «اسمي مريم.» ولفظت الراء غينا.
فاستلطفت تلك اللثغة منها ودعتها إلى الجلوس على البساط، ثم نادت بعض الخدم فجاءوها بالطعام، وكانت لم تذق طعاما من صباح ذلك اليوم، فأكلت ثم جلست والقهرمانة تحادثها وتسألها أسئلة كثيرة ومريم تجيبها وهي في شغل بما جال في خاطرها من أمر هانئ، وكلما تذكرته خفق قلبها وأسرعت ضرباته فلما رأتها القهرمانة قلقة منقبضة، حسبت ذلك من أثر الوحشة، وتذكرت ما أوصى به عبد الرحمن من إكرامها، ففكرت في طريقة تدخل البهجة في نفسها، وبعد أعمال الفكرة مدة ومريم صامتة قالت العجوز: «يظهر أن حديث العجائز لم يرق لك وقد أوصاني الأمير بإكرامك ورعايتك، ولعل من أسباب شعورك بالوحشة قرب عهدك بالأسر ويسوءك أنك أخذت من أهلك، فاعلمي أنك ستكونين عندنا كأنك بين أهلك، وإني سأدعو لك من نساء هذا الخباء امرأة أصلها من أهل هذه البلاد، وقد تعلمت العربية، وهي بارعة الجمال ولها منزلة رفيعة عند الأمير فأظنك إذا لقيتها استأنست بها.» قالت ذلك وصفقت فدخل خصي من الصقالبة وتأدب في موقفه فقالت له: «قل لميمونة إن القهرمانة تدعوك إليها.» فخرج الخصي فالتفتت القهرمانة إلى مريم وقالت: «أظنك تستأنسين بميمونة؛ لأنها من أعز أهل هذا الخباء على الأمير وهي في الأصل من جواري لمباجة بنت الدوق أود صاحب هذه البلاد، أظنك تعرفين حكايته مع المنيذر الإفريقي أحد أمراء المسلمين الذي كان واليا في الجبال على حدود إسبانيا وكان قد أبرم مع الدوق أود معاهدة لا تعرف فحواها، ولكننا علمنا أن أود زوج ابنته للمنيذر المذكور، فخشي أميرنا عبد الرحمن مما ينطوي عليه ذلك الاتفاق، فلما مر بالجبال وهو قادم لهذا الفتح قتل المنيذر واستولى الجند على أمواله ونسائه وأرسلوا امرأته لمباجة إلى الخليفة في دمشق، فكان من نصيب الأمير عبد الرحمن ميمونة هذه، ويقال إنها كانت أعز جواري لمباجة إليها وأشبههن بها جمالا وقدا وتعقلا، وسترينها الساعة.»
الفصل الخامس عشر
ميمونة
ولم تتم القهرمانة كلامها حتى دخل الخصي ولم يتكلم فعلمت أن ميمونة قادمة في أثره، ثم دخلت ميمونة وعليها ثوب أرجواني واسع الكمين طويل الأردان ينسحب وراءها مع طول قامتها واعتدالها، ولها شعر ذهبي طويل قد ضمته حزمة واحدة وأرسلته على ظهرها، ولو تأملته جيدا لرأيته ذهبيا ناصعا، وإذا تفرست فيه وأنت إلى جانبها رأيت فيه ميلا إلى الشقرة اللامعة، ومع ذلك فقد كانت سوداء العينين واسعتهما طويلة الأهداب سوداءها، وترى في عينيها لمعانا يدل على الذكاء والدهاء أكثر مما يدل على الصدق والوفاء، وكانت صغيرة الأنف مطمئنة الفم، رقيقة الشفتين، بارزة الذقن، بيضاء البشرة، وخصوصا العنق مع صفاء اللون، فلم تتمالك مريم عند وقوع نظرها عليها من الإعجاب بما يتجلى على وجهها من الهيبة والجمال، ورأت نفسها مظلمة منقبضة بما التفت به من الكساء الأسود.
فلما دخلت ميمونة ووقع نظرها على مريم هشت لها وابتسمت ابتسامة انفتح لها قلب الفتاة، وأحست للحال بأنس أنساها ما كانت فيه من القلق، وأجابتها بابتسامة يتوسم المتفرس فيها غير ما يتوسمه في ابتسامة تلك، ولا يميز ذلك إلا الناقد البصير، دنت ميمونة من مريم وحيتها ورحبت بها كأنها كانت على موعد من لقائها أو كأنها تعرفها من زمن طويل، فازدادت مريم استئناسا وطمأنينة ونسيت ما سبق إلى ذهنها من التهيب عند مقابلة القهرمانة، أما هذه فإنها عندما دخلت ميمونة خاطبت مريم قائلة: «هذه هي ميمونة التي أخبرتك عنها الساعة فأرجو أن تستأنسي بها وترتاحي إلى مجالستها.» وأشارت إلى ميمونة وقالت: «هذه ضيفة الأمير عبد الرحمن قد بعث بها إلينا وأوصانا برعايتها.»
فجلست ميمونة إلى جانب مريم وهي تقول: «أهلا بالضيفة الكريمة، من أين أتيت يا حبيبتي؟» قالت ذلك بكلام عربي تخالطه لهجة إفرنجية، فأدركت مريم من ملامح وجهها ومن لهجتها أنها إفرنجية الأصل كما قالت لها القهرمانة فأجابتها: «قد كنت في جملة أهل بوردو الذين قضي عليهم بالوقوع في أسر هذا الجند.»
قالت: «هل قبضوا عليك وحدك وليس معك أحد من أهلك؟»
قالت: «كلا ولكنهم قبضوا على والدتي أيضا وخادم شيخ تركته مع خدم هذا الخباء خارجا.»
قالت: «أراك تتكلمين العربية جيدا وتقولين إنك من أهل بوردو فكيف ذلك؟»
قالت: «لا أدري السبب ولكن هذا هو الواقع.» قالت ذلك وهي تعلم أن والدتها لا تريد التصريح بأكثر منه.
فقالت: «وهل قتل أبوك في هذا الفتح ؟»
قالت: «كلا.»
فقالت: «وهل أسر؟ أو فر؟»
فسكتت وأومأت برأسها أن: «لا هذا ولا ذاك.»
فأدركت ميمونة أن والدها توفي من قبل، ولكنها لم تكتف بذلك فقالت: «وما اسم والدتك، لعلي أعرفها؟»
قالت: «اسمها سالمة.»
قالت: «هي إذن عربية.»
قالت: «لا أدري.»
وكانت ميمونة في أثناء تلك المحادثة تتفرس في وجه تلك الفتاة وتستحث ذاكرتها لتستحضر صورة مثل صورتها، إذ خيل لها أنها تعرفها من قبل وأطالت السؤال لعلها تستدل على ذلك من كلامها، فلما رأتها قطعت الحديث بقولها: «لا أدري.» عدلت عن زيادة البحث، والتفتت إلى القهرمانة فرأتها قد أدلت رأسها على صدرها ونامت وأخذت في الشخير، فقالت لمريم: «هلم بنا إلى غرفتي فتمكثين عندي أثناء هذه الضيافة.»
فأطاعتها مريم ونهضت معها، وتحولت إلى غرفة من غرف الخباء فجلستا هناك، وقد عادت ميمونة تستنجد بذاكرتها لعلها تستحضر صورة ذلك الوجه وأين شاهدته، ومريم في غفلة عن ذلك وفي شاغل مما عاد إلى ذهنها من الهواجس بشأن هانئ وما تركه في فؤادها من لواعج الحب، فغلب الانقباض عليها وبدت في وجهها ملامح الاضطراب.
وظلتا صامتتين مدة وكل منهما تضطرب في أحلامها، وإذا بصوت القهرمانة يقرع الآذان وهي تنادي: «ميمونة مريم.»
الفصل السادس عشر
سران
فذعرتا وخافت ميمونة من غضب القهرمانة لئلا تعد خروجها من عندها على تلك الصورة ذنبا، فتشكوها إلى الأمير أو تسيء معاملتها؛ لأنها الآمرة الناهية في أهل ذلك الخباء وللقهرمانات نفوذ عظيم في بيوت الأمراء والخلفاء والسلاطين في كل العصور، وإذا كان الأمير أو الخليفة ضعيفا أصبحت القهرمانة صاحبة الأمر والنهي حتى في أعمال الحكومة، تعزل وتولي وتسجن وتطلق كما تشاء فلما سمعت ميمونة نداءها نهضت للحال، فنهضت مريم معها ومشيتا نحو القاعة ودخلتا، وإذا هناك امرأة بلباس أسود يجللها من رأسها إلى قدمها فلما رأتها علمت أنها والدتها فتقدمت إليها وسلمت عليها فقبلتها سالمة، أما ميمونة فلم تكد تتفرس في وجه سالمة حتى انجلت لها الصورة التي كانت تستحث الذاكرة في استحضارها، فبدت في وجهها أمارات الاضطراب والبغتة ولكنها تغلبت على عواطفها وتقدمت للسلام على سالمة وهي تهش لها وترحب بها، أما سالمة فحين وقع نظرها على ميمونة عرفتها فخفق قلبها دهشة؛ لأنها لم تكن تتوقع أن ترى ذلك الوجه هناك ولا في أوروبا، فردت السلام عليها ببرود وهي تتفرس في وجهها لتحقق ظنها فيها، وميمونة تغالطها بعبارات الترحاب والمجاملة والممازحة كقولها: «لقد سرني أنك هنا سرورا مزدوجا لسببين: الأول أنني استأنست بك وفرحت لفرح حبيبتي مريم برؤيتك، وإن لم يسبق لي شرف التعرف إليك، والثاني؛ لأن نداء خالتي القهرمانة لم يكن نتيجة غضب علي.» قالت ذلك وضحكت وتشاغلت بإصلاح شعرها هنيهة، ثم عادت إلى الكلام وهي تعبث بكم ثوبها وتضحك وعيناها تبرقان، وقالت: «مرحبا بك، لقد أتيت أهلا فعسى أن نقضي مدة إقامتنا هنا معا بسرور.»
ثم وضعت ميمونة يدها على كتف مريم كأنها تحاول ضمها إليها، وقالت: «ولا تلوميني إذا أحببت ابنتك من أول نظرة فإنها تعشق لما خصتها به العناية الإلهية من اللطف والجمال، فلا غرو إذا لاقت من الأمير عبد الرحمن هذه العناية والإكرام.»
وكانت ميمونة تتكلم وهي تضحك في ظرف، وسالمة تحدق فيها وتتبين لهجة كلامها ونغمة صوتها لتحقق ظنها في معرفتها، واستغرقت في التفكير وتحيرت فيما تعمله بعد أن علمت حقيقة تلك المرأة التي سمت نفسها ميمونة وما هي ميمونة، وتظاهرت بأنها من جملة نساء ذلك الجند الداعيات بدعوة المسلمين، وقد تكون بلاء كبيرا على الجند وأهله فتحيرت سالمة بين أن تكشف أمرها أو أن تكتم خبرها وتتجاهل على أنها لاحظت من ناحية أخرى أن ميمونة عرفتها وعرفت حقيقتها، فخشيت أن تبوح بها إلى أحد وهي تود بقاء أمرها مكتوما كما علمت، فعزمت على التجاهل مؤقتا لترى ما يكون فقالت: «إنه ليسرني أيضا أن تلازم ابنتي أختا حنونة مثلك، وأن تكون في رعاية الخالة، أيدها الله.» قالت ذلك وأشارت إلى القهرمانة فضحكت العجوز حتى بانت لثتها وليس فيها من الأسنان القواطع إلا اثنتان، واحدة في الفك العلوي، والأخرى في الفك الأسفل، وبينهما ثغرة مربعة الشكل ثم قالت: «إن ابنتك يا سالمة ضيفة عندي وما للضيف غير الكرامة، وليست هي من نساء هذا الخباء أو سراريه أو جواريه ليجري عليها الأمر والنهي.»
فقطعت سالمة كلامها قائلة: «لا أعدها إلا تحت أمرك، وإذا شئت أن تعتبريها ابنة لك كان ذلك من بعض فضلك.» فهمت القهرمانة بالوقوف وهي لبدانتها لا تستطيع النهوض إلا بالاعتماد على يديها والتوكؤ كأنها تحمل حملا أثقل كاهلها، فلما قاربت الوقوف، قالت: «هي ابنتي وأعز من ابنتي، ولذلك فإني عهدت برعايتها إلى أحب أهل هذا الخباء للأمير عبد الرحمن.» وأشارت إلى ميمونة.
فأتمت ميمونة عبارتها قائلة: «كوني مطمئنة يا سالمة، فإن مريم عندنا كأنها في رعايتك ومن يستطيع أن يرى هذا الوجه ولا يحبه ويتعشقه، ولا يغرك مجيئها إلينا باسم الضيفة، فان الأمير لا يلبث أن يراها حتى يتعلق بها ويود استبقاءها عنده، فيزيد بذلك سرورنا ونفرح ببقائها بيننا.» قالت ذلك ونظرت إلى مريم وابتسمت.
فلما سمعت مريم ذلك بدت البغتة في وجهها، وخشيت أن يصح قولها فتخسر حبيبها وتضيع آمالها فتصاعد الدم إلى وجهها حتى اصطبغ وأطرقت، فظنت ميمونة أنها أطرقت حياء على عادة الفتيات إذا خوطبن بمثل ذلك.
فقطعت القهرمانة الحديث بقولها: «هلم بنا الآن إلى النوم، فقد مضى معظم الليل.» وصفقت فخالط صوت التصفيق خشخشة الأساور والدمالج، وجاء أحد الخصيان فقالت له: «أعد غرفة خاصة بالضيفتين.»
فقالت ميمونة للقهرمانة: «اجعليها بقرب غرفتي إن لم تكن هي نفسها؛ لأني قد استأنست بالحبيبة مريم وهي استأنست بي.» فأشارت القهرمانة إلى الخصي أن يفعل.
الفصل السابع عشر
العقد
وبعد قليل عاد الغلام وقال إنه أعد كل شيء، فانصرفن جميعا وسارت سالمة ومريم في أثر الغلام نحو الغرفة، وقبل أن تصلا إليها سمعتا صهيل فرس اختلج له قلب مريم اختلاجا سريعا؛ لأنه يشبه صهيل جواد هانئ، فلم تتمالك أن سألت والدتها قائلة: «كأني أسمع صهيل فرس الأمير هانئ، فهل هو هنا؟»
قالت: «لقد جاء معي إلى هذا المكان، وكنت أحسبه قد عاد فور وصوله؛ لأنه سائر في مهمة ذات بال تتعلق بأسقف بوردو، فالظاهر أنه في شغل مؤقت هنا، ثم ينصرف.»
فتوسمت مريم من بقائه هناك خيرا، ودلها قلبها على أنه إنما بقي لمشاهدتها، فانشغل خاطرها في ذلك الأمر، وظهر الارتباك على وجهها ولو تفرست أمها فيها لرأت في عينيها ارتباكا وتفكيرا وقلقا، ولكنها لم تنتبه لشيء من ذلك لانشغالها بأمر نفسها واستعدادها للمسير في الغد إلى بوردو.
أما القهرمانة، فلما خلت بنفسها أخرجت من جيبها منديلا مطويا على شيء في داخله، ومشت نحو المصباح وفتحت المنديل، وأخرجت منه عقدا من اللؤلؤ بسلاسل من الذهب، وفي وسط العقد صليب من الذهب مرصع بالياقوت والماس على شكل بديع، فوضعت العقد على كفها تقلبه وهي تبتسم وتقول في نفسها: «لا بد من غرض لهانئ في إهدائه هذا العقد لي، وإلا فليس في وجهي ولا في قامتي ما يدعو إلى الشغف أو العشق، ولا هو يحتاج إلى وساطتي لدى عبد الرحمن؛ لأنه صاحب الكلمة النافذة عنده.» ثم أمسكت العقد بأحد طرفيه بين إصبعيها ورفعته أمام المصباح فأبرق بما فيه من الحجارة الكريمة، فقالت: «لا شك أن هذا العقد من جملة ما أصاب هانئ من الغنائم في وقعة اليوم، فلا يهمه أن يتنازل عنه ولكن لا بد له من غرض في إهدائه.» ثم تنبهت بغتة وقالت في نفسها: «عرفت غرضه ولا بأس به.» ثم صفقت فدخل غلامها فقالت له: «قل للأمير هانئ أن يوافيني إلى غرفتي من بابها الخارجي خذ بيده إلى هناك.» قالت ذلك وأعادت العقد إلى جيبها، ومشت نحو الغرفة وهي تتوكأ وتترجرج فوصلت إليها قبل هانئ بقليل، فجلست على وسادة بجانب جدار الخباء، ثم أقبل هانئ وعلى رأسه بدل العمامة خوذة من الفولاذ، وقد أرخى العباءة فانفتحت عن صدره فبانت الدرع من تحتها، وحول خصره حمائل يتدلى منها سيفه المعهود دخل مسرعا حتى اقترب من القهرمانة وهي جالسة لم تتحرك ولكنها قالت له: «مرحبا بالأمير هانئ تفضل اجلس.»
قال: «لا صبر لي على الجلوس يا خالة؛ لأني ذاهب في مهمة عاجلة وقد أحببت أن أراك قبل ذهابي.»
قالت: «بورك فيك يا بني، هل من حاجة أقضيها لك؟»
فتبسم هانئ وقال: «لي حاجة سهلة جدا لا أظنك تضنين بها علي.»
قالت: «وما هي؟»
قال: «أرأيت مريم؟ أحب أن أراها وأخاطبها ساعة بحضورك حتى تكوني على بينة من سلامة نيتي.»
قالت: «أتراها الآن؟»
قال: «كلا غدا صباحا بعد ذهاب والدتها ولست أشك في أنك ستجيبين سؤالي، وليس فيه ما يخشى منه عليك.»
فتنحنحت القهرمانة وضحكت، وأشارت بعينيها أنها ستفعل ما يريده، فهم بيدها ليقبلها، فمنعته فخرج وانصرف.
أما مريم فقد تركناها مع والدتها في طريقهما إلى مكان النوم وهي غارقة في بحار الهواجس ووالدتها لا تخاطبها، فوصلت إلى غرفة جدرانها الأربعة من القماش السميك وفي أرضها بساط عليه فراش، وعلى أحد جدران الحجرة ركوة لشرب الماء معلقة بخيط، فجلستا على الفراش ومريم لا تزال ساكتة، فلما استقر بهما الجلوس قالت سالمة: «نحمد الله يا بنية على نجاتنا من هذه الوقعة ونجاحنا في إقناع أمير هذا الجند بما نريده وفيه خيره وخير هذه البلاد واعلمي يا مريم أني ذاهبة في صباح الغد إلى أسقف بوردو، وربما أبقى عنده يوما أو يومين لقضاء بعض المهام، فهل يشق عليك هذا الفراق؟»
فقالت مريم: «ولماذا هذا الغياب؟ وما هي تلك المهام التي تقتضي أياما للفراغ منها؟ وأنا لم أفارقك قبل اليوم مطلقا، فهل أستطيع البقاء وحدي بين أناس لا أعرفهم اتركي إذن عندي حسانا فإني أستأنس به.»
قالت: «إني في حاجة إليه في هذه المهمة وإلا فإن غيابي يطول كثيرا.»
قالت: «لقد شغلت بالي هل تكشفين لي عن سبب ذلك الغياب؟»
قالت: «لا أخفي عليك يا بنية أني اتفقت مع الأمير عبد الرحمن على أن أكون واسطة بينه وبين الغاليين سكان هذه البلاد الأصليين، على شرط أن يعاملهم بالرفق والإحسان كما عامل موسى بن نصير وابنه عبد العزيز نصارى الأندلس عند فتحها، وأنا ذاهبة في صباح الغد إلى أسقف بوردو فألاقيه بعد أن تكون الآنية قد وصلته وتأكد من صدق أمير المسلمين، فأستعين به وأستعين بسواه من سراة هذه المدينة في إقناع سراة البلاد الأخرى، وأساقفتها وكهنتها بأن المسلمين خير لهم من أود وغيره من أمراء الإفرنج، وأنا أعتقد أنهم إذا وافقوني على ذلك أفلحوا واعلمي يا مريم أني كاشفتك بسر يجب أن يبقى مكتوما عن الجميع.»
ولم تكن مريم تهتم بهذا الحديث مع أهميته لما جاش في خاطرها من أمر هانئ، وودت لو أنها تعود إلى ذكره لعلها تستطلع شيئا من أمره، ولكنها لم تستطع ذلك؛ لأن والدتها نهضت لتبديل ثيابها التماسا للنوم فسايرتها مريم وذهبت إلى فراشها، ولكنها لم يغمض لها جفن معظم ذلك الليل، وهي تتوقع أن يناديها هانئ أو يناديها أحد عنه، فلما طال انتظارها يئست من ذلك.
الفصل الثامن عشر
دسيسة
أما ميمونة فإنها ذهبت إلى مضجعها بإزاء مضجع سالمة لا يفصل بينهما إلا الجدار، وكانت مضطربة الخاطر لما شاهدته من سالمة، فلقد بدا لها أنها لم تدخل ذلك المعسكر إلا لأمر هام فتظاهرت بالسكون وأصغت لما عساه أن يدور من الحديث بين سالمة وابنتها، فسمعت ما دار بينهما فلما اطلعت على السر أهمها أمره كثيرا؛ لأنه يحول دون الغرض الذي من أجله رافقت تلك الحملة فباتت وهي تدبر الحيل وتهيئ الشراك.
وقبل أن ينبلج الصباح نهضت ميمونة من فراشها وتزملت بردائها وتظاهرت بالخروج إلى خباء بالقرب من خباء الأمير، وكانت على موعد في كل صباح مع رجل من الجند تزعم أنه كان من غلمانها يوم كانت بمعية لمباجة في أيام المنيذر الإفريقي، فرأت في أثناء خروجها فارسا قادما من المعسكر عرفت من زيه ولون جواده أنه هانئ، فاستغربت قدومه في ذلك الصباح، فلما توارى عن بصرها ذهبت إلى موعدها، فمكثت هناك حتى جاءها الرجل وهو بربري عليه ثياب الجند قصير القامة خفيف الشعر خفيف العضل، في الثلاثين من عمره، وفي عينه حول شديد فإذا نظر إليك يوهمك أنه ينظر إلى رجل على مسافة بعيدة منك، فلما أقبل عليها تبسم وأشار بحاجبيه وبعينه الشاردة أنه في شوق شديد إلى رؤيتها وأنه قتيل هواها.
فابتسمت ميمونة له وأظهرت الدلال وقالت له: «يظهر يا عدلان أنك نسيت سيدتك وتغافلت عن وعدك، فإن الغنائم شغلتك عن ميمونة وظننتها تنسى مثلك.»
فأعجبه ذلك العتاب واستدل من ورائه على ما له من المنزلة عند تلك الحورية ربة الجمال، وقد كان يعلم أن بينه وبينها فارقا كبيرا، ولكنه كان يطمع في حبها وكان يقنعه من ذلك الحب أن يسمع مثل تلك العبارة، فهو ممن يسمونهم «أذناب العشاق»؛ لأن العشاق ثلاثة: عاشق لا يقنع بغير الحب المتبادل الذي يملأ القلبين، وعويشق يقنعه أن يقدم لمعشوقته باقة من الأزهار أو عقدا من الجوهر، ويكفيه منها قبول هديته ولا مطمع له فيما وراء ذلك، و«ذنب العشاق» وهمه أن يخدم معشوقته خدمة تروقها، كإيصال كتاب، أو ابتياع بعض حاجات الطعام، أو نحو ذلك، وكان عدلان من النوع الثالث وقد جعله يعشقها ويتفانى في خدمتها، ما كانت تبديه له من التلطف، حتى أطلعته على بعض سرها، ووعدته بالرضا التام حين يتمم لها خدمة وعدها بإتمامها منذ تشتت شملها بقتل المنيذر الإفريقي الذي ذكرناه في غير هذا المكان، فلما سمعها تعاتبه وتستعطفه ابتدرها بالجواب وهو ينظر إلى وجهها الجميل نظر المحب الولهان وقال: «كيف تقولين ذلك يا مولاتي وأنت تعلمين اندفاعي إلى خدمتك منذ أعوام، وأما الغنائم فلا يخفى عليك ما تركه أولئك العرب منها خصوصا اليوم، فإنهم بعد أن وزعوا الغنائم بيننا عادوا فاسترجعوها وأهانوا الأمير بسطاما إهانة ليس بعدها إهانة.»
قالت: «الأمير بسطام؟ وكيف تركته يقبل ذلك، ولماذا لم تحرضه على المطالبة بحقه إلى متى هذا الذل؟»
قال: «لقد حرضته ولكن غريمه صعب لا ينال.»
قالت: «ومن هو غريمه؟»
قال: «هو الأمير هانئ نفسه وأظنك رأيته قادما على هذا الصباح إلى هذا الخباء.»
قالت: «نعم رأيته ولماذا قدم؟»
قال: «قدم لتلك الفتاة الجميلة التي بعثها الأمير عبد الرحمن إليكم بالأمس فإنها غنيمة الأمير بسطام، وقد أخذها الأمير هانئ رغم أنفه وساعده الأمير عبد الرحمن على ذلك.»
فقالت: «وهل رضيت هي بهذا العربي وفضلته على ذلك الأمير؟»
قال: «يظهر أنها أحبت هانئا وتعلقت به.»
فأدركت ميمونة أن الحب قد تمكن بين مريم وهانئ وأن هانئا إنما جاء في ذلك الصباح لمقابلتها، فرأت أن تغتنم تلك الفرصة وتدس الدسائس وتوقع الخصام بين الأميرين فقالت: «وهل رضي بسطام بهذا الذل؟ وكيف يرضى أن تخرج فريسته من بيد يديه ويصبر على الهوان؟ إذا قبل هو ذلك فأنا لا أقبل، هل لك أن تخبره أني سأبذل غاية جهدي لأرجع هذه الفتاة إليه؟ قل له ذلك دون أن تشعره بما دار بيني وبينك، هل فهمت يا عدلان؟ إنه يسوءني أن يستأثر هؤلاء العرب بالطيبات ويحملونكم الأثقال والأخطار فتفتحون لهم الحصون وتجمعون لهم الغنائم، ثم لا تنالون غير التعب والشقاء، ولكن لا بأس، سوف ترى مني ما يسرك.» ثم رأت وهي تخاطبه فارسا خارجا من خباء الأمير عرفت من سواد ثيابه أنها سالمة تنطلق في مهمتها، وثبت لها ذلك من مسير حسان في ركابها وهو يعدو خلفها، فعلمت أن هانئا سيظفر بعد ذهاب سالمة بلقاء مريم فقطعت ميمونة حديثها مع عدلان بقولها: «اذهب أنت الآن في حراسة الله.» قالت ذلك وتحولت نحو الخباء على عجل، وظل هو واقفا ينظر إلى قامتها ويتمتع بمنظر ذلك الشعر الجميل حتى إذا كادت تتوارى التفتت نحوه وابتسمت، فأحس كأنها ملكته الأرض وما عليها وخفق قلبه ابتهاجا، وعاد.
أما هي فلما أيقنت بوقوع التنافر بين هانئ وبسطام، عادت إلى التفكير في وسيلة للإيقاع بين هانئ وعبد الرحمن، ليتم لها إفساد أمر ذلك الجيش الكبير لعلمها أن فوزه إنما يقوم على اتحاد هذين الأميرين، وكانت قد علمت أن عبد الرحمن إنما أرسل مريم إلى الخباء لتكون في مأمن من سواه، وعلمت أن «حب» هانئ لمريم يسوء عبد الرحمن، فعزمت على إشعال نيران الغيرة بينهما، فسارت توا إلى غرفة مريم فلم تجدها وبحثت عن القهرمانة فقيل لها إنها في غرفتها، فتحقق ظنها فعادت إلى غرفتها مسرعة وقد خطرت لها حيلة ظنت أنها تنال بها مأربها، فنادت غلاما من غلمان الخباء كان في الأصل من غلمان المنيذر الإفريقي، وأخذ في جملة من أخذ من الأسرى، وأصله من الإفرنج الذين أتوا مع لمباجة بنت أود يوم زواجها بالمنيذر، ولما أخذت ميمونة ظل هو في جملة الخدم، وقد استبقته هي لخدمتها والاستعانة به عند الحاجة، فلما جاء الغلام قالت له: «أسرع يا داود إلى الأمير عبد الرحمن، هل لك أجنحة لتطير بها إليه؟»
قال: «نعم يا مولاتي.»
قالت: «طر إليه على عجل، وقل له إن ميمونة تقرئك السلام وتقول لك بادر إليها الآن لأمر هام تريد أن تطلعك عليه في هذه الساعة.»
فقال: «حبا وكرامة.» وتحول وسار وهو يثب كالغزال النافر متجها نحو المعسكر، وجلست ميمونة في مكان ترى منه كل من يخرج من الخباء.
الفصل التاسع عشر
لقاء الحبيبين
أما هانئ فإنه جاء إلى الخباء مبكرا - كما رأيت - لشدة شوقه إلى لقاء مريم، ولا نظنه قد نام كثيرا في تلك الليلة، ولما وصل إلى غرفة القهرمانة استقبلته واستمهلته ريثما تنصرف سالمة، وسارت إلى سالمة حتى تهيأت للخروج فودعتها فأوصتها سالمة بابنتها خيرا وركبت وسار حسان في ركابها، فعادت القهرمانة وقد سرها ألا تكون ميمونة في الخباء لئلا تطلع على سر تلك المقابلة، فلما مضت سالمة صحبت مريم إلى غرفتها فمشت معها وهي تفكر في هانئ وبعده عنها، فلما دخلت الغرفة ورأته هناك بغتت وتصاعد الدم إلى وجنتيها، وغلب عليها الحياء فأرسلت خمارها على عينيها، وأطرقت وقد صبغ الحياء وجهها فأضفى عليها ذلك مزيدا من الجمال والجاذبية في عيني هانئ، أما هو فقد كان أثناء انتظاره في الغرفة على مثل الجمر، وقد خيل إليه أن الساعة التي مضت في أثناء انتظارها بضعة شهور، فلما سمع وسوسة الخلاخل والدمالج وراء جدران الغرفة علم أن القهرمانة قادمة، ثم ما لبث أن رآها تدخل ومريم في أثرها، فلما رأى اصطباغ وجه مريم بالحياء زاد هياما بها فنهض لاستقبالها، فسمع القهرمانة تقول وهي تتظاهر بأن وجوده كان هناك اتفاقا: «ما الذي جاء بك في هذا الصباح يا حضرة الأمير؟»
قال: «لقد جئت لأرى وجهك يا خالة.»
فضحكت القهرمانة وقالت: «لا أظن أن وجهي تعجبك تجعداته، وكأني قد علمت بقدومك فأتيت إليك بهذا الوجه، فهل تعرفه؟»
فابتسم هانئ وقد غلب عليه الغرام وقال: «لقد عرفته وكلفت به ولكن هل هو يعرفني؟ لست أدري.»
وكانت مريم مطرقة، فلما سمعت كلامه رفعت بصرها ونظرت إليه - بعينين قد أذبلهما الغرام وتلألأ فيهما ماء الحب - نظرة تغني عن خطاب، فلم يتمالك هانئ عند ذلك أن قال: «فهمت الجواب.»
فضحكت القهرمانة وأمسكت بيد مريم وأجلستها وقالت وهي تحاول الجلوس: «ما أسرع ما فهمت جوابها وهي لم تتكلم.»
فجلس هانئ وهو يلتف بعباءته ويصلح عمامته وكان قد أبدلها بالخوذة في ذلك الصباح وقال: «لقد دلني قلبي يا خالة.»
ثم التفت إلى مريم وقال: «لا تخافي يا مريم، إنني لم آت لأزعجك وإنما جئت لأتحقق مما حدثتني نفسي به، حتى إذا صدق ظني وخدمني حظي وقفت نفسي لخدمتك وجعلتك أسعد الناس، إلا إذا كان هذا الخبر يسوءك.»
فتنهدت مريم تسكينا لما جاش في صدرها من الخفقان مما لم تعهده من قبل، وهمت بالكلام فمنعها الحياء، وكانت لا تبالي إن لقيت الرجال في ساحة الوغى، فكيف تلعثم لسانها بين يدي رجل يتمنى رضاها ويتوقع كلمة منها ليتغنى بها ويجعلها تعويذة له ولكن هو الحب يذل النفوس ويلعثم ألسنة الفصحاء، وظهر من خلال شفتي مريم مع ذلك أنها تكتم أمرا تود التصريح به لولا الحياء، فأدرك هانئ ذلك فيها فتوجه بكليته نحوها وقال وقد أخذ الهيام منه مأخذا عظيما: «قولي، يا مريم، لا تخافي ولا تكتمي عني شيئا فإن خالتي القهرمانة لا يستحى منها، بل هي خزانة أسرارنا، قولي هل تحبينني؟»
فالتفتت إليه وتجلدت وقالت: «وما الفائدة من الحب إذا لم يكن متبادلا، وأنتم معشر الأمراء قد تعودتم اقتناء النساء بالعشرات، والحب لا يكون صحيحا إلا إذا كان بين اثنين ليس معهما ثالث.»
فبغت هانئ لهذا التعريض وهو لا يرى له محلا وقال: «لست من هؤلاء يا مريم، وهذه الخالة تعلم أني بلغت هذه السن ولم أتخذ زوجة ولا جارية ولا سرية، اسأليها تنبئك فإنها مطلعة على أحوال سائر الأمراء في هذا الجند، فإن لكل واحد منهم خباء لنسائه وجواريه، وأما أنا فلا خباء لي ولا أحببت امرأة ولا فتاة ولم يكن يخطر ذلك ببالي قبل أن رأيتك في صباح الأمس فعزمت على أن تكوني نصيبي في هذه الدنيا، وتأكيدا لذلك فإني أعاهدك من هذه الساعة على أني لا أميل إلى سواك فهل تعاهدينني أنت أيضا؟»
فأبرقت أسارير مريم وأشرق وجهها، وتجلت في عينيها وحول فمها ابتسامة طار عقل هانئ لها، وخفق قلبه سرورا وقال: «ولكن لي شرطا واحدا عليك وعلى نفسي وهو أني لن أتمم شيئا قبل الفراغ من هذه الحرب فإذا عدنا منها فائزين، ونحن فائزون، بإذن الله، كان ما نتمناه فهل تعاهدينني على ذلك؟»
فقالت وهي مطرقة حياء: «وذلك هو الشرط الذي أشرطه أنا أيضا؛ لأنني إذا فزت بك، أكون عند ذلك قد نلت السعادتين.»
فقال: «فلنتعاهد إذن على هذا الشرط.» ومد يده نحوها ببطء وهي ترتجف من شدة التأثر، فأمسكها بيده وضغط عليها فأحس كلاهما بتيار كهربائي ارتعدت له فرائصهما، ثم نهض هانئ وهو يقول: «لا بد لي من الذهاب الساعة إلى المعسكر لنتأهب للقاء العدو، وأعدك أني سأبلو في ساحة القتال بلاء الأبطال لعلمي أن ذلك يسرك فادعي لي بالنصر.»
ثم مد يده إلى كمه وأخرج قارورة تفوح منها رائحة الطيب قوية، وقدمها إلى مريم وهو يقول: «وهذه قارورة من طيب خاص ليس مثلها عند أحد في هذا الخباء تطيبي بها وحدك، حتى إذا أتيت لزيارتك تنسمت ريحك قبل وصولي إليك فأستدل على وجودك قبل أن أراك، وأنت أيضا كلما شممت رائحة هذا الطيب تتذكرين قتيل هواك.» قال ذلك وعيناه تتلألآن من شدة الهيام، ونظر إليها نظر المحب الولهان.
فمدت يدها وتناولت القارورة وهي تبتسم، ثم تذكرت فراقه لها في تلك الساعة فانقبضت نفسها، فالتفتت نحو السماء وترقرقت في عينيها العبرات.
وكانت القهرمانة في أثناء ذلك الحديث قد استغرقت في النوم وهي جالسة؛ لأنه لا يهمها في هذا الاجتماع إلا ما نالته من التحف وما ترجوه من الهدايا المتواصلة، وبينما هي غارقة في أحلامها علت الضوضاء خارج الخباء فانتبهت فسمعت قرقعة اللجم ودبدبة الخيل فبغتت وبغت هانئ ومريم، وقبل أن تنهض سالمة سمعت أحد الغلمان يصيح في الخارج: «أين السيدة القهرمانة؟»
فنهضت القهرمانة وصاحت: «من يناديني؟» وخرجت فاستقبلها أحد الغلمان وهو يقول: «إن الأمير عبد الرحمن يدعوك إليه.»
فقالت وقد علتها الدهشة: «وأين هو؟» وهرولت نحو القاعة، فقال الغلام: «هو ينتظرك في القاعة.» فعادت إلى هانئ وقالت: «أسرع يا مولاي إلى جوادك وامض قبل أن يراك الأمير هنا فلربما شك في أمرك.»
فأكبر هانئ أن يخرج خروج الهارب فتجلد، وقال: «اذهبي أنت إليه ولا تخافي فإني خارج على مهل.»
الفصل العشرون
البغتة
فدخلت القهرمانة وقد أرادت أن ترسل مريم من باب آخر يؤدي إلى غرفتها وتسير هي توا إلى القاعة لمقابلة الأمير عبد الرحمن.
وخرج هانئ من الباب الخارجي وهو رابط الجأش حتى وصل إلى جواده، وهم بأن يركبه فلقي بجانب الجواد رجلا من ملازمي الأمير عبد الرحمن وقد أمسك بشكيمته، فلما دنا هانئ منه قال له: «إن الأمير يطلب إليك أن توافيه إلى خيمته في المعسكر فإنه عائد إليها على عجل.»
فقال: «ومن أنبأه أني هنا؟»
قال: «عرف ذلك من جوادك.»
أما القهرمانة فلم تكد تخرج من حجرتها ومريم معها حتى لقيها عبد الرحمن، وكانت مريم قد ازدادت بتلك البغتة احمرارا وتجلت دلائل الحب في عينيها مع ما يغشاهما من الدمع، فلما رأت الأمير عبد الرحمن استردت جأشها ووقفت للسلام عليه.
أما هو فحالما رآها، تذكر والدتها فخاطبها أولا ولم يلتفت إلى القهرمانة وقال: «مريم أين والدتك؟ هل سافرت؟»
قالت: «نعم يا مولاي سافرت في الصباح الباكر.» قالت ذلك بلثغتها المعهودة ولم يكن عبد الرحمن قد سمعها تتكلم بعد، فأعجبته تلك اللثغة، وكان لفرط ذكائه وصدق فراسته قد رأى على وجهها آثار البغتة وتذكر أنه رأى جواد هانئ بباب القهرمانة من الخارج فأدرك أن هانئا كان هناك معها، فتظاهر عبد الرحمن بعدم المبالاة، وليثبت عدم مبالاته خاطب القهرمانة ببرود وسذاجة قائلا: «وهل رجع الأمير هانئ؟»
فلما سمعت القهرمانة سؤاله لم تدر بماذا تجيبه وكاد يرتج عليها لو لم يتدارك الأمر هو بقوله: «ولكن لا بأس من ذهابه فإني سألقاه بعد رجوعي.» ثم مشى نحو مريم وهو يخاطب القهرمانة قائلا: «قد أوصيتك يا خالة بإكرام الضيفة، وأعيد التوصية الآن بأن تبالغي في رعايتها وإكرامها ولا تمنعي عنها شيئا ولا تدعيها تستوحش في هذا الخباء فإنها أعز نسائه عندي.»
فانبسطت نفس القهرمانة لذلك واطمأن بالها، وتبادر إلى ذهنها أن عبد الرحمن غافل عما حدث من أمر هانئ ومريم وقالت: «إني فاعلة حسب أمر مولاي والحقيقة أن مريم لا يراها أحد إلا أحبها وأكرمها.»
فقطع عبد الرحمن كلامها قائلا: «أين ميمونة؟ هل هي في غرفتها؟»
قالت: «أظنها هناك.» ومشت لتبحث عنها.
فقال لها عبد الرحمن: «امكثي هنا مع مريم أو امض بها إلى حيث تشائين، وأنا ذاهب إلى ميمونة فإني أعرف مكانها.»
وكانت ميمونة قد رأت الأمير عبد الرحمن عند وصوله إلى هناك، وعلمت أنه رأى جواد هانئ ورأته، يخاطب أحد غلمانه ويشير إلى ذلك الجواد، فدخلت وجعلت تتنسم ما عساه أن يكون من أمره بعد أن يرى القهرمانة ومريم ومعهما هانئ، فشعرت أنه لقيهما خارجين من تلك الحجرة، وسمعت ما دار بينه وبينهما فظنته لم يلحظ اجتماعهما فعزمت على التصريح بذلك.
أما عبد الرحمن فمشى يلتمس حجرة ميمونة والخدم يتناثرون بين يديه تهيبا، أو يقفون له وقارا، حتى اقترب من باب الحجرة فتظاهرت ميمونة أنها قلقت لإبطائه في الوصول إليها، فأسرعت إلى الباب وهي تبدو كأنها كانت في انتظاره على مثل الجمر، فلما أقبل حيته وتأدبت وعيناها تنظران إليه نظر المحب العاشق بلا تصنع مع أنها غير عاشقة، وإنما كان ذلك منظر عينيها لما فيهما من اللمعان مع ما تتكلفه من إظهار الوجد بالابتسام والإطراق فينخدع الناظر إليها ويحسبها متفانية في حبه، ولا سيما إذا كان هو يحبها، أما عبد الرحمن فكان يستلطف ميمونة كثيرا ويحب قربها، ولكنه كان ينظر إليها نظره إلى بعض جواريه، وكان من جهة أخرى قد عاهد نفسه على ألا يقرب النساء حتى يفرغ من تلك الحرب ويقطع نهر لوار، فضلا عن اشتغال خاطره بمهام الفتح عن مجالسة النساء ومسامرتهن، ولذلك قلما كان يأتي إلى الخباء، وإذا أتاه خص ميمونة بلطفه ومداعبته وذلك لغرض في نفسه لم يكاشف به أحدا، وربما كانت قد أدركت غرضه ثم تجاهلته، أو أنها تظاهرت بأنها تفعل ما يريده هو وتبتغي من ورائه مأربا لو تصوره عبد الرحمن لعجل بها إلى الفناء.
الفصل الحادي والعشرون
المكر المتبادل
علمت مما تقدم أن ميمونة سبية إفرنجية كانت في جملة خدم لمباجة بنت الكونت أود حاكم تلك المقاطعة في فرنسا، وقد سبيت في جملة غنائم المنيذر الإفريقي زوج لمباجة المذكورة، وكان أهل الخباء يعتقدون أن ميمونة كانت من خاصة نساء لمباجة وأقرب المقربات إليها، فكان عبد الرحمن يرجو الانتفاع من ذلك في بعض المخابرات مع أود أو بعض قواده ولكنه كتم هذا الأمر في نفسه ولم يظهره حتى ولا لهانئ، فلما بعثت ميمونة إليه في ذلك الصباح أسرع إليها على عجل يتوقع منها خبرا يتعلق بالحرب من قبيل ما تقدم.
فلما رآها على تلك الصورة خيل له أنها تعشقه وتتفانى في خدمته فسره ذلك على أمل الاستعانة بها في تحقيق غرضه، فابتسم لها ودخل حتى جلس على وسادة هناك وهو يقول: «ما الذي تريدينه مني يا ميمونة؟»
فقالت وهي تحاول الجلوس بتأدب: «أريد أمورا كثيرة، يا مولاي، لا أدري أيها أقوله أولا.» قالت ذلك وتنهدت وأنزلت دمعتين رآهما عبد الرحمن تتساقطان على خديها وهي مطرقة تظهر أنها استحيت من افتضاح سرها بهما .
فانخدع عبد الرحمن، ولكنه أجابها على الفور: «لا أرى حاجة إلى ذلك وأنت تعلمين ما عاهدت عليه ربي منذ عزمت على هذه الحرب.»
فأسرعت في الجواب كأنها تريد إصلاح ما تبادر إلى ذهنه مما عسى أن يكون قد فهمه خطأ فقالت: «لا يتوهم مولاي أني أطمع في غير رؤية هذا الوجه الصبوح، ولكني مخطئة في التطاول إلى ما لا أستحقه، فإن في خباء مولاي الأمير عشرات من أمثالي وليس بينهن من تجرؤ على هذه الكلمة، أما أنا فلا أدري ما الذي جرأني عليها، فهل دلني قلبي على الصواب أو لعله خدعني؟ لا أدري، وعلى كل حال يكفيني أن يكون الأمير عالما بما له في القلب من الحب الشديد، على أني لا أكلفه مثله أو جانبا منه؛ لأن الحب لا يكون قهرا.» قالت ذلك وغصت بريقها وسكتت.
وكان عبد الرحمن يعتقد أن ميمونة تحبه، ولكنه لم يسمع منها مثل ذلك العتاب قبلا، فتبادر إلى ذهنه أنها اندفعت إلى العتاب غيرة عليه من مريم، والغيرة تفعل العجائب فأراد أن يتأكد من ذلك فقطع حديثها قائلا: «هل رأيت الضيفة الجديدة؟»
فسرت ميمونة؛ لأن عبد الرحمن بدأ بذكرها، فأجابت على الفور: «كيف لم أرها وقد وقفت نفسي لخدمتها منذ أن وصلت، لعلمي أن ذلك يرضي الأمير ولم أفارقها إلا ساعة في هذا الصباح لاشتغالها في غرفة القهرمانة مع الأمير هانئ!» قالت ذلك وهي تتظاهر أنها تقوله بسذاجة وسلامة ضمير، وأصغت بكل جوارحها لما عساه أن يبدو من عبد الرحمن بعد سماعه ذلك الخبر.
أما هو فأحس بشيء من الغيرة وتذكر أن والدة مريم إنما ادخرتها له، وفكر في اختلاء هانئ بمريم على تلك الصورة، فلم ير سببا غير الحب المتبادل بينهما، فحدثته نفسه لأول وهلة أن يمنع هانئا من ذلك، ولكن حبه لهانئ ورغبته في أن يستمر الوفاق معه إلى نهاية تلك الحرب - كما شرطاه على نفسيهما - غلب على ذلك الشعور، وتصور ما هم فيه من الأمر العظيم والخطر الشديد، فأسر في نفسه أنهم إذا فرغوا من هذه الحرب فائزين وظل هانئ على ما شرطه على نفسه من البسالة والثبات ساعده على الظفر بها، فتجلد عبد الرحمن وأجاب ميمونة وهو يظهر عدم المبالاة: «لكن هانئا خرج الآن من عندها، وشاهدت مريم مع القهرمانة، وقد سرني ارتياحها للإقامة في الخباء، فأرجو أن تعيريها اهتمامك؛ لأني موص بإكرامها ولي في ذلك غرض أرجو أن تساعديني على تحقيقه.»
فلما سمعت ميمونة قوله استغربت ما يكتمه من أمر هذه الفتاة، وتأسفت لذهاب سعيها هباء منثورا، ولكنها أرادت أن تتحقق من الأمر، فبالغت في التجاهل وإظهار السذاجة، وقالت: «أؤكد يا مولاي أني فاعلة ما تريده، وفي الحقيقة إن هذه الفتاة من نوادر الخلق جمالا وعقلا ورزانة وهي قريبة إلى كل قلب، لا يستطيع جلسيها إلا أن يحبها فإذا كنت لا أكرمها إكراما لمولاي الأمير فإني أفعل ذلك حبا لها ولا بأس إذا أحبها الأمير أكثر من سائر نسائه؛ لأنها أهل لذلك.»
فخشي عبد الرحمن إذا طال الحديث أن يبدو منه ما لا يريد التصريح به، فابتدرها قائلا: «لقد خرج بنا الحديث عن الموضوع، ما الذي دعوتني من أجله الآن؟»
فأظهرت الاهتمام وقالت: «دعوتك لأمر هام وكان يجب ألا أتحدث عنه وربما كان فيه وحده ما يغنيني عن الأدلة على حبي للأمير عبد الرحمن وتفاني في خدمته فاعلم يا مولاي أني بثثت العيون من بعض الأفراد الذين تركتهم لخدمتي لاستطلاع أحوال العدو بعد سقوط بوردو، فعلمت أن الكونت أود ورجاله متربصون لكم في مضيق دردون على مقربة من هذا المكان، والمضيق في طريقكم إلى نهر لوار.»
ولم يكن عبد الرحمن غافلا عن أخبار عدوه؛ لأن جواسيسه كانت في كل الأنحاء وأكثرهم من أهل البلاد الأصليين وخصوصا اليهود فإنهم كانوا يبذلون كل رخيص وغال في سبيل مساعدة المسلمين انتقاما من المسيحيين، وطمعا في الغنائم كما تقدم، فلم يكن خبر أود ودردون ليخفى على عبد الرحمن ولا كانت ميمونة تجهل اطلاعه عليه ولكنها تجاهلت وأظهرت الاهتمام بأمر الجند، وأوهمته أنها اطلعت على السر بسعيها الخاص ولو علمت أنه يجهل ذلك الخبر لبالغت في كتمانه ، فسايرها عبد الرحمن وأظهر أنه فرح بذلك الخبر كي يحفزها على مصارحته بأخبار أخرى، فقال لها: «بورك فيك يا ميمونة قد تحققت الآن من حبك لنا وسعيك لنصرنا، وأرجو ألا تغفلي عن مثل هذه الأخبار.»
لم تكن ميمونة تجهل اطلاع عبد الرحمن على ذلك الخبر من قبل، ولكنها تجاهلت التماسا لما يبرر لها استقدامه في ذلك الصباح لتطلعه على حب هانئ لمريم إيقاعا للفتنة بين الأميرين، وقد ساءها أن حيلتها لم تأت بالفائدة المطلوبة، ونسبت إخفاق مسعاها إلى سعة صدر عبد الرحمن وطول أناته، فأضمرت أن تحول سهام مساعيها نحو هانئ؛ لأنه شاب لا يصبر على الغيظ، وغرضها الأول إيقاع الفتنة بين القائدين وفي خصومتهما فشل الجند الكبير، فعزمت على تدبير الحيلة في وقت آخر، ولما سمعت ثناء عبد الرحمن على سعيها في خدمته ابتسمت ونظرت إليه نظرة عتاب ودلال واستعطاف ولولا رزانة عبد الرحمن وقوة إرادته لخرقت تلك النظرة صدره إلى قلبه، ولهاجت فيه لواعج الغرام وأنسته الجند والنصر الذي يسعى إليه، لما في عينيها من عوامل الجاذبية وما حول فمها من الملامح الفتانة وما في مجمل ذلك من السحر الآخذ بالألباب، ولا غرو إذا عبر الشعراء عن تلك الجاذبية بالسحر؛ لأن أثرها لا يمكن تعليله بغير السحر، وربما عبر عنه بعض علماء الطبيعة اليوم بالكهربائية، فمن كان حسنه جذابا قالوا إن كهربائيته قوية.
الفصل الثاني والعشرون
من شق الحائط
فلما نظرت ميمونة إلى عبد الرحمن تلك النظرة فهم أنها تعاتبه على ذلك القول ولسان حالها يقول له: «إني قتيلة هواك، متفانية في خدمتك.» فسره افتتانها به رغبة في الإفادة منها لما ينفع الجيش، فابتسم لها وهش وفي ظنه أنه بذلك يزيدها تفانيا في خدمته، وهي كلما رأت منه عطفا بالغت في إظهار الافتتان به، فلما علم عبد الرحمن أنها فرغت من التصريح بالخبر الذي استقدمته لأجله نهض وهم بالخروج، فنهضت ميمونة وهي تقول: «لولا علمي بالمهام الكثيرة التي تتعلق بذهابك أيها الأمير لتوسلت إليك أن تبقى هنيهة أخرى فهل أنت عازم على الذهاب لملاقاة العدو قريبا؟ وإذا ذهبت فهل تتركني هنا؟»
فأدرك أنها تقول ذلك تدللا فلم يجبها بغير الابتسام، وخرج مسرعا يلتمس جواده ليرجع إلى المعسكر، فمشت ميمونة في أثره حتى إذا أوشك على الوصول إلى باب الخباء سمعته يقول: «مرحبا بالأمير هانئ ألا تزال هنا؟ لماذا لم تدخل إلى الخباء؟» فازدادت ميمونة استغرابا من ذلك الترحاب. •••
فتقدم هانئ وهو يلتف بعباءته وليس في وجهه وجل ولا خجل، وقد أكبر أن يرجع إلى المعسكر رجوع الهارب بعد أن علم عبد الرحمن بوجوده هناك شق عليه أن يفعل ذلك أنفة وكبرا وخصوصا بعد أن علمت مريم به، فلما أوعز إليه غلام عبد الرحمن بالذهاب إلى المعسكر وقف ورجله في الركاب لا يتكلم ولا ينتقل، وخيل له أن مريم تنظر إليه تراقب حركاته فلبث حينا واقفا ثم تحول عن الجواد بغتة ومشى نحو باب الخباء يلتمس لقاء عبد الرحمن فقيل له إنه في خلوة لا يراه فيها أحد، فعزم على انتظاره فجعل يخطر أمام الخباء وعيناه تراقبه. •••
وكانت مريم لما تركها عبد الرحمن مع القهرمانة عادت إلى التفكير في هانئ وخروجه على تلك الحالة، فأرادت أن تستطلع أمره فتحولت إلى جدار الخباء، ونظرت من شق فرأت هانئا يتمشى خارجا وعباءته وسيفه يجران وراءه وهو يلاعب شاربه ولحيته ويتمايل بمشيته كالأسد، فاختلج قلبها في صدرها سرورا برؤيته، وودت لو أنها تخاطبه ولكنها خافت من القهرمانة، فاكتفت بالنظر إليه وتأمل حركاته على غفلة منها، وبعد قليل سمعت ضجة في الخباء فعلمت أن عبد الرحمن خارج، فأحبت أن تعلم ماذا يكون من أمره إذا لقي هانئا، فتحولت بحيث تراهما ولا يراها أحد لاشتغال القهرمانة وسائر أهل الخباء بوداع الأمير، فرأت هانئا يمشي نحو عبد الرحمن حتى التقيا، وسمعت عبد الرحمن يخاطبه مخاطبة الأخ ويعاتبه على تخلفه، وهانئ يدل عليه دلال الابن على أبيه، وعبد الرحمن يبتسم له ويرحب به، وسمعت هانئا يقول وهو يخطر نحوه: «بلغني أنك سألت عني.»
فأجابه عبد الرحمن وهو يقترب منه حتى وضع يده على كتفه: «وهل يسأل المرء إلا عن أخيه أو حبيبه؟» قال ذلك وابتسم وأهل الخباء يسمعون، وأكثرهم سرورا بذلك مريم وأشدهم غيظا ميمونة، ثم مشى عبد الرحمن ويده بيد هانئ فقدموا لهما الأفراس فركبا إلى المعسكر وحولهما الخدم والأعوان. •••
وظلت ميمونة ومريم تنظران إلى ذلك الركب وكل منهما في ناحية وقلبها في ناحية أخرى حتى تواروا، فعادت ميمونة إلى خلوتها وأعملت فكرتها في حيلة أخرى وقد أسفت أسفا لا مزيد عليه لفشلها وذهاب سعيها هباء.
الفصل الثالث والعشرون
المكاشفة
أما مريم فإنها عادت من وراء ذلك الجدار وقد شبت نيران الحب في قلبها، والتمست الخلوة لتسترجع ما دار بينها وبين حبيبها استئناسا بذكراه، ومخافة أن يكون قد بدر منها ما تؤاخذ عليه، جلست في غرفتها هنيهة كأنها في عالم الخيال، ثم انتبهت للقارورة وكانت لا تزال في قبضتها، فنظرت إليها وفتحتها واشتمت رائحتها فطربت لها واستأنست بها؛ لأنها من هانئ، وصبت قليلا من الطيب على كفها دهنت به شعرها ووجهها وكفيها ففاحت رائحة الخباء بطيبها.
وبينما هي في خلوتها دخلت ميمونة وهي تبتسم ابتسام محب معجب بحبيبه، فقابلتها مريم بمثل ابتسامتها وقد ارتاحت إليها وتاقت إلى مكاشفتها بما شغل خاطرها من الحب، ولكنها أمسكت لئلا يكون في ذلك ما يغضب حبيبها، على أنها رحبت بميمونة وتحفزت للوقوف احتفاء بها فسبقتها ميمونة إلى الحديث، فقالت وهي تهش لها: «أراك عدت من غرفة القهرمانة وقد زدت طيبا.»
وكانت القارورة لا تزال في قبضتها، فضحكت وبدا الحياء في وجهها، وبادرت إلى القارورة فخبأتها في جيبها ولم تحر جوابا.
فأدركت ميمونة أن بين تلك القارورة وهانئ علاقة، فعمدت إلى اكتشاف سرها منها، فقالت: «لقد زادك الحياء طيبا يا حيبيبتي لعل هذا الطيب من ضيفك البطل الصنديد الأمير هانئ، أرجو ألا يكون من سواه؛ لأنه يليق بك، ولو خيرت أن تنتقي لك حبيبا من بين رجال العالمين لما وقع اختيارك على خير منه.»
فأدركت مريم اطلاع ميمونة على ذلك السر، ولكنها تجاهلت وقالت: «كيف تحكمين على الأمر قبل التثبت منه؟ من أين عرفت ذلك؟»
قالت وهي تضحك وتقترب من مريم: «عرفته من مصدر وثيق، وتحققت منه بقرائن الأحوال وإذا كنت تنكرين ذلك علي فإن ملامحك تشهد عليك، على أنني لا ألومك على التستر؛ لأن الحب يحلو بالكتمان، وقد كان يجدر بي أن أسايرك وأظهر اقتناعي بإنكارك، ولكنني لم أرض بذلك شفقة عليك وحبا لك.»
فلما سمعت مريم قولها استغربت تلميحها بالشفقة، ولم تفهم مرادها فرفعت بصرها إليها وقالت: «لم أفهم مرادك من الإشفاق هل في حالتي ما يبعث على الشفقة؟ أفصحي.»
قالت ميمونة: «لا أقول شيئا قبل أن تثقي بحبي لك وغيرتي على مصلحتك.»
فقالت مريم: «أنت تعلمين أني أحببتك وقد وثقت بك من أول نظرة، وخصوصا بعد ما شاهدته من مظاهر حبك، فلا حاجة بعد ذلك إلى برهان.»
قالت ميمونة: «صدقت يا حبيبة، إني أشعر من قلبي بإخلاصك، ولكنني أخشى أن أقول لك قولا تحملينه على غير محمله، ومع ذلك فإني أفعل ما تدعوني إليه محبتك، نعم ليس هناك ما يدعو إلى القلق الكثير، ولكنني اختبرت هؤلاء العرب واطلعت على سجاياهم - وفي جملتها أنهم يغارون على أعراضهم غيرة شديدة - وأنت تعلمين أنك هنا في خباء الأمير عبد الرحمن، وكل من في هذا الخباء من نسائه فيجدر بك أن تحاذري من التظاهر بشدة ميلك إلى الأمير هانئ في حضرته، وأظن أن الأمير هانئا نفسه يتوقع ذلك، لا تظني أنني أقول هذا بناء على قول سمعته فإني واثقة من حب الأمير عبد الرحمن لهانئ فهو لا يمنع عنه شيئا يريده؛ لأنه يعتمد عليه في هذه الحرب، وهو يمينه التي يناضل بها، ولكني أردت أن أنبهك لعلمي أن هانئا يريد ذلك منك وإن كان لا يظهره لك أنفة وترفعا، وأما أنا فقد خبرت عادات القوم وآدابهم في هذا الشأن، ولعلك سمعت عن منزلتي عند الأمير عبد الرحمن وإلا فإني أخبرك أني أقرب نسائه إليه وهو يعتمد علي في كثير من المهام ، فإذا علمت ذلك فكوني على يقين من أن الأمير عبد الرحمن لا يفعل إلا ما يرضيك.»
فقبلت مريم تلك النصيحة بإخلاص وازدادت ثقة بميمونة بعد ما عرضت من مساعدتها، وهان عليها مكاشفتها بما في قلبها فالتفتت إليها وقد انبسطت نفسها، وقالت: «أشكرك على ذلك يا سيدتي، وسأعمل حسب إشارتك ولا ريب أنك تعلمين بذلك كله، وأنت من أكثر نساء هذا الخباء ذكاء وفطنة.»
فاكتفت ميمونة من ذلك الحديث بما وصلت إليه، وأرادت الانتقال إلى موضوع آخر فقالت: «ذكرت لك الطيب فلم تجيبيني عليه أين القارورة؟»
فمدت مريم يدها وأخرجت القارورة ودفعتها إلى ميمونة ففتحتها واشتمت رائحتها، وهي تقول: «لم أصادف في حياتي مثل رائحة هذا الطيب، إنه طيب خاص ليس عند أحد من أهل هذا الخباء مثله.» قالت ذلك وأرجعت القارورة ولم تمس ما فيها.
فقالت مريم: «تطيبي بشيء من هذا الطيب فإنك أهل لذلك.»
فامتنعت ميمونة وهي تسد القارورة وتقول: «لا يجوز لأحد سواك أن يمس هذا الطيب؛ لأنه هدية لك خاصة.» ودفعت إليها القارورة وهي تبالغ في الامتناع.
فاستحسنت مريم تمنعها وازدادت ثقة بصدق مودتها، ففتحت لها قلبها وصارت لا تستأنس إلا بقربها مع ميل إلى مكاشفتها بعواطفها، وميمونة تعمل فكرتها لاستخدام ذلك عند الحاجة.
الفصل الرابع والعشرون
الاطمئنان
أما عبد الرحمن وهانئ، فإنهما ركبا وسارا نحو المعسكر وحولهما الفرسان في موكب، وكل منهما يفكر في جهة، ومرجع التفكير إلى مريم فكان هانئ يتذكر ما دار بينه وبينها، وما آنسه من مجاملة عبد الرحمن ولطفه على حين أنه كان يتوقع امتعاضه فإذا تذكر ذلك انشرح صدره؛ لأنه كان يخشى إذا بدا من عبد الرحمن برود أن يئول ذلك إلى نفور ضار وكان عبد الرحمن يفكر في سالمة وما دار بينه وبينها في أمر مريم وتلميحها بأنها ستكون له بعد الفراغ من تلك الحرب لسر لم تصرح له به، وتذكر استلطافه مريم وتصور ما هي عليه من الجمال والهيبة، ثم ما ظهر له من الحب المتبادل بينها وبين هانئ فلما بلغت تصوراته إلى ذلك الحد شعر بغيرة شديدة، ولكنه تذكر ما هم فيه من الحرب وشدة احتياجه إلى هانئ حتى إن النجاح يتوقف على اتفاقهما، وعلم أن ذلك الاتفاق لا يتم إلا بارتياح هانئ، وارتياحه لا يكون إلا بتيسير ظفره بمريم فلما تمثل له ذلك، عاد إلى عقله وسعة صدره، فهان عليه إرضاء هانئ وخشي أن يكون في سكوته في أثناء الطريق باب للشك، ففتح الحديث قائلا: «ألم تحمد الله على انتصارنا في هذه الحرب يا هانئ؟»
قال: «لقد حمدته كثيرا على ذلك، والفضل فيه يرجع إلى بسالة الأمير عبد الرحمن وتدبيره.»
فقال الأمير عبد الرحمن: «بل الفضل فيه للأمير هانئ قائد فرساننا بل أرى الفضل فيه لما وفقنا إليه من الوفاق المتبادل، وأرجو أن يبقى ذلك إلى نهاية هذه الحرب.»
قال: «وأنا أرجو ذلك أيضا، وإذا تم لنا الفتح كان فيه الفخر للعرب كافة؛ لأننا فتحنا لهم بلادا واسعة يحكمون أهلها ويجبون خراجها وينشرون الإسلام فيها.»
فقال الأمير عبد الرحمن: «وأظن سرورك بفتح بوردو يعادل سرورنا جميعا بما فتحناه وسنفتحه من البلاد؟» قال ذلك وابتسم.
فأدرك هانئ تلميحه إلى مريم فضحك وقد انشرح صدره، وقال: «لا أستطيع إنكار ذلك أيها الأمير؛ لأنه يبدو في كل حركة من حركاتي، وأرجو أن يكون أخي مسرورا معي.»
قال: «إني أسر بكل ما يسرك، وثق أني عون لك في كل ما تريده، ولكنك تعلم ما عاهدت نفسي عليه منذ ركبت هذا المركب الخشن.»
فلم يفهم هانئ مراده، فقال: «وأي عهد تعني؟»
قال: «إني عاهدت الله ألا أقرب النساء قبل أن أفرغ من هذه الحروب أو أن نقطع نهر لوار على الأقل فهل أنت على هذا الرأي؟»
ففهم هانئ مراده، فقال: «نعم إني أعاهد الله على هذا أيضا، وقد كان اهتمامي بالنساء كما تعلم ضعيفا فلم أتزوج امرأة ولا اقتنيت جارية ولولا وقوع هذه الفتاة من نفسي موقعا عظيما ما غيرت رأيي، أما الآن، فأعترف لك أني قد تعلقت بمريم وهي كما ترى أهل لذلك.»
فقطع عبد الرحمن كلامه قائلا: «إنها من خيرة النساء جمالا، وإذا وفقنا إلى ما نرجوه من النصر كنت أول من يسر بظفرك بها، غير أني أرجو أن يبقى ذلك مكتوما عن كل إنسان لأسباب تعلم بعضها وتجهل البعض الآخر، ولا تكلفني التصريح بأكثر من ذلك.»
فأحس هانئ من تلك الساعة بثقل أزيح عن صدره وارتاح باله، وإن كانت إشارة عبد الرحمن إلى الأسباب التي لا يعلمها قد شغلت خاطره قليلا، على أنه شعر بميل شديد إلى مكاشفة مريم بما دار بشأنها مع عبد الرحمن، وذلك طبيعي في المحبين، فإنهم يتلذذون بمكاشفة بعضهم بعضا بأخبار الناس فكيف بما يتعلق بهم ولا سيما ما كان مرجعه إلى تحقيق أمانيهم، وعلى الأخص إذا اؤتمن أحدهم على سر وطلب إليه كتمانه، فإنه يزداد ميلا إلى مشاركة حبيبه الاطلاع عليه، كأنه يعد ذلك إكراما له بشيء ثمين اؤتمن هو عليه.
ثم عاد الأميران إلى السكوت مدة، والركب ماش، حتى دخلوا المعسكر وكان الجند قد فرغوا من اقتسام الغنائم وهم فرحون بما نالوه منها وخصوصا البرابرة لما علمت من مطامعهم وظل الأميران سائرين حتى وصلا خيمة الأمير عبد الرحمن فدخلا، ثم صفق عبد الرحمن فجاءه أحد الغلمان فقال له: «ادع الأمراء إلي هنا الساعة.»
فلما خرج الغلام التفت عبد الرحمن إلى هانئ، وقال له: «لقد علمت من أخبار الجواسيس وغيرهم أن طاغية أكتانيا الكونت أود معسكر بجنده في مضيق دردون على بضع ساعات من هذا المكان، فينبغي لنا أن نبادر بالهجوم قبل أن يتأهبوا للدفاع فإذا غلبناهم وقتلنا أميرهم ذهب عنا نصف العناء في هذا الفتح أو هو العناء كله، ولم يبق من يقف في سبيلها إلى نهر لوار فماذا ترى؟»
قال هانئ: «أرى أن نبادر إلى الحرب، وروح الجند المعنوية ما تزال عالية من أثر النصر.»
قال عبد الرحمن: «متى حضر الأمراء استشرناهم، ولا أظنهم إلا موافقين على الزحف، فنرحل برجالنا ونترك الأخبية في مكانها وعندها بعض الحامية والغنائم فإذا هزمنا الإفرنج بإذن الله حملنا نساءنا وغنائمنا، وسرنا إلى تورس على نهر لوار.»
وبعد قليل جاء الأمراء وهم بضعة عشر أميرا، وفيهم العربي والبربري والشامي والمصري والنبطي وغيرهم، وفي جملتهم الأمير بسطام، فعرض عبد الرحمن عليهم رأيه وساعده هانئ على تنفيذه فوافقوا جميعا على الرحيل في صباح الغد على أن يتركوا النساء في الأخبية حيث أقيمت، فلما أجمعوا على ذلك، التفت عبد الرحمن إليهم وقال لهم: «أنتم تعلمون أننا سائرون لمحاربة هؤلاء الإفرنج في معسكرهم، والمسافة بيننا قريبة وهم متحصنون في جبالهم فينبغي لنا أن نسير إليهم خفافا، ولا يخفى عليكم ما أصابه رجالنا من الغنائم في أثناء الفتوح التي وفقنا إليها منذ خروجنا من الأندلس وهي ثقيلة، حتى لقد ثقل على الرجل حمل غنائمه وحدها بلا حرب فكيف إذا اضطر إلى الهجوم والركض، فالرأي على ما أرى أن يتركوا غنائمهم في هذا المعسكر بقرب الأخبية فتبقى هناك هي والنساء ونجعل معها حامية من رجالنا فإذا بلغنا من عدونا ما نريده أضفنا إليها ما نغتنمه منهم.» قال عبد الرحمن ذلك وهو يتوقع معارضة بعضهم لعلمه بحرص أولئك القوم على حطام الدنيا، وفيهم من لم يأت إلى تلك الحرب إلا رغبة في الأموال فاستدرك هانئ ما خشيه عبد الرحمن قائلا: «إن الأمير مصيب في رأيه ولا أظنكم إلا موافقين عليه؛ لأننا نخشى إذا جاهد رجالنا وهم مثقلون بالغنائم أن يعجزهم حملها فينوءون تحت أثقالها، ولا يقاتلون كما ينبغي في ساحة الوغى ولا يخفى عليكم ما يترتب على ذلك من الفشل.»
وكان عبد الرحمن يخشى الاعتراض خصوصا من الأمير بسطام لحرص رجاله على الأموال لسبب تقدم ذكره، وكان عبد الرحمن في أثناء كلام هانئ يتفرس في وجوه الأمراء فوجد التردد ظاهرا وخاصة في وجه بسطام، فاستأنف الكلام قائلا: «والذي أراه أن نعهد بحراسة تلك الغنائم إلى الأمير بسطام ومن يختارهم من رجاله، ومعهم جماعة من رجال سائر الأمراء.» •••
فوقع ذلك الرأي موقع الاستحسان عند الجميع، فوافقوا عليه وخرجوا لتنفيذه وليأمروا رجالهم بالتأهب للرحيل صباح الغد .
فذهب هانئ إلى خيمته، ولم ينم تلك الليلة لما خالج أفكاره من الهواجس بمريم على أثر ما سمعه من عبد الرحمن، حتى حدثته نفسه أن يطير إليها في ذلك الليل ويكاشفها بما دار بينه وبين عبد الرحمن بشأنها، ويخبرها بعزمهم على الرحيل إلى محاربة الإفرنج، ويصبرها حتى ساعة الرجوع، وقد زاده رغبة في الذهاب إليها أنه فارقها ولم يتمكن من وداعها كما يريد، ولكنه تذكر أهمية وجوده في الصباح هناك وخشي أن يغضب عبد الرحمن فرجع عن عزمه.
الفصل الخامس والعشرون
المنديل
وفي الصباح، قام المسلمون للصلاة ثم نفخ في النفير فتأهبوا للسير، وساروا كأنهم بحر يتلاطم بالأمواج وفيهم الفرسان والمشاة وبينهم الرماحة والرماة وقائد الفرسان العام هانئ، وقد ركب جواده ولبس خوذته والتف بعباءته، وقوضوا الخيام، ولم يتركوا منها إلا ما وضعوا فيه غنائمهم، ومعها الأمير بسطام وبعض رجاله ونفر من رجال القبائل الأخرى.
وبعد المسير بضع ساعات، أشرفوا على جبال أخبرهم الجواسيس أن أود ورجاله متحصنون فيها فنزل المسلمون في سهل بالقرب من ذلك المضيق، وترجل الفرسان وسرحوا خيولهم للعلف والراحة، على أن يستريحوا ريثما يطيب لهم الهجوم وقد أقاموا الحراس حول المعسكر وبثوا سراياهم، يستطلعون أحوال أعدائهم ومناعة مواقعهم ليعلموا من أين يهاجمونهم، وذهب هانئ للاستراحة في خيمته، وفي المساء جاءت الطلائع فأخبروا أن الإفرنج مقيمون في الجبال - وهم كثيرون - وقد تحصنوا وأقاموا لا يبدون حراكا، فاجتمع أمراء المسلمين وتفاوضوا في الأمر، فرأوا أن الهجوم على حصون الإفرنج شديد الخطر، فتمهلوا ليروا ما يبدو منهم فإذا لم يخرجوا من حصونهم فكروا في الهجوم عليهم. «فنزل المسلمون في سهل بالقرب من مضيق، على أن يستريحوا ريثما يطيب لهم الهجوم وقد أقاموا الحراس حول المعسكر، وبثوا سراياهم يستطلعون أحوال أعدائهم.»
فبات هانئ تلك الليلة وقد عادت إليه هواجسه، وعاد إلى التفكير في مفارقة المعسكر بضع ساعات، ولا خطر على الجند في غيابه للأسباب التي قدمناها على أنه ظل مترددا في الذهاب خشية الفشل، وحياء من عبد الرحمن.
فأصبح في اليوم التالي وخرج على قدميه، وقد تراكمت عليه الهواجس، وهو يفكر في حاله وحال مريم وحال الجند، وبينما هو يتمشى في سهل خارج المعسكر، رأى رجلا بلباس عربي قادما من عرض البر يهرول نحوه ويشير إليه، فوقف فلما دنا الرجل منه تفرس هانئ فيه فإذا هو ملثم، فناداه فمد الرجل يده إلى جيبه وأخرج منديلا وسلمه إلى هانئ، فلم يكد هانئ يتسلم المنديل حتى شم منه رائحة مريم، عرف ذلك من طيبها الذي أعطاه لها بالأمس، فصاح في الرجل: «من أنت؟ وما خبرك؟»
فقال: «إن هذا المنديل ينبئك نيابة عني أن صاحبه في حاجة إليك على عجل.» قال ذلك وسار يعدو في عرض البر فبهت هانئ ثم انتبه لنفسه وصاح في الرجل أن يقف لم يلتفت إليه، فوقف هنيهة وهو يفكر فيما عسى أن يكون سبب تلك الدعوة المستعجلة، ولم يشك في أن المنديل مرسل من مريم وأن الطيب طيبها، فلم ير بدا من المبادرة إلى إجابة الدعوة وهو مطمئن البال على المعسكر، وأسرع إلى خيمته فركب جواده والتف بعباءته وسار يلتمس الخباء، ولم ينبئ أحدا بمسيره لعلمه أنه سيعود قبل انقضاء النهار، فلا بأس من غيابه، وخشي إذا شاور عبد الرحمن أن يستخف بعمله أو أن يمنعه من الذهاب.
سار هانئ وهو يستحث جواده لا يلتفت يمينا ولا شمالا حتى وصل إلى الخباء، وقد مالت الشمس على خط الهاجرة وتبلل هو وجواده بالعرق، وحال وصوله ترجل ودخل توا إلى خباء الأمير عبد الرحمن، واستدعى القهرمانة فجاءت وهي تتوكأ على فخذيها وتمشي الهوينا وحالما وقع نظرها عليه ابتدرته قائلة: «أين مريم؟»
فبغت لسؤالها وقال لها: «أتسألينني عن مريم وأنا إنما جئت لأسألك عنها أين هي؟»
قالت: «هي عندك ألم تبعث في طلبها هذا الصباح؟»
قال هانئ: «أنا؟ بعثت في طلبها؟ أين هي؟ قولي إن الوقت لا يساعدنا على المزاح.»
فقالت وقد ظهرت علامات الدهشة على وجهها الكالح وامتقع لونها: «أظنك أنت الذي تمزح، ألم تبعث إليها في هذا الصباح مع رسولك ومعه جوادك وعباءتك وخوذتك؟»
فصاح فيها وقد اشتد غضبه: «كلا لم أبعث أحدا، وهذا جوادي معي، وهذه عباءتي فكري فيما تقولين، قولي الحق وإلا قطعت رأسك بهذا السيف.» قال ذلك ويده تمسك بسيفه فخافت القهرمانة وتحيرت بماذا تجيبه، وقد ارتج عليها من الخوف والدهشة، وقالت: «تمهل يا بني لأقص عليك الخبر جاءنا في هذا الصباح رجل أظنه من رجالك، وقد ركب جوادا ومعه جواد آخر أدهم لم تشك أنه جوادك عليه عباءة وخوذة وقال لي إنك تطلب مريم حالا بأمر الأمير عبد الرحمن لأمر ضروري يتعلق بوالدتها، ودفع إلي هذا الكيس (ومدت يدها وأخرجت كيسا فيه دراهم) فامتنعت في بادئ الأمر ولم أطعه، فألح علي وأراني الجواد والعباءة، وقال لي إنك تطلب مريم لغرض عاجل يتعلق بالحرب، وإنك بعثت لها جوادك لتركب عليه فرفضت طلبه فذكر لي علامة لا يعرفها أحد سوانا وهي قارورة الطيب، وذكر أيضا تدليلا على صدقه أنك اجتمعت بمريم عندي وأعطيتها قارورة الطيب فلم أستطع إلا تصديقه، ومع ذلك فإني لم أسلم بإرسالها إلا بعد أن أتى بعلامة من الأمير عبد الرحمن لا يعرفها سواي، وأخيرا سلمته إياها وأنا خائفة عليها، ولشدة خوفي أخرجت معها أكثر نساء الأمير عبد الرحمن حظوة عنده وأوصيتها بها.»
وكان هانئ يسمع كلام القهرمانة وهو يرتعد من شدة الغضب فلما تحقق من ذهاب مريم، قال: «ومن هي تلك الحظية؟»
قالت: «هي ميمونة الإفرنجية أظنك تعرفها.»
قال: «نعم أعرفها، وإلى أين ذهبا؟ وكيف؟»
قالت: «حينما توهمت صدق ذلك الرسول، ورأيت مريم راغبة في الذهاب أذنت لها فيه، فركبت الجواد الأدهم وركبت ميمونة جوادا آخر، ومضوا نحو المعسكر.»
الفصل السادس والعشرون
البحث عن مريم
فوقف هانئ وهو ينتفض انتفاضا شديدا من شدة التأثر، والقهرمانة واقفة بين يديه وقلبها يخفق خوفا، وقد أخذت تخفف من غضبه قائلة: «لا بأس عليها يا بني إن ميمونة تحبها حبا شديدا، وأظنها تحرص عليها كثيرا اجلس وخفف عنك لا بأس عليها.»
فلم يلتفت هانئ إلى كلامها ولكنه ثاب إلى رشده وفكر فيما سمعه، فتذكر أن القهرمانة ذكرت والدة مريم، فظن أن للأمر سببا متصلا بسر تلك الوالدة منذ رأوها لأول مرة بعد فتح بوردو، وخيل له أن سالمة احتالت تلك الحيلة لاسترجاع ابنتها ولكنه تذكر القارورة، فرأى أن ذكرها لا ينطبق على ذلك الظن، فلم يدر ماذا يقول، فلما تشابه الأمر عليه، رأى أن يسرع إلى المعسكر للبحث عنها، فتذكر للحال أن الأمير بسطاما هناك، فتبادر إلى ذهنه أن الأمير المذكور هو الذي احتال هذه الحيلة لاختطاف مريم منه؛ لأنه لم يزل عالقا بها منذ يوم الفتح، فالتفت هانئ إلى القهرمانة وقال: «تقولين إنهما سارا نحو هذا المعسكر؟» وأشار إلى معسكرهم بالأمس.
قالت: «نعم يا مولاي.»
فأسرع إلى جواده فركبه وحول وجهته نحو ذلك المعسكر، وهمز الجواد وأطلق له العنان.
وقد عزم على أن يقتل بسطاما إذا رأى مريم عنده، ومع سرعة عدو الجواد فقد كان يحسبه واقفا.
وكان في المعسكر مضارب قليلة للغنائم، وحولها الحراس من رجال بسطام وغيرهم ولما أشرف عليهم هانئ رآهم يختصمون ويتضاربون وقد علا ضجيجهم، فلما رأوه تقدم بعضهم وهم يستغيثون فصاح فيهم: «ما الخبر؟»
فقال أحدهم: «نشكو إليك ظلم الأمير بسطام، فإنه أوصى رجاله فاستأثروا بالغنائم، وأخذوا من أنصبة رجالنا فأضافوها إلى أنصبتهم ولم يسمع هو لصراخنا.»
فازداد هانئ غيظا من بسطام، وصاح: «أين بسطام؟ أين هو؟»
ولم يتم كلامه حتى خرج إليه بسطام وهو يمشي الهوينا، ويترنح ترنح السكران فلما رآه هانئ لم يتمالك أن صاح فيه: «ما هذه الجرأة على اغتصاب أموال المسلمين؟ قد أمنك الأمير على الغنائم فاستأثرت بها وسطوت على حقوق المسلمين لقد صدق القائلون إنك لست مسلما.»
فقهقه بسطام وهو يمسح لحيته من بقايا طعام تساقط عليها كأنه كان على المائدة، وقال: «مالك وللغنائم ألم تشغلك تلك النصرانية عنها؟ دع الحرب واذهب إلى الخباء فإنك أولى بمعاشرة النساء ولكنك ستذوق عاقبة غيك قريبا.» قال ذلك وهو يضحك كأنه قد ضمن فوزه.
فحمي غضب هانئ من تلك العبارة حتى غاب عن رشده، فاستل حسامه وساق جواده نحوه وأطلق الحسام وهو يتعمد قطع رأسه، فخلا بسطام من الضربة فهوى هانئ حتى كاد يقع عن جواده فازداد حنقا وحول الشكيمة نحوه، وانقض عليه انقضاض الصاعقة، فتوسط بعض الرجال بينهما وهانئ لا يبالي بهم، ولم يعد يصبر عن قتل بسطام ففر بسطام إلى إحدى الخيام واختبأ فيها، فهم هانئ أن يترجل ويتبعه فأحاط بعض الرجال بجواد هانئ وتوسلوا إليه أن يغمد سيفه حبا للإسلام والمسلمين، فرجع هانئ إلى رشده ووقف وهو يرتجف من شدة الغضب، كأن ذكر الإسلام خفف من غضبه وسكن من روعه، وخاصة حينما تصور ما قد ينجم عن قتل بسطام من الخصام بين فرق الجند، فامسك نفسه وتجلد واكتفى بفرار بسطام وعاد إلى الأمر الذي جاء من أجله، فعمد إلى البحث عن مريم هناك فجعل ينظر في الخيول الواقفة حول الخيام فلم ير بينها جوادا أدهم ولا رأى هناك نساء، فسأل بعض الوقوف ممن يثق بهم من رجاله عمن في الخيام، فقالوا له: «ليس فيها غير الغنائم.»
فخلا بنفر يعرفهم، وسألهم: «هل مر بكم ركب على أفراس ومعهم نساء؟» فقالوا: «كلا إننا هنا منذ الأمس، ولم نر أحدا.»
فوقف في حيرة، وقد عادت إليه هواجسه عن مريم وذهابها، والتفت إلى ما يحيط به من السهل وأكثره عار من الأشجار إلا بعض التلال، عليها الدالية من الكرم وبعض أغراس الزيتون فلم ير أشباحا، فتحير في أمره وحدثته نفسه أن يعود إلى دردون لعلهم ذهبوا بمريم إلى هناك.
وكانت الشمس قد مالت عن الهاجرة والجواد قد أنهكه التعب فخشي إذا بالغ في سوقه وهو في تلك الحال أن يعجز عن مواصلة السير، وهو إذا لم يستحثه لا يصل إلى المعسكر قبل العشاء على أنه لم يجد بدا من مراعاة حال الجواد، فحول شكيمته وتوجه نحو دردون.
الفصل السابع والعشرون
المنزل الخالي
أما مريم، فإنها خرجت في ذلك الصباح مع ميمونة - كما تقدم - وقد ركبت على ذلك الجواد الأدهم، وتزملت بالعباءة، وعلقت الخوذة بالسرج، وساقت الجواد في أثر الرسول وميمونة على جواد آخر بجانبها وهي تنظر إلى مريم على الجواد، منتصبة القامة كأفرس الفرسان، وكانت ميمونة تظهر دهشتها لذلك الطلب العاجل، وأنها إنما رافقتها لحمايتها مما قد يكون من بواعث الخطر على أثر ذلك، أما مريم فكانت تستحث جوادها وأفكارها تائهة في عالم التصورات، وصورة هانئ تتخلل كل خيال يمر في ذهنها.
ساروا ساعة ثم أدركوا المعسكر القديم إلى يسارهم عن بعد، وكانت مريم تحسب أنها ستذهب إلى ذلك المعسكر؛ لأنها لم تكن تعلم بانتقال الجند إلى دردون فلما رأت الخيام قليلة سألت الرسول عن مقر الجند وعن المكان الذي يقصدونه، فقال: «إن الجند انتقلوا إلى دردون لملاقاة الإفرنج هناك، وسيعودون إلى هنا وأما نحن فإننا سائرون إلى مكان على مقربة من دردون، أمرني مولاي والأمير أن أوصلك إليه، فإما أن يكون هو في انتظارك هناك أو أنه يأتي بعد وصولك.» فصدقته مريم وامتلأت نفسها شوقا إلى لقاء الحبيب، وساروا على تلك الصورة بضع ساعات، وقد تركوا بوردو إلى يسارهم أيضا حتى وصلوا إلى بناء منفرد قد تداعت جدران سوره، فدخل الرسول أمامهم من باب السور إلى حديقة قد غشيها الإهمال، ولا يخفى على المتأمل فيها أنها من مساكن أهل اليسار وأنهم غادروها منذ بضعة أسابيع فترجلتا ودخلتا الحديقة، فتصدت ميمونة للاعتراض على الرسول غيرة على مريم، فقالت له: «إلى أين أنت سائر بنا؟ إننا على مقربة من دردون على ما أظن وما هذا البيت الذي أدخلتنا فيه؟ احذر أن تكون مخطئا.»
فوقف الرجل متأدبا، وقال: «لست مخطئا يا مولاتي، إننا في قصر أحد أمراء أكيتانيا وقد هجره أهله فرارا من جند المسلمين، وفي هذه المزارع قصور كثيرة هجرها أهلها وبقيت غنيمة للمسلمين.»
فقالت: «وأين الأمير هانئ؟»
قال: «يبدو أنه لم يأت بعد؛ لأني لم أر أثرا يدل على مجيئه، ولكنه لا يلبث أن يأتي سريعا.» قال ذلك ومشى بهما حتى أدخلهما البيت من باب كبير كان مفتوحا، وليس في المنزل إلا بعض المقاعد أو الكراسي الضخمة مما لا يستطاع حمله في أثناء الفرار، وقد استولى السكون على المكان إلا ما كان يتردد من صدى خطواتهم وصهيل الجوادين أما مريم، فلما وصلت ولم تجد هانئا ولا أثرا يدل عليه بدأت تشك فيما احتوته تلك الرسالة، ولكنها سكتت لترى ماذا يكون، وألقت معظم الهم على ميمونة؛ لأنها أكبر منها سنا وأوسع علما بتلك البلاد وبأحوال ذلك الجند، ولم تكن ميمونة تجهل ما يخالج أفكار مريم من هذا القبيل، فكانت تتظاهر بالدهشة أيضا، وتسأل الرسول مثل أسئلة مريم، حتى وصلوا إلى قاعة ليس فيها إلا مقعدان قديمان فجلست ميمونة ودعت مريم للجلوس فجلست وهي تتفرس في المكان وتنظر إلى ميمونة، وميمونة تشاركها في الارتباك قضتا برهة وهما ساكتتان، ومريم تتوقع قدوم هانئ وقد شاعت عيناها وهي تنظر إلى الخارج من نافذة تطل على الحديقة، وميمونة بجانبها والمكان هادئ والخادم الذي أوصلهما لم يعد يظهر، فتظاهرت ميمونة بالخوف، وقالت: «ويلاه أين نحن؟ ما الذي جرى لنا؟ أين ذلك الرسول؟ يا ليتنا اصطحبنا بعض الصقالبة من خصيان الخباء.» ثم صفقت كأنها تستقدم الرجل، فلم تسمع جوابا غير الصدى.
أما مريم فلما رأت ميمونة خائفة، خافت هي أيضا ووقفت وقد ظهر الاهتمام في وجهها، وقالت: «هل خدعونا؟ أين ذلك الرجل؟ كيف يتركنا هنا ويذهب؟ إلى أين ذهب؟» وكانت الشمس قد أدركت الأصيل ولم يتناولا طعاما من الصباح.
الفصل الثامن والعشرون
المكيدة
وبينما هما كذلك إذ سمعتا صوت صهيل وقرقعة لجام فالتفتت مريم نحو الباب فرأت فارسا وفي ركابه رجلان ملثمان، وهو يركض جواده ركضا عنيفا حتى وصل إلى باب البستان فترجل فظنت مريم لأول وهلة أنه هانئ فخفق قلبها، ولم تتمالك عن الوثوب نحو الحديقة، ولم تبال باختلاف ملابس ذلك الفارس وجواده عن لباس هانئ وجواده لاعتقادها أنه أرسل إليها العباءة والجواد وقد جاء متنكرا، ولكنها لم تكد تفكر في ذلك حتى تطلعت إلى القادم فوجدته رجلا بدينا يترنح في مشيته، وسيفه يجر إلى جانبه وعباءته مسترخية وراءه، ولا تسل عن اضطرابها حينما عرفت أنه بسطام، فسيطرت عليها رعدة، واصطكت ركبتاها، وكاد الدم يجمد في عروقها، والتفتت إلى ميمونة فرأتها تظهر البغتة وقد تصدرت لمقابلة ذلك القادم بالنيابة عن مريم، فلما وصل بسطام استقبلته ميمونة وهي تقول: «ما الذي تريده أيها الأمير؟»
فأجابها وهو يلهث من التعب والرجلان يمشيان وراءه: «وما الذي يعنيك من هذا الأمر؟»
قالت: «ليس في هذا المكان رجال، ولا أحد يهمكم أمره، فلا حاجة إلى دخولكم إليه.»
قال: «ونحن إنما جئنا لأجل النساء أليست مريم النصرانية هنا؟» قال ذلك وهو يضحك، ومد يده إلى وجه مريم فنفرت وتباعدت، فأمسكت ميمونة بيد بسطام وقالت: «لا تفعل أيها الأمير ما لا يليق بالأمراء واعلم أنك إذا مسستها عرضت نفسك لغضب أمير جند المسلمين.»
فصاح بسطام فيها صيحة شديدة، وقال: «من أقامك ناصحا أو نذيرا؟ وما هو شأنك؟ إني لا أخاطبك.» قال ذلك وحول وجهه ومشى نحو مريم، فبالغت ميمونة في ممانعته وقبضت على زنده فتخلص منها بعنف، فوقعت على الأرض، فالتفت إلى الرجلين وقال: «قيدا هذه المرأة بيديها ورجليها واحبساها في هذه الغرفة، واقفلا الباب عليها.»
ولم يتم قوله حتى انقض الرجلان على ميمونة بالأمراس، وقيدا يديها ورجليها وهي تصيح وتستغيث وتحاول التخلص، ومريم تهم بإنقاذها وبسطام يمنعها بدون أن يمسها بيده، وهو يقول لها: «لا تخافي يا جميلة، إننا لن نصيبها بسوء وإنما أردنا إيقافها عند حدها.» فلما فرغا من تقييدها، جرها الرجلان نحو تلك الغرفة فالتفتت نحو بسطام وهي تقول: «لا بأس علي مما فعلتموه بي، ولكنني أتوسل إليكم ألا تمسوا هذه الفتاة بسوء.»
ثم دخل الرجلان بميمونة إلى بعض حجرات ذلك البيت وأغلقا الباب، فلما خلوا هناك تركاها وشأنها فقالت بصوت خافت: «من هو عدلان منكما؟»
فتقدم أحدهما وأزاح اللثام عن وجهه، فبانت ملامحه ونظر إليها بعينه الحولاء نظر المحب الولهان، وقال: «أنا عبدك عدلان، أرجو أن أكون قد أديت مهمتك كما تشائين.»
قالت: «بورك فيك.» وابتسمت، ثم أردفت: «قل لي أين هو هانئ؟ وماذا فعلت به؟»
قال: «فعلت ما أمرتني به يا سيدة النساء وإنما أرجو أن تكوني راضية عن عبدك وأسير هواك، وتتحققي أنك لا تجدين من يذعن لأمرك وينفذ مآربك سواي.»
فابتسمت ابتسامة أخرى وحركت أجفانها حركة الدلال والرضا، وقالت: «إذا كنت قد فعلت ما فعلته بخفة ولباقة فإني راضية قل لي أين هو هانئ؟»
قال: «أظنه لا يزال تائها في هذه الصحراء يفتش عن حبيبته.»
قالت: «وكيف أوصلت إليه المنديل؟»
قال: «بعد أن أتيتك بالجواد الأدهم أمس، وعهدت به لهذا البطل (وأشار إلى رفيقه) وأفهمته كيف يخدع القهرمانة وكل ذلك بإرشادك، ذهبت بالمنديل إلى معسكر المسلمين فوصلت إليهم صباحا، ومن حسن حظ مولاتي وتوفيقها أن رأيت الرجل خارجا يتمشى، فأسرعت نحوه ودفعت إليه المنديل وأنا ملثم، فسألني عما أهدف إليه، فأخبرته أن صاحبة المنديل تدعوه إليها حالا، وتركته وفررت إلى مكان أراه منه ولا يراني، فرأيته قد أسرع إلى جواده فركبه وساقه نحو الخباء فلما تحققت من ذهابه أسرعت من طريق آخر إلى معسكر مولاي الكونت أود وأخبرته بالواقع كما أمرت، وحرضته على مباغتة المسلمين حالا وقائد فرسانهم غائب فاقتنع ونادى رجاله وهجموا على المسلمين وهم في غفلة، وقد رأيتهم في فشل عظيم، ولا أظنهم إلا قد ذعروا وتقهقروا والغالب أن الإفرنج قد استولوا على معسكرهم الآن.»
وكان عدلان يتكلم وميمونة ترمق حركاته، وكلما قال عبارة تبتسم له وتبدي ارتياحها، وهو يتكلم بحماسة وسرور، فلما قال ذلك، قالت: «ثم كيف فعلت ببسطام هذا؟»
قال: «ذهبت إليه في المعسكر القديم وأظهرت أني أخدمه خدمة تسره، وأني فاعل ذلك من تلقاء نفسي وأخبرته أن مريم خرجت من الخباء إلى هذا المكان وأني سأذهب به إليها فيبلغ منها ما يشاء على شرط أن يحافظ عليك فأثنى على غيرتي ودفع إلي هدية ثمينة، وكنت أتوقع أن يلتقي هانئ به فيقتتلا فيقضي أحدهما على الآخر فيكمل توفيقك، وتتم رغبتنا بانقسام هذا الجند، وقد جاء هانئ بعد ذهابه إلى الخباء ولم يجد مريم فيه فظن أن بسطاما اختطفها، فلما لقيه في الخيام تشاجرا، وكاد هانئ أن يفتك به لو لم يجبن هذا ويدخل خيمته، وبعد ذهاب هانئ حرضت بسطاما على الركوب سريعا، فركب وسرت في ركابه والتقينا في أثناء الطريق بأخي هذا وكان قد جاء يستعجلنا، فبدلت عباءته بعباءتي وغيرت قيافته، وجئنا في ركاب بسطام كما رأيتنا.»
فقالت ميمونة: «بورك فيك من خادم أمين وإذا تحققت أمنيتنا بفشل جند العرب دعوتك بلقب آخر.» قالت ذلك وأشارت بحاجبيها.
فأشرق وجهه وجعل ينظر إليها وقلبه يكاد يطفح سرورا لما شاهده من أنسها وتلطفها.
الفصل التاسع والعشرون
الخنجر
أما مريم، فلما رأت ميمونة مسوقة إلى تلك الحجرة وهي مقيدة الأطراف، وسمعت تضرعها إلى بسطام بشأنها آمنت بأنها تحبها، ولكنها كانت في شغل من أمر نفسها؛ لأنها لم تتوقع بعد ما رأته إلا الفتك الذريع من بسطام، وهو مع غلظته وخشونته كانت رائحة الخمر تفوح من فمه، وقد احمرت عيناه واربد لون وجهه، وتمنطق بجلد عريض غرس فيه خنجرا ضخما وضع يمينه على قبضته ويسراه على قبضة السيف، فبدا لعيني مريم شيطانا رجيما فاستعاذت بالله من ذلك الشيطان، وتضرعت إليه تعالى أن ينجيها منه على أنها لم تتمالك عن الاضطراب الشديد من منظر ذلك الوحش الكاسر، وكانت لا تزال متزملة بالعباءة الحمراء التي تعتقد أنها عباءة هانئ فوق ردائها الأسود، وعلى رأسها خمار أسود يغطي جبينها إلى الحاجبين، وقد تلثمت به من أسفل الذقن فبان وجهها من خلال ذلك مستديرا، وقد تلألأت عيناها وزادهما الانقباض هيبة، ومع كل ما شاهدته من أسباب الخوف لم تخر عزيمتها، ولعلها كانت عند لقاء بسطام لأول وهلة أكثر اضطرابا منها بعد ظهور تلك الفظاعة بتقييد ميمونة وحبسها، وقد أصبحت وهي معه وحيدين في ذلك البيت الواسع.
أما بسطام، فلما اختلى بمريم على تلك الصورة دعاها إلى الجلوس على كرسي هناك، كأنه يريد أن يخاطبها بلطف على سبيل الإقناع ، فجلست، وجلس هو على كرسي آخر، والتف بعباءته حتى غطت السيف والخنجر ، وهو يقول بلغة عربية مستعجمة في نغمة بربرية: «لا تخافي يا مريم إني لا أريد بك سوءا؛ لأني أحبك حبا شديدا (وبالغ في تشديد الدال) وأنت على ما يظهر قد غشك ذلك الغلام العربي، فانخدعت بأقواله، على أنك نصيبي وحدي من هذه الحرب، ولو شئت أن أمنعه منك لمنعته من أول ساعة، ولكنني تلطفت بك وأشفقت على مزاجك، والآن قد وقعت بين يدي، فلا مفر لك فأطيعيني.»
وكانت مريم تسمع كلامه وأطرافها ترتعد من شدة التأثر وهي تفكر في مجيئه إلى هناك هل كان على موعد أو كان ذلك مصادفة؟ وأحبت أن تماطله في الحديث ريثما يأتي هانئ لاعتقادها أنه قادم إليها فقالت: «دع عنك ذلك يا أمير فإن لكل شيء وقتا، وأنتم الآن في حرب فبعد انقضائها يأخذ كل ذي حق حقه.»
فقال: «لا تماطليني بالمحال، ولا تظني أن هانئا سيبلغ منك شعرة، فقد صرت في قبضة يدي ولن يخلصك منها أحد، فالأفضل لك أن تطيعيني وإلا فإني بالغ منك ما أريد قهرا.»
فلما سمعت تهديده عظم عليها الأمر، ولكنها ظلت تحاول مماطلته ريثما يأتي هانئ لثقتها بأن هانئا آت لا محالة، فقالت: «لا أرى باعثا إلى التهديد أيها الأمير، فإن من يعد نفسه أميرا ويفتخر بشجاعته وشدة بأسه لا يليق به أن يهدد فتاة بمثل هذه العبارات، وخصوصا في مثل ما أنتم فيه من الجهاد.»
فضحك بسطام ضحكة استخفاف، وقال: «نعم إني أمير شجاع وساحة الوغى تشهد لي بذلك ولولاي لم يكن لذلك الغلام ذكر بين الرجال، ولا كان لأولئك العرب راية تخفق في هذه البلاد، فإذا علمت ذلك فأقلعي عن ذكر سواي.»
فلما سمعت تعريضه بهانئ وبالعرب، ورأت أن اللين لا يجدي معه نفعا، عادت إلى ما شبت عليه من الأنفة، وقالت: «دع عنك التعريض والتلميح فإنك لست من رجال الأمير هانئ، ولو حضر الآن ما تجاسرت على التحدث في حضرته بمثل هذا الكلام.»
فحملق بسطام بعينيه، ووقف بغتة وأمسك بذراع مريم وضغط بكل قوته كأنه يريد أن يبغتها لعلها تلين فشعر بصلابة عضلها كأنه قابض على حديد، ثم جذبت يدها من قبضته فلم يستطع منعها، ووقفت وهي تقول: «ابعد عني ولا تمسني، فقد بالغت في الاستخفاف حتى نفد صبري.»
فلما شاهد منها هذا الإصرار، ورأى فيها تلك القوة اشتد غيظه وقال لها غاضبا: «لا تعللي نفسك بالمحال، فإني ضاربك بهذا السيف ضربة أقضي بها على حياتك، هل أنت إلا سبية تباعين ببضعة دراهم؟ وقد أخطأت في محاسنتك، فظننت أن المحاسنة ضعف، وأنت تعلمين أن في خبائي عشرات من أمثالك يتمنين رضائي.»
الفصل الثلاثون
المعركة
وهمت مريم بأن تجيب بسطاما، فسمعت ضجيجا في البستان وقد علت الضوضاء، وسمعت رجلا يقول: «إن الأمير هانئا هنا.»
فلما سمعت اسم هانئ بغتت واشتغلت عن بسطام باستطلاع الخبر، فأسرعت إلى الباب وأسرع هو أيضا فرأت جماعة من العرب قد وقفوا حول الجواد الأدهم، وهم يقولون: «أليس هذا جواد الأمير هانئ؟ فأين هو؟»
فأجابهم بسطام: «ليس هانئ هنا ماذا تريدون منه؟»
فتقدم أحدهم وقد غشيه الغبار وتجلت البغتة في وجهه وتصبب العرق من جبينه، وقد عرف الأمير بسطاما فقال: «إن الإفرنج هاجمونا واشتبك القتال بيننا وبينهم، والأمير هانئ غائب من الصباح، وقد فشل فرساننا وكادت الدائرة تدور علينا فخرجنا للبحث عنه، فإذا لم يدركنا لم تقم لنا قائمة، والأمير عبد الرحمن لم يستطع قيادة الفرسان لاشتغاله بسائر الجند فلما رأينا هذا الجواد الأدهم ظنناه هنا.»
فقال بسطام: «ليس هذا جواده والظاهر أنه طلب النجاة بنفسه ابحثوا عنه في غير هذا المكان.» قال ذلك، وتحول إلى الداخل.
فرجع الرجل ورفاقه إلى الجواد، وتأملوه جيدا، فتحققوا أنه ليس جواد هانئ، فرجعوا.
وكان جند العرب قد ضعف لغياب هانئ؛ لأنهم لم يكونوا يتوقعون نشوب الحرب في ذلك اليوم، وإنما خرج إليهم الإفرنج بغتة وهم في خيامهم لأسباب تقدم بيانها في أثناء حديث ميمونة، وكان عبد الرحمن في صباح ذلك اليوم في خيمته يصرف بعض الشئون منتظرا مجيء هانئ إليه للمداولة في أمر الجند، فأبطأ هانئ عليه فانشغل خاطره وهم باستقدامه، وإذا ببعض الرجال قد جاءوه مسرعين ينادون: «إن الإفرنج قد خرجوا إلينا كالسيل الجارف.» وعلت ضوضاء الجند، فخرج عبد الرحمن إلى فرسه وبعث رسولا إلى الأمير هانئ وسائر الأمراء ليجمعوا رجالهم ويتأهبوا للهجوم على عادتهم، ولم يكد يفعل ذلك حتى انهالت النبال على خيمته، فتطلع إلى ميدان المعركة فرأى الإفرنج يهجمون وقد تصاعد غبارهم، فركب جواده ونادى رجاله ووقف في انتظار هانئ ليقود الفرسان ويرتبهم، فعاد الرسول وهو يقول: «لم نجد هانئا في خيمته ولا رأينا جواده في مربطه.»
فارتبك عبد الرحمن في أمره، وقد كان يعتمد كثيرا على هانئ في تنظيم الهجوم؛ لأنه قائد فرسانه، والفرسان أقوى فرق الجند عند العرب، فغضب عبد الرحمن لتخلفه غضبا شديدا، وأخذ على نفسه قيادة الفرسان فلم يستطع تنظيمهم؛ لأنه لم يتعودهم ولا تعودوه والفرصة قصيرة، فالتحم الجيشان والعرب مرتبكون، ولولا شجاعة عبد الرحمن وحسن تدبيره في ذلك المركز الحرج لتشتت رجاله منذ الصباح لكنه ظل رابط الجأش، وأخذ يستحث الرجال ويمنيهم ويسير أمامهم إلى صفوف الأعداء لا يبالي بما يتساقط عليه من النبال؛ لأن موته في ساحة الحرب كان أيسر عليه من الفشل.
فلما مالت الشمس عن خط الهاجرة ولم يأت هانئ، بعث جماعة للبحث عنه، وظل هو يدبر أمور الجند ويصبرهم ويحثهم ويشجعهم حتى كادت الشمس تدنو من المغيب، وكاد الإفرنج ينتصرون على العرب وكان الفرسان يحاربون وعيونهم شائعة في عرض البر يتوقعون قدوم قائدهم أو سماع خبر عنه، وكان الأمراء كلما التقى اثنان أو ثلاثة منهم ولو تحت خطر الموت، تساءلوا عن هانئ وسبب غيابه، وشعروا بأهميته في حروبهم أكثر مما كانوا يظنون.
أما عبد الرحمن، فمع سعة صدره وشدة حبه للأمير هانئ، فقد حقد عليه وتوهم أن الحب حمله على المسير إلى حبيبته على أثر ما سمعه من رضائه عن حبهما، ولكنه كان في شغل عن التوسع في هذا الشأن بما يحيط به من المشاغل الهامة خشية الفشل على أنه أضمر إذا صح ظنه في هانئ أن يحرمه من مريم، كانت تلك الأفكار تتوارد على ذهنه متقطعة يتخللها ارتباكه في كيف يتدارك الخطر المحدق به وبجنده، وكان مع ذلك لا يفتر عن التلفت والتطلع لعله يرى هانئا قادما، ولكنه لم يكن يرى إلا ما يزيده اضطرابا بزيادة اضطراب الجند، وخاصة الفرسان، حتى كاد الإفرنج أن يصلوا إلى خيمته.
الفصل الحادي والثلاثون
هانئان
وفيما هو يستحث رجاله ويحرضهم على الصبر والثبات، لاحت منه التفاتة إلى يسار الجند فرأى من خلال الغبار والنبال فارسا على جواد أدهم عليه عباءة حمراء، وعلى رأسه خوذة، وقد أشرع سيفه وأطلق لفرسه العنان، فبذل الفرس أقصى ما عنده من العدو حتى اعتدل عنقه وتطاير عرفه وانتصب ذيله وامتدت قوائمه، فاستطال بدنه وتناثر التراب من مواقع حوافره ولولا ذلك التناثر ما علمت مواقعها، وتصاعد الغبار خلفه وهو منطق بالفرس الذي بدا كأنه سابح في الهواء وكأن الغبار يحاول اللحاق به فلا يدركه، والفارس ثابت على ظهره كأنه قطعة منه لا يبالي بالسهام المتطايرة ولا بالرجال المهاجمين، فلما رآه عبد الرحمن خفق قلبه سرورا لاعتقاده أنه هانئ، فساق جواده نحوه حتى اقترب منه وهو يتوقع أن يقف له، ولكنه ظل هاجما نحو الإفرنج وهو يقول: «أتاكم هانئ لا تفشلوا، ولا تخافوا من غلمان الإفرنج إنهم غنيمتكم في هذا اليوم.»
فلم يشك عبد الرحمن أنه الأمير هانئ نفسه وأراد أحدهم أن يستقدمه إلى عبد الرحمن فلم يصغ إليه، وساق جواده إلى معسكر الإفرنج من جهة لم يكن الإفرنج يظنون أن العرب يأتونهم منها فاشتدت عزائم العرب وخاصة الفرسان وساروا في أثره كأنهم الأسود الكاسرة، فبغت الإفرنج وأرادوا أن يحولوا قوتهم إلى الجهة التي هاجمهم منها ذلك الفارس، وإذا بفارس آخر بعباءة حمراء وخوذة على جواد أدهم أيضا، وقد استل حسامه وهجم على الإفرنج من جانب آخر وهو يقول: «جاءكم الأمير هانئ.» فتبعه من بقي من الفرسان فانقسم الإفرنج شطرين لملاقاة الفريقين ، فضعفت قوتهم، وازداد المسلمون ثباتا وشجاعة، ولم يمس المساء حتى فر الإفرنج على بكرة أبيهم وأصبح معسكرهم غنيمة للمسلمين، فاستولى المسلمون على ما هناك من الخيام والأسلحة والأطعمة والذخائر، وكان الأمير عبد الرحمن قد شاهد هجوم الأمير الآخر من الناحية الأخرى وهو يشبه الأمير هانئا؛ لأن كليهما بملابس متشابهة وعلى فرسين متشابهين.
فلما فر الإفرنج كانت الشمس قد غابت واكفهر وجه السماء وعاد عبد الرحمن إلى خيمته حيث كان يتوقع أن يلاقي الأمراء وهانئ في جملتهم ليعهد إليه بأمر الغنائم على عادتهم.
وبعد قليل جاء أحد الفارسين صاحبي الأدهمين، فإذا هو هانئ نفسه، فرحب به فابتدره هانئ قائلا: «لقد غدر بنا هؤلاء الإفرنج وتوسموا أن في الغدر خيرا وقد دمرهم الله، ولو علمت بعزمهم على الهجوم ما فارقت المعسكر لحظة.»
فقال عبد الرحمن وهو يتحول عن جواده ويتشاغل بإصلاح ركابه: «لقد شغلت خاطرنا في غيابك، فنحمد الله على رجوعك.» ثم التفت إليه بلهفة وقال: «ومن هو هذا الفارس الذي تقدمك وتسمى باسمك؟»
فقال هانئ: «لم يكن معي أحد.»
قال عبد الرحمن: «أما رأيت فارسا على جواد أدهم مثل جوادك ويلبس عباءة مثل عباءتك؟ لقد رأيته بعيني وسط المعركة قبل وصولك، وسمعته يتسمى باسمك.»
قال ذلك ونظر إلى أحد الرجال حوله، وقال: «أين ذلك الفارس الذي كان على الجواد الأدهم؟»
فأجاب أحدهم: «رأيناه هاجما وقد أوغل في الصفوف، ثم توارى وربما جاء بعد قليل.»
فصاح عبد الرحمن: «اذهبوا في أثره واستقدموه.» وتحول عبد الرحمن وهانئ إلى الخيمة، وجاء في أثرهما بعض الأمراء ثم جلسوا يتحدثون في أمر ذلك اليوم العجيب، وما كان يهددهم من خطر وكلهم يذكرون هانئا آخر ويتعجبون، على أنهم اشتغلوا عن ذلك بعد قليل بتدبير أمر الغنائم والأسرى، ولم يكن في معسكر الإفرنج نساء؛ لأنهم لا يحملون معهم نساءهم ولا أولادهم، أما الرجال، فإنهم ركنوا إلى الفرار وفي مقدمتهم الكونت أود صاحب أكيتانيا ورجال حاشيته.
فتباحث الأمراء في أمر الغنائم من الأسلحة والخيام والفرش وغير ذلك، وعهدوا إلى كتاب الجيش بالعمل على تقسيمها وحفظ حق بيت المال على عادتهم، ولم تكن الغنائم في هذه الوقعة كثيرة فاقتسموها على عجل، وقضوا تلك الجلسة وكل منهم يفكر في أمر ذلك الفارس، ثم تفرقوا إلى خيامهم إلا هانئا فإنه بقي عند عبد الرحمن يقص عليه حديثه باختصار، ولم يكتمه شيئا بعد ما آنسه من مجاراته في حبه لمريم، فلما بلغ إلى حديث بسطام وما كان من حاله في مستودع الغنائم، هز عبد الرحمن رأسه وقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون، إن أمر هؤلاء البرابرة يقلقني، فإنني أخشى عواقب استبدادهم إذا نحن بالغنا في استرضائهم، وأخشى - من جهة أخرى - إذا جافيناهم أن يفسدوا علينا سعينا.»
وكان هانئ حينما ذكر الجواد الأدهم الذي أخذت مريم به، تذكر ما قالته القهرمانة عن العباءة الحمراء والخوذة اللتين تشبهان عباءته وخوذته، فتبادر إلى ذهنه أن ثمة علاقة بين ذلك الجواد وهذا الفارس.
وبينما هما في ذلك إذ عاد الذين ذهبوا للبحث عن هانئ الآخر، وقالوا: «لقد بحثنا عنه في المعسكرين فلم نقف له على أثر.» فعاد هانئ إلى هواجسه وهو في قلق على مريم، ولم يفهم تلك الأسرار، وخشي أن يكون قد أصابها سوء، أو لعلها في ضيق، أو تكون قد فرت من معسكر العرب بتلك الحيلة، أما عبد الرحمن فإنه حينما سمع ما قصه عليه هانئ من أمر مريم وخروجها، وتذكر والدتها والمهمة التي ذهبت لأجلها، أوحى إليه سوء ظنه - والعاقل سيء الظن - باتهام سالمة في الأمر، وأنها إنما تظاهرت بما تظاهرت به احتيالا للفرار من الأسر، ثم راجع ما حفظه من حديثها، وما كان يبدو في وجهها من أمارات الجد، فغلب عليه الاعتقاد في صدقها.
الفصل الثاني والثلاثون
هانئ الآخر
ولبثا برهة صامتين لا يتكلمان، وكل منهما في خواطره يتنازعهما التفكير في مريم وفي ذلك الفارس، وبينما هما في ذلك، إذ سمعا وقع حوافر مسرعة نحو الخيمة فأصغيا، فإذا بغلام دخل مسرعا وهو يقول: «إن فارسين بالباب يلتمسان الدخول.» فقال عبد الرحمن: «ليدخلا» فخرج الغلام ثم عاد وفي أثره رجل عليه خوذة وعباءة حمراء، فلما وقع نظرهما عليه علما أنه الفارس الذي سمى نفسه هانئا، فلما رآه هانئ وقف وأقبل نحوه وتفرس في وجهه، فرآه قد تلثم تحت الخوذة بلثام أسود، ورأى من خلال العباءة ثوبا أسود فصاح فيه: «يا أهلا بالفارس الذي يسمي نفسه هانئا.» قال ذلك وتقدم نحوه وهو يتوقع جوابه، فظل الفارس ساكتا ينظر من خلال اللثام، فابتدره الأمير عبد الرحمن قائلا: «إنك لذو فضل على هذا الجند بالله ألا رفعت لثامك وعرفتنا بنفسك.»
فرفع الفارس يده إلى الخوذة فنزعها، فبان من تحتها خمار أسود، وألقى العباءة عن كتفيه فبان من تحتها ثوب أسود، فعرف هانئ للحال أنه ثوب مريم، فلم يتمالك أن صاح: «مريم، مريم.»
فمد الفارس يده إلى الخمار فأزاحه، فبان من تحته وجه فتاة يتدفق حيوية وجمالا، وقد زاده التلثم دفئا فتورد وأبرقت العينان، ولا تسل عن هانئ حينما علم بما أظهرته مريم من البسالة التي تندر بين النساء، فقال وهو لا يستطيع إمساك نفسه: «مريم أهذه الفعال فعالك يا حبيبة؟ عهدناك ربة الجمال واللطف، ولم يخطر لنا أنك ربة الجواد والسيف، حبيبتي ما الذي جرى؟ أين كنت؟ ما هذا؟ ماذا أرى؟»
قالت: «إنك ترى مريم واقفة بين يديك ويدي الأمير عبد الرحمن، ولم أفعل أمرا يستحق هذا الثناء وإذا كنت قد فعلت شيئا، فما هو إلا لأني تسميت باسم الأمير هانئ، فالأمير هانئ هو الذي فعل ذلك.» قالت ذلك بلثغتها المعهودة، وقد تجلى على محياها شيء هو غير البسالة والأنفة تجلت على وجهها ملامح الحب، فذهب كل ما كان هناك من أمارات الشجاعة والرجولة، ثم تنبهت إلى أنها قالت ذلك بين يدي الأمير عبد الرحمن، فغلب عليها الحياء فأطرقت فابتدرها عبد الرحمن قائلا: «بورك فيك، وبورك في الأمير هانئ إنكما متكافئان، ولولاكما لأصاب هذا الجيش ضيق تعصف بنا عاقبته، تفضلي يا بنية اجلسي وقصي علينا خبرك، وما الذي دعاك إلى اقتحام هذا الخطر العظيم فقد سمعت من أخي هانئ أنك خرجت من الخباء في هذا الصباح بخديعة، وذهب هو من الصباح للبحث عنك ولم يعد إلا بعد مجيئك، عاد وهو يائس من العثور عليك فما هو خبرك؟»
قالت: «أرجو قبل الشروع في الحديث أن تأمر باستقدام رفيقتي وصديقتي ميمونة التي تحملت العذاب من أجلي، فإنها خارج هذا الفسطاط.» وأشارت بأصبعها إلى الخارج.
وكان الأميران قد علما بأنهما ضلا معا، فلم يستغربا كلامها، فصفق عبد الرحمن فدخل الغلام فأمره أن يدخل المرأة الواقفة في الخارج، وبعد هنيهة دخلت ميمونة وهي تتظاهر بالحياء والدعة، فأشار إليها عبد الرحمن أن تجلس على طنفسة في أحد جوانب الفسطاط وهو يتبسم لها اعترافا بحسن صنيعها، ثم حول وجهه إلى مريم للاستماع إلى حديثها وكان هانئ لا يزال واقفا، فأشار إليه عبد الرحمن أن يجلس بجانبه فجلس، وأصاخ الأميران بأذنيهما لسماع القصة.
فبدأت مريم تقص حديثها منذ جاءها الرسول يلتمس ذهابها إلى الأمير هانئ، وكيف أن ميمونة عرضت نفسها لخدمتها، وكيف آنستها وأعانتها حتى وصلتا معا إلى القصر المهجور وما كان من مجيء بسطام وما أبداه من الوحشية، وكيف عرضت ميمونة نفسها للخطر دفاعا عن مريم، فلما ذكرت مريم ذلك تحولت الأنظار إلى ميمونة، فتظاهرت بالحياء والإطراق، أما هانئ فإنه أحس منذ سمع اسم بسطام بارتعاد من شدة الغيرة، والتفت إلى الأمير عبد الرحمن وهمس في أذنه قائلا: «يا ليتني قتلته في هذا الصباح.»
أما مريم فإنها استمرت في حديثها، فقالت: «فلما سمع بسطام دفاع هذه الصديقة عني أمر رجاله فقبضوا عليها، وأوثقوها وساقوها إلى إحدى الغرف وهي تصيح وتستغيث، فلما يئست من نجاتها توسلت إلى ذلك الوحش الكاسر أن يرفق بي، إني لا أنسى تلك الاستغاثة وإن كان بسطام لم يعبأ بها، فإنه لما خلا بي في ذلك القصر المهجور حدثته نفسه بأمور كثيرة وطال الجدال بيني وبينه، وفيما نحن في ذلك جاء بعض فرسان هذا الجند للبحث عن الأمير هانئ هناك، فعلمت منهم أن الإفرنج هاجموكم وهانئ غائب، وأن العرب في ضعف بسبب ذلك فأصبحت في قلق لأسباب لا تجهلونها، أما بسطام فإنه لم يبال بضياع جند العرب كله، ولما سمع توبيخي له على ذلك انتهرني وعرض بذكر الأمير (وأشارت إلى هانئ) واتهمه بالجبن وأنه فر من المعركة خوفا من الموت؛ لأني قلت له: «ألا تزال تزعم أن هانئا غلام لا شأن له وقد رأينا الجند لا يستطيعون شيئا بدونه ولم نسمعهم يذكرون بسطاما ولا سواه؟» فلما سمع هانئ ذلك الثناء حول نظره عن مريم حياء.
أما مريم فأتمت حديثها قائلة: «فوقع كلامي على بسطام وقوع الصاعقة، ولم يتمالك أن هجم علي ويده على قبضة سيفه يهم أن يجرده وأن يضربني به، فصحت فيه: «اخسأ يا نذل الرجال إن مثلك لا يليق أن يسمى أميرا، فبدلا من أن تجرد حسامك على فتاة، اذهب لنجدة إخوانك، وقد علمت ما هم فيه من الضنك، وجرده على أعدائك ولو كان هانئ في مكانك ما فعل غير ذلك.»
فلم يزده هذا الكلام إلا حنقا، وكنت أظنه يخجل من نفسه ويرتد عن غيه، فقال ويده لا تزال على قبضة السيف: «لو كان هانئ رجلا ما تخلف عن ميدان الحرب في مثل هذا اليوم، ولكنه جبان.» ولم يتم كلامه حتى جرد سيفه، وهم بإطلاقه علي فلما رأيت ذلك منه وتبينت الغدر في عينه تناسيت ضعف النساء وشددت عزيمتي، وعزمت على الفتك به التماسا للسرعة في الخروج من بين يديه؛ لأنظر في أمر هذا الجند؛ لأن نجاحه يهمني كثيرا كما تعلمون، ثم أمسكت نفسي وعدت إلى الملاطفة، فقلت له: «لا تخيفني بسيفك، ولا يغرنك أني فتاة فإني لا أخشى السيوف ارجع عن عزمك واتركني وشأني، وذلك خير لك.» وقبضت على زنده وهززته، فأكبر أن يصغي لنصحي فتخلص من يدي، وكان قد أنزل السيف فعاد وشهره، وأوهمني أنه مطلقه على عنقي فتراجعت لأخلو من الضربة، فظن أنني خفت فتبعني وسيفه يكاد يقع على رأسي، فلم أعد أستطيع صبرا على ذلك فصحت فيه: «نصحتك فاقبل نصيحتي يا بسطام.» قلت له ذلك وهو يحاول أن يقبض على ثوبي ليتمكن من ضربي؛ لأنه كان يتوقع فراري، ولكنني بدلا من الفرار هجمت عليه وأمسكت يمناه بيساري ومددت يمناي إلى منطقته، واستللت خنجره وغمدته في صدره، وقلت له: «أبيت إلا أن تموت قتيلا وأن تدنس يدي بدمك.» فغاص الخنجر إلى قبضته فخر على الأرض وسقط السيف من يده، فالتقطت السيف ولم أنظر إلى وجهه؛ لأني قتلته مكرهة، وأسرعت إلى الجواد الأدهم فركبته والتففت بالعباءة، وجعلت الخوذة على رأسي، وهمزت الجواد نحو المعركة لأوهم الناس أني الأمير هانئ تشجيعا لفرسانه، فإذا ترتب على عملي هذا نجاح فإنما الفضل لذلك الاسم المبارك.»
الفصل الثالث والثلاثون
الإخلاص
فلما ذكرت مريم أنها قتلت بسطاما، صاح الأمير عبد الرحمن: «بسطاما؟»
قالت: «نعم قتلته وقد قصصت عليك السبب الذي دعاني إلى قتله، فإما أن تعذرني فيه أو تقتلني بسببه فإني بين يديك.»
فتصدى هانئ للجواب قائلا: «إن قتله مقدر منذ أيام، ولو لم تقتلينه أنت لقتلته أنا، وإذا رأى الأمير عبد الرحمن أن ينتقم له، فلينتقم مني.»
فقال الأمير عبد الرحمن: «لا أريد الانتقام له، ولكنني أخشى أن يترتب على مقتله اضطراب في صفوف الجند لما تعلمون من ...» ثم انتبه لوجود ميمونة هناك، فتوقف عن إتمام الحديث وحول الموضوع فقال: «سنعود إلى البحث في ذلك، والآن أخبرينا عن سبب تأخرك عن القدوم إلى الآن مع أن المعركة انقضت منذ بضع ساعات؟»
فلما سمعت مريم سؤال عبد الرحمن أشارت بيدها إلى ميمونة، وقالت: «قد كنت في شغل من أمر هذه الصديقة؛ لأني تركتها أسيرة في ذلك القصر المهجور حين أسرعت إلى ساحة الوغى، فلما فرغت من ذلك واطمأن بالي على الجند تذكرت ما هي فيه من الضيق بسببي، فلم أتمالك عن الذهاب لإنقاذها فأسرعت إلى القصر قبل المجيء إلى هذا المعسكر، فوجدتها لا تزال مغلولة وقد غادرها الحارسان، فحللت قيودها وجئت بها على جواد كان لا يزال هناك، ولو لم أستطع إنقاذها لتنغص عيشي؛ لأنها إنما أسرت وأهينت بسببي فلما رجعت كان الليل قد أظلم فاهتديت إلى معسكركم بنيرانه، وعرفت خيمة الأمير من العلم الذي ببابها فجئت كما ترون.»
وكانت مريم تتكلم والهيبة تتدفق من محياها والصدق يتجلى في كل لفظ من ألفاظها، فازداد عبد الرحمن إعجابا بها والأمير هانئ هياما بحبها فصاح هانئ: «بورك في بطن حملك، ووالله؛ لأنت بشير خير ورسول سعادة لهذا الجند.»
فوقفت ميمونة عند ذلك وهي تتظاهر بالامتنان واللطف والحياء، وقالت: «لا غرو أن أعجب بها الأمير وهو في أبان الشباب فقد عشقتها النساء قبله، وأعترف أني لم تقع عيني في هذه البلاد ولا في غيرها على فتاة جمعت ما جمعته هذه الحبيبة من لطف النساء وبسالة الرجال وأنفة الأمراء وحنو الأمهات، عدا ما في خصالها من صدق اللهجة وعزة النفس، فهي جديرة برضاء الأميرين، وأما أنا فقد كنت أعدها صديقتي، وأصبحت أنظر إليها - بعد ما غمرتني به من جميل - نظري إلى من هو فوق مرتبتي.»
وكانت مريم في أثناء ذلك مطرقة تكاد تذوب خجلا، وقد كلل العرق جبينها حتى تقطر فوق خدين توردا من شدة الحياء، ولم تستطع جوابا فلاذت بالسكوت والإطراق.
وأدرك عبد الرحمن ذلك فيها فأشفق على عواطفها، فعمد إلى تغيير الحديث فقال: «أرى مريم أهلا لأكثر من ذلك، وأما الآن فقد آن لها أن تستريح بعد هذا العناء.» ثم صفق فدخل الغلام، فقال له: «أعدد لهاتين السيدتين خيمة تنامان فيها، وأحضر لهما كل ما تحتاجان إليه من وسائل الراحة وخذ الفرسين إلى الإسطبل.»
فأشار إشارة الطاعة وخرج، وخرجت مريم وميمونة في أثرها، وهانئ يراقب مريم في أثناء خروجها وقد تضاعف هيامه بها، وتذكر ما عاهدها عليه من أمر الزواج بعد أن يقطعوا نهر لوار، فلما تذكر ذلك هان عليه أن يقتحم جند الإفرنج وحده إذا حالوا بينه وبين ذلك النهر فلما خرجت المرأتان وبقي الأميران على انفراد، لاحظ عبد الرحمن ما بدا في وجه هانئ من دلائل الهيام فسره تعلقه بمريم، وتغلب هذا الخاطر على ما عساه أن يكون قد خطر في باله من الاستئثار بها دونه لما آنسه من الشبه الشديد بين الحبيبين في البسالة والحماسة والأنفة مع ما بينهما من المحبة المتبادلة على أنه ما لبث أن غلب على فكره أمر ذو علاقة كبرى بسلامة ذلك الجند والاحتفاظ باتحاده على أثر ما سمعه تلك الليلة من مقتل الأمير بسطام، وأصبح لا يشك في أنه إذا بلغ خبر مقتله إلى رجاله فإنهم يثورون ويطالبون بدمه، فاذا علموا أن مريم قد قتلته فربما أساءوا إليها فيستاء هانئ، وتكون البلية الثانية شرا من الأولى فلبث الأمير عبد الرحمن هنيهة وهو مطرق، وأصابعه تداعب لحيته، وقد استغرق في التفكير حتى غلب عليه الجمود.
وكان هانئ مطرقا مثل إطراقه ولم ينتقل فكره من مريم إلا إلى ما قد يحول بينه وبينها من جنود الإفرنج وحصونهم.
الفصل الرابع والثلاثون
حيلة جديدة
انتبه عبد الرحمن بغتة ونظر إلى هانئ، فلما رآه مطرقا أدرك أنه يفكر في أمر غير الذي يفكر فيه، فعذره في استغراقه في التفكير في مريم بعد ما شاهده منها، ولكنه خاطبه بلطف وإيناس قائلا: «بورك لك في هذه الفتاة، فإنك والله جدير بها، ولكنني لا أزال أتوقع منك رأيا لا يتم لنا أمر بدونه.»
فلما سمع هانئ كلامه عاد إلى رشده وفاته لأول وهلة إدراك مراد عبد الرحمن، فقال: «وأي أمر تعني أيها الأمير؟»
قال عبد الرحمن: «أعني بسطاما وقتله لا أنكر أنه نال ما يستحقه، ولكنك لا تجهل حاجتنا إلى بقائه إذا لم يكن للاستعانة بسيفه فللاحتفاظ بولاء قبيلته، وأنت تعلم شأن أولئك البرابرة معنا، وخصوصا رجال بسطام فانهم إنما أعانونا طمعا في الغنائم ولم يذعنوا لأوامرنا إلا وفي نفوسهم ضغائن علينا، لاعتقادهم أن العرب ظالموهم ومستأثرون بالسلطة والأموال دونهم، فإذا علموا بمقتل أميرهم أخشى أن يبدو منهم ما يفسد أمرنا ويفرق كلمتنا، ونحن في أشد الحاجة إلى الاتحاد فما رأيك؟»
فبادر هانئ بالجواب كأنه شغل بتنميقه وإعداده منذ أيام، وقال: «ليس أهون علي من إرضاء أولئك البرابرة، فقد قلت إنهم لم يعاونونا في هذه الحرب نصرة للإسلام، وإنما أرادوا كسب الأموال، وأقول لك إنهم لم يطيعوا بسطاما إلا لمثل هذه الغاية؛ لأنه واسطة بيننا وبينهم، فإذا تحققوا من ذلك الكسب ظلوا على الطاعة وزد على ذلك أننا نستطيع أن نوهمهم بأن ذهابه سيدعو إلى زيادة أنصبتهم من الغنائم؛ لأنه كان كثير الطمع لنفسه، ثم نمنح أولئك الأمراء هدايا خاصة ونطلب إليهم أن يختاروا رئيسا منهم بدل بسطام وإذا عهدت إلي بتدبير ذلك فعلته وأنا ضامن السلامة بإذن الله، فإن من كانت مطامعه الأموال لا يصعب إرضاؤه.»
فأعجب عبد الرحمن بسداد ذلك الرأي، وعهد إليه بتدبير الأمر بحكمة، وفوض إليه إجراء ما يراه ولم يكن ذلك صعبا عليه.
وفي صباح اليوم التالي، تفاوض الأمراء في أمر الأخبية فأجمعوا على حملها إلى هناك، فبعثوا جندا لنقل المضارب وخيام الغنائم التي كانت باقية في المعسكر القديم، وأتم هانئ مهمته على نحو ما قال، ومكثوا هناك يتأهبون للمسير نحو نهر لوار بعد رجوع سالمة من مهمتها ليعلموا كيف يتصرفون؛ لأن عبد الرحمن كان يتوقع فوائد كبرى من مساعي سالمة، لعلمه أن اتحاد جنده لا يبقى طويلا لاختلاف عناصره وتضارب مقاصد أمرائه فإذا لم يتخذ وسائل أخرى خشي العاقبة فضلا عما يترتب على مشروع سالمة من حقن الدماء وسهولة الفتح.
أما ميمونة، فقد علمت ما كان من حيلتها، وما دبرته لفشل جند المسلمين، وكيف أنها لم تنجح لأسباب تقدم ذكرها ولكنها كانت بدهائها ومكرها قد حفظت لنفسها خط الرجوع، فأظهرت أنها أسيرة بسبب مريم وقد سرها مقتل بسطام؛ لأنه مطلع على بعض أسرارها، وفي مقتله أمان من إفشائها فلما خرجت مريم على الجواد الأدهم في ذلك اليوم أرسلت ميمونة أحد الرجلين في أثرها، فلما عاد من المعركة وأنبأها بهزيمة جند الإفرنج أمرت الرجلين بالفرار، وظلت في أغلالها هناك على أمل أن تبعث مريم من يخلصها، ولم يخطر لها أن تأتي هي بنفسها، فلما جاءتها مريم وجدتها وحيدة، فحلت قيودها وسارت بها إلى معسكر العرب.
وقد رأيت مبالغة ميمونة في امتداح شهامة مريم؛ لأنها رأت الأميرين معجبين بها فأرادت مجاراتهما تمويها لما قد يظنان، وفي الواقع لم يخطر لهما شيء من سوء الظن بها من هذا القبيل، أما هي فقد كظمت ما في نفسها وعزمت على اتخاذ وسيلة ناجحة كانت قد ادخرتها في ذهنها لحين الاضطرار، فلما ذهبت مع مريم إلى الخيمة تلك الليلة ظلت على إظهار إعجابها بها والإشادة بما شاهدته من سجاياها، حتى إذا خلت بنفسها لبثت تنتظر عدلان الأحول لتفاوضه في الحيلة التي دبرتها وهي لا تشك في نجاحها.
الفصل الخامس والثلاثون
سالمة في بوردو
فلندعهم يدبرون وينتظرون، ولنعد إلى سالمة ومهمتها فقد طال بنا السكوت عنها تركناها وقد ركبت من خباء المسلمين تلتمس بوردو وحسان العجوز في ركابها، فلما بعدا عن الخباء وأطلا على بوردو التفتت سالمة إلى حسان وقالت: «هل كان يخطر لك يا حسان أن نوفق إلى مثل الأمير عبد الرحمن بعد طول انتظار، عملا بالوصية؟»
فقال: «أما وقد ذكرتني بالوصية يا مولاتي، فهل لي أن أسأل إذا كنت ما تزالين محتفظة بتلك المحفظة فقد رأيتها بين يديك، وكان عهدي أنك تحفظينها في مكان لا يراها فيه أحد.»
قالت: «صدقت يا عماه إنها كانت في يدي في أثناء خروجنا من الأسر؛ لأني كنت قد أخرجتها من مخبئها ساعة يئست من الحياة، وحسبت أن هؤلاء العرب سيقتلونني فهممت قبل أن تفيض روحي أن أضم هذه الوصية الي وأتنسم ريح صاحبها منها، ثم أعهد إليك أو إلى سواك أن يوصلها إلى صاحب هذا الجند أما الآن فلا تقلق؛ لأني تأبطتها تحت أثوابي، وما ظنك في مريم وهي وحدها في خباء العرب؟»
قال: «لا بأس عليها يا مولاتي والعرب شديدو العناية بنزلائهم وخصوصا من كان منهم في ضيافة الأمير الكبير، وقد لحظت من أهل ذلك الخباء ترحيبا كبيرا بمريم، فالنساء أحببنها واحتفلن بها وخصوصا ميمونة، وقد سمعت من الخصيان الصقالبة الذين يخدمونها أنها أحبت مريم وبذلت كل ما في وسعها لراحتها.» وكان حسان يتكلم وهو يعدو عدوا خفيفا بجانب ركاب سالمة، وهي تسمع كلامه ممتزجا بشخير الفرس وطقطقة حوافره، فلما قال ذلك جذبت لجام الفرس ليسير بها الهوينا، والتفتت إلى حسان وقالت: «لا أخفي عليك يا حسان أني أخاف على مريم من هذه المرأة أكثر من سائر أهل هذا الجند نساء ورجالا.»
فبغت الرجل وكان يتكلم وهو يتفرس في الأرض ليتقي الحجارة والأشواك، فلما سمع قولها رفع بصره إليها وقال: «وما هو سبب خوفك يا مولاتي؟»
قالت: «لأني شاهدت هذه المرأة التي تسمى ميمونة فإذا هي داهية دهياء، وأظنني عرفتها وأخشى أن تكون قد عرفتني، ولذلك فإني لم أطل الكلام معها ولا شك أن بقاءها في هذا المعسكر خطر، فإذا انتهيت من مهمتي هذه في بوردو وما وراءها فسأعود إلى الأمير وأطلعه على حقيقة هذه المرأة لئلا تخدعهم وتفسد شئونهم؛ لأنها ذات شأن عند الإفرنج ويهمها أن يكون النصر لهؤلاء، وإني أعجب أن تكون في خباء الأمير عبد الرحمن، وعهدي بها في غير هذه البلاد وسننظر في شأنها عند رجوعنا.»
فلما سمع حسان قولها مال بكليته إلى استطلاع الحقيقة، ولكنه لم يجرؤ على السؤال عن اسمها فقال: «وهل أعرفها أنا؟»
قالت: «لا شك في ذلك دعنا من هذا الآن.»
فسكت حسان، وكانا قد أشرفا على أسوار بوردو فرأيا الناس خارج السور زرافات ووحدانا وقد خرجوا لافتداء أسراهم، وكلهم فرحون بما أوتوه من الرفق، وأكثر الناس غيظا من ذلك الرفق اليهود، وخصوصا الذين كانوا قد ابتاعوا الأسرى وهموا بحملهم للاتجار بهم، فلما جاءهم أمر الأمير بالتخلي عنهم غضبوا واستغربوا ذلك وأرادوا الامتناع عن التسليم ثم أذعنوا، فلما رأت سالمة تزاحم الناس هناك تحولت إلى باب من أبواب المدينة بعيدا عن ذلك الزحام، وسارت توا إلى أسقف بوردو فترجلت بباب القلاية، وتركت حسانا عند الفرس، ودخلت تلتمس الأسقف، فرأت أهل ذلك المكان من القسس والرهبان وغيرهم في حركة، وقد تجلت في وجوههم أمارات السرور لما جاءهم به هانئ في مساء الأمس من آنية الكنيسة مع الأمر بافتداء الأسرى، وكان أكثر القسس يعرفونها فرحبوا بها وبشروها بما كان، فهنأتهم وطلبت إليهم أن يستأذنوا الأسقف في مقابلة خاصة، فالتمسوا لها الإذن فلما دخلت عليه تلقاها بترحاب واحترام، مع أنه لم يكن يعرف حقيقة أمرها ولكنه كان يحترمها لحكمتها وسداد رأيها.
فلما دخلت قبلت يده فباركها، وجلست إلى جانبه فسألها عما تريد، فقصت عليه مختصر ما جرى لها حتى انتهت إلى أمر الأسرى فأكدت له أن العرب أكثر الأمم رفقا برعاياهم وأسراهم، وأنهم إنما امتد سلطانهم في الشرق والغرب لما آنسه أهل البلاد على اختلاف مذاهبهم من حرية الدين والعمل على غير المألوف عند أمم الإفرنج في ذلك العصر، وأن ما أصاب كنيسة بوردو من النهب إنما وقع سهوا من بعض ذوي المطامع من أتباع جند المسلمين غير العرب.
فلما سمع الأسقف كلامها تذكر أنه كثيرا ما كان يسمع منها إطراء العرب من قبل ولم يكن يصدق ما يسمع، وكان يظنها تقول ذلك عن هوس مثل هوسها بتعليم ابنتها اللغة العربية وهي مقيمة ببلاد الإفرنج مع كونها غير عربية، فلما سمع قولها بعد ما شاهده من الرفق آمن بصدقها فجاراها في الإطراء، فاغتنمت تلك الفرصة وانتقلت إلى الحديث المقصود فقالت: «لا أنسى يا سيادة الأسقف ما كنت ألقاه من نفورك إذا امتدحت العرب بين يديك حتى شاهدت ذلك بنفسك عن بعد، ولو أتيح لك معاملتهم ومعاشرتهم لزدت ارتياحا لهم ولذلك فإني أستغرب محاربة أهل هذه البلاد لهم، والوقوف في سبيلهم.»
فقال الأسقف: «صدقت يا ابنتي، إننا كثيرا ما سمعناه بعدلهم غير أننا رأينا من بعضهم من القسوة ما يشيب لهوله الأطفال حتى كاد يثبت عندنا ما كنا نسمعه من أنهم يعبدون الأوثان ولا يعرفون عبادة الله.»
الفصل السادس والثلاثون
رأي الإفرنج في المسلمين
فابتسمت سالمة ابتسام الاستغراب، وقالت: «يعبدون الأوثان؟ إن ذلك من الأراجيف التي يشيعها أعداؤهم، فإنهم يعبدون الإله الواحد، ويحترمون الديانة النصرانية احتراما كبيرا ويكرمون السيد المسيح كثيرا، ولا يعقل أن تنسب إليهم الوثنية ونبيهم إنما قام لإبادة الأصنام التي كان العرب يعبدونها من قبله فكسرها ومحا الصورة التي كانت في معبد الوثنية في مكة، وبغض الوثنية إلى أتباعه حتى حرم عليهم التصوير ونحت التماثيل فما يبلغكم من هذا القبيل إنما هو حديث مقصود لغرض من الأغراض، ولا أنكر عليك ما قد يبديه بعضهم من سوء التصرف أو الطمع أو نحو ذلك، فهذا لا يصح القياس عليه كما لا يصح أن نقيس كل أعمال الأساقفة بعمل واحد منهم شذ عن المنهج القويم، وزد على ذلك أن العرب مهما يكن من أمرهم فهم أرفق بأهل هذه البلاد من هؤلاء الإفرنج الذين جاءوا بقبائلهم واستبدوا بهم واستعبدوا الناس واستخدموهم في أشق الأعمال ولم يقلدوا واحدا من أهل البلاد وظيفة من وظائفها، فهم القابضون على زمام الحكومة، وهم المغتصبون لخيرات البلاد، وما الغاليون إلا مثل العبيد أو الأقنان الذين يشتغلون في الحقول، هل رأيت غاليا تقلد منصبا كبيرا، أو هل رأى الغاليون راحة منذ وطئ هؤلاء الإفرنج بلادهم؟ أما العرب فإذا فتحوا بلدا أطلقوا حرية الأديان والمذاهب والمعاملات، حتى الحكومة والقضاء فإنهم يتركونهما لأهله ويقتصرون هم على قيادة الجند وحماية الأهالي من الأعداء، لا يلتمسون أجرا على ذلك إلا مالا يسمونه الجزية وهي لا تساوي بعض ما يقتضيه أولئك الإفرنج من الضرائب الفادحة، ناهيك بالحرية التي يتمتع بها الأهلون تحت عنايتهم، وسيادتكم تعلمون حال أهل هذه البلاد مع الإفرنج الفاتحين فإنها أصعب مما كانت تحت سلطان الرومان قبلهم، أليس معظم الناس هنا عبيدا، فحكامهم يتصرفون فيهم تصرف المالك فيما يملك؟ نعم إن العرب عندهم العبيد والموالي ولكنهم أشد رفقا بهم من أولئك، فإن الرق عند المسلمين غير مستحسن، وكان الإسلام يدعو إلى إبطاله ولو لم ير نصارى الشرق والغرب ما رأوه من الرفق والعدل تحت ظل المسلمين ما فضلوهم على الروم والفرس لقد أطلت عليك الشرح، إن غرضي أن تسعى في حقن الدماء، فهل تساعدني على ذلك؟ إن المسلمين فاتحون هذه البلاد لا محالة، فبدلا من أن يفتحوها عنوة ويسفكوا فيها الدماء ويهدموا المنازل والقصور، فليكن فتحها صلحا ويحفظ لكل واحد ماله وعرضه والسعي في هذا السبيل من واجبات سيادتكم أكثر مما هو من واجبات أمثالي.» وكانت سالمة تتكلم وأمارات الجد والاهتمام ظاهرة في كل كلمة وحركة.
وكان الأسقف يسمع أقوالها ويعجب بسعة علمها عن العرب كأنها عاشرتهم وساكنتهم زمنا طويلا، وكأنها أطلعت على علومهم وآدابهم، ومع كل ما في أقوالها من المخالفة للاعتقاد الذي كان متسلطا على عقول أهل تلك البلاد يومئذ فإنه أحس بالاقتناع بقولها، ونبهه ضميره إلى واجب يقضي عليه بالسعي في حقن الدماء على ما سمعه من سالمة فقال لها: «جزاك الله يا ابنتي على سعيك في مصلحة شعب الله، ونطلب إليه تعالى ونتضرع إلى السيد المسيح أن يقدم ما فيه الخير.»
فلما آنست منه اقتناعا، عمدت إلى تحقيق هدفها بلباقة وحسن سياسة فقالت: «لا أريد من سيادة الأسقف أن يكلف إخواننا المسيحيين تسليم البلاد إلى هؤلاء المسلمين عفوا، ولا أن يساعدوهم على أخذها بالسيف وإنما أرى أن يتركوا الأمر لمن غلب بغير أن يساعدوا أحد الفريقين على الآخر، فإذا غلب الإفرنج فهم أصحاب السيادة والبلاد في أيديهم، وإذا انتصر العرب فلا يضرنا انتصارهم بل هم خير لنا من أولئك.»
فارتاح الأسقف إلى قولها وكان روماني الأصل، وقد رأى من الإفرنج استبدادا في دائرة نفوذه حتى كادت السلطة أن تخرج من يده، فقال لها: «أود أن يعلم إخواني الأساقفة بهذه النصيحة في البلاد الأخرى، ولكنني أخشى أن يطلع الحكام الإفرنج على ذلك فيعود وبالا علينا.»
قالت: «علي إبلاغ ذلك إلى من شئت، وإنما أطلب منك كتابا ترسله معي إلى أسقف بواتيه لا تذكر فيها شيئا غير التعريف البسيط، وأني من أبنائك المخلصين، فإذا أنا لقيته أطلعته على ما أراه من هذا الموضوع، وأتوسل إلى مولاي أن يبث هذه الروح في رجال بطانته على ما يراه، ولا أظن واحدا من أهل بوردو لا يشهد هذه الشهادة عن العرب وقد أعادوا إليهم أسراهم وآنية كنيستهم.»
فقال الأسقف: «صدقت يا ابنتي، ولا يجوز لنا إنكار هذا الجميل.»
قالت: «لذلك أرجو إذا لقيت حاكم البلد أن تبث هذه الروح فيه، إذ ربما طلب إليه الكونت أود نجدة لمساعدته في قطع الطريق على العرب؛ لأني علمت أن الكونت المذكور معسكر في مضيق دردون، وعلى كل حال فقد تركت تدبير هذا الأمر إليك، وإني مسافرة إلى بواتيه في هذه الساعة، فهل تأذن لي في كتاب إلى أسقفها؟»
قال: «نعم» ثم نهض وكتب على منديل من حرير سطرين للغرض المقصود، فتناولت الكتاب وقبلت يده فباركها، وقبل خروجها تذكرت المسافة بين بوردو وبواتيه، وهي نحو مائة ميل لا يمكن قطعها في أقل من ثلاثة أيام أو أربعة، وحسان لا يقدر على السير في ركابها ماشيا كل هذه المسافة، فطلبت إلى الأسقف أن يأمر لها بفرس يركبه حسان فأمر لها بواحد، فخرجت شاكرة وأهل القرية يتباحثون فيما عسى أن يكون من أمر هذه السيدة ومجيئها على تلك الصورة، أما هي فإنها خرجت فرأت حسانا والفرسين في انتظارها فركبت وركب حسان وخرجا من بوردو يلتمسان بواتيه.
الفصل السابع والثلاثون
الدير
وكان حسان يعرف أكثر من طريق يؤدي إلى بواتيه، فسار في أسهل الطرق بحيث لا يكون عليهما بأس وقد دبر أن يصلا كل مساء إلى دير ينزلان فيه ويبيتان ثم ينهضان في الصباح التالي فمشيا بقية ذلك اليوم، وقلما تكلمت سالمة لانشغال خاطرها بالمهمة التي تسعى إليها فلما أمسى المساء أشرفا على دير لا يعد من الأديرة الكبرى، فتحولا إليه وهو قائم على سفح جبل فوق نهر تجري مياهه في معظم السنة، وحول الدير مغارس الكرم والزيتون وأشجار الليمون والتفاح وغيرها، وهو كسائر الأديرة في تلك الأيام، يتألف من بناء محاط بسور عال له باب صغير للدواب ونحوها، فلما أشرفا على الباب تقدم حسان وقرعه بجرس معلق فوقه، فأطل عليه راهب من كوة فوق الباب سأله عن غرضه فقال له: «نحن غرباء نبغي المبيت عندكم، فهل من مكان؟» قال حسان ذلك بلغة أهل البلاد، ولكن ظهر من لهجته أنه غريب عنها ففتحوا لهما، فدخلت سالمة وتركت حسانا لينظر في أمر الفرسين ثم يدخل في جملة خدم الدير، فلما رآها الراهب البواب توسم في منظرها وفي زيها هيئة الجلال والوقار فأسرع إلى الرئيس فأخبره بذلك فأمر أن يدخلها إليه، فعاد وهو يقول: «تفضلي إلى حضرة الرئيس وهو يأمر بغرفة تقيمين فيها ما شئت.»
فمشت سالمة في صحن الدير فرأته مزدحما بالناس من الرجال والنساء والأطفال، وأكثرهم من أهل بوردو وضواحيها، فأدركت أنهم لجئوا إلى الدير خوفا من العرب، فظلت في طريقها حتى أقبلت على غرفة الرئيس، فلما دخلت وقف لاستقبالها ورحب بها وأمر لها بالطعام، وسألها عن مسيرها في ذلك الطريق، فقالت: «إنها قادمة من بوردو، وسائرة إلى بواتيه.»
فلما علم أنها قادمة من بوردو قال: «لعلك في جملة الذين فروا في أثناء الحرب على أثر نهب الكنيسة والفتك بالأسرى؟»
قالت: «لقد أخطأ الذين فروا؛ لأن نهب الكنيسة إنما كان تعديا من بعض الغوغاء المرافقين لجند العرب، ولما علم الأمير بذلك أمر بإعادة الآنية إلى مكانها ورد الأسرى إلى أهلهم بالفدية القليلة، وأحاطوا أهل بوردو بكل وسائل الرفق.»
فلما سمع الرئيس قولها، بدا الاستغراب على وجهه وقال: «وهل يعرفون الرفق؟ وما الذي يدعوهم إليه، أو يردعهم عن الفتك والقتل ولا دين لهم ولا ذمام؟»
فقالت وهي تبتسم: «هل رأيت أحدا منهم يا مولاي؟»
قال: «كلا ولكنني سمعت ذلك من كثيرين.»
وأرادت سالمة أن تدفع تلك التهمة بالبرهان فسمعت ضوضاء وصياحا في بهو الدير، فوقف الرئيس بغتة وصفق فجاءه أحد الرهبان يعدو، فصاح فيه الرئيس: «ما هذه الضوضاء؟»
قال الراهب وهو يضحك والبغتة ظاهرة في وجهه: «هذا داتوس يا سيدي.»
قال الرئيس: «داتوس؟ وما الذي فعله؟ لقد عهدناه معتزلا لا يخاطب أحدا ولا يقوم إلى الطعام إلا كرها!»
قال: «ذلك هو عهدنا به أيضا، ولكننا نراه قد أصيب بجنون مؤقت فهجم على خادم الأميرة (وأشار إلى سالمة) وأوسعه ضربا وصفعا، وهو يصيح: يا أماه! يا أماه! حتى كاد أن يقتله لو لم نتدارك الأمر ونمسكه منه.»
فلما سمعت سالمة ذكر خادمها قالت: «وأين هو حسان؟ وما الذي جرى له؟ هل عليه من بأس؟»
فقال الراهب: «هو في خير وسلامة، ولكننا لم نستطع منع داتوس من الهجوم عليه، فبعد أن أرجعناه عنه هجم عليه ثانية بهراوة كانت بيده، ولما أمسكناه عنه بالعنف رمى بالهراوة على حسان وسقط هو على الأرض وقد أغمي عليه من شدة الغيظ، وقد تركته وهو يختلج ويرتعد، ولا يزال يذكر أمه.»
فنهض الرئيس وهو يهز رأسه كأنه يستعيذ من شر يخافه، وتبعته سالمة وقد استغربت ما سمعته عن ذلك الشاب، وتبادر إلى ذهنها أنه مصاب بخبل في عقله، وبعد هنيهة أشرف الرئيس وسالمة على مكان الحادثة، وكانوا قد أدخلوا حسانا إلى حجرته ليغسلوا جراحه، فوقع نظرها على شاب في عنفوان الشباب مطروح على الأرض، وقد تطايرت قبعته واشتبك شعره، وكان جميل الصورة واسع العينين شديد بياض الوجه أشقر الشعر، وكان قد فتح عينيه وتحفز للوقوف كأنه أفاق من سكرة، وجعل يلتفت يمينا وشمالا كأنه يبحث عن شيء ضائع، فأشار الرئيس إلى الرهبان أن ينقلوا حسانا إلى مكان لا يراه فيه داتوس، وأمسك بيد الشاب وخاطبه بلطف وباركه ودعا له وأشار إليه أن يمضي إلى غرفته، فمضى وهو لا يزال يلتفت ولكنه أمسك عن الكلام.
الفصل الثامن والثلاثون
داتوس
فلما رأت سالمة ذلك الشاب ترجح عندها أنه أصيب بجنون أو سكنه شيطان لكنها أحبت أن تتحقق من ظنها، فلما عاد الرئيس عادت هي معه وقد توسمت في وجهه تغيرا زادها رغبة في السؤال عنه، وأنساها البحث عن حسان، على أنها لم تكد تبدأه بالسؤال حتى سمعته يخاطبها بصوت منخفض قائلا: «ألا تزالين تجادلينني في شأن أولئك العرب وتزعمين أنهم أهل ديانة ورفق؟»
فاستغربت سالمة قوله هذا أكثر من استغرابها عمل داتوس وقالت: «لم أفهم يا أبتي صلة هذا الحادث بالمسلمين أو العرب، بل أرى هذا الإفرنجي قد تعدى على خادمي؛ لأنه عربي حتى كاد يقتله.»
وكانا قد دخلا الغرفة فأغلق الرئيس بابها وأومأ إلى سالمة فجلست على وسادة فوق طنفسة، وجلس هو على وسادة أخرى بالقرب منها وقال: «لو عرفت قصة هذا الشاب وسبب ما ظهر من هياجه وتعديه لثبت لك صدق قولي في العرب، وأقلعت عن اعتقادك فيهم الخير.»
فأصاخت بسمعها ولسان حالها يقول: «ما هي قصة هذا الشاب يا ترى؟»
فقال الرئيس: «اعلمي يا ابنتي أن هذا الشاب من جملة الإفرنج الذين تجندوا لمحاربة أولئك العرب حين بلغهم إقدامهم على فتح هذه البلاد، وكانت له والدة لا يعرف من الأهل سواها ولا هي ترجو سواه، فتركها في بيتها وسار إلى الحرب فاتفق في أثناء غيابه أن جاء المسلمون إلى ذلك البلد، ونهبوا بيت المرأة وساقوها في جملة السبايا إلى قلعتهم في تلك المنطقة فلما عاد الشاب إلى بلده وأخبروه بما حدث لأمه، ساق جواده إلى تلك القلعة ومعه جماعة من الرفاق، فأطل على القلعة وكانت موصدة، فأشرف عليه أحد المسلمين من فوق السور وسأله عن غرضه، فقال له: «أطلب والدتي فإنها أسيرة عندكم.» فأجابوه: «لا نرد لك أمك إلا إذا أعطيتنا الجواد الذي تركبه، وإلا فإننا نذبحها أمام عينيك.» فغضب داتوس لذلك غضبا شديدا وقال لهم: «لا أعطيكم جوادي، وافعلوا بوالدتي ما تشاءون.» قال ذلك وهو يظن أنهم يخوفونه بتهديده بقتلها، وأنهم لا ينوون إعدامها فعلا، ولكنه ما لبث أن رآهم اجتزوا رأسها ورموه إليه وهم يقولون: «هذه والدتك فإليك هي.» فلما رأى رأس والدته صعد الدم إلى رأسه وغاب عن رشده، ولما عجز عن الوصول إلى القاتلين لتحصنهم وراء الأسوار جعل يلطم وجهه ويصفق ويبكي ويركض فرسه يمينا وشمالا كالمجنون، ثم انقطع عن أصحابه وأقام عندنا وقد قص علي خبره فاعتقدت من ذلك الحين أن العرب أهل ظلم وعسف لا دين عندهم ولا رحمة، وقد مضى على داتوس هنا بضعة أعوام لا يتكلم ولا يجالس أحدا كأنه أصيب ببله ويبدو أنه رأى خادمك واستشف من مظهره أو كلامه أنه عربي، فهاج به الغضب وتذكر مصيبته فاندفع إلى ما كان منه.»
وكانت سالمة تسمع ذلك الحديث وهي في دهشة شديدة فلما أتم الرئيس رواية القصة أحست بضعف حجتها في الدفاع عن العرب ولكنها تجلدت وقالت: «لا أنكر على مولاي الرئيس حدوث مثل ذلك من بعض العرب، كما قد يحدث من الإفرنج وغيرهم ولكن المعول في الأمر على أغراض الجند بجملته.»
فقطع كلامها قائلا: «وما عسى أن تكون أغراضهم وقد شاهدنا من أعمالهم في أثناء فتوحهم ما لم يبق معه حاجة إلى دليل ألم ينهبوا الأديرة ويأخذوا آنيتها؟ ألم يأسروا الرهبان ويختاروا أجملهم خلقة ويبيعوهم بيع الأرقاء في إسبانيا، وعهدنا بذلك لا يزال قريبا؟»
فسرت سالمة لاحتجاج الرئيس بهذه الحجة، وقالت: «نعم إن بعض العرب نهبوا بعض الكنائس والأديرة ولكن أمراءهم لم يكونوا يقبلون ذلك، وكثيرا ما كانوا يعيدون الآنية إلى أصحابها ويطلقون سراح الأسرى وخصوصا الرهبان؛ لأن نبيهم أوصاهم بهم خيرا، وآخر ما حدث من هذا القبيل أن بعض الملحقين بجند العرب من البرابرة ونحوهم نهبوا كنيسة بوردو فلما علم أميرهم بذلك رد ما أخذ واعتذر وأوعز إلى جنده ألا يعودوا إلى مثل ذلك، فالعرب أهل رفق وعدل، وفي اعتقادي أنهم خير لأهل هذه البلاد من أولئك الإفرنج، أقول ذلك بين يديك على سبيل الاعتراف السري وأرجو ألا يطلع عليه أحد، فإذا قضت الأحوال بانتصار العرب تحققت من صدق قولي.»
فبغت الرئيس لقولها وصاح: «ينتصر العرب! معاذ الله.»
فضحكت سالمة لبغتته وقالت: «والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء.» وتحققت من أن الرئيس ممن لا يرجى إقناعهم بفضل العرب فسكتت، ولكنها خشيت أن يكون عليها بأس مما جاهرت به من ميلها إلى العرب، فألحت عليه أن يعتبر كلامها في هذا الشأن من قبيل سر الاعتراف، فوعدها بذلك وهو صادق في وعده؛ لأنهم شديدو المحافظة على ذلك السر.
الفصل التاسع والثلاثون
الجرح
وأرادت سالمة - بعد خروجها من عند الرئيس - أن تفتقد حسانا لكنها ظنته قد نام، فمضت إلى الغرفة التي أعدوها لها فباتت تلك الليلة، ونهضت في الصباح وهي تعتزم المسير فبعثت إلى حسان، فقيل لها إنه لا يستطيع السفر لجرح أصابه في رأسه فذهبت إليه بنفسها تتفقد شأنه، فرأته راقدا وقد شد رأسه بمنديل والتعب ظاهر في وجهه، فسألته عن حاله فقال: «لقد أصاب ذلك الشاب مني مقتلا بهراوته، ولولا لطف الله لذهب بحياتي فورا ولست أدري مع ذلك سببا لهذا التعدي.»
ولم تكن سالمة تخفي عن حسان أمرا وهو خزانة أسرارها، فقصت عليه حكاية الشاب واستطردت إلى ما ترتب على ذلك من مناقشات بينها وبين الرئيس إلى أن قالت: «ولا بد من الإسراع في المسير إلى بواتيه، ثم إلى تورس، قبل أن يفسد الأمر علينا، والمسلمون في انتظارنا على أحر من الجمر.»
فقال: «لو استطعت الحركة ما أمسكت عن السفر، ومع ذلك فإذا شئت المسير وحدك على أن ألحق بك حين أستطيع الركوب فعلت.»
فأطرقت سالمة وأخذت تفاضل بين أن تمكث هناك بضعة أيام ريثما يشفى حسان فتفوتها الفرصة، أو أن تذهب وحدها وتعرض نفسها لأخطار الطريق وبعد التفكير مدة رأت أن تتصرف تصرفا وسطا فقالت لحسان: «إني باقية في انتظارك هنا إلى الغد فإذا شفيت واستطعت الركوب سرنا معا وإلا فإني أسير وحدي.» فأثنى عليها وقال: «غدا ستظهر نتيجة الجرح فإذا لم تصبني الحمى كان الشفاء قريبا بإذن الله.»
فعملت سالمة على الاهتمام بجرح حسان كأنه كان في بدنها؛ لأنها كانت تحترمه وتكرمه لانقطاعه لخدمتها أعواما، ولأنها في حاجة إليه، خصوصا في هذا السفر فذهبت إلى الرئيس وطلبت إليه الاهتمام بحسان فأذعن لها؛ لأنه شعر بأنه مظلوم، فاستدعى راهبا كان قد تفقه في الطب، وكان أهل الدير يرجعون إليه في مثل هذه الحوادث، وأوصاه بمعالجته والعناية به، فذهب إليه ومعه سالمة، فلما نزع الرباط وشاهد الجرح زم شفتيه وأبرزهما ورفع حاجبيه، وكانت سالمة ترقب ما يبدو منه، فلما لمست قلقه خفق قلبها خوفا على حسان، ولكنها لم تظهر اضطرابها فسكتت لترى ما يقوله الطبيب فإذا به قد التفت إلى راهب آخر كان في خدمته، وأومأ إليه أن يأتي بالزجاجة فذهب ثم عاد ومعه زجاجة وكأس ، وكان الطبيب في أثناء ذلك قد قص شعر رأس الجريح وأكثره متلبد متلاصق من الدم المتجمد عليه، فاشتمت سالمة رائحة كريهة، ثم صب الطبيب من الزجاجة شيئا كالخمر لونا ورائحة، واستعان بالراهب الآخر على غسل الجرح به، فوقع نظر سالمة على الجرح فإذا هو طويل عميق فازداد خوفها عليه ولكنها تجلدت لتسمع قول الطبيب على حدة.
وبعد الغسيل شد الطبيب الجرح باللفافة وأشار إلى حسان أن يستلقي ويستريح ليرى ما يكون من جرحه في الغد، وتركوه نائما وخرجوا، فلما صاروا خارجا تقدمت سالمة إلى الطبيب تستطلع رأيه فقال: «لقد أبطأنا عليه في العلاج، وكان يجب علينا أن نعجل بتطهير الجرح حينما أصيب، وعلى كل حال لا يمكننا معرفة النتيجة الآن.»
فاستعاذت سالمة بالله وصبرت نفسها إلى الغد، فجاءته في الصباح فإذا هو لا يزال نائما فنادته فلم يجبها فجست يده فرأتها شديدة الحرارة فعلمت أنه يعاني من شدة الحمى، فاستدعت الراهب الطبيب فلما جاء وفحصه، قال: «إن الرجل في غمرة الحمى وفي خطر حتى يفيق.»
فقالت: «ومتى يفيق؟»
قال: «لا بد من الانتظار يوما أو يومين وعلى الله الشفاء.» فارتبكت سالمة، ووقعت في حيرة من أمرها، وخافت على حسان؛ لأنه يسوءها أن يصاب بسوء لما له من الأيادي البيضاء في خدمتها، فضلا عن حاجتها إليه، فقضت ذلك اليوم أيضا كأنها على جمر الغضا وهي تصلي وتتضرع إلى الله أن يشفيه، وقضت ليلها وهي تفكر في هل تنتظر شفاءه أو تسير وحدها، فرأت أنها لو بقيت عند حسان لم تنفعه؛ لأن أهل الدير أكثر عناية به منها، فعزمت على السفر في الغد على أي حال بعد أن توصي الرئيس والطبيب به.
فلما أصبحت سارت توا إلى حسان فرأت الراهبين في خدمته وهو لا يزال غائبا عن رشده فسألتهما عن حاله فقال أحدهما: «أراه قد تندى بالعرق قليلا، وهذه علامة حسنة تبشر بالخير.» فذهبت إلى الرئيس وأخبرته عن اضطرارها للسفر العاجل وأوصته بحسان فبعث إلى الطبيب وبالغ في توصيته فلما خرج الطبيب طلبت من الرئيس أن يرسل معها من يصحبها إلى بواتيه، وأخرجت من جيبها دنانير دفعتها إليه باسم الدير، فأجابها الرئيس إلى رغبتها وأمر راهبا من رهبانه أن يرافقها إلى حيث تشاء، ولما تأهبت للمسير ذهبت إلى حسان كي تراه قبل سفرها، فوجدته على حاله، وخرج الرئيس لوداعها بباب الدير فكررت على سمعه الوصية وقالت: «إذا من الله عليه بالشفاء فأبقه عندك ريثما أعود، فإني عائدة على عجل.» فأجابها بالإيجاب وقد نزلت من نفسه منزلا رفيعا لهيبتها وحكمتها وكرمها، وكان خدم الدير قد أعدوا فرسها وأعدوا لرفيقها الراهب بغلة من بغال الدير عليها خرج فيه بعض الأطعمة الجافة زادا لهما في الطريق، وركبا وسارا والراهب دليل الطريق، على أن البغلة لو تركت لنفسها لم تخطئ الطريق إلى بواتيه، ومنها إلى تورس، لكثرة ما يركبونها إلى تينك المدينتين لنقل لوازم الدير من الآنية والأطعمة وما إليها، وكانت سالمة قبل خروجها من الدير قد التفت برداء أسود فأصبحت كأنها من راهبات تلك البلاد وزادها شبها بهن اصطحابها ذلك الراهب، وكان على رأس الراهب قبعة كالخمار تكسو كل رأسه إلا وجهه وقد تجمعت لحيته بين جناحي الخمار وبرزت إلى الأمام مع شاربه فأصبح فمه غائرا.
الفصل الأربعون
شبح غريب
تواريا عن الدير وقد صارت الشمس في الضحى وتوجها شمالا في طريق بعضه مطروق وبعضه غير مطروق، وكانت سالمة تعجب لما تراه من المنازل المهجورة والكروم المتروكة، وهي تعلم أن أهل القرى إذا نشبت الحرب لجئوا إلى المدن يحتمون بأسوارها، ولكنها رأت ما يدل على الهجرة القريبة كأن أهل تلك الحقول تركوها بالأمس، فقالت في نفسها: «لا بد أن حادثا طرأ على هذه البلاد.» فالتفتت إلى الراهب وهو على بغلته بجانبها وقالت: «مالي أرى الحقول مهجورة على هذه الصورة؟»
قال: «لا أظنك تجهلين ما نحن فيه من الضيق بسبب هجوم العرب على بلادنا، وأهل القرى لا حصون تحميهم من السلب والنهب.»
فقالت: «ولكن العرب لا يزالون بعيدين عن هذه القرى، وربما لا يستطيعون الوصول إليها فكيف هجرها أهلها عفوا؟»
قال: «إن خوف أهل القرى يا ابنتي ليس من جند العرب فقط، بل هم يخافون جند الإفرنج أنفسهم؛ لأنهم إذا مروا بقرية نهبوها وأذلوا أهلها وخربوا منازلها وليس من يردعهم، والظاهر أنهم علموا بقرب مجيء ذلك الجند ففروا من وجوههم، لا أدرى إلى أين ولعلهم لجئوا إلى البلاد البعيدة عن الطريق ريثما يمر الجند فيعودون إلى حقولهم.»
وكانت سالمة تسمع كلام الراهب وترى فيه ما يبشرها بنجاح مهمتها، ولكنها كانت منشغلة الذهن بشبح وقع نظرها عليه عن بعد وهو راكب على جواد وقد ساقه نحو الجهة التي يسيران إليها، ولما رآها الراهب تنظر إلى ذلك الشبح وجه هو التفاته إليه، فلما رأت سالمة انتباه الراهب للأمر قالت له: «ما ظنك بهذا الفارس؟»
قال: «يظهر من زيه أنه من الإفرنج ولا يمكننا أن نحكم على ذلك حكما قاطعا إلا بعد رؤية وجهه وأراه يقترب منا، فإذا دنا رأيناه وعرفناه أو سألناه عن حاله.»
وظل للفارس يقترب منهما حتى وقعت العين على العين فإذا هو ملثم لا يظهر من وجهه إلا العينان، فحياه الراهب فلم يرد التحية، ولكنه تفرس في سالمة وثوبها وفرسها وحول عنان جواده وارتد راجعا إلى الوراء، فلما رأت سالمة ذلك اضطربت وحسبت لذلك الرجوع ألف حساب، وخشيت أن يفطن الراهب إلى ذلك فيسيء الظن بها فتجلدت وتظاهرت بعدم الاهتمام، وقالت وهي تضحك: «يظهر أن الرجل خاف من أثواب الرهبنة؟»
فقال الراهب وهو يظهر الاهتمام: «لا أدري يا ابنتي ما الذي أخافه، ولكنني أعلم أنني تخوفت من رجوعه على هذه الصورة، كأنه جاء للبحث عنا أو عن أحدنا فلما رأى ضالته عاد لإبلاغ النبأ.»
ولم تكن سالمة تظن غير ذلك، ولكنها ظلت على تجاهلها وركزت تفكيرها في محاولة الإفلات مما قد ينصبونه لها من الشراك قبل الوقوع فيها فتظاهرت بتغيير الحديث، فقالت: «وهل نحن بعيدان عن بواتيه؟»
قال: «إذا أسرعنا وسرنا ليلا ونهارا فربما وصلناها في صباح الغد.»
فاستحسنت ذكره المسير ليلا وقالت: «وهل ترى أن نسير ليلا؟ يظهر أنك تستعجل الرجوع إلى الدير لأشغال عندك هناك، فإذا لم يكن علينا بأس من ذلك فلا مانع عندي.»
فقال: «لست مستعجلا وإنما ذكرت لك ذلك على سبيل تقدير المسافة، وأما المسير فلا خطر منه علينا وخصوصا؛ لأني أعرف أهل البلاد ويعرفونني، وزيدي على ذلك أن الليلة مقمرة، فإذا شئنا نزلنا عند العشاء في دير أعرفه بجانب الطريق، فنتناول الطعام ونستريح وننام قليلا ثم ننهض في نصف الليل ونركب توا إلى بواتيه فنصلها في الضحى، وإذا كان ذلك متعبا لك فافعلي ما تشائين؛ لأني إنما أمرت أن أكون في خدمتك إلى حيث تسيرين.»
فأعجبها رأي الراهب وسرها السبيل الذي نفذت به إلى ذلك، وفي اعتقادها أنها متى وصلت بواتيه كان لها من أسقفها ما يقيها غائلة الجواسيس أو غيرهم، وخصوصا؛ لأنها تحمل له وصية من أسقف بوردو، ومتى دخلت القلاية أو الدير الذي فيه الأسقف لا يجرؤ أحد على أن يؤذيها.
فأظهرت أنها تساير الراهب في رأيه، واستحسنت أن يبيتا تلك الليلة في الدير الذي أشار إليه فسار وسالمة تتلفت وراءها خلسة، وهي تتوقع أن ترى أناسا مسرعين في طلبها، أما الراهب فكان مستغرقا في صلاة يتلوها وهو على ظهر بغلته، وقد قضيا بقية ذلك اليوم وهما يركضان الدابتين فغابت الشمس ولم يدركا الدير المقصود، وكان القمر في ربعه الثالث فجاءت العشاء ولم يطلع بعد، فمشيا في الظلام وسالمة تسوق جوادها وراء بغلة الراهب وهي لا ترى الطريق وقد سكتا وسكنت الطبيعة، ولم يكن يسمع هناك إلا وقع الحوافر تارة على الحصى وطورا على العشب وقد تعب الفرس ولم يعد يستطيع العدو، وأما البغلة فظلت نشيطة والراهب يمسكها عن العدو لئلا تسبق الفرس.
الفصل الحادي والأربعون
المسافة طويلة
مضى جانب من الليل وهما في ذلك وأبصارهما شاخصة إلى ما يتراءى لهما من رءوس التلال، وإذا هما بنور قد ظهر على مرتفع، فلما رأته سالمة أرادت أن تسأل الراهب عنه فابتدرها قائلا: «ها نحن على مقربة من الدير يا سيدتي.»
ففرحت سالمة بذلك رغبة في الراحة، وكادت تنسى ما كانت فيه من الاضطراب التماسا للسرعة.
وصار مسيرهما صعودا على الآكام والبغلة دليلهما في ذلك الظلام، كأنها تسير وبين يديها المشاعل والأنوار، والفرس يتبعها وسالمة ممسكة بزمام الفرس خوفا من أن تزل قوائمه، فزادها ذلك تعبا، وبعد مسير ساعة على هذه الصورة، وصلا إلى سفح ذلك الجبل ولا يزال النور الذي شاهداه على نحو المسافة التي كان عليها عندما رأياه لأول مرة، وكانت سالمة تسمع في أثناء ذلك الصعود صدى حوافر فرسها فتتوهم أن فرسانا سائرين في أثرها، ولم يكن يسليها في تلك الحال إلا ذكر السيد المسيح ورسم إشارة الصليب، وقد أصبحت لفرط قلقها لا تجرؤ على الالتفات إلى الوراء.
وأما الراهب فكان قد عاد إلى الصلاة واستغرق في الدعاء وبعد قليل رأت سالمة النور يقترب منهما، فتحققت أنهما صارا على مقربة من الدير فنشطت، ونسيت التعب ونادت الراهب قائلة: «لعلنا في آخر رحلتنا يا حضرة الأب؟»
قال: «وصلنا الدير يا ابنتي فاطمئني.»
ثم وصلا إلى سطح منبسط ينتهي ببناء عال عرفت سالمة من شكله أنه دير فتحققت أنهما وصلا إلى المكان المقصود، ثم رأت نفسها تقترب من ذلك البناء حتى صارت بجانب الباب، وقد توارى النور الذي كانت تراه عن بعد، وإذا بالراهب قد ترجل ومشى نحو الدير وزمام البغلة في يده، وهي لا تزال على فرسها حتى وقف الراهب بجانب باب الدير، فأمسك بحبل مدلى بجانبه وشده فسمعت قرع الجرس ثم أطل بواب الدير من كوته وقبل أن يسمعا نداءه صاح الراهب باللغة اللاتينية قائلا: «افتح سريعا.» فكان كلامه بتلك اللغة أحسن وسيلة للتعريف، ولم تمض برهة وجيزة حتى فتح الباب وخرج منه راهب طويل القامة دقيق العضل، خاطب الراهب باللاتينية واستقبله فترجلت سالمة ودخلت إلى غرفة الضيوف، وهو يرحب بهما ويسأل الراهب عن سبب تأخره حتى دخلا الغرفة، ورجع البواب ثم عاد بشمعة مضيئة مغروسة في شمعدان من خشب عليه أثر الشمع القديم فوضعه في الغرفة وخرج ثم جاءهما بطعام، فجلست سالمة وقد أخذ التعب منها مأخذا عظيما ونسيت ما هي فيه من الجوع، فقدم لها الراهب الطعام في قصعة فتناولت منه شيئا ونفسها تطلب النوم أكثر من الطعام، فأكلت وشربت قليلا من الخمر مع الماء وتوسدت الفراش، ولم توص الراهب بإيقاظها طمعا في الراحة اللازمة، وتغافلت عن رغبتها في السرعة اعتمادا على ما يتراءى للراهب من انتهاز الوقت.
وأما الراهب فلما رآها تنام صعد إلى غرفة البواب فجلس عنده قليلا، وتحدثا في شئون كثيرة معظمها خارج عن موضوع المهمة التي ترغب سالمة في البحث فيها، وفي آخر السهرة استفسر الراهب، رفيق سالمة، عن أقرب الطرق إلى مدينة بواتيه.
فلما أجابه الراهب علم أنه كان على هدى من رأيه في خط ذلك المسير، وذهب إلى فراش أعدوه له في غرفة أخرى فنام، ولم يكد يتوسد الفراش حتى أحس بالتعب وغلب عليه النعاس فاستغرق في النوم ولم ينهض إلا عند الفجر، فهرول إلى سالمة فأيقظها وذهب إلى مربط البغال، وأحضر الفرس والبغلة فركبا وسارا يلتمسان بواتيه.
وأشرقت الشمس وهما لا يزالان بين الجبال لا يريان ما وراءها، وسالمة تحسب نفسها تائهة، ولولا ثقتها بمعرفة الراهب تلك الجهات لتحققت أنهما ضلا الطريق، ووصلا عند الضحى إلى رابية أطلا منها على سهل بعيد، رأيا في أحد جوانبه مدينة في منتصفها قبة عالية في قمتها صليب علمت سالمة أنها قبة كنيسة بواتيه، فانشرح صدرها ونسيت تعبها وقلقها وانبسط وجهها وقالت: «أليست هذه بواتيه؟»
فقال الراهب: «نعم يا ابنتي هذه بواتيه، وبعد قليل نصلها وندخلها بإذن الله.»
فقالت: «من أين ندخلها؟ إني أرى سورا.»
قال: «ندخلها من بابها الجنوبي الذي ترينه وأمامه تلك الشجرة الكبيرة.»
الفصل الثاني والأربعون
خطر آخر
فانشرح صدر سالمة لوصولها ونجاتها من الخطر لاعتقادها أنها إذا دخلت مدينة بواتيه فلا خوف عليها ولكنها لم تكد تصل إلى الباب حتى رأت جماعة على خيول بملابس جنود الإفرنج قد خرجوا من الباب، وفي مقدمتهم فارس ملثم، وعلى رءوسهم الخوذ وعليهم الدروع، وقد تقلدوا السيوف المستقيمة بمناطق من جلد وتحت الدروع جبب قصيرة إلى الركب، وقد لفوا على سيوفهم لفافة من جلد وعلقوا بأكتافهم جعب النبال وتلثموا بخمر من الحلق المشتبك، ولم يظهر من وجوههم إلا العيون والأنوف والأفواه وبعض اللحى، فلما رأت سالمة ذلك الفارس الملثم عرفت أنه جاسوس الأمس فخفق قلبها لرؤيته، ثم ما لبثت أن رأته قادما نحوها والفرسان يتبعونه على عجل فازداد اضطرابها واستعاذت بالله، وأدنت فرسها من الراهب كأنها تحتمي فيه أو تنوي سؤاله عن شيء وقد امتقع لونها وتحققت من الخطر المحدق بها، وإذا بالفارس الملثم قد أومأ إلى رفاقه وأشار بإصبعه إليها كأنه يقول: «هذه هي فاقبضوا عليها.»
فأحاطوا بها وبالراهب أيضا، فسألهم الراهب عن غرضهم فقالوا: «قد أمرنا بالقبض عليكما والسير بكما إلى حضرة الدوق أود.»
فقال: «وما الذي دعا إلى ذلك، وما نحن من أهل السياسة ولا الحرب فإني راهب وهذه امرأة أظنكم مخطئين.»
قالوا: «لسنا مخطئين هيا معنا طائعين، ولا فإنكما ذاهبان كرها.»
فلما تحققت سالمة من وقوع الخطر، ورأت أن نجاتهما مستحيلة من بين يدي أولئك الفرسان تجلدت وقالت: «أظنكم تلتمسون القبض علي وليس على هذا الراهب، فأطلقوه وها أنا أسير معكم إلى حيث تشاءون، ولا حاجة إلى التهديد والوعيد.»
فتعجب الراهب من جرأتها ورباطة جأشها وحدثته نفسه أن يرفض النجاة بنفسه ويطلب البقاء معها، ولكنه رأى أن بقاءه لا ينفعها، وخشي لوم رئيسه فسكت ليرى ما يكون منهم فإذا بالفارس الملثم قد خاطب كبير الفرسان همسا، فأشار هذا إلى الراهب بالانصراف، وأحاطوا بسالمة وساروا بها ولم يلتفتوا إلى الخلف.
أما هي فلما رأت نفسها في قبضة الإفرنج ولا حيلة لها في النجاة، تذكرت أنها تحمل رسالة من أسقف بوردو إلى أسقف بواتيه، فخشيت إن هم فتشوها أن يعثروا على الرسالة فيقع أسقف بواتيه تحت طائلة الغضب، فاحتالت ورمت الرسالة في مكان بحيث لا يراها أحد ، ثم تذكرت المحفظة وفيها كل سرها فخفق قلبها خوفا من وقوعها في أيدي أولئك الإفرنج، فجرها ذلك إلى التفكير في ابنتها وكيف تركتها في معسكر المسلمين، وتمثلت في ذهنها ميمونة وما كانت تخشاه من دسائسها، فترجح عندها أن ما أصابها إنما كان بإيعاز من ميمونة، إذ ليس في أكتانيا كلها من يعرفها أو يسيء الظن بها سواها ولكنها عادت فتذكرت أنها خرجت في تلك المهمة سرا، ولم تكاشف أحدا بخروجها غير مريم، وقضت سالمة ساعة في تلك الهواجس وهي سائرة على فرسها والفرسان محيطون بها وفي جملتهم ذلك الجاسوس الملثم وكانت تسترق النظر إليه لعلها تستطيع معرفته؛ لأنها لو رأت وجهه لانكشف سر ذلك الأمر، ولكنه كان شديد الحرص على لثامه، على أنها تفرست في ثيابه فرأت بالرغم من أنها تبدو في الظاهر إفرنجية، فإنه يظهر من تحت ردائه القصير أن باقي الثوب ليس إفرنجيا، ورأت أن ما انكشف من ساقيه أسمر اللون، ولون الإفرنج مشرب بحمرة، فتحققت أنه جاسوس من خدم ميمونة، فندمت؛ لأنها لم تكشف أمرها للعرب لينجوا من حبائلها، وأصبحت من جهة أخرى، تخشى أن توقع المسلمين في شراكها أو تفسد أمرهم، فيذهب سعيها في نجاحهم أدراج الرياح، وودت لو أنها تستطيع إبلاغ ذلك إلى الأمير عبد الرحمن، فتأسفت؛ لأنها تركت حسانا في الدير ولا تدري مع ذلك هل شفي جرحه، أم أصابه سوء بسببه، وتصورت كيف يكون حال ابنتها ووحيدتها إذا فشل المسلمون، فتراكمت عليها الهواجس وعظم الأمر عليها وغلبها اليأس، فانخرطت في البكاء خلسة، فلما بكت خف بعض ما بها، ولكن الأمر ما برح عظيما.
وما زالوا سائرين بضع ساعات وسالمة تتهيب مقابلة الكونت أود لئلا يعرفها فيكبر جرمها عنده ويكون ذلك خاتمة المصائب، فلما كثرت مشاغلها وهواجسها أخذ الأمر يهون عليها، وهو لم يهن حقيقة، ولكن الإنسان إذا وقع في مصيبة استعظمها وكاد ينوء تحت ثقلها، فإذا تراكمت عليه المصائب ساعده اليأس على احتمالها فكم من أرملة كان الناس يحسبون أنها ستموت ساعة موت زوجها، فلما مات لم تمت ولكنها أعظمت المصيبة فعزاها الناس ببقاء أنجالها ، ثم أصيبت في واحد منهم، ثم بآخر ففرغت حيل الناس في تعزيتها ولكنهم رأوا أنفسهم - بعد حين - في غنى عن ذلك بما استولى على تلك الأرملة الثكلى من اليأس، كأن القلب يندمل من توالي الأحزان، أو أنه يعتاد المصائب فيستخف بها، وهكذا شأن من تحيط به المشاكل، تراه عند وقوعه في المشكل الأول أكثر ارتباكا وخوفا مما يصير إليه حاله عند تعددها، فكانت كلما تعددت مشاكلها هونت على نفسها.
الفصل الثالث والأربعون
الدوق أود
وفي أصيل ذلك اليوم أشرفوا على كرم وراءه سهل واسع، رأت في منتصفه قصرا كبيرا حوله الخيام وبينها الناس يعجون عجا، وفوق القصر علم عرفت حين رأته أنه للدوق أود فتحققت أنها وصلت إلى المكان المقصود، وأن القصر المذكور لبعض أغنياء البلاد هجره أهله في جملة ما هجروه، فنزل فيه أود وأقام رجاله في الخيام حوله.
وما زال الفرسان سائرين بها حتى وصلوا إلى باب القصر فترجلوا وترجلت، فسلموها إلى الحرس الواقف بالباب، فدخلوا بها إلى القصر وهي ملثمة بثوبها الأسود ومقنعة بخمارها الأسود، مشت بقدم ثابتة بين الحرس حتى تجاوزت باحة البيت إلى قاعة وقف الحرس ببابها، ودخل أحدهم ثم عاد وأشار إلى سالمة أن تدخل.
فدخلت إلى قاعة يظهر من سعتها وما على جدرانها من الرسوم الجميلة أن أصحاب ذلك البيت من أهل اليسار، ولم تر في أرض القاعة طنافس ولا مقاعد غير ما كان يحمله الجند في سفرهم، وشاهدت على كرسي في وسط القاعة رجلا نحيف البدن ممتقع اللون أشقر الشعر أشيبه، أزرق العينين جاحظهما، غائر الفم بارز اللحية، منخسف الخدين بارز الوجنتين، وعلى رأسه قبعة عنابية اللون مزركشة بالذهب وفي مقدمتها فوق جبينه حلية مرصعة بالماس والياقوت بشكل الصليب، وعلى كتفيه بردة مزركشة بالقصب سماوية اللون تغطي ثيابه، وتحت البردة جبة قصيرة من القطيفة حولها منطقة عريضة منسوجة بالذهب على أشكال بعض الطيور، وحول ساقيه لفافة من جلد ملون له أهداب من الفرو، ونعلاه مشدودتان إلى قدميه بسيور من نسيج الشعر المتين ، وقد جلس على كرسي ذي جناحين أسند زنديه إليهما، وقد ظهر من تحت البردة سلسلة ذهبية مدلاة من عنقه وفيها صليب من الذهب، فعلمت سالمة أنه الدوق أود؛ لأنها كانت تعرفه جيدا وتعرف بعض الذين بين يديه من أمراء مجلسه.
وكان أود قبل دخول سالمة قد تناول من أحد جلسائه قدحا فيه خمر وهم بشربه، فلما أمر بإدخالها وضع القدح على المائدة أمامه بين الأقداح الأخرى ومسح لحيته بيده ثم جعل يسرحها بأنامله، فدخلت سالمة وهو على تلك الحالة، وحالما وقع نظره عليها ظهرت البغتة في عينيه، ولولا اصفرار وجهه الطبيعي لبدت أيضا في امتقاع لونه، ولم تكن سالمة أقل تأثرا منه ولكنها كانت قد تجلدت وذهبت بغتتها فوقفت بين يديه وخرج الحرس ثم أومأ أود إلى أهل مجلسه فخرجوا جميعا وبقي هو وسالمة.
فلما رأت سالمة نفسها وحدها زادت تهيبا، فإذا هو قد أشار إليها أن تجلس فجلست على كرسي بين يديه جلوس متحفز للنهوض، فخاطبها أود بالإفرنجية قائلا: «ألهذا الحد بلغ منك الغيظ؟»
فأجابت وهي تتجاهل: «وأي غيظ يا مولاي؟»
قال: «أتظنين أني نسيتك يا أجيلا؟»
فلما سمعت سالمة لفظ «أجيلا» ارتعدت فرائصها؛ لأنها لم تسمع أحدا يناديها بهذا الاسم من زمن بعيد، ولكنها تجلدت وقالت: «أظن أن مولاي مخطئ في شأني، ولعله يقصد امرأة غيري.»
قال وهو يضحك: «أظنني واهما إذا كانت عيناي واهمتين، فهل تظنين أن قلبي واهم أيضا؟ هل أنسى أجيلا وقد جرحت قلبي، وأساءت إلى سلطاني ولكنها أساءت إلى نفسها، ألم يكن من التعقل والحكمة أن تقلعي عن ذلك الجنون؟ أليس من العار عليك وأنت مسيحية مولودة في بيت من أكبر بيوت المسيحيين أن تتعاوني مع قوم غرباء لا دين لهم ولا ذمام وتساعديهم على أهل ديانتك؟»
قالت وهي لا تزال مطرقة: «لم أفهم يا مولاي مغزى كلامك كأنك تخاطب امرأة غيري، فإن الاسم الذي ناديتني به ليس هو اسمي، وإنما اسمي سالمة.»
فأغرق أود في الضحك حتى سمع قهقهته كل من في القصر ، ومد يده إلى المائدة فتناول قدحه وشربه وهو ينظر إلى سالمة وهي لا تزال مطرقة، ثم أعاد القدح فارغا ومسح فمه بيده وهو يقول: «ما لنا وللإنكار والإثبات، أخبريني يا سالمة - كما تسمين نفسك - ما الذي جئت من أجله إلى هذه المدينة، وما الذي فعلته عند أسقف بوردو؟»
فأدركت سالمة أنه مطلع على كل شيء من أمرها، فقالت: «وما الغرابة في زيارة امرأة مسيحية لأسقف كنيستها؟»
قال: «لا غرابة في الزيارة، ولكنني أسألك عما دار بينكما وعما حملك على الذهاب إليه.»
قالت: «لا يخلو أن يكون قد دار بيني وبينه حديث طويل في شئون سرية لا تهم أحدا؛ لأن جماعة الأكليروس خزانة أسرارنا.»
قال: «لا أسألك عن اعترافك إليه فيما يتعلق بشئونك، ولكنني أسألك عما دار بينك وبينه بشأن الإفرنج والعرب والحرب والسلم.»
الفصل الرابع والأربعون
التهديد
فلما سمعت تصريحه لم يبق عندها شك في اطلاعه على سرها فأيقنت بالوقوع ويئست من النجاة، فساعدها اليأس على الجرأة فقالت: «يظهر أنك عالم بما دار بيني وبينه فلا حاجة إلى سؤالي.»
قال وهو يظهر الغضب: «أهكذا تجاوبين الدوق أود؟ هل بمثل هذه الجرأة تخاطبين دوق أكيتانيا؟»
فظلت سالمة ساكتة، ولكنها ابتسمت ابتسامة فهم أود منها ما هو أكثر صراحة من الجواب، فابتسم وكأنه ندم على ذلك التهديد فقال: «تلك أيام مضت وقد أردنا إرجاعك إلى مثلها فأبيت فأسأت إلى نفسك وإلى ابنتك ولا ذنب لها وإنما الذنب ذنبك فقد أردت أن تهوى ابنتك الذين تهوينهم أنت، وأن تبيع ديانتها وكنيستها جزافا وأن يكون نصيبها مع أولئك المسلمين، وفي الحق أني لم أفهم سر ذلك العناد منك.»
فأيقنت سالمة أن أود مطلع على كل شيء كأنه كان معها في خيمة عبد الرحمن حينما صرحت له بسرها واستغربت اطلاعه على تلك الأسرار، ولم تجد لها خيرا من السكوت أو الإنكار فقالت: «أراك لا تزال تخاطبني بالألغاز والإشارات والتلميح والتعريض فالذي تريد أن تعتقده في اعتقده وما تريد أن تفعله افعله.»
قال: «الذي أريد أن أفعله يا أجيلا سترينه رأي العين، ولو أظهرت هذه الوقاحة في مجلسي وبين أرباب حكومتي لما استطعت الإغضاء عن قتلك، ولكنني أسامحك الآن إكراما للحب القديم، أما الآن فقد تحول ذلك الحب إلى الغضب والانتقام، ويكفيني انتقاما منك أن أريك حبوط مسعاك، فمتى رأيت الأرض مضرجة بدماء أولئك العرب والبرابرة، كنت مخيرة بين أن تموتي حسرة أو أن نقتلك بالسلاح الذي تختارينه.» •••
قال ذلك ولحيته تضطرب، وعيناه قد كللهما الاحمرار من شدة الحنق والغيظ؛ لأن الإنسان إذا غضب ولم يشف غضبه بالضرب أو نحوه اشتد تأثيره، وقد يحاول إخفاء عواطفه بالكتمان ولكن العينين تبوحان بسر القلب على حد قول الشاعر:
عيناك قد دلتا عيني منك على
أشياء لولاهما ما كنت رائيها
والعين تعلم من عيني محدثها
إن كان من حزبها أو من أعاديها
فلما رأت سالمة غضب أود وتصريحه بما في قلبه من الغيظ مع علمها أنه فاعل معها ما يريده؛ لأنها أسيرة بين يديه، رأت أن السكوت أجدر بها لعلمها أن ما توهمه أود في نفسه من القدرة على العرب محال؛ لأنهم هزموه في عدة مواقع.
فلما رآها أود لا تزال ساكتة ازداد هو حنقا فقال لها: «أراك لا تزالين صامتة!»
فقالت وهي تظهر التجلد وعدم الاكتراث: «وماذا عسى أن يكون جوابي لأمير حوله الجند والأعوان والعدة والسلاح، يهدد امرأة وحيدة لا نصير لها ولا سلاح في يدها، فالذي ترى أن تفعله أيها الدوق افعله!» •••
وهم أود أن يجيبها، فسمع قرع الباب قرعا عنيفا، فدهش لذلك لعلمه أن أحدا من أعوانه لا يجرؤ على إقلاق راحته في مثل تلك الحال، فنهض بنفسه مسرعا إلى الباب وطليسانه يجر وراءه وقد حمي غضبه، ففتح الباب فاستقبله أحد رجال خاصته، فصاح قائلا: «ما الذي حملكم على هذا القرع العنيف وأنتم تعلمون أنني في جلسة خاصة؟»
فقال: «العفو يا مولاي، إننا فعلنا ذلك بإشارة هذا الرسول فإنه قادم من سفر ومعه رسالة عاجلة في غاية الأهمية أوصاه مرسلها أن يسلمها إلى حضرة الدوق حال وصوله إلى معسكره، وإذا كان نائما فليوقظه من نومه.»
فبغت أود وقال: «أين هذا الرسول؟ دعه يدخل.»
الفصل الخامس والأربعون
الكتاب
فدخل رجل عليه لباس الإفرنج ولكن وجهه يدل على أنه من برابرة إفريقية، فلما شاهدته سالمة عرفت أنه من جند المسلمين وقد جاء متنكرا أما هو فقد مد يده إلى جيبه وأخرج لفافة دفعها إلى أود، فتناولها وتراجع إلى كرسيه فجلس عليه، وفض اللفافة فإذا فيها منديل عليه كتابة فأخذ في قراءتها حتى أتى على آخرها، ثم عاود قراءتها ثانية والبغتة ظاهرة على وجهه.
وكانت سالمة تتغافل عن ملاحظة حركات أود وتسترق النظر إلى الرسول، فإذا هو يسترق النظر إليها وكأنه عرفها، وأما هي فعرفت أنه من رجال البربر، ثم ما لبثت أن رأت في عينيه حولا شديدا فتذكرت أنها رأته في معسكر عبد الرحمن، فأدركت مصدر تلك الرسالة وودت لو يتاح لها الخلاص من ذلك الأسر لعلها تستطيع القيام بخدمة العرب.
أما الدوق أود فبعد أن فرغ من تلاوة الكتاب ثانية تظاهر بالإطراق والتفكير وهو ينظر خلسة إلى سالمة، يرقب حركاتها وما قد يبدو في وجهها، فرآها تبالغ في التجاهل وأحب أن يعود إلى البحث في شأنها لكنه رأى في ذلك الكتاب ما يدعو إلى سرعة العمل فأومأ إلى الرسول فخرج، ثم صفق فدخل إليه أحد غلمانه وبيده حربة ووقف متأدبا، فأشار إليه أود أن يأخذ سالمة إلى غرفة منفردة من غرف القصر يحبسها فيها، ثم التفت إليها قائلا: «إذا كنت مصرة على الإنكار والتجاهل، فاذهبي إلى حيث يقودك هذا الحارس وسننظر في شأنك.»
فنهضت سالمة ومشت، ولم تبد جوابا فسار بها الحارس حتى خرج من باحة القصر إلى دهليز نفذ منه إلى باب أدخلها فيه، إلى غرفة ليس فيها إلا حصير وطنفسة ولها نافذة تطل على معسكر الإفرنج، فتركها الحارس هناك وأغلق عليها الباب فظلت هي واقفة تنظر إلى ما تطل عليه النافذة من الخيام المنصوبة، وبينها الرجال في ذهاب وإياب لقضاء حوائجهم، حتى إذا تعبت من الوقوف جلست على الطنفسة، وقد عظم عليها ذلك السجن مع ما يترتب عليه من عرقلة مساعيها، وودت لو أنها تطلع على نص تلك الرسالة لتعلم ما دبروه لها ولجند العرب ولكنها قالت في نفسها: «إذا لم يكن ثمة سبيل إلى خروجي من هذا المعسكر فما الفائدة من الاطلاع على الرسالة!»
وظلت على تلك الحال إلى الغروب وهي لم تذق طعاما، وكانت لفرط مشاغلها لا تشعر بمرور الوقت، فلما غابت الشمس اسودت الدنيا في عينيها وتذكرت ابنتها، وميمونة، وعبد الرحمن، فتذكرت المحفظة فتفقدتها، فإذا هي لا تزال محفوظة تحت ثيابها لكنها أصبحت لا ترى فائدة منها وهي في تلك الحال بعيدة عن كل نصير، وخصوصا خادمها، وقد تركته بين حي وميت، فغلب على ظنها أنه لم ينج من تلك الحمى؛ لأنها أصبحت بعد وقوعها في ذلك الشرك لا تتوقع غير توالي النحس، والإنسان إذا أصابته مصيبة انصرف ذهنه إلى استهدافه لسواها، وإذا صادف توفيقا في عمل خيل له أن الأقدار قد أبرمت معه عهدا ألا تأتيه بغير ما يرضاه.»
فاشتغلت بتلك الهواجس عما في ذلك القصر من ضوضاء الجند بين خارج وداخل، وعن غوغاء الناس في المضارب وخاصة ساعة الغروب وقد نفخ في البوق لدعوتهم إلى الطعام.
الفصل السادس والأربعون
الطارق
وبينما هي مشتغلة في ذلك، إذا بقلقلة في مكان القفل بالباب، فأجفلت ونظرت إلى الباب فرأت من ثقبه نورا في الخارج، ثم فتح الباب ودخل منه شاب بملابس الإفرنج في إحدى يديه شمعة مضيئة، وفي الأخرى قصعة مغطاة بشيء كالخبز، فعلمت أنهم جاءوها بالطعام، فأحست بالجوع ولكنها لم تتمالك أن صاحت: «من أنت؟»
فأجابها الشاب بصوت هادئ: «لقد جئتك يا سيدتي بطعام بأمر سيدي الدوق، وقد أوصاني أن أرجوك لتأكلي من هذا الطعام فإنه طعامه الخاص.»
فاستغربت سالمة هذا الإكرام منه بعد ما دار بينها وبينه، ولكنها سكتت وهي تنتظر ما يفعله الشاب فإذا هو قد وضع القصعة على الطنفسة ورفع الخبز عنها فرأت تحته شيئا من الطيور المطبوخة وقد فاحت منه رائحة يشتهيها الشبعان، فكيف بالجائع! ولكنها أمسكت نفسها مخافة أن يكون في الطعام سم أو نحوه، وإن كان الجوع يدفعها إلى الأكل، فرأت أن تنظر في وجه الغلام لعلها تتوسم فيه ما يشجعها أو يحذرها، فرفعت بصرها إليه والشمعة لا تزال في يده وقد وقعت أشعتها على وجهه فاذا هو يختلف في سحنته ولون بشرته عن أهل تلك البلاد مع أن كلامه إفرنجي، فتبينت تقاطيع وجهه فإذا هو أسود العينين براقهما خفيف العضل أسمر البشرة خفيف اللحية صغير العارضين لحداثته، وتدل ملامحه على أنه ليس إفرنجيا فلم تستغرب ذلك لعلمها بما كان يدخل بلاط الملوك في تلك الأيام من الأسرى والمماليك من أمم مختلفة فتفرست في وجهه لترى ما قد يزيل الشك الذي ساورها من أمر الطعام، فلم تر في وجه الغلام ما يدعو إلى الخوف، لكنها أرادت أن تتحقق من ذلك من سماع كلامه فقالت: «ما اسمك أيها الشاب؟»
قال: «اسمي رودريك يا سيدتي.»
فلما سمعت ذلك الاسم، خفق قلبها وأجفلت وتصاعد الدم إلى محياها بغتة، لكنها انتبهت لنفسها في الحال وحولت نظرها إلى القصعة ومدت يدها إلى الخبز وتشاغلت بتقطيعه بهدوء وسكينة، والغلام واقف وقد لحظ منها ذلك الاضطراب فلم يفهم له سببا سوى أنها تحتاج إلى أمر وقد منعها الحياء من طلبه، فانتبه للحال أنه لم يأتها بالماء للشرب فابتدرها قائلا: «أظنك تحتاجين إلى الماء؟»
ثم وضع الشمعة على البساط وخرج، وقد ترك الباب مفتوحا، ففهمت سالمة أنه ينوي الرجوع بعد قليل.
ولم تمض هنيهة حتى سمعت وقع أقدامه ثم دخل وبيده كوب فيها ماء وضعها أمامها وهو يبتسم، وكان قد سكن اضطرابها فنظرت إليه فأحست بارتياح إلى رؤيته، واستأنست به، فشكرت عنايته وودت لو أنه يتولى أمرها دائما. •••
أما هو فوضع الكوب وخرج، وأغلق الباب من ورائه إغلاقا خفيفا كأنه عازم على الرجوع.
فتناولت سالمة بعض ما في القصعة، وشربت الماء وهي تفكر فيما آنسته من ذلك الغلام من الود، ولبثت بعد فراغها من الطعام تنتظر رجوعه، وبعد قليل سمعته وهو يمشي الهوينا، ثم دخل يحمل غطاء ثقيلا ووسادة فألقاهما على الأرض وهو يقول: «هذا غطاء ووسادة وقد أوصى مولاي الدوق بهما لك.»
فتناولتهما وقالت له: «أشكر عنايتك أيها الشاب وأرجو أن أستطيع مكافأتك، وعسى ألا يتولى أمري من أهل هذا المعسكر سواك، وإن كان في ذلك إثقال عليك.»
فأجابها رودريك وهو يبتسم: «وأنا أرجو ألا يتولى ذلك سواي؛ لأني أخشى أن يتولاه من لا يعرف قدرك، فلا يحسن خدمتك.»
فأدركت سالمة من ذلك أنه يعرف شيئا عنها فتجاهلت وسكتت أما هو فإنه أخذ القصعة والكوب وتحول نحو الباب، وهو يقول: «وسترينني رهن إشارتك وسأبذل أقصى الجهد في خدمتك فليطمئن بالك.» ثم أغلق الباب وخرج. •••
وبعد خروجه شعرت سالمة بارتياح أنساها بعض ما بها من الاضطراب، فافترشت جانبا من الغطاء وتغطت بباقيه وتوسدت تلتمس النوم، وكانت قد شعرت بالتعب على أثر ما قاسته في ذلك اليوم وما قبله، فغلب عليها النعاس فنامت نوما عميقا.
ولما أفاقت جاءها رودريك بطعام الصباح وتولى خدمتها في كل ما تحتاج إليه، وتفرست فيه على ضوء النهار فتحققت من أنه بعيد الشبه عن الإفرنج وقريب الملامح من العرب، ولكنها رأته يتكلم الإفرنجية مثل أهلها واسمه إفرنجي فعزمت على استطلاع حقيقته بعد أن تأنس فيه ثقة بها، مخافة أن تبدو منها كلمة تزيد نقمة أود، إذا هي بلغته.
الفصل السابع والأربعون
السفر
قضت سالمة في ذلك الأسر أياما وهي ترقب حال أهل القصر لعلها تجد سبيلا للفرار، فإذا هم شديدو العناية بحراستها، كثيرو التضييق عليها وكان جماعة منهم موكلين بحراستها ومراقبة حركاتها، فعلمت أن أود مع تغيبه عنها وإهماله مقابلتها شديد الحرص على استبقائها في ذلك السجن.
فلما طال بقاؤها على تلك الحال سئمت الإقامة وتزايد قلقها على جند العرب لعلمها أنهم في انتظارها على مثل الجمر، ولكنها لم تكن ترى بأسا من تأخرها عنهم؛ لأنها توقن بأنهم فائزون في فتحهم حتى يبلغوا بواتيه، ثم هي لا تخاف عليهم أود وجنده؛ لأنه غلب غير مرة على أنها كانت تخاف على مريم من غدر ميمونة، ثم هي رجحت أن الكتاب الذي جاء به ذلك الأحول إنما هو من ميمونة، ولكنها لم تفهم فحواه تماما فلبثت تتوقع فرصة للاطلاع على ذلك من رودريك.
وأصبحت ذات يوم فسمعت ضوضاء الجند على غير عادتهم، فأطلت من النافذة فرأتهم يقوضون الخيام وقد أخذوا في التأهب للسفر، فانشغل خاطرها وأوجست خيفة من ذلك الانتقال، لكنها رأت في ذلك سبيلا لمخاطبة رودريك فيما قد يكشف لها شيئا من ذلك السر، فلما جاءها في ذلك الصباح ومعه الطعام ابتدرته قائلة: «مالي أراكم تتأهبون للسفر، هل أنتم مسافرون جميعا أم أن بعضكم سيبقى هنا؟»
قال: «إننا مسافرون جميعا، وقد أمر حضرة الدوق أن تسيري معنا.»
قالت: «وإلى أين؟»
قال: «إلى تورس على نهر لوار.»
فلما سمعت قوله استغربت ذلك الانتقال لعلمها أن النهر المذكور هو آخر حدود أكيتانيا، والبلاد التي وراءه تحت سلطة شارل دوق أوستراسيا وهي تعلم أيضا أن بين أود وشارل منافسة ومزاحمة على النفوذ، وربما كان شارل أكثر حرصا على صد أود عن بلاده من حرص العرب على فتح أكيتانيا فقالت: «هل أنت على يقين من ذهابهم إلى تورس؟»
قال رودريك: «نعم يا مولاتي وقد سمعت الأوامر الصادرة لنا بالذهاب.»
قالت سالمة: «ألا تعلم بما بين الدوق أود ودوق أوستراسيا من المنافسة؟»
قال: «بلى ومن يجهل ذلك؟»
قالت: «فما الذي يفعله الدوق أود في تورس إذن؟ ألا يخاف عدوه شارل؟»
فلما سمع رودريك سؤالها، تلفت نحو الباب كأنه يحاذر أن يراه أحد، ثم نظر إلى سالمة وهو يقول بصوت خفيض: «إن لذلك سرا لم يطلع عليه إلا نفر قليل من هذا الجند، وأخشى إن بحت به أن يلحقني أذى.»
فتوسمت في وجه الغلام خبرا مهما، فتاقت نفسها لسماعه فشجعته، وقالت: «ما الذي تخشاه من أسيرة سجينة، ربما لا يهمها من أمر هذا الخبر شيء، ولكنني أحببت الاطلاع على هذا السر لغرابته وقد شجعني على هذا السؤال ما شاهدته من مؤانستك ولطفك في هذه المدة، ومع ذلك فإني لا أظنك أحرص على مصلحة هذا الجند مني؛ لأنك على ما يظهر لي لست منهم.»
فلما قالت سالمة ذلك بدت البغتة على وجه رودريك وقد تحولت سحنته إلى غير ما كانت عليه فتنهد وقال: «لقد أدهشتني فراستك في؛ لأنك اطلعت في أيام على ما لم يستطع كشفه أحد من أهل هذا المعسكر في أعوام.»
فاستبشرت سالمة بذلك التلميح وقالت: «يظهر لي أني قد أصبت الفراسة فكلانا إذن يرمي إلى غرض واحد، فأخبرني عما حمل أود على الذهاب إلى تورس ولا تخف، وأرجو أن يكون لك من وراء ذلك خير.»
فقال: «أما السبب في هذا الانتقال فهو أن العرب حاربونا ونحن قرب بوردو فغلبونا، وقد بلغنا الآن أنهم قادمون إلى هنا.»
فقطعت كلامه وقد سرها أن غيابها لم يؤخر العرب عن التقدم في الفتح، وأيقنت أنهم لم يلاقوا في طريقهم مقاومة كبيرة من أهل البلاد، فقالت: «فالإفرنج إذن يطلبون تورس فرارا من العرب؟»
قال: «لا يخلو الأمر مما ذكرت ولكنهم يطلبون تورس للدفاع وليس للفرار.»
قالت سالمة: «وبماذا يدافعون وعدوهم هناك أشد وطأة عليهم من العرب؟»
قال رودريك: «كان الأمر كذلك من قبل ولكنه أصبح الآن حليفا لهم.»
فقالت سالمة: «وكيف ذلك والمنافسة متمكنة بينهما؛ لأن كلا منهما يطلب السيادة على الآخر بعد أن رأيا انحلال الدولة المرونجية التي كانت تجمعهما تحت سيطرتها، وقد علمنا أن الفائز منهما ستكون له الدولة والملك على الدوقيات كلها، فزادت المنافسة بينهما حتى صار يتمنى كل منهما أن يفتك بالآخر.»
قال رودريك: «هذا هو الواقع فعلا، وهذا الانقسام هو الذي مكن المسلمين من فتح أكيتانيا حتى وصلوا إلى هنا، وإذا قطعوا نهر لوار أصبحت بلاد أوستراسيا في قبضتهم على أهون سبيل؛ لأن أساقفتها ناقمون على الدوق شارل نقمة شديدة وقد يحرضون الشعب على خلعه، فإذا جاءهم العرب وهم في تلك الحال ساعدوهم على الفتح.»
فلما سمعت سالمة ذلك خفق قلبها سرورا بما ترجوه من فوز العرب هناك، ولكنها لم تثق بصدق تلك الرواية فقالت: «وما هو سبب نقمة الأكليروس على شارل، وهو قائد عظيم؟»
قال: «السبب يا سيدتي أنه أخذ أموالهم واستولى على أملاك الأديرة ووزعها على جنده، وأهان بعض الأساقفة بالقصاص، وفضل بعض صغار الكهنة عليهم ولا يخفى عليك ما يؤدي إليه ذلك.»
فلما تحققت من غضب الأساقفة على شارل عادت إلى السؤال عما دعا إلى نصرة شارل لأود فقالت: «ولكنني لم أفهم كيف صار شارل حليفا للدوق أود فهل فعل شارل ذلك من تلقاء نفسه خوفا من الأساقفة؟»
فقال رودريك: «كلا يا سيدتي ولكن الدوق أود لما أيقن بعجزه عن دفع العرب عن بلاده، لم ير بدا من نصرة عدوه شارل.»
فقالت، وقد بغتت: «وكيف نصره، وفي انتصاره خروج هذه البلاد من يده لا محالة؟»
قال: «لا أظنه يجهل ذلك ولكنه فعله مضطرا بحكم الضرورة، ففضل أن تئول البلاد إلى أمير مسيحي من أن تئول إلى قوم غرباء دينا ووطنا، ولعله مطمئن لما يعلمه من اشتغال شارل بنقمة الأساقفة ثم إني لا أظنه قد نصره إلا مدفوعا بمشورة بعض ثقاته.»
قالت: «ومن يجرؤ على هذه المشورة من رجاله؟»
قال: «المشورة لم تأته من هذا المعسكر ولكنني علمت بكتاب جاءه في اليوم الذي سجنك فيه وفي ذلك الكتاب تحريض على استنجاد شارل، والظاهر أنه أثر فيه كثيرا فحالما قرأ الكتاب بعث وفدا إلى شارل يطلب إليه مساعدته في هذه الحرب فأتاه الجواب بالإيجاب.»
الفصل الثامن والأربعون
الاستطلاع
فلما سمعت قوله ثبت لديها أن المحرض على ذلك هو ميمونة، فاستعاذت بالله، ولكنها كتمت خواطرها وتجلدت؛ لأنها لم تكن تثق برودريك وهو لم يكاشفها بحقيقة أمره، فأحبت قبل الإفاضة في هذا الموضوع أن تستطلع الحقيقة، فقالت والاهتمام ظاهر على وجهها: «أراك يا رودريك قد كاشفتني بأمور ذات بال مما يدل على ثقتك في، فاعلم أن ثقتك في محلها وإذا كنت تؤمن بإخلاصي لك، فكن على يقين بأني باذلة نفسي في مكافأتك، على أني لا أزال أعلل نفسي بالاطلاع على حقيقة أمرك؛ لأني على ثقة أنك لست من أهل هذا المعسكر.»
قال: «لا ريب عندي في إخلاصك ولولا ذلك ما خاطبتك بما خاطبتك به، والأمر الذي تتمنينه هو الذي أتمناه أنا أيضا وهذا ما شجعني على هذه المكاشفة.»
فأدركت سالمة أنه على مبدئها، فازدادت ميلا إلى استطلاع حقيقته، فقالت: «فأطلعني على حكايتك لنتعاون على النجاة بإذن الله.»
قال: «ولكنني أطلب إليك أن تخبريني عن أمر لاحظته منك في أول ساعة خاطبتك فيها هل أسألك عنه؟»
قالت سالمة: «وما هو؟»
قال: «لما سألتني عن اسمي وعلمت أنه رودريك رأيت في وجهك أثر البغتة، فهل كان ذلك بسبب اسمي أم لسبب آخر؟»
فتظاهرت سالمة بعدم الاكتراث وقالت: «لا أذكر أني بغت لشيء من هذا القبيل.»
فصدق وسكت.
أما هي فلبثت ساكتة تنتظر جوابه على سؤالها عن حكايته فرأته يلتفت نحو النافذة كأنه يرقب حركة أو يتوقع قادما، فالتفتت هي فلم تر غير الجند وهم لا يزالون في اهتمامهم بالحزم والربط والاستعداد للرحيل فحولت بصرها إلى رودريك فرأته يهم بالجواب وهو يتردد فقالت: «يظهر أنك تحاذر شيئا.»
قال: «كلا يا مولاتي ولكنني أخشى أن يدهمني الوقت وأدعى إلى السفر قبل الفراغ من حكايتي؛ لأنها طويلة.»
قالت: «قل لي باختصار إذن، هل تعرف اللغة العربية؟»
قال: «كلا.»
فتوهمت سالمة أنها أخطأت الفراسة فيه؛ لأنها كانت قد توسمت من ملامحه أنه عربي فقالت: «هل تتكلم لغة غير الإفرنجية؟»
قال: «أعرف اللغة البلغارية، وهي لغة حداثتي.»
قالت: «فإذن أنت بلغاري الأصل ولكن ملامحك لا تدل على ذلك.»
قال: «لست من بلغاريا، ولكني ربيت في بيت رجل من البلغار.»
قالت: «وكيف تعلمت لغة الإفرنج؟ ويظهر أنك تتكلمها جيدا كأنك تعلمتها في صغرك.»
قال: «تعلمتها من طول الممارسة؛ لأن الرجل البلغاري الذي رباني باعني لبعض الإفرنج ثم انتقلت إلى الدوق أود بالمقايضة.»
فاستغربت ما سمعته، ورأت أن أسئلتها لم تجد نفعا ، وكانت تتوقع بها قرب الوصول إلى الغرض فإذا هي تبتعد عنه فعمدت إلى الاختصار والتصريح فقالت: «قل لي أين ولدت؟»
قال رودريك: «ولدت في طليطلة.»
قالت: «أنت إذن إسباني؟»
قال رودريك: «كلا.»
قالت: «فأنت عربي؟»
فسكت وقد ظهر في وجهه ملامح الخوف.
الفصل التاسع والأربعون
منظر هائل
فأدركت أنه يخشى التصريح لقلة ثقته بها؛ لأن ملامحها بعيدة جدا عن ملامح العرب فقالت: «لا تخف يا شاب فإنك تخاطب امرأة لا تحب غير العرب، ولكن حديثك أدهشني فكيف تقول إنك ربيت في بلاد البلغار، ثم تقول إنك ولدت في طليطلة والمسافة بين البلدين بعيدة جدا، أظنك واهما فيما تقول، أو لعل الذي أنبأك بمولدك قد خدعك أو كذب عليك؟»
فقال: «إني على ثقة من ذلك؛ لأني عشت في طليطلة بضع سنوات، ولا أزال أذكر بعض مناظرها كأنها خيال.»
قالت بلهفة: «أتذكر مناظر طليطلة؟ ما الذي تذكره منها؟»
قال: «أذكر قصرها الكبير على نهر التاج وحوله الحدائق، وأذكر حديقة ذلك القصر؛ لأني كثيرا ما كنت ألعب فيها مع بعض الرفاق على ضفاف ذلك النهر.»
قالت وفي وجهها معنى لو رآه لعلم أنها بغتت لذكر طليطلة وقصرها، وأنها كانت تغالب عواطفها لئلا يظهر ذلك في وجهها: «فأنت إذن من أبناء ذلك القصر وما الذي تذكره أيضا؟»
قال: «لا أذكر غير ذلك القصر؛ لأني أخرجت من طليطلة وأنا طفل، ولولا ما شهدته من الأمور المخيفة لم تبق صورته في ذهني، قالت: «وما الذي شهدت فأخافك وأنت طفل؟»
قال: «شهدت مقتل أمير الأندلس.»
قالت: «ألا تتذكر اسمه؟»
قال: «لم أكن أعرف اسمه يوم مقتله، ولكنني علمت بعد ذلك أنه عبد العزيز بن موسى بن نصير الذي فتح بلاد الأندلس للعرب.»
فلما قال ذلك كادت تظهر الدهشة على سالمة لو لم تتجلد وتشغل رودريك بمواصلة السؤال، قائلة: «وما الذي تذكره من أمر مقتله؟»
قال: «أذكر أني كنت في أحد شهور سنة 97 للهجرة ألعب في حديقة القصر، وأنا في نحو الخامسة من عمري ومعي طفلة أصغر مني كنت ألاعبها ومعنا الخدم؛ لأنها بنت الأمير عبد العزيز وقد ربينا معا ، وبينما نحن في ذلك، إذ رأيت الخدم في هرج ومرج وقد وقفوا وقفة الاحترام، فأسرعت للفرجة وبجانبي ابنة الأمير، وإذا بالأمير عبد العزيز قد خرج من القصر ومر بالحديقة وعليه القباء والعباءة ووراءه جماعة من أرباب العمائم، فلما دنا منا مد يده إلي ولمس رأسي على سبيل الملاطفة وقال كلمة لا أذكرها، فتأثرت لمنظره؛ لأنها أول مرة رأيته في مثل ذلك الموكب، فسألت عن مسيره فقالوا إلى المسجد للصلاة، فلم يهمني الأمر فعدت إلى اللعب، ولم يمض قليل حتى سمعت ضوضاء الناس وقد جاء بعض الغلمان وحملوا الطفلة بسرعة وتركوني، فخفت؛ لأن الحديقة أصبحت خالية ولم يعد فيها أحد سواي، فأخذت في البكاء ثم رأيت الناس يعدون من جهة المسجد عدوا سريعا، وأخيرا رأيت منظرا أثر في ذاكرتي تأثيرا لا يمحوه كر الأيام، ولا أذكره إلا اقشعر بدني، شهدت جماعة يعدون في أثر الناس نحو القصر وفي مقدمتهم رجل يحمل رأس إنسان وقد قبض عليه من شعره والدم يقطر منه، ويد الرجل وثيابه قد تلطخت بالدم ونظرت في ذلك الرأس فإذا هي رأس الأمير عبد العزيز فاستغرقت في البكاء، وليس من ينتبه لبكائي لانشغال الناس عني بشئونهم، وأذكر أني بقيت في ذلك المكان إلى الغروب، ولم ينتبه لي أحد ثم جاء جدي فحملني وصعد بي إلى ذلك القصر إلى حجر والدتي على أننا لم نبق في طليطلة بعد ذلك الحادث إلا بضعة أيام ثم انتقل والدي بي وبأمي إلى الشام.»
وكان رودريك يتكلم وسالمة شاخصة فيه، وعيناها تكادان تجمدان في وجهها ملامح الاضطراب مع اصفرار الدهشة وانقباض الحزن ورودريك يزداد مبالغة في وصف هول ما شاهده، فلما فرغ من حديثه رأى دمعتين انحدرتا من عيني سالمة، فحمل ذلك منها محمل التأثر والانفعال من مثل ذلك الحديث ولو كان السامع غريبا.
أما سالمة فجاش في خاطرها أمور قضت بضع عشرة سنة في الصبر على كتمانها وكادت تحدثها نفسها بالتصريح ، لو لم يغلب عليها التعقل والصبر فأمسكت وعادت إلى إتمام حديث رودريك فقالت: «إن حديثك غريب وقد أزعجني، فأخبرني عما تم بعد ذهابكم إلى الشام وكيف وصلت إلى بلاد البلغار.»
فقال: «أظنك سمعت بمسير العرب لفتح القسطنطينية منذ بضعة عشر عاما، وإني لأستغرب الآن بعدما شهدت تلك المدينة وعرفت حصونها وقلاعها كيف أقدم العرب على فتحها.»
فقطعت سالمة كلامه قائلة: «إن الغرض من الذهاب لفتحها الوصول إلى هذه الأرض من ذاك الطريق فيلتقي فاتحو القسطنطينية بفاتحي الأندلس هنا، ويتم للمسلمين فتح هذه الأرض الكبيرة، وفي فتحها يتم للعرب امتلاك العالم كله ألا تراهم لما أعجزهم فتح القسطنطينية كيف أعادوا الكرة لفتح هذه البلاد من هذا الطريق؟»
فتعجب الشاب من سعة اطلاع سالمة على تلك الأحوال وزاد استئناسا بها فأتم حديثه قائلا: «أقص عليك خبري ليس كما أدركته حين حدوثه إذ كنت طفلا، ولكني أقصه كما فهمته بعد ذلك فاعلمي أننا وصلنا إلى الشام فلم نجد الخليفة فيها، ولم أكن أعرف اسمه.»
فقطعت سالمة كلامه قائلة: «هو سليمان بن عبد الملك الرجل الأعرج الأكول الذي أكل سبعين رمانة وجديا وست دجاجات في أكلة واحدة وختم الطعام بأرطال من الزبيب، وقد كان الأجدر به أن يقيم نفسه خليفة على المطابخ وليس على الناس فيقتل الأمراء ويسفك الدماء.» قالت ذلك وهي لا تتمالك نفسها عن إظهار الغضب.
أما رودريك فعاد إلى حديثه وهو يختصر خوفا من أن يطلبه أحد قبل الفراغ منه، فقال: «وسألنا عن الخليفة فقالوا إنه خرج بحملة من الرجال إلى قنسرين، وأعد جيشا كبيرا ليسير إلى القسطنطينية بقيادة أخيه مسلمة، وكان الناس يعلقون الآمال على ذلك الفتح والكل يثق بالفوز ولست أدري ما الذي دعا إلى هذه الثقة.»
فقالت: «سبب هذه الثقة اعتزاز العرب بما فتحوه من الممالك واعتقادهم أن العالم سيكون كله لهم، وقد ساعدهم على ذلك ثقتهم بمسلمة؛ لأنه من كبار القواد وقد تمت فتوح كثيرة على يده.»
الفصل الخمسون
حصار القسطنطينية
فقال رودريك: «وكان والدي من أكثر الناس ثقة بذلك، فلما دعوه إلى مرافقة تلك الحملة لم يرض إلا أن يأخذ والدتي ويأخذني معه لاعتقاده أنهم سيفتحون القسطنطينية، وأنه باق هناك أو فيما وراءها من البلاد، وكان والدي من المقربين إلى مسلمة؛ لأنه كان يعرف اللغة اليونانية وقد تعلمها في بعض أسفاره إلى بلاد الروم وهو شاب، فكان مسلمة إذا نزلت الحملة أنزلنا في فسطاطه ونزلت أنا ووالدتي في خباء نسائه، وكانت تلك الحملة الهائلة حملتين واحدة برية، وأخرى بحرية، وكان عدد جند البر الذي نحن فيه 12500 مقاتل وفيهم العرب والفرس وغيرهما وأكثرهم من راكبي الأفراس أو الجمال، وكانت الحملة البحرية - على ما بلغني بعد ذلك - 1800 سفينة، استقدمها مسلمة من سواحل مصر والشام والأندلس وفيها المئونة والذخيرة، فمشى جنود البر كأنهم غابة من الناس والدواب، فمررنا بتيانة وعمورية وبرغاموس ففتحوها وسلم من كان فيها من الروم أو فروا، واستولى المسلمون على أسلابهم وأموالهم، وكانت تلك الحملة تزداد ثقة وتتسع آمال رجالها كلما تقدمت؛ لأنهم لم يمروا ببلد إلا فتحوه ونهبوه حتى وصلنا إلى حدود آسيا من جهة خليج القسطنطينية، وهو الفاصل بيننا وبينها، وكانت الحملة البحرية قد وصلت إلى هناك، فاستخدمنا بعض سفنها في نقل الرجال والأحمال من شاطئ آسيا إلى شاطئ القسطنطينية عند مكان يسمونه «أبيدوس» وهي أول مرة قطع جند المسلمين فيها ذلك الخليج، على أننا قاسينا في ذلك السبيل مشقة كبرى وكدت أغرق مع والدتي، ولكن العناية الإلهية أرادت بقائي لزيادة شقائي.»
فقالت سالمة بصوت منخفض: «لا بل أرادت العناية ببقائك خيرا يتم على يدك؛ لأناس أنت تحبهم.» فأخذ رودريك في إتمام الحديث فقال: «وبعد أن قطعنا ذلك الخليج بأفراسنا وجمالنا وأحمالنا نزلنا إلى الشاطئ ودرنا حتى أقبلنا على القسطنطينية من جهة الغرب فعسكرنا هناك في سهل واسع، وحفرنا حولنا خندقا وبنينا سورا من التراب، وأقمنا للحصار ونحن في شبه مدينة كبيرة فيها كل ما نحتاج إليه من المؤن والذخائر، وهذه أول مرة أشرفت فيها على تلك المدينة الهائلة وكنت صغيرا لا أفقه معنى العظمة، ومع ذلك فقد هالني علو أسوارها وما على تلك الأسوار من أدوات للحرب، علمت ذلك مما كانوا يرشقوننا به فيما بعد من النبال والحجارة بالمجانيق، وهناك شاهدت أهوال الحرب لأول مرة، فقد كنت أصعد إلى سورنا حتى أشرف على أسوار المدينة، فأرى النبال مغروسة في جدار سورنا مثل ريش القنفد وبعضها ملقى في السهل بيننا وبينهم حتى إني كثيرا ما كنت - وأنا ألعب أمام خيمة مسلمة - أرى النبال تتساقط حولي فألتقطها، ولم تكن تهمني، وكنت لا أزال أحسب الحرب لعبة حتى شاهدت ذات يوم أمرا لم أجسر بعده على الخروج من خباء والدتي.
وذلك أنني صعدت مرة على سور معسكرنا للفرجة كالعادة فرأيت شيئا تطاير عن سور القسطنطينية نحونا أشبه بشعلة متقدة كأنها كوكب مذنب حتى وقعت خارج السور، فتبعثرت وأشعلت مساحة كبيرة من العشب اليابس هناك وتطايرت منها رائحة حادة، فذعرت وأسرعت إلى والدتي وأنا في تلك الحال وأخبرتها، فأخبرتني أنهم كثيرا ما يطلقون هذه النار فتحرق ما تصيبه، فلم أعد أجسر على الاقتراب من السور، ثم علمت بعد ذلك أنها ما يسمونه «النار اليونانية» وأظنهم انتصروا علينا بتلك النار؛ لأنهم أحرقوا بها أسطولنا من جهة البحر، وكانت الريح قد ساعدت الأسطول المذكور حتى دخل الخليج تجاه المدينة من جهة الشرق، وكان لوصوله تأثير شديد على قلوب الروم، وقد أخبرني بعد ذلك بعض الذين كانوا داخل المدينة في أثناء الحصار أنهم كانوا إذا أطلوا على البحر رأوا أسطولنا كأنه غابة أشجارها الأشرعة والسواري لا يقف البصر على آخرها، وإذا نظروا من جهة البر رأوا معسكرنا كأنه بحر أمواجه الناس والدواب وسفنه الخيام والأعلام.
وقد ساعدنا الحظ في أن السلسلة التي تعود قياصرة الروم قطع مدخل القسطنطينية بها عند قرن الذهب في مثل هذه الحال كانت محلولة، وتحدث الأمراء في اغتنام هذه الفرصة والدخول في ذلك الخليج، فأشار عليهم بعض العارفين بالتوقف برهة لئلا يكون في الأمر دسيسة، ولكنهم مع ذلك اقتربوا من الشاطئ كثيرا فما شعروا إلا والأسطول اليوناني يقترب منهم فتهيئوا للدفاع، وإذا بهؤلاء يطلقون عليهم النار كأنها خارجة من نوافذ جهنم، فأحرقت معظم السفن، والذين نجوا منها جاءونا وهم ينادون بالويل والثبور وقد مات منهم كثيرون.
فأصبح أسطولنا بعد ذلك لا نفع فيه وتحولت الأنظار إلى قوة البر، وكان مسلمة يتوقع أن يمل أهل القسطنطينية من طول الحصار وتقل عندهم المئونة فيضطروا إلى التسليم، وقد أطمعنا في ذلك أننا بعد الحصار ببضعة أشهر بعث الروم إلى مسلمة يعرضون عليه أن يعطوه على كل رأس دينارا وينصرف، فطمع وأبى إلا أن يفتحها عنوة أو يستسلم أهلها جوعا وأما نحن فكان مسلمة قد أعد لنا كل ما يلزم للزرع والحصاد، فقضينا الشتاء والصيف، فزرعنا ورعينا الماشية ونحن نتوقع أن يمل أهل القسطنطينية فما رأيناهم ملوا، وقد حاصرناهم سنة وبعض السنة، وعلمت بعد ذلك أن ملك القسطنطينية يومئذ واسمه أناستاسيوس أو أرتميوس قبض على زمام الملك وليس هو من عائلة القياصرة ولكنه كان حكيما عاقلا، فلما عاد إليه سفيره من دمشق بخبر الحرب وقدوم العرب عليه برا وبحرا علم أن العرب سيحاصرونه فأعلن أهل القسطنطينية أن كل من لا يستطيع اختزان مئونة تكفيه ثلاث سنوات فليخرج من المدينة فاشتغل الناس باختزان الحنطة والحبوب ورمموا الأسوار واستعدوا للدفاع والحصار، ولذلك فقد مللنا نحن قبلهم؛ لأننا كنا نتوقع نجدة من الخليفة في مرج دابق، فمات ولم تصلنا النجدة.»
فقطعت سالمة كلامه قائلة: «هل تعرف سبب موته؟»
قال: «كلا.»
قالت: «لقد مات شهيد الشراهة مات من التخمة وذلك أن أحد نصارى دابق أتاه بزنبيلين مملوءين تينا وبيضا، فأمر من يقشر له البيض وجعل يأكل بيضة وتينة حتى أتى على الزنبيلين ثم أتوه بمخ وسكر فأكله، فأصيب بالتخمة ومرض ومات.»
الفصل الحادي والخمسون
البلغاريون
فعاد رودريك إلى كلامه، وهو يخشى ضياع الوقت، فقال: «وبرغم وفاة الخليفة، فقد كان يمكننا أن نصبر على الحصار سنة أخرى، وقد تعودنا الزرع وألفنا الإقليم، ولكن جاءنا شتاء قاس لم نستطع معه الزرع ولا العمل فقلت مئونتنا حتى أكلنا الدواب والجلود وجذوع الأشجار والورق، ومما زاد الطين بلة أن ملك القسطنطينية - وهو يومئذ لاون - لما طال عليه الحصار، ورأى العرب مقيمين عمل على مضايقتنا، فبعث إلى البلغاريين المقيمين على ضفاف الطونة (الدانوب) يستحثهم الدفاع عن عاصمته بالأموال والهدايا، فجاءوا في البر وأحاطوا بمعسكرنا وضيقوا علينا حتى أصبح الرجل منا لا يستطيع الخروج من المعسكر وحده لئلا يصطاده أولئك البرابرة، وأعد لاون منشورا وزعه على أهل بلده أوهم الناس فيه أن الإفرنج قادمون إلى القسطنطينية بالأساطيل الهائلة للدفاع عن النصرانية، فلما وصل ذلك الخبر إلى مسلمة لم يعد يستطيع صبرا على البقاء فأزمع الانسحاب.
فاستقدم ما بقي من أسطوله وأمر بالإقلاع والتقويض للركوب في البحر والرجوع إلى شواطئ آسيا، فجاءت السفن وأخذوا ينقلون إليها الخيام وما بقي من الخيول والجمال، وكنت أنا كما أخبرتك مقيما مع والدتي في الخباء فلما أخذوا في تقويضه اشتغل كل بمهام نفسه، واشتغلت والدتي عني، فخرجت لالتقاط بعض النبال المبعثرة هناك فبعدت عن المعسكر وأنا لا أدري، والظاهر أنهم لم ينتبهوا لذلك فما شعرت إلا واثنان من البلغاريين انقضا علي كالذئاب الكاسرة فصحت وناديت: يا أبتاه! يا أماه! وما من مجيب، على أني التفت بعد هنيهة نحو معسكر العرب وأنا بين ذراعي أحدهما فرأيت والدتي المسكينة تنظر إلي من فوق السور وهي تلطم وجهها وتصيح وتستغيث، ثم توارى بي الرجل بين الأشجار فلم أعد أرى أحدا، فأخذت في البكاء وهم تارة يهددونني، وطورا يتملقوني.»
وتوقف رودريك عن الحديث، فذرفت سالمة دمعتين تدحرجتا على خديها حتى ضاعتا في أهداب خمارها وهي تنظر إلى رودريك والأسف باد على وجهها تتخلله الدهشة، ففهم أنها فعلت ذلك لتأثرها من حكايته، فهم بإتمام حديثه فإذا هي تقطع حديثه قائلة: «هل علمت بما أصاب والدتك ووالدك؟»
قال: «كلا يا مولاتي؛ لأني لم أعد أراهما ولا سمعت خبرا عنهما، ولا رأيت أحدا يعرفهما من ذلك الحين؛ لأني ربيت في بلاد البلغار في أشقى الأحوال، أعمل في رعاية الماشية وجمع الأحطاب والأخشاب للوقود من شدة البرد، وكنت أطوف التلال والأودية مع رفاقي من أولاد البلغار أو بعض خدمهم، نلتقط ما نعثر عليه من قطع الخشب ونحوها ونأتي بها إلى المنازل، فإذا أظلم الليل اجتمع أهل المنزل في غرفة قد أوقدوا النار في وسطها من الحطب والعيدان والأعشاب اليابسة، فيصطفون حولها يستدفئون وفيهم الرجال والنساء والأطفال وكلهم أحسن مني لباسا، فقد كان على بعضهم أردية من الفرو أو الصوف، وأنا لا أزال كما جاءوا بي ليس علي إلا رداء وقميص، ولولا إشفاق ربة ذلك المنزل علي لتوفيت من شدة البرد، فإنها نفحتني ببقية خمار مبطن بالجلد كان لأحد أولادها، فخمرتني به وأعطتني شبه جبة من جلد الماعز كانت لزوجها وقد تهرأت، فلبستهما فغطتني إلى أسفل قدمي فارتدت إلي روحي، ولا أظنهم فعلوا ذلك شفقة وإنما ساءهم أن أموت فيخسروا ما كانوا يطعمون فيه من ثمني.
الفصل الثاني والخمسون
سوق الرقيق
فقضيت في ذلك بضعة أعوام وقد تعلمت اللغة البلغارية، وتعودت عاداتهم في الطعام والشراب والصلاة ونحوها، ونسيت لغة أمي وديانتها، فلما بلغت الثانية عشرة حملوني في جماعة من الأحداث، كانوا قد جمعوهم من أعالي بلاد الصقالبة وساقوهم، وفيهم الذكور والإناث ولا كساء عليهم غير الجلود، وشعورهم مرسلة كأنهم كانوا يقتاتون على نبات البرية ويعاشرون حيواناتها، فجمعونا معا وشدوا أيدينا بعضها إلى بعض بأمراس، وساقونا فمشينا بضعة أيام على تلك الحال ونحن نساق كالأنعام حتى وصلنا إلى بقعة رأينا فيها ازدحاما من كثرة الناس والخيول والماشية والأحمال، فسألنا عن المكان فقالوا: إنه سوق عمومي يجتمع فيه الناس من أقاصي البلاد للبيع والشراء أو للمبادلة أو المقايضة، وساقونا جميعا إلى شبه زريبة حولها سور بعضه من الخشب وبعضه من الأحجار، وأغلقوا بابه علينا بعد أن حلوا أيدينا من الأمراس، وعند وصولي إلى السوق نسيت متاعبي ومصائبي لاشتغال خاطري بما شاهدته هناك من مختلف الأجناس وأشكال السلع على غير المألوف عندي، وكنا قد وصلنا إلى ذلك المكان قبيل الغروب فبتنا في الظلام والبرد وأنا لا أكلم أحدا من رفاقي؛ لأني لا أعرف لغتهم ولا هم يعرفون لغتي، ولما أصبح الصباح وأشرقت الشمس نسينا البرد، ثم رأينا الناس يتبايعون ويتقايضون ونحن نتوقع ساعة بيعنا، وإذا برجلين أحدهما طويل القامة جدا، والآخر قصيرها وقد ارتديا الجبب المبطنة بالفرو السميك وتلثما بخمارين من صوف، وبرزت لحيتهما من بين جناحي الخمار واحمرت عيناهما من كثرة الدفء أو من شرب الخمر، دخلا الزريبة وأصحابنا البلغاريون يسيرون أمامهما باحترام وفي أثرهما جماعة من الخدم.
فلما دخلا ظل الرجل الطويل واقفا مع أصحابنا، وتقدم القصير إلينا وجعل يتفحصنا واحدا واحدا، وينتقي من يقع عليه اختياره منا، حتى إذا وصل إلي تفرس في وجهي وتكلم بلغة لا أفهمها أظنها قوطية أو عبرانية؛ لأني علمت بعد ذلك أن الرجل من تجار اليهود، فمد يده فأمسك بيدي وجذبني نحوه وأمرني أن أفتح فمي، ففحص أسناني وفمي وجس كتفي وهزهما ونظر في عيني وأذني ويدي وقدمي، ثم أشار إلي فانضممت إلى المختارين، وبعد الفراغ من الانتقاء تساوموا، فلما تمت صفقة البيع ساقنا أصاحبنا الجدد إلى زريبتهم بعد أن دفعوا الثمن وأظنه بخسا جدا، ثم أعطونا خبزا يابسا وألبسونا أكسية ثقيلة متشابهة من الخيش والجلد، وقصوا شعورنا وأصلحوا من شأننا بعض الشيء، فسررت للشبع والدفء.
وحملنا أولئك التجار بعد أيام على الدواب بالتناوب ونحن نحو المائة حتى أتو بنا بلاد الإفرنج، فأنزلونا في خان حبسونا فيه أياما، ثم انتقوا جماعة منا لصغر سنهم وجمالهم وأرسلوهم إلى مكان يخصون فيه الصبيان، وبلغني بعد ذلك أنهم أغضوا عني؛ لأني كبرت على تلك العملية.»
ولما وصلت بكلامه إلى هنا، سمعا صوت النفير يدعو الجند إلى الاجتماع فقال: «أظنني أطلت الحديث، فأقول بالاختصار إني انتقلت بالبيع إلى بعض الأعيان من الإفرنج، ثم بالمقايضة إلى الدوق أود، وكنت في أثناء إقامتي في هذه البلاد قد سمعت بقدوم العرب لفتحها، وكانت تحدثني نفسي بالفرار إليهم لأبحث عن والدي؛ لأني لم أعد أسمع عنهما شيئا منذ خطفت بالقسطنطينية، وكنت قد أزمعت إذا كان معسكرنا بقرب معسكر العرب أن أفر إليهم فلم أتمكن من ذلك لأسباب يطول شرحها فها قد قصصت عليك خبري.»
قالت: «لقد سرني صدق فراستي فيك، فأنت الآن عربي وأنا متفانية في خدمة العرب، ولا يسمح لنا الوقت الآن بالتفصيل فلنترك ذلك لفرصة أخرى، وعندي أمور تتعلق بوالديك وجديك سأقصها عليك، أما الآن فامض في عملك، واجتهد - إذا حملتموني معكم في هذا السفر - أن أكون على اتصال بك لنتفاهم بشأن النجاة.»
قال: «سمعا وطاعة.» وتحول من الغرفة وأغلق الباب وراءه، فإذا هو يكاد يعثر برجل عليه لباس مخالف لزي الجند، كان جالسا القرفصاء في الدهليز بقرب الباب، ودفن رأسه في حجره فلما رآه رودريك أجفل وخشي أن يكون قد سمع ما دار بينه وبين سالمة، فرفسه بقدمه كأنه يوقظه من النوم فلم يتحرك، فرفسه ثانية وهزه، فتظاهر بالكسل الشديد ورفع رأسه وتثاءب وتمطى وجعل يفرك عينيه ويلتفت حوله كأنه أفاق من سبات عميق فارتاح بال رودريك، إذ توهم أنه كان نائما هناك نتيجة كسل أو تعب، فانتهره وأمره أن ينصرف فتظاهر بالخوف ووقف مسرعا وخرج يهرول.
الفصل الثالث والخمسون
موكب الدوق
أما سالمة فإنها فرحت برودريك واستبشرت بالنجاة على يده لما ظهر لها من ثقة الدوق أود به، فإذا كان هو حارسها في ذلك المعسكر هانت النجاة عليهما، فتذهب إلى معسكر العرب وتخبر عبد الرحمن بما علمته من استنجاد أود لشارل (قارله) لئلا ينخدع بقلة جند الإفرنج، فيأتيه شارل على غرة فيهزمه، وإذا هزم العرب هناك في وقعة واحدة أخفقت مساعيهم كلها ثم تذكرت حسانا وكيف تركته في الدير وتمنت أن يكون في خير وعافية، وأن يبقى على قيد الحياة حتى يرى رودريك ويعرف من هو لأمر يهمه، وكانت الشمس قد مالت عن الهاجرة، فوقفت سالمة إلى النافذة تتشاغل بما يبدو من اهتمام الجند بالتقويض والتحميل ريثما يأتيها النبأ في شأنها لترى إلى أين تسير.
قضت ساعة وهي في تلك الحال حتى رأت موكب الدوق أود وحوله الفرسان على أفراس سروجها مفضضة وعليهم الملابس البراقة بالألوان الباهرة: كالأزرق، والأرجواني، والدوق أود في الوسط على فرس من جياد الخيل، وعلى رأسه قبعة مرصعة تتلألأ حجارتها في أشعة الشمس كأنها مصابيح، وعلى كتفيه طيلسان أو رداء سنجابي اللون كالطيلسان مزركش بالقصب إلى أردانه، وفي عنقه قلادة من الذهب يتدلى منها على صدره صليب من الذهب مرصع بالحجارة الكريمة من الماس والياقوت، ونظرت سالمة إلى سرج الجواد ولجامه فإذا هما أيضا مرصعان والجواد تحته يتلاعب كأنه يرقص تيها، وهو أكثر زهوا من فارسه الدوق، وكان الدوق قد أصلح من شأنه، ولكن الاضطراب ظل باديا من خلال تلك العظمة، وربما كان السبب في ذلك ندمه على استنجاده بعدوه شارل، على العرب ولعلك لو اطلعت على أعماق نفسه لرأيته يفضل ألا يجيب شارل دعوته أو أن يحدث ما يثنيه عن عزمه فيبقى هو وحده أمام العرب، فإما أن يغلبهم فيبقى سيد أكيتانيا وحده، أو إذا خشي أن يهزموه صالحهم فيملكوه أرضه تحت حمايتهم، وأما شارل فإذا تم النصر على يده فلا يقنعه غير السيادة على الإفرنج كافة ويصبح هو نسيا منسيا، هذا إذا لم يقتله بعض المتزلفين لشارل، ونظن أنه لو تأكد أن الإفرنج سيعاملونه مثلما يعامله العرب لفضل العرب على الإفرنج، لما في فطرة البشر من التحاسد بين الأقرباء أكثر مما بين الغرباء، فالإنسان إذا خير بين أن يذل نفسه لبعض ذوي قرابته أو لأحد الغرباء لفضل الخضوع للغريب، ولهذا السبب ترى الشعوب التي يحكمها الفاتحون من الغرباء أسهل انقيادا وأقرب خضوعا لقوانين الدولة ممن يحكمهم أناس من أبناء جلدتهم، وذلك لذهاب الهيبة بين أبناء الأب الواحد؛ لأنهم يتعارفون وهم صغار ومن يعرفك صغيرا لا يحترمك كبيرا، وبهذه القاعدة نستدل على كثير من غوامض التاريخ المختلف في حقيقتها كأصل الفراعنة الأولين مثلا، فالمؤرخون مختلفون في: هل هم مصريون أو دخلاء؟ ونظرا لما نعلمه من خضوع أهل البلاد الأصليين لهم نرجح أنهم غرباء فاتحون للأسباب التي قدمناها، ناهيك بالتحاسد بين الرئيس والمرءوس في أبناء الوطن الواحد، ويشتد الحسد بين اثنين على نعمة كلما تقاربت قدرتهما على نيلها، أو تشابهت أسبابهما إليها، ولذلك كان التحاسد على أشده بين أصحاب المهنة الواحدة.
فلا غرو بعد ذلك إذا تخيلنا في أود الندم على استنجاد شارل، على أنه حينما اقترب بموكبه من نافذة سالمة التفت نحوها، فوقع نظره عليها فرنا إليها قليلا ولم يبد إشارة، ثم توارى الموكب عن سالمة، ورأت الجنود تسير على الأقدام في أثره جماعات وبينهم الأمراء والقواد يمتطون الأفراس وعليهم الدروع والخوذات وبين أيديهم حملة الأعلام، وهي كثيرة الأشكال والألوان، على بعضها رسم الصليب وعلى البعض الآخر صورة العذراء مريم تحمل طفلها، أو صور الملائكة أو طيور أو غير ذلك من الشارات المسيحية أو الرومانية، وكانت جوقة الموسيقى قد مشت بين يدي الدوق صامتة، فلما تحرك الجند سمعت سالمة قرع الطبول والصنوج والأبواق ونحوها، فتحركت عواطفها وتصورت قرب نشوب الحرب بين العرب والإفرنج بعد وصول النجدة لهؤلاء فكيف تكون العاقبة لو قدرت الغلبة للإفرنج وعاد العرب مهزومين؟ وحينما تصورت ذلك اقشعر بدنها وصعد الدم إلى وجنتيها.
فلما سار الجند، وكان يتوارى عن بصرها ولم يبق في ذلك المعسكر إلا شراذم قليلة من الخدم والأعوان، ورأت نفسها لا تزال وحيدة ولم يأت رودريك إليها بطعام ولا كلام، انشغل بالها وأوجست من تأخره شرا، فتحولت عن النافذة نحو الباب لعلها ترى أحدا قادما فإذا هي تسمع وقع أقدام بلا خفق نعال ومشية غير مشية رودريك، فقالت في نفسها: «من عساه أن يكون القادم؟» وما لبث أن فتح الباب ودخل منه رجل بملابس أشبه بملابس العرب، وحالما وقع بصرها عليه رأت فيه شبيها بالرسول الذي جاء بالكتاب إلى أود وهي عنده فاستعاذت بالله وخافت، ولكنها تجلدت وثبتت جأشها وابتدرت الرجل قائلة: «ما الذي تريده؟»
الفصل الرابع والخمسون
الأحول
فنظر إليها وعيناه تتباعدان من شدة الحول وتتراقصان وقال: «لا أريد شيئا، ولكن حضرة الدوق أمرني أن أكون في خدمتك.» قال ذلك وهو يصلح رداءه على كتفيه وقد بان السيف من تحته.
فلما رأت سالمة حوله عرفته، فانقبضت نفسها وخشيت سوء العاقبة لعلمها أنه من أكبر جواسيس ميمونة، واعتقدت أن كل ما نالها من الشر إنما كان على يده، ولكنها لم تكن تجسر على التصريح بذلك، فلم تر خيرا من التجاهل والتجلد، فقالت: «بورك فيك لعلك من أهل هذا المعسكر؟»
فابتسم كأنه يهزأ من جهلها وقال: «لا ولكني من معسكر آخر.» وضحك ثم قال: «هل تحتاجين إلى خدمة أقدمها لك؟»
فظلت سالمة على تجاهلها ولم تكترث بما بدا منه فقالت: «لا غنى لي عن خدمتك، ولكن أين هو الشاب الذي كان يخدمني قبلك؟»
قال وهو يقلب شفته السفلى استخفافا: «لا أدري ولعله سار في مهمة إلى طليطلة أو بلغاريا أو ربما اشتد حنينه إلى أجداده فطار إليهم.»
فلما سمعت تعريضه بما دار بينها وبين رودريك سرا خفق قلبها وكادت تظهر البغتة في وجهها، فبالغت في التجاهل وقالت: «إني أشكرك لا أحتاج إلى شيء الآن.» وأرادت أن ينصرف فتخلو بنفسها وتفكر في أمرها.
فقال لها: «ألا تحتاجين إلى شيء أبدا مطلقا؟ ألا تتوق نفسك إلى أحد في بوردو أو نهر لوار؟»
ففهمت أنه يسخر منها وأنه مطلع على أسرارها ولو أجابته لسمعت من هزئه ما يؤلمها، فتحولت عنه وهي تتظاهر بالسذاجة وقالت: «لا لا أحتاج إلى شيء.»
فقال: «إذا كنت لا تحتاجين إلى شيء، فأنا أحتاج إلى أشياء.»
فالتفتت إليه لتستطلع غرضه، فإذا هو يضحك ويستخف بها، ثم قال: «إني أحتاج إلى حضرتك.»
فقطبت جبينها وبدا الغضب في وجهها وغلبت عليها الأنفة وعزة النفس وقالت: «وما هي حاجتك يا غلام؟»
قال وقد تهيب منظرها: «لا تغضبي، يا مولاتي، إني أطالب بما أمرني به حضرة الدوق.»
قالت: «وما هو؟»
قال: «أن تتأهبي للمسير في أثر هذه الحملة فننزل حيث ينزلون.»
ففهمت من صيغة الجمع في كلامه أنه سائر معها، فقالت: «وهل نسير الآن؟»
قال: «نعم هذه الساعة، وقد أعددنا لك فرسا تركبينه.»
قالت: «إني مستعدة إذ ليس عندي أثاث أحمله معي.»
قال: «فتفضلي إذن.» قال ذلك وأشار بيده نحو الباب.
قالت: «اخرج وأنا خارجة في أثرك.» فخرج .
فالتفت بردائها فوق الخمار، وتفقدت المحفظة وسائر ما معها، وخرجت إلى الدهليز ومنه إلى الباحة حتى أطلت على صحن الدار، فرأت هناك فرسا مسرجا وحوله فرسان مدججون بالسلاح وفي أيديهم الحراب وعليهم الدروع كأنهم يحرسون عشرين سجينا متمردين، فلم تعبأ سالمة بهذا المنظر، وتقدمت إلى فرسها فركبته وساقته، فمشى الفرسان حولها في شبه حلقة، وركب الأحوال حمارا كان هناك وسار في أثرهم.
سارت سالمة في ذلك الموكب وهي غارقة في بحار الهواجس تفكر فيما دهمها على غير انتظار بعد أن كادت تنجو من الخطر، وفكرت في رودريك فغلب على ظنها أنهم حبسوه أو قتلوه وأنها صائرة إلى مثل ما صار هو إليه، ولم يكن الموت ليخيفها لولا خوفها من أن يفوت عليها أمورا تود إنجازها قبل الموت ومن الناس من تتسلط عليه فكرة القيام بالواجب حتى تنسيه حاجات نفسه، فلا يطلب البقاء إلا لواجب يقوم به، فإذا أدى الواجب أصبح الموت والحياة عنده سواء.
قضت برهة في هذه الهواجس حتى تعبت وفرسها سائر بها إلى حيث لا تعلم، ولكنها كانت ترى الحملة تارة أمامها وطورا إلى جانبها، فعلمت أنها تابعة لها وتبينت من مسيرهم نحو الشمال أنهم يقصدون تورس على نهر لوار، فلما تذكرت ذلك النهر اختلج قلبها في صدرها وتصورت ما عليها من العهود والمواثيق المتعلقة بذلك النهر، وتذكرت أشياء كثيرة زادتها انقباضا وعظم في نظرها الأمر حتى كادت تبكي، ولو بكت لخفت حدة انقباضها.
وفي الغروب وصلت الحملة إلى سهل حطوا أحمالهم فيه للمبيت مؤقتا، وفي الصباح نهضوا لمواصلة السير، وسالمة لا يخاطبها أحد في شيء غير ما لا بد منه مما يتعلق بالطعام أو نحوه، وكانت في أثناء الطريق تتأمل فيما يقع عليه بصرها من الدروب أو التلال أو نحوها، وتتفهم ما يدور بين الجند من الحديث لعلها تطلع على أخبار جند العرب وأين هم وكانت تتفحص الطريق الذي يسيرون فيه عسى أن ترى أثرا يدل على اجتيازهم ذلك المكان فلم تر شيئا يدل على مرورهم، فترجح عندها أنهم لم يصلوا إلى هناك بعد، مع أنها سمعت بقيامهم من بوردو، يطلبون بواتيه فنهر لوار وكانت على يقين من أنهم لن يلقوا في طريقهم مقاومة كبيرة لما مهدته لهم، وأما المعركة الكبرى فستكون على ذلك النهر فمن غلب هناك ملك.
الفصل الخامس والخمسون
تورس
وباتوا تلك الليلة أيضا في الطريق، وأصبحوا مسافرين يجدون في السير، وقضوا يوما رابعا على هذه الصورة وهم تارة ينحدرون في واد، وآونة يصعدون على جبل، وحينا يمرون في سهل حتى وصلوا في أصيل اليوم الرابع إلى نهر صغير يقال له نهر شير، تحف به التلال من الضفتين فضلا عن الغياض والبساتين، فقطعوا النهر من ضفته اليسرى إلى اليمنى، ثم صعدوا أكمات أطلوا منها على سهل واسع ينتهي بمدينة تورس الكبرى ووراءها نهر لوار؛ لأنها واقعة على ضفته اليسرى، وكان الليل قد أسدل ستاره فلم تشاهد سالمة شيئا لبعد المدينة عنهم.
وبعد مسير بضعة أميال من شير، اختاروا مكانا عسكروا فيه على نية الإقامة هناك، فعلمت سالمة أنهم قد حطوا عصا التسيار، فلبثت تنتظر ما يفعلونه بها، فإذا هي بالأحول المعهود قد جاء ومعه بعض الخدم، فنصبوا خيمة خاصة على مقربة من فسطاط الدوق أود، علمت ذلك من شكل الفسطاط بما فيه من دلائل البذخ والترف، فلم يهمها الأمر وقد كادت أن تيأس، وقضوا معظم ذلك الليل في نصب الخيام وإعداد مستلزمات الإقامة.
أما سالمة فإنها دخلت خيمتها فرأت الخادم قد أحضر لها الطعام، فتناولته والتمست الراحة فنامت وهي تفكر في رودريك؛ لأنها لم تره في أثناء الطريق ولا سمعت عنه شيئا، ولم تكن تجرؤ على ذكر اسمه خوفا من زيادة الشبهة عليه.
وأفاقت في صباح اليوم التالي على صوت البوق بما لم تعهده من قبل فنهضت واستفهمت من الرجل الموكل بحراستها عن السبب قال لها: «إن الدوق يدعو الجند إلى الاجتماع في الساحة الكبرى أمام فسطاطه للصلاة قداسا كاملا على اسم القديس مرتين حامي حمى الإفرنج؛ لأنه مدفون في هذه الجهات وقبره بمثابة حج للنصارى في أنحاء أكيتانيا وأوستراسيا.»
وكانت سالمة تعرف أن القديس مرتين المذكور كان رسول النصرانية إلى الغاليين في القرن الرابع للميلاد وكان أسقفا في تورس، ولما توفي دفنوه في ضاحية من ضواحيها، وبنوا بجانب قبره كنيسة وديرا وأصبح المكان بلدة تعرف باسمه، وصاروا يحجون إليه وينسبون له المعجزات.
فلما رأت سالمة اجتماع الجند وكهنتهم في تلك الساحة للصلاة وقفت بباب خيمتها لتشاركهم في صلواتهم، فإذا بالدوق قد خرج من فسطاطه في حاشيته وأعوانه وكلهم بالملابس الرسمية وقد تقدمهم القسس بالثياب الكهنوتية وبأيديهم الصلبان، وهم يتمتمون وأمامهم بعض الشمامسة يحملون صليبا على عصا طويلة حتى وقفوا في تلك الساحة على شبه منبر، ووجوههم نحو كنيسة القديس مرتين عن بعد والجند وقوف، فأقاموا قداسا طويلا، وكانت القلوب خاشعة يراودها الأمل في النصر على الأعداء ببركة تلك الصلاة.
ومن غرائب مطامع البشر وضعف طبيعتهم أنهم يسنون الشرائع بتحريم القتل، ويشددون النكير على القاتلين، ثم يرفعون أكف الضراعة إلى موحي تلك الشرائع أن يساعدهم على قتل أبناء جلدتهم، وهم مع ذلك يتوقعون إجابة سؤلهم لاعتقادهم أنهم إنما يلتمسون نصرة الحق وتأييد الصواب، وكل طائفة تعتقد ذلك وتفعله، ولو أدركوا معنى التدين الحق لطلبوا حقن الدماء وتكاتفوا على حفظ السلام، ولكنهم لا يفعلون ذلك، وكأنهم أدركوا بالسليقة أن الحرب ضرورية للبقاء، وأنهم لو لم يقتلوا بعضهم بعضا لقتلهم الجوع والوباء؛ لأن الأرض إذا مضى عليها بضعة قرون ولم تحدث فيها الحرب ضاقت بساكنيها، وقد قدروا أن الذين قتلوا بسبب الحروب من أول عهد التاريخ إلى الآن خمسة أضعاف سكان الأرض كلها، عدا ما كان يترتب على بقائهم من التكاثر بالتناسل المتضاعف.
ومهما يكن من الأمر، فالحرب باقية ما بقي حب الذات، وهو باق ما بقي الإنسان لهذا سعى بعض رجال التمدن إلى الحديث في تخفيف ويلات الحرب بما اخترعوه من آلات الدمار التي لم تكن معروفة في عهود التمدن القديم.
وكانت سالمة حينما سمعت أصوات المرتلين وشمت رائحة البخور قد تخشعت واستغرقت في الأفكار وتذكرت تاريخ حياتها وما مر بها من الأهوال ولم يقف فكرها إلا عند عبد الرحمن إذ تذكرت ابنتها مريم وكيف تركتها هناك، وما عسى أن يكون من أمرها بعد انتقال العرب في طريقهم إلى تورس، وتذكرت ميمونة فاختلج قلبها لذكراها خوفا على مريم من حبائلها، لما تحققته من أمرها، وأصبحت شديدة الرغبة في أن تطلع العرب على ما عرفته عنها، وإذا استطاعت ذلك فإنها تنقذهم من مكائدها، ولما بلغت تصوراتها إلى هذا الحد تذكرت حسانا؛ لأنه لو كان معها لأنفذته في هذه المهمة، واستغرقت في هذه الهواجس مدة والناس يضجون بالصلاة، والقسس يرفعون أصواتهم بالتراتيل، ووجوههم متجهة نحو القديس مرتين.
وكانت سالمة واقفة تسمع القداس وترسل بصرها إلى أطراف ذلك المعسكر وما وراءه من السهول إلى نهر لوار، ومدينة تورس على ضفته وبإزائها محلة دير القديس مرتين على أنها لم تكن ترى من تلك الأماكن إلا رءوس الأبنية الشامخة لبعد المسافة.
وفيما هي تسرح بصرها على تلك الصورة رأت إلى يسار المعسكر شبحين ظهرا من وراء الأفق عن بعد، فأطل أولا رأساهما، ثم ظهر بدناهما بالتدريج فإذا هما فارسان فظل بصرها عالقا بهما وشعرت برغبة في استطلاع حالهما، ثم ما لبثت أن رأت عليهما ملابس الرهبان السوداء وعلى رأسيهما القبعة، فقلت رغبتها في الاستطلاع لكثرة الرهبان في تلك الأصقاع، وكثرة ترددهم على المدن لابتياع حاجات الأديرة، وبعد قليل رأت الراهبين قد اختلطا بالجند ووقفا معهم للصلاة، فحولت وجهها عنهما وعادت إلى هواجسها فتذكرت الشاب رودريك وودت لو أنها تجتمع به هناك، ولو لم تكن ثمة فائدة من ذلك الاجتماع فإنها قد تستأنس به.
الفصل السادس والخمسون
طارقان
ثم سمعت دق الأجراس مؤذنة بالفراغ من الصلاة، وتفرق الجند إلى مضاربهم، وعاد أود إلى فسطاطه وحوله الحاشية والأعوان، ودخلت سالمة خيمتها وحول الخيمة ثلاثة من رجال أود بالحراب يحرسونها، ولكنها لم تر الأحول بينهم ولا رأته منذ ذلك الصباح، وقضت بقية ذلك اليوم في الخيمة وقلبها يحدثها بأمر سيحدث، ويكون فيه الفرج لها، وإن كانت لا ترى ما يدعو لهذا الأمل فكل الظروف المحيطة بها توحي باليأس ولكن في ذوات الإحساس الدقيق من النساء نوعا من الشعور لا يعبر عنه بغير الإلهام، فقد تشعر المرأة بالحادث قبل وقوعه وتنذر رجلها به، ولو طالبها بالدليل لأسكتها؛ لأنها لا تتكلم عن اقتناع بالبرهان، ولكنها تشعر فتتحدث عما تشعر به ويغلب صدقها فيه لأسباب لا تزال مجهولة، وأما الرجل فإنه لا يتخيل إلا ما يرشده إليه عقله بالقياس والبرهان، فلما أحست سالمة بتلك الآمال انبسطت نفسها، ولكنها كانت تعزو ذلك الشعور إلى الوهم؛ لأنها ترى المصائب محدقة بها من كل ناحية.
ولما أمسى المساء جلست على بساط مفروش في خيمتها وهي تشعر بارتباك وتردد، فعمدت إلى الصلاة؛ لأنها كانت قد تأثرت من قداس ذلك الصباح ورأت في الصلاة راحة، وبعد الصلاة توسدت وليس في خيمتها مصباح، وهي لم تطلب النوم لرغبة فيه، ولكنها ملت الحبس - ومن يظلم بصره تستنر بصيرته - فاستغرقت في الأفكار، ولم يكن يعترض تيار تفكيرها غير ضجيج الخدم في ذهابهم وإيابهم وصوت النفير أحيانا، وبينما هي كذلك إذ سمعت حديثا قريبا من خيمتها فنهضت والتفتت، فرأت بصيص نور يتراءى في الخارج وراء جدار الخيمة وسمعت لغطا لم تستطع فهمه، فجلست وأصاخت بسمعها فانجلى لها الصوت فسمعت الحديث الآتي بلغة البلاد: لا أظنك تقدر على منعي. - بل أنا قادر حتى يأمرني الدوق بما يريد. - وماذا في هذه المسألة مما يستدعي مشورة الدوق؟ - بل لا بد من مشورته؛ لأن لهذه السجينة شأنا خاصا لا يقارن بشئون سائر المسجونين، وقد أوصانا حضرة الدوق بمنع أي كائن عن مقابلتها. - يا للعجب، أبلغت منك القحة أن تقف في سبيل الفروض الدينية؟ - لا يهمني وما الذي يضرك لو استأذنت الدوق في ذلك؟ - لا يضرنا شيء، ولكنكم تعلمون أننا كرسنا حياتنا لاستتابة المجرمين وأصحاب الذنوب وأننا نطوف السجون ونعظ المسجونين وندعوهم إلى التوبة. - ربما كان ذلك صحيحا ، ولكننا أمرنا بالمنع منعا باتا ومع ذلك فإن لنا قيما لو كان هنا لأغنانا عن مشورة الدوق؛ لأنه مفوض من قبله في هذا الشأن. - أين هو ذلك القيم؟ - لا ندري، فقد ذهب في هذا الصباح وأكد التوصية علينا، وشدد في منع أي كائن من الدخول. - أرسلوا واحدا يستأذن الدوق. - نخشى أن يكون في فراشه فأجلوا المقابلة إلى الغد. - الوقت ضيق لا يأذن بالتأجيل؛ لأننا ذاهبون في صباح الغد إلى دير القديس مرتين اذهب لاستئذان الدوق، ولا تطل الجدال إني لم ألق وقحا مثلك طول عمري وإذا لم تذهب، فإني سأدخل الخيمة رغم أنفك وستلاقي جزاء وقاحتك في الغد.
صوت آخر: لا تغضب يا حضرة الأب، إن رفيقي شاب لا يعرف حقوق السادة الرهبان والقسس تفضلا وادخلا ولا حاجة إلى الاستئذان، لكننا نطلب إليك أن تذكرنا في صلاتك. - بورك فيك يا بني، هكذا يكون أبناء الخلاص ولكنني أرغب إليكم أن تبتعدوا قليلا عن جوانب الخيمة لئلا يصل إليكم حديث الاعتراف، ولا يخفى عليكم أن الاعتراف سر من الأسرار المقدسة. - طبعا لا شك في ذلك تفضل وادخل ونحن مبتعدون ولكن أرجو من قداستك أن تختصر بقدر الإمكان لئلا يبلغ الأمر إلى حضرة الدوق فيلومنا على إدخالكم بدون إذنه.
وكانت سالمة تسمع ذلك وقلبها يخفق خفقانا شديدا لدهشتها واستغرابها، وبذلت جهدها في معرفة ذلك الصوت فلم تعرفه، ولكنه ذكرها بالراهب الذي صحبها من الدير إلى قرب بواتيه؛ لأنه مثل صوته.
فلبثت صامتة لترى ما ينتهي إليه الجدل، فلما انتهى على تلك الصورة نظرت لترى الداخل، فإذا بيده مصباح على شكل طائر ملتفت إلى أعلى، والنور فتيلة مضيئة بارزة من منقاره، وقد أمسك الراهب ذلك المصباح بإحدى يديه على قبضة في أسفله على شكل صليب، وتوكأ باليد الأخرى على عكازه فلما رأته سالمة نهضت وتفرست في وجهه فإذا هو ذلك الراهب بعينه، فرحبت به وهمت بتقبيل يديه والصليب الذي هو قابض عليه، وبينما هي تفعل إذا رأت راهبا آخر دخل وأسرع إلى يدها ليقبلها فأجفلت وتراجعت وقد خجلت، ولكنها ما لبثت أن تفرست في وجهه حتى عرفت أنه خادمها حسان، فبغتت وكادت تنطق باسمه لو لم تنتبه لنفسها وتتذكر موقفها، فتجلدت وأشارت إلى الراهب وحسان بالجلوس وجلست هي والدهشة لا تزال بادية على وجهها، وهي تتوقع أن تسمع من أحدهما ما يذهب بدهشتها.
فوضع الراهب المصباح على الأرض وجلس، وظل حسان واقفا فأشارت إليه أن يجلس فجلس متأدبا وهو يقول بصوت منخفض: «أحمد الله على وصولي إليك، يا مولاتي، وأرجو أن أكون قد جئتك بالفرج.»
فهمت سالمة بالجواب وهي تحاذر أن يبدو منها ما تؤاخذ عليه لعلمها أن رئيس ذلك الدير شديد التعصب للإفرنج ويكره العرب، فلم تكن تتوقع مجيء ذلك الراهب إليها لنصرتها فقالت: «وما الذي جئتني به؟ أليس حضرة الأب من رهبان الدير الذي بتنا فيه وبقيت أنت هناك جريحا؟»
فأجابها الراهب قائلا: «بلى وأنا أوصلتك إلى بواتيه حيث أخذوك مني فرجعت وأخبرت حضرة الرئيس بما جرى، ولولا ذلك لم يكن الاهتداء إليك ممكنا.»
فلم يزدها قوله إفصاحا عن المهمة التي قدما من أجلها، فالتفتت إلى حسان وتفرست في ثوبه فكاد يضحكها ما هو فيه من ملابس الرهبان فقالت له: «يظهر أنك انتظمت في سلك الرهبنة!»
قال: «لبست هذا الثوب يا مولاتي ذريعة للوصول إليك، وقد نصحني بذلك حضرة الرئيس، وأرسل معي حضرة الأب برسالة سيبلغها إليك.»
فاشتاقت لمعرفة ما تضمنته تلك الرسالة فالتفتت نحو الراهب ولسان حالها يقول: «تفضل.»
الفصل السابع والخمسون
بشرى
ولما هم الراهب بالكلام، تذكرت سالمة ما حدث لها في المرة الماضية مع رودريك، وكيف اطلع ذلك الأحوال على حديثهما، فطلبت من الراهب أن يتمهل، وأشارت إلى حسان أن يتفقد الحرس وأماكنهم، فأطل من باب الخيمة ومن ثقوب في بعض جوانبها، فتحقق من بعد الحراس بضعة أمتار عن الخيمة، وأنهم جلوس يتحدثون، فعاد وطمأنها وجلس فأخذ الراهب في الحديث بصوت منخفض، وسالمة تنصت وكلها آذان لاستيعاب كلامه، فقال: «لا يخفى على مولاتي أننا معشر الرهبان وسائر جماعة الأكليروس قد أوقفنا حياتنا لعبادة الله وخدمة بني الإنسان، لا نبتغي على ذلك أجرا سوى خلاص نفوسنا، ولذلك فقد أكرم الأمراء والملوك وفادتنا وساعدونا في مشروعاتنا، ونحن أيضا ساعدناهم في حمل الشعوب على الطاعة، وكثيرا ما كنا سببا في تنصيبهم وعزلهم، فأصبح الرهبان موضع ثقة أولي الأمر ومحل احترامهم، لا يحلون أمرا دونهم ونحن نحافظ على ولائهم ونبذل أقصى الجهد في خدمتهم، وكان الدوق أود (وخفت صوته) من أنصارنا ونحن من أنصاره إلا في بعض الأحوال، ولكننا على الإجمال كنا نغضي عن بعض سقطاته ونعزوها إلى الضعف البشري، لعلمنا أننا في حال تدعو إلى جمع الكلمة في أثناء الحرب، ولو انحرفنا عنه قليلا وأظهرنا استياءنا منه أمام الشعب لقضي على دولته من زمن بعيد؛ لأن الشعب الغالي أهل هذه البلاد الأصليين لا يحبون الإفرنج، وهم مستعدون لخلع نيرهم عند أول إشارة منا، ولكننا لم نفعل ذلك بل كنا نبذل الجهد في حفظ تلك السلطة لهم، وأظنك لاحظت ذلك من رئيسنا المحترم في أثناء حديثك معه، أما الآن فقد ارتكب الدوق أود أمرا دل على ضعفه وجبنه، فلم يبق لنا معه صبر على هذه الحال، ولعلك عرفت ذلك الأمر!»
فأطرقت سالمة وأخذت تفكر في معرفة ذلك السبب، ولكن الراهب لم ينتظر جوابها فقال: «إن الأمر الذي أراده الدوق أود إذا وفق إليه فإنه سيذهب بسلطانه ويضيع كرامتنا، ويخرب ديارنا، فيضعف شأن الدين ويصبح الناس فوضى.»
فأدركت سالمة غرضه، فقالت: «أظنك تعني استنجاده بالدوق شارل صاحب أوستراسيا؟»
قال: «نعم هذا الذي أعنيه؛ لأن هذا الدوق من أشد الناس قسوة على رجال الله، وقد أذاق أكليروس أوستراسيا مر العذاب فاستولى على أملاك الأديرة ووزعها على جنده وأهان الأساقفة وارتكب في ذلك كل معصية، وقد دعاه أود لنصرته، فإذا فاز أصبحت أكتانيا هذه في قبضته وأصبحت أديرتها عرضة لمطامعه.
وكثيرا ما كان أود يهم باستنجاد شارل ونحن نرجعه ونخوفه على نفسه وعلينا، فلما تملكه الخوف من العرب وسيوفهم عمد إلى الاستنجاد بذلك الرجل، وقد وقع هذا الخبر وقعا سيئا عند أهل هذه البلاد كافة، كهنتها وشعبها، لعلمهم بما سيترتب على هذا الأمر.»
وكان الراهب يتكلم، وقلب سالمة يطفح سرورا، وتذكرت ما كانت تحدثها به نفسها في أثناء ذلك النهار، واعتقدت أنها ألهمت الصواب وأن الأمر أخذ ينقلب على الإفرنج من تلك الساعة، ولكنها ظلت صامتة لتسمع بقية الحديث.
ولم يتوقف الراهب عن الكلام إلا ريثما سعل ومسح لحيته بمنديله ثم قال: «وكان من أشد الناس غضبا لذلك رئيسنا المحترم؛ لأنه كان من أكثرهم ولاء لأود ودفاعا عن مصلحته، فلما علم بما ارتكبه أصبح شديد الرغبة في عرقلة مساعيه لاعتقاده أنه إذا نجح في ذلك يكون قد خدم شعبه وحكومته وكنيسته، والظاهر أنه كان قد لاحظ من كلامك نصرة العرب أو ربما جاءه كتاب من أسقف بوردو في هذا الشأن لا أدري ولكن الذي أعلمه أنه بعث إلي ذات صباح وسألني عنك مع أني كنت قد أنبأته يوم عودتي بما جرى أمام بوابة بواتيه، ولكنه دقق في البحث عنك وسألني عن الرجال الذين أخذوك مني فأخبرته أنهم من رجال الدوق أود فهز رأسه ومص شفته وأمرني أن أستقدم هذا الشيخ، وكان قد أخذ في النقاهة من جرحه، ولم أخبره بعد بخبرك لئلا أكدره، فلما أمرني الرئيس باستقدامه سرت إليه وقصصت عليه خبرك فتكدر، ثم أتيت به إلى الرئيس، فلما وقف بين يديه، أمرني فأغلقت الباب فأسر إلينا أمرا كلفني أن أبلغك إياه ولا ريب أنه يسرك؛ لأنه يهدف إلى الغرض الذي تسعين إليه فهل أقوله؟»
فقالت: «أتسألني؟ قل.»
قال: «لقد أعطاني كتابا كتبه بخط يده إلى رئيس دير القديس مرتين، لا أدري فحواه، ولكنه بلا شك يتضمن تحريضه على مقاومة شارل وجنده حتى لا يفوزوا على العرب، أو لكيلا يحاربوهم؛ لأن رئيسنا أصبح يفضل سلطان العرب على سلطان شارل وزمرته لما تحققه من رفق المسلمين برعاياهم المسيحيين فنأمن - على الأقل - على أديرتنا وكرامتنا.»
فلم تتمالك سالمة عند سماع تلك العبارة عن الابتسام من شدة الفرح، ونسيت كل ما مر بها من المتاعب، وتحققت أن كل ما أصابها من الشرور إنما كان القصد منه الوصول إلى هذا الخير، وأن ذلك كله حدث بعناية خاصة من مدبر هذه الكائنات، ذلك هو اعتقاد أهل الأديان، والإنسان بفطرته ميال إلى ذلك، فيحسب أن الدنيا قد وجدت لخدمته وحده، فإذا زرع وأمطرت السماء قال: إنها تمطر إكراما له، وإذا جفت فجفافها نكاية فيه، ولذلك فإذا أصابته مصيبة وإن كان هو الجاني بها على نفسه شكا من فاعل آخر يتبع خطواته إذا لم يسمه الخالق سماه الدهر أو الزمان، فلما توسمت سالمة قرب نجاح مهمتها، ابتسمت وقالت للراهب: «وأين الكتاب؟»
فمد يده إلى كمه وأخرج لفافة دفعها إليها فتناولتها، فإذا هي مختومة، فوضعتها في جيبها وهي تقول: «وما هو السبيل إلى دير القديس مرتين وحولي الحراس ساهرون ليلا ونهارا؟ ألا يقوم بإيصال هذا الكتاب أحد بالنيابة عني؟»
فقال الراهب: «لا يستطيع ذلك أحد سواك؛ لأنه في الواقع كتاب توصية بك، وقد ترك لك إقناع الرئيس، وأوصانا رئيسنا حفظه الله أن نبذل أقصى الجهد في سبيل إنقاذك من هذا السجن، فما الذي ترينه؟»
قالت: «لا أدري وأظن أن حضرة الرئيس قال ذلك وهو لا يعلم مقدار التضييق المحدق بي في هذا السجن، وقد شاهدتم ذلك بأنفسكم الآن وسمعتم أقوال الحراس فهل ترون حيلة لي؟»
الفصل الثامن والخمسون
شهامة
وكان حسان لا يزال صامتا إلى تلك الساعة، فلما رأى حيرتهما قال: «علي أنا تدبير هذا الأمر.»
فالتفتا إليه وهما لا يتوقعان منه القدرة على ذلك، فأصاخا بسمعهما إليه وقالت سالمة: «وما هو التدبير؟ إذا كنت ترى تدبيرا خاصا، فيكن عاجلا.»
قال: «علي تدبير ذلك في هذه الساعة.»
قالت: «وكيف؟»
فوقف حسان وعمد إلى جبة الرهبنة التي كانت عليه فحل حبلها من حول خصره، وطوقها من حول عنقه، وأخذ في نزعها وهو يقول: «عليك بهذه الجبة فالبسيها فوق ثيابك واجعلي هذه القبعة على رأسك وهي تقفل من الجانبين فتغطي الوجه، وإليك هذا العكاز واخرجي مع حضرة الراهب، فلا يشك أحد في أنكما الراهبان اللذان دخلا الآن، ومتى بعدتما عن المعسكر فافعلا ما تريانه.»
فأعجب الراهب بتلك الحيلة اللطيفة، ودهش لشهامة حسان إذ فضل أن يلقي بنفسه إلى التهلكة فداء لمولاته، أما سالمة، فإنها لم تدهش لذلك، وأثنت على حسان فقالت: «لا أستغرب هذه الشهامة يا حسان، فقد رأيت منك مثلها مرارا ولكني ضنينة بك لسابق تعبك، وقد دنا الوقت الذي آن لي فيه أن أكافئك على جهودك في خدمتي منذ أعوام عديدة وخصوصا الآن فقد كنت راغبة في لقائك لأبشرك بأمر يسرك كثيرا ولا أستطيع أن أخبرك به إلا إذا كنا معا وأخشى إذا افترقنا الآن ألا نلتقي.» «قال حسان: عليك بهذه الجبة فالبسيها فوق ثيابك، واجعلي القبعة على رأسك، وإليك هذا العكاز واخرجي مع الراهب.»
فتوقف حسان عن خلع الجبة وتطاول بعنقه وقال: «أخبريني عن ذلك الآن قبل أن نفترق.»
قالت: «عندي أمور كثيرة أقصها عليك وأستطلع رأيك فيها وسأحتاج إليك في تنفيذ بعض الشئون.»
قال: «وهل تظنين أن في بقائي هنا خطرا علي؟ اطمئني وثقي أنكما لا تخرجان من هذا المعسكر حتى ألحق بكما.»
قالت: «أظنك إذا اطلعت على ما سأقصه عليك تفضل البقاء هنا بضعة أيام!»
فلم يعد حسان يستطيع صبرا عن سماع ذلك الخبر فقال: «أخبريني، يا مولاتي، بما علمت مما يهمني سماعه، أو مريني بما تريدين ثم نتداول - قبل ذهابك - فيما تأمرين.»
ثم انتبهت سالمة إلى نفسها فرأت أن الأجدر بها أن تغض النظر عن إطلاع حسان على ما يشغله أو يؤخره في ذلك المعسكر والحالة تدعو إلى سرعة إرساله إلى عبد الرحمن لتخبره بما علمته من شأن ميمونة وما في معسكر الإفرنج من المعدات، وما كان من استنجاد أود بشارل وغير ذلك مما يئول إلى نصرة العرب، فلما رأت من حسان القلق على استطلاع الخبر قالت: «إن الوقت لا يساعدنا على ذلك يا حسان، وإني أفضل أن أبقى أنا وتذهب أنت برسالة أبعثها معك إلى أمير العرب، فإن الحالة تدعو إلى سرعة الذهاب وإلا ضاعت الفرصة وذهب سعينا هباء منثورا، فأطعني واذهب أنت ولا بأس علي من البقاء هنا.»
قال: «الأمر لك يا مولاتي، ولكنني لا أرى شيئا أدعى إلى العجلة من إطلاق سراحك لمقابلة رئيس دير القديس مرتين وعرقلة مساعي الدوق شارل القادم لنجدة هذا الجند، ومتى تم لنا ذلك نذهب بالبشائر إلى الأمير عبد الرحمن دفعة واحدة.»
قالت: «ولكن الأمر الذي أطلب إبلاغه إلى عبد الرحمن الآن أهم كثيرا من خبر دوق أوستراسيا.»
فاستغرب حسان ذلك وقال: «وهل هو أهم من خبر هذا الدوق وهو قادم لنجدة أود بجيش جرار معه العدة والسلاح فضلا عما عرف به شارل من البسالة والقوة؟»
قالت: «إني أخاف على جند العرب من عدو مقيم في قصر أميرهم وهم يحسبونه صديقا، وقد اكتشفت سره في أثناء إقامتي في هذا الأسر ولم يكن استنجاد شارل إلا برأيه فإذا لم نبادر إلى كشف سره استفحل أمره.»
الفصل التاسع والخمسون
أول الأسرار
فبغت حسان لذلك، وحدق بعينيه، وقال: «من هو ذلك العدو يا مولاتي هل تخبرينني؟ قولي الآن ولا تخافي من وجود حضرة الراهب معنا فإنه صديق مخلص لنا في نصرتنا أو تكلمي بالعربية فإنه لا يعرفها قولي من هو ذلك العدو؟»
قالت: «هو ميمونة أو بالحري تلك المرأة الداهية التي سمت نفسها ميمونة وما هي إلا ملعونة.»
قال: «ولم تكن هذه المرأة مجهولة لدينا، فقد شاهدناها غير مرة فما الذي عرفته من أمرها هنا؟»
قالت: «لم أكن أجهل أمرها منذ رأيتها في معسكر عبد الرحمن للمرة الأولى، ولكنني أجلت كشف أمرها ريثما أعود من مهمتي هذه، وخشيت إن أنا بحت بشأنها أن يؤدي ذلك إلى أن تصرح بحقيقة أمري، وأنت تعلم أننا لا نريد ذلك الآن وإن كان اطلاع عبد الرحمن على حقيقتي لا يزيده إلا إكراما لي، ولكنني مقيدة بالعهود والمواثيق ألا أطلع أحدا على شيء قبل عبور هذا النهر (وأشارت إلى نهر لوار) ولو علمت ما قد يترتب على سكوتي عنها لما صبرت على كتمان أمرها، وأما الآن فلا بد من كشف سرها لعبد الرحمن على عجل.»
قال: «وما هو شأنها يا مولاتي، هل يجوز لي الاطلاع على هذا السر؟» قال ذلك وجثا بين يدي سالمة وحملق بعينيه.
فقالت: «هل أخفي عنك سرا وأنت تعلم أنك خزانة أسراري، بل أنت الرجل الوحيد المطلع على حقيقة حالي عدا الكونت أود صاحب هذا المعسكر، فإنه عرفني وهددني ثانية ولكنه شغل عني أو أجل النظر في أمري؛ لأنه أمن جانبي لاعتقاده أني سجينته حتى يشاء لست أخفي عنك سرا يا حسان، اعلم أن المرأة التي يسمونها ميمونة وتعد نفسها من محظيات عبد الرحمن وتتقرب إليه بجمالها ومكرها، إنما هي لمباجة بنت الدوق أود صاحب هذا الجند.»
فلما سمع حسان قولها بغت وانتفض واقفا، ثم قال وقد بح صوته من محاولة تخفيضه مع تهيج عواطفه وبغتته: «بنت الدوق أود هذا؟ قائد هذا المعسكر؟»
قالت: «نعم هي بعينها وأظنك تعرفها أنت وقد رأيتها غير مرة وهي مع زوجها المقتول ألا تعرف المنيذر الإفريقي الذي كان حاكما في بلاد البيرنية بين إسبانيا وأكيتانيا؟»
قال: «نعم أعرفه وبلغني أن الأمير عبد الرحمن الغافقي لما قام بجنده لفتح هذه البلاد، بلغه أن المنيذر هذا متواطئ مع الإفرنج على حساب العرب، فسار إليه بغتة وقتله واستولى على أمواله ونسائه وبعث بها إلى الخليفة في دمشق.»
قالت: «هل تعلم السبب الذي حفزه على مواطأة الإفرنج ضد العرب؟»
قال: «كلا.»
قالت: «إن الدوق أود علم بما بين العرب والبربر من التحاسد لأسباب لا تخفى عليك، وبلغه أن المنيذر البربري المذكور صاحب نفوذ كبير في قبائل البربر وأنه إذا اكتسب ثقته واسترضاه يكون عونا له على العرب، فاتصل به وأفضت المحادثات بينهما أن يتزوج المنيذر من لمباجة ابنة الدوق أود، وقد رضي أود أن يزف ابنته إلى هذا البربري على أمل أن تكون وهي عنده قابضة على زمام إرادته تستخدمه فيما تريده لمصلحة والدها، وهي مشهورة بالجمال والدهاء، وبعد أن أقامت مع زوجها المذكور مدة وهي تدبر الحيل لتطوح بدولة العرب نهض الأمير عبد الرحمن وعرف الخطر الذي يحدق بالعرب من ذلك الأمير فبغته وقتله.»
قال حسان: «نعم سمعت ذلك من قبل وسمعت أيضا أن امرأة أخذت في جملة الغنائم والأموال إلى دمشق لتكون للخليفة.»
قالت: «وقد أشاعوا ذلك زورا وبهتانا، فالظاهر أن الزوجة ألبست إحدى نسائها ثيابها وأوهمت أن تلك لمباجة، وإنما هي من بعض خدمها وسراريها لتبقى في معسكر عبد الرحمن عينا لأبيها على العرب وحركاتهم، وقد تحققت من أنها هي التي كتبت إلى أبيها أن يستنجد بشارل دوق أوستراسيا، ولم يكن ليقدم على ذلك من تلقاء نفسه حياء من رجاله ورعاياه، فأغرته هي بما لها من النفوذ عليه فاستنجد به ومما يخيفني من أمرها أن الأمير عبد الرحمن يثق بها، ويفضي إليها بأسراره، ويستشيرها فهل من خطر على جند العرب أعظم من هذا؟»
فقال حسان: «كلا يا مولاتي فينبغي أن أذهب بهذا الخبر إلى الأمير سريعا، فهل تكتبين كتابا أحمله إليه حالا؟»
قالت: «ولا بد قبل كل شيء أن نخرج من هذا السجن ومتى خرجنا يهون علينا كل أمر عسير.»
الفصل الستون
الجوزة الكبيرة
وكان الراهب أثناء ذلك الحديث واقفا يتشاغل بالمشي في أرض الخيمة ويتطلع من بعض شقوقها وثقوبها إلى الخارج وكأنه رأى أمرا بغتة فأسرع إلى سالمة وهي تقول ذلك وقال لها: «أظننا أطلنا الكلام حتى قلق الحراس، إنني أراهم في هرج، يتشاورون ويتهامسون، وأخشى أن يكون في ذلك خطر علينا.»
فقال حسان: «عليك بهذا الرداء يا مولاتي فالبسيه واخرجي مع حضرة الأب، وغادرا المعسكر، وسأتبعكما سريعا والملتقى على ضفة نهر شير عند الجوزة الكبيرة التي جلسنا تحتها بالأمس يا حضرة الأب.» قال ذلك وألبس سالمة عباءة الرهبان وجعل على رأسها القبعة وأعطاها العصا وأشار إليها بالخروج على عجل.
فتنحنح الراهب وقرع بعصاه عمود الخيمة وسعل وخرج من الخيمة وسالمة في أثره فلما أطل على الحراس تظاهر بانشغاله برسم الصليب والصلاة ثم رفع يده كأنه يباركهم، فأحنوا رءوسهم جميعا ونزعوا قبعاتهم إجلالا واحتراما ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منهما لما لاحظوه من اشتغالهما بالصلاة تمتمة، وكانت سالمة تمشي وركبتاها ترتعدان ليس خوفا على حياتها ولكنها استنكفت الفرار خلسة والتنكر بملابس الرهبان، ولما بعدا عن المعسكر واطمأنا على نفسيهما اشتغل بال سالمة على حسان، وخشيت أن يقع في الأسر.
سارا في المعسكر، وهما في زي الرهبان، والحرس لا ينتبهون لهما، وأكثر الجند نيام، إلى أن خرجا من بين الخيام، وكانت سالمة تمشي وتتلفت يمينا وشمالا، ثم تلتفت ورائها لعلها ترى حسانا قادما، وقد ندمت على تركه في تلك الخيمة؛ لأنه أقدر منها على تحقيق ما تطلبه في تلك الساعة وكان الظلام مخيما، لا يريان مما يحيط بهما غير الأشجار العالية إذا اعترضت بينهما وبين الأفق، وكانت سالمة تتمشى في أثر الراهب أينما مشى؛ لأنها لا تعرف مكان تلك الشجرة.
وبعد مسير ساعة، وهما صامتان، التفت الراهب إلى سالمة وقال: «قد أصبحنا على مقربة من الجوزة، يا مولاتي، وهذه رءوس أغصانها.» وأشار بيده إلى الأمام، فالتفتت فلم تر شجرا ولكنها رأت أغصانا متفرقة تتراءى في الأفق فعلمت أن الشجرة في منخفض وأنها ترى رءوس أغصانها، ثم رأت شبحا يظهر بجوار تلك الأغصان رويدا رويدا كأنه قادم من وراء أكمة نحوهما، فتفرست في ذلك الشبح حتى بدا كله ودنا منهما، فإذا هو بملابس جند الإفرنج ولما اقترب منهما اختلج قلبها في صدرها لعلمها أنه عدلان الأحول، فاستعاذت بالله منه وخافت على حسان من دهائه أما هو فظل ماشيا لا سلام ولا كلام، فسرت سالمة بذلك، وبعد قليل وصلا إلى قمة التل فشاهدت سالمة وراءه شجرة هائلة تظلل سهلا واسعا، فانحدرا نحوها وجلسا تحتها وأمامهما عين ماء تصب في منحدر، تحته واد يجري فيه نهر شير، وكانت سالمة قد تعبت من المشي والقلق فجلست على حجر ناعم أملس، من كثرة ما لامسه من الأيدي بمرور الزمن، وكانت تلك الشجرة مهبطا للمسافرين هناك ولما جلسا قالت سالمة للراهب: «إني خائفة على حسان ولا أظنه يستطيع الخروج من ذلك المعسكر، وإذا كان لم يخرج الآن فإنني لم أعد أرجو خروجه.»
قال: «وكيف ذلك؟ إذا لم يخرج الآن، يخرج بعد ساعة أو ساعتين ويكون الحرس نياما.»
قالت: «لا أخاف عليه من الحرس ولكنني أخاف عليه من هذا الرجل الذي رأيته مارا بنا وهو الذي وشى بي حتى قبضوا علي، ولو لم يكن غائبا الليلة عن المعسكر ما انطلت حيلتكم على الحرس ...»
قضا مدة في مثل ذلك وسالمة تعد اللحظات وتحسب الساعة يوما من شدة القلق، ثم سمعا وقع أقدام مسرعة فالتفتا فرأيا شبحا يعدو نحوهما فلم تشك سالمة أنه حسان، فلما اقترب منها ارتعدت فرائصها من منظره؛ لأنه كان عاري الصدر والذراعين مكشوف الرأس، وقد نبش شعره وأرسله على وجهه حتى أصبح منظره كمنظر الجان أو الشياطين على ما كانوا يصفونهم في ذلك العصر، ولم تكد سالمة تتبين ملامح وجهه حتى سمعته يقول «لا تخافي، يا مولاتي، أنا حسان.» فاطمأنت، وصاحت فيه قائلة: «ويلك ما هذا العمل؟»
قال: «لولا هذه السحنة ما نجوت من الأسر فعندما تحققت أنكم بعدتم عن المعسكر، تعريت كما تريان، ونبشت شعري، وخرجت من الجانب الخلفي للخيمة أعدو على يدي وقدمي، وأصيح صياح الشياطين، فأجفل الحرس من حولي وتفرقوا لاعتقادهم أني شيطان، ولم يرجع إليهم رشدهم ويفطنوا إلى الحيلة حتى صرت خارج المعسكر، ولكنني التقيت هناك برجل أظنه عدلان البربري الأحول وقد رآني ولم يعرفني، هل شاهدكما هنا؟»
قالت: «رآنا ولم يعرفنا.»
فقال: «لا بد لنا إذن من تغيير هذا المكان أعطوني العباءة أولا.»
فأعطته سالمة العباءة فلبسها وهو يقول: «هلم بنا نذهب من هنا، فإن هذا البربري الشرير لا يلبث أن يصل إلى المعسكر ويعرف بأن الراهبين تمكنا من مساعدتك على الفرار حتى يأتي إلى هذا المكان بالجند، ولا طاقة لنا بالحرب.»
فقال الراهب: «هذا هو الصواب فلنمض إذن إلى دير القديس مرتين، فإننا نستطيع أن نبلغه قبل الصباح فنصير هناك في مأمن، وإذا أردت إرسال حسان بعد ذلك افعلي، وربما أرسلنا معه من يهديه إلى الطريق.»
الفصل الحادي والستون
دير القديس مرتين
فاستحسنت الرأي ونهضت، فمشوا في طريقهم إلى الدير والراهب دليلهم فوصلوا إليه عند الفجر وقد أخذ التعب منهم مأخذا عظيما فأطلوا على حلة أشبه ببلد صغير، وفي وسط البلد بناء شامخ محاط بسور عال مثل سائر الأديرة هناك، ولكنه أفخمها جميعا، ومحيط السور هائل يحسبه الناظر سور مدينة لسعته وارتفاعه، وكان دير القديس مرتين مشهورا في أكيتانيا وأوستراسيا وسائر أوروبا بالغنى والثروة لكثرة ما حواه من الآنية الذهبية والفضية، غير الأموال المدخرة في خزانته من الهبات والنذور ونحوها، وكانت سالمة تسمع بذلك الدير ولم تدخله بعد، فلما أطلت عليه تركت للراهب أن يتصرف في كيفية الدخول، فإذا به تقدم إلى الباب، وهو كبير على خلاف أبواب سائر الأديرة، فأمسك بحبل مدلى هناك وشده فدق الجرس دقة خاصة، وبعد هنيهة أطل أحد الرهبان من برج فوق الباب، فكلمه الراهب رفيق سالمة باللاتينية فأسرع ذاك إلى الباب وفتحه ورحب بالقادمين، فدخل الراهب وسالمة من باب آخر وراءه، فأطلا على فناء واسع أشبه شيء بالحديقة، وفي وسط الفناء بناء كبير هو الدير، وبجانبه بناء آخر عرفا من قبته والصليب في أعلاه أنه كنيسة القديس مرتين.
وكان حسان سائرا في أثرهما، وهو لا يزال بمظهره الغريب، فأمره رفيقه الراهب أن يمكث عند الباب، وأشار إلى البواب أن يبقيه عنده ريثما يطلبانه فمكث هناك وظلت سالمة والراهب سائرين والراهبان يتخاطبان باللاتينية، فلم تفهم سالمة من حديثهما إلا قليلا ثم تكلم راهبها بالإفرنجية قائلا: «إن حضرة السيدة قادمة بكتاب إلى حضرة المحترم رئيس هذا الدير فهل هو هنا؟»
قال: «أظنه لا يزال في عبر النهر عند دوق أوستراسيا إلا إذا كان قد دخل الدير من بابه الآخر المشرف على هذا النهر.»
قال: «ومتى قطع النهر؟»
قال: «قطعة بالأمس على حين غفلة.»
قال: «وما الذي دعاه إلى ذلك؟»
وكان الراهب يتكلم وهو يمشي في الحديقة بين أشجارها ويتفرس في طرقها كأنه يفتش عن أحد، فلما أفضى بهم الحديث إلى هنا كانوا قد وصلوا إلى مقعد من الحجر بجانب الكنيسة، فأشار الراهب إلى سالمة بالجلوس وجلس هو، ونور الصبح آخذ في الإشراق، وقد تطايرت العصافير وانطلق النسيم فاختلط حفيف الأشجار بتغريد الأطيار فكان لذلك تأثير شديد على سالمة بعد أن قاست ما قاسته من التعب والقلق طول الليل الماضي، وأحست بالنعاس ولكن حواسها تنبهت لسماع حديث الراهبين لتعرف سبب خروج الرئيس من ديره على غرة، فسمعت الراهب يقول: «إن الذي دعا إلى ذلك الخروج يا أخي أمر جديد كفانا الله شره.»
فقال الراهب: «وما هو ذلك الأمر لا سمح الله؟»
قال: «ألم تسمع بمجيء الدوق شارل صاحب أوستراسيا بجيشه الجرار؟»
قال: «سمعت أنه قادم فهل وصل؟»
قال: «نعم يا أخي وصل منذ أيام وهو الآن على الضفة اليمنى، وحالما وصل بعث إلى حضرة المحترم رئيس ديرنا أن يوافيه إلى هناك على عجل فلم يسعه غير الطاعة.»
قال: «وما الذي يبتغيه منه وليس عنده جند ينجده به؟»
قال: «يظهر أنك تجهل حال هذا الدوق مع رجال الله والكنائس والأديرة.»
قال: «أعرف عنه قليلا.»
قال: «ألا تعرف طمعه في أموال الكنائس وأرزاقها وهل فاتك ما ارتكبه من الظلم مع أكليروس أوستراسيا؟»
قال: «سمعت بعض الشيء وأخشى أن يفعل مثل ذلك في كنائسنا هنا.»
قال: «وهذا الذي نخشاه نحن.»
وبينما هما في ذلك، إذ سمعا قرع الجرس فبغت راهب الدير ووقف الباقون وهم يحسبون الجرس يقرع للصلاة، ولكنهم رأوا الكنيسة لا تزال مغلقة وقد تقاطر الرهبان من كل ناحية نحو طرقة من طرقات الحديقة تؤدي إلى سور الدير من جهة النهر، فظلت سالمة وراهبها واقفين بجوار المقعد ينتظران ما يكون، ولم يمض قليل حتى رأيا جماعة من الرهبان عائدين وفي مقدمتهم راهب بملابس خاصة، يمتاز عن الباقين وعلى رأسه قلنسوة خاصة فعرفت سالمة أنه الرئيس وقد عاد من مهمته التي ذهب لأجلها إلى شارل فاستغربت رجوعه في ساعة مبكرة، وتفرست فيه عن بعد فرأته ماشيا وحوله الرهبان والجميع سكوت تهيبا مما في وجهه من مظاهر الغضب.
وكان ذلك الرئيس كهلا كثيف اللحية قد وخطه الشيب في أواسط لحيته من مقدم الذقن ولا يزال الباقي حالكا، وكذلك شاربه فإنه كان غليظا كثيفا وكانت عيناه كبيرتين براقتين، فوقهما حاجبان عريضان ومنظره في الجملة وقور مع جلال، وقد زاده الغضب هيبة ووقارا حتى ألجم الرهبان كافة عن الكلام، فتوسمت سالمة من ذلك الغضب خيرا ولما دنا من الدير أسرع رفيقها الراهب إلى يده، فقبلها وهو جاث وقبعته بيده، ففعلت سالمة مثله ثم تنحى الجميع ودخل الرئيس من باب الدير وتبعه جماعة الرهبان وعلى وجوههم علامات الدهشة، ولا يجسر أحد على الكلام إلا همسا.
فظلت سالمة وراهبها يترقبان فرصة تسمح بدخولهما على الرئيس، وكانت سالمة تفضل الدخول عليه وحدها ومعها الكتاب، وبعد هنيهة جاء الراهب الذي كان قد استقبلهم من باب السور وقال: «هذا هو الرئيس قد عاد فما الذي تريدانه؟»
قالت سالمة: «أريد أن أحظى بتقبيل يديه ومعي كتاب أريد تقديمه إليه.»
قال: «وأين الكتاب؟»
فمدت يدها وأخرجته من جيبها، ودفعته إليه مختوما فتناوله ودخل ثم عاد ودعا سالمة للدخول وحدها، فسرت لذلك ومشت وهي تعد في ذهنها ما ستلقيه على الرئيس لعلمها أن رئيس دير القديس مرتين يمتاز عن سائر رؤساء الأديرة بعلو منزلته وغنى ديره فدخلت في دهليز انتهت منه إلى باحة رأت فيها الرهبان متزاحمين يذهبون ويجيئون كأنهم في شغل عظيم وقد تسربوا أزواجا وأثلاثا، فلما رأوها وسعوا لها الطريق، فمشت والراهب يتقدمها حتى وصلت إلى غرفة الرئيس وعلى بابها ستار شقه الراهب بيساره وأشار إلى سالمة بيمينه أن تدخل، فدخلت إلى قاعة مفروشة بالبسط وعلى جدرانها صور بديعة الصنع تمثل أهم حوادث النصرانية، وفي صدر القاعة صورة القديس مرتين بالحجم الطبيعي الكامل ورأت الرئيس جالسا على مقعد في صدر القاعة تحت تلك الصورة، فلما دنت منه جثت وقبلت يده فأنهضها وطلب مقعدا أجلسها عليه، والكتاب لا يزال بيده وقد تبسم ترحابا بالقادمة والغضب لا يزال باديا في عينيه .
الفصل الثاني والستون
أمل جديد
فجلست سالمة متأدبة والخمار يجلل رأسها، وثوبها الأسود يزيدها كمالا ورزانة، وظلت صامتة احتراما للرئيس، أما هو فأعاد نظره إلى الكتاب وتفرس فيه كأنه يقرؤه ثانية، ثم قال: «ممن هذا الكتاب؟»
قالت: «إن خاتم صاحبه فيه.»
قال: «لا أرى خاتما ولكنني عرفته من خطه هل أنت سالمة؟»
قالت: «نعم يا مولاي، إني أمتك سالمة.»
قال: «العفو يا أختي كلنا عبيد ربنا ومخلصنا ما الذي تريدينه مني الآن؟»
قالت: «لا أريد إلا ما تريده قداستكم وليس لي رأي بعد رأيكم.»
فابتسم غضبا وقال: «لا حاجة بنا إلى المجاملة والتردد لقد جئتني لأمر يقول أخي رئيس دير ... أنه يهمني ويهمه وأن عليه يتوقف مستقبل الكنيسة في أكيتانيا فتفضلي بما تأمرين.»
قالت: «إني خاطئة لا أستحق هذه العناية، ولكني كنت خاطبت كاتب هذا الكتاب في شأن دافعني فيه وأنكره علي، ولكنه ما أن سمع بقدوم الدوق شارل إلى هذه البلاد حتى استصوب رأيي فهل أعجبك حضرة الدوق بمجيئه؟ اصفح عن جرأتي في هذا السؤال؛ لأن عليه يتوقف حديثي.»
قال: «صدقت يا ابنتي هذا السؤال لا يجسر أحد من رهباني أن يسألني إياه ولكنك جئت في وقت أجيز لك فيه هذا السؤال، وفي كلام أخي الرئيس صاحب هذا الكتاب ما يحملني على الثقة بك فأقول إني وجدت الدوق شارل خطرا على الكنيسة في أكيتانيا.»
قالت: «وهذا الذي رآه هو، وأراد أن أكون الواسطة في عرض طريقة أرجو أن تعود بالنفع على الكنيسة وأهلها.»
قال: «وما هي طريقتك؟»
قالت: «هل تعد الدوق شارل مسيحيا حقا؟»
قال: «هو يزعم أنه مسيحي، ولكن أنى له ذلك وهو يحلل ما حرمته الكنيسة كنا نسمع عنه أمورا لم نكن نصدقها لغرابتها حتى سمعناها من شفتيه.» قال ذلك وقد تجدد غضبه ثم قال: «كنا نسمع أنه أخذ أموال الأديرة وأساء إلى الأكليروس، وكنا نستغرب ذلك منه حتى دعاني بالأمس إليه وبدلا من أن أسمع منه تملقا وتزلفا لشدة حاجته إلينا في كل شيء سمعت منه تهديدا ووعيدا.»
فانشرح صدر سالمة لهذه الشكوى، واستبشرت بتحقيق أمنيتها، ولكنها أظهرت الدهشة وقالت: «تهديد ووعيد؟ ولماذا؟ ألعلكم عصاة؟»
قال: «كلا يا ابنتي ولكنه كلفني أمرا لم أوافقه عليه كما أراد، دعاني وطلب إلي أن أدفع ما في صندوق هذا الدير من الأموال عاجلا؛ لأنه يحتاج إليها في الحرب، ثم عرض بفضله علينا في هذه الساعة؛ لأنه سيدفع عنا العرب سامح الله الدوق أود ما أضعف قلبه، إنه سيجر علينا البلاء مضاعفا باستنجاده بهذا الرجل المستبد.»
فأظهرت سالمة الاهتمام وقالت: «في الحقيقة إن الخطأ الأكبر من الدوق أود، فقد أضاع استقلاله وجر البلاء على الكنيسة وما الذي يظنه مولاي الرئيس في هؤلاء العرب؟»
قال: «هم أعداؤنا وأعداء ديننا!»
فابتسمت بلطف وقالت: «اسمح لي يا حضرة الرئيس المحترم أن أعترض على هذه التهمة هل رأيت العرب أو عاشرتهم؟»
قال: «كلا ولكنني سمعت عنهم شيئا كثيرا سمعت أنهم يعبدون الأصنام وأنهم إذا نزلوا بلدا نهبوا كنائسه وسبوا نساءه وخربوا منازل أهله.»
قالت: «ألا تصدق امرأة عاشرتهم أعواما؟»
قال: «هل عاشرتهم كثيرا؟ وأين؟ وما هي علاقتك بهم وأنت من أهل هذه البلاد على ما يظهر؟»
قالت: «فليسمح لي مولاي أن أجيب على أسئلته بما في استطاعتي لقد عاشرت هؤلاء العرب أعواما فظهر لي أنهم أهل ديانة مثل ديانتنا، يعبدون الله مثلنا وهم أهل رفق وعدل، يوفون بالعهود ويحافظون على المواثيق، وقد فتحوا بلاد الإسبان ومعظم أكيتانيا ولم يظهر منهم إلا العدل والرفق، ترى النصارى في إسبانيا وفي بوردو وبواتيه وغيرها من البلاد التي فتحوها متمتعين بحريتهم الدينية، لا خوف على كنائسهم، ولا على أموالهم، ولا على شيء مما يملكون، ولا يخلو أن يطمع أحدهم في نهب أو سلب فإذا لم يكن محقا فإنه ينال جزاءه من أميره.» ثم قصت عليه حكاية كنيسة بوردو وبذلت جهدها في تنميق العبارة وبسطها لعلمها أنها إذا أقنعت رئيس دير القديس مرتين هان عليها إقناع أسقف تورس، وإذا هم لم يساعدوا العرب كفاها ألا يساعدوا الإفرنج.
الفصل الثالث والستون
الرهينة
وكان الرئيس يسمع كلامها ويتفرس في وجهها ويستطلع حقيقتها، فلم تسعفه الفراسة إلا قليلا وظل مستغربا غيرة هذه المرأة على العرب وهي غير عربية ولكنه استحسن امتداحها العرب خصوصا وهو على تلك الحال، فتوهم أن مجيء هذه المرأة أثناء نفوره من شارل وخوفه منه لا يخلو من عناية خاصة روحانية، فمال إلى موافقة سالمة في رأيها ولكنه أعظم أن ينصاع إليها في سهولة، وأراد من ناحية أخرى أن يحافظ على غيرته الدينية لعلمه أن انحيازه إلى العرب - إذا لم يكونوا كما وصفت - يغير مستقبل النصرانية في تلك البلاد ويقلب الأحوال رأسا على عقب، وكان يرجو رجوع شارل عن مطالبه، فإذا رجع لم يبق ثمة داع لعدوله عن نصرته، فظل مدة مطرقا وهو يعبث بأطراف لحيته بين أنامله، ثم التفت إلى سالمة وقال لها: «إني شاكر لسعيك، وأرجو أن تمهليني ريثما أفكر وأستخير الله وأعمل بإلهامه جلت قدرته.»
قالت: «تبصر يا مولاي في الأمر كما تشاء، ولكنني أذكرك بما أنت مسئول عنه أمام الله من مصالح الرعايا وإنما هدفي أن يعود سعيك بالخير على الكنيسة وأهلها.» قالت ذلك ووقفت فابتدرها الرئيس قائلا: «أما أنت فتبقين عندنا ريثما نرى ما يكون.»
فأدركت أنه يريد بقاءها عنده رهينة حتى يصدق قولها، فلم تبال لاعتمادها على وعود عبد الرحمن، فقالت: «إني رهينة أمرك فيما تريد.»
فصفق الرئيس فجاء أحد الرهبان فقال: «انزل هذه الضيفة في غرفة خاصة بها وأكرموها.»
فمضت مع الراهب إلى علية أعدوها في طرف الدير من جهة نهر لوار، ولها نافذة مطلة على ذلك النهر، فاتكأت على السرير وقد أخذ التعب منها مأخذا عظيما فاستلقت ونامت واستغرقت في النوم، ولم تفق إلا على قرع جرس يدعو الرهبان للغذاء، فنهضت والتفت بثيابها وأطلت على النهر فبغتت لما شاهدته - من بعد - من السفن الصغيرة المرابطة صفوفا كالجسور، وقد أخذ الناس في العبور عليها إلى هذه الضفة ومعهم الأعلام أشكالا وألوانا.
فعلمت أنهم جنود شارل فوقفت تنظر إلى مجرى النهر، وقد رجعت بها أفكارها إلى مريم والعهود التي تربطها بذلك النهر وما يتوقف على الجيشين هناك من الأمر الهام، وكانت كثيرة الاطلاع على أحوال الإفرنج، وقد علمت أنه لم يبق عندهم رجل قوي إلا شارل هذا فإذا دارت عليه الدائرة فالغلبة للمسلمين على كل أوروبا؛ لأنه لن يقف في طريقهم شيء بعد ذلك، وإذا كانت الغلبة للإفرنج، فلا مقام للمسلمين هناك أبد الدهر وأشد من ذلك وطأة عليها أن العرب إذا لم يقطعوا نهر لوار لم يبق لها ولا لابنتها عيش فلما تذكرت ذلك مدت يدها إلى جيبها وافتقدت المحفظة وفيها كل سرها وأخرجتها وقبلتها، فدمعت عيناها وأحست من تلك الساعة بشوق شديد إلى مريم بعد ذلك الغياب الطويل وهي لا تدري كيف حالها، على أنها لم تكن تخشى عليها من أحد ليقينها بحكمتها وعناية عبد الرحمن بها.
استغرقت سالمة في تلك الهواجس، وعيناها تنظران إلى معبر الجند وقد استغربت كثرتهم على الضفتين، وكانت تسمع صوت الطبول برغم بعد المسافة؛ لأن الهواء كان يهب من الشمال والشرق والصوت يأتي معه، وقضت سالمة في ذلك ساعة، ولو تركت لنفسها لانقضى النهار ولم تنتبه، ولكنها ما لبثت أن سمعت قرع الباب فتحولت وفتحته، وإذا براهب ومعه خادم يحمل خوانا عليه الأطعمة فقدماها لها، وخرجا فأحست بالجوع وكانت قد نسيت نفسها، فجلست ولم تزدرد اللقمة الأولى حتى تذكرت حسانا ورفيقها الراهب فصفقت، فجاءها خادم فطلبت إليه أن يستقدم خادمها عند باب الدير، فذهب ثم عاد بحسان وهو بعباءة الرهبان وشعره لا يزال مشعثا، فدخل وتأدب، فأمرته أن يقفل الباب وراءه، فلما خلت به دعته للجلوس فأبى، فقالت: «دعنا من المجاملة فإنك من أعز الأعزاء إلي، وأي عزيز يضحي بنفسه في مصلحة صديقه أو صاحبه كما فعلت؟ فاسمح لي أن أعاملك معاملة الصديق اجلس وتناول الطعام معي.»
فتراجع وقال: «أما الجلوس في حضرتك فأطيعك فيه، وأما الطعام فلا حاجة لي به؛ لأني أكلت مع بواب الدير الساعة، وقد شغل بالي لإبطائك في دعوتي وخشيت أن يفشل مسعاك فأرجو أن أسمع أخبارا طيبة هل نجحت مع رئيس الدير؟»
قالت : «أحمد الله على ذلك، ولم يبق إلا أن نبلغ نتيجة أعمالنا إلى الأمير عبد الرحمن ليعلم كيف يتصرف مع تلك الداهية ميمونة، وأين جند العرب الآن يا ترى؟»
قال: «لقد علمت من حديث دار بيني وبين أحد الرهبان في هذا الصباح أن العرب أصبحوا على مقربة من هذا المكان ولكنهم قادمون من جهة الغرب، وأن جند شارل قادم من جهة الشرق وسيلتقي الجيشان في هذه الساحة جنوبي هذا الدير.»
فبغتت وأبرقت أسرتها، وقالت: «هل أنت واثق من ذلك يا حسان؟»
قال: «هذا الذي سمعته - يا مولاتي - والجميع يتناقلونه وأظنه صحيحا.»
قالت: «فعلينا الإسراع في إبلاغ الرسالة، وكنت أود أن أذهب أنا أيضا معك لولا إصرار الرئيس على بقائي هنا لغرض لا أعلمه.»
فقال: «لا بأس من بقائك في الدير إذ تكونين هنا في مأمن من كل شر؛ لأنه فضلا عن تحصينه بالأسوار والأبراج فله مكانته عند الجيشين واتركي ما بقي من المهام علي، فإني أفعل ذلك إن لم يكن إكراما لك فإكراما لنفسي، وفي فوز العرب فوزي وفي سقوطهم سقوطي.»
فتذكرت سالمة ما كان من حديث رودريك، وقد فاتها أن تخبره به بالأمس فقالت: «بورك فيك وعندي خبر جديد يهمك أكثر من كل ذلك.»
فقال: «وما هو يا سيدتي؟»
قالت: «أتذكر حفيدك سعيدا؟»
فأجفل عند سماع ذلك الاسم لطول ما مر به من الأيام على إغفاله وهو يحسبه في عداد الأموات وقال: «كيف لا أذكره رحمه الله ورحم والده.»
قالت: «إنه لم يمت يا حسان.»
قال: «من؟ سعيد حي؟ أين هو.»
قالت: «هو في معسكر الدوق أود واسمه عندهم رودريك.» وقصت عليه ما تعرفه عنه، فأطرق واستغرق كأنه في حلم، ثم رفع بصره وقال: «وهو هو هناك الآن؟»
قالت: «لا أدري وإذا كان هناك فإنه يكون سجينا.»
قال: «سوف أسعى إليه وأبحث عنه بعد ذهابي برسالتك إلى الأمير عبد الرحمن.»
فأعجبها منه إيثار خدمتها على البحث عن حفيده مع شدة قلقه عليه، فلما فرغت من الطعام أمرت حسانا فجاءها بمداد ، وتناولت منديلا كتبت عليه رسالة إلى عبد الرحمن ودفعتها إلى حسان وقالت له: «سر في رعاية الله، وإذا احتجتم إلي في شيء فإني مقيمة هنا، وأرى قبل ذهابك أن تصلح من شأنك وتتزيا بزي الرهبان لتأمن غوائل الطريق، وأظن أن رفيقنا الراهب سيعود إلى ديره، فاصطحبه وبلغه سلامي.»
فودعها حسان وخرج.
الفصل الرابع والستون
معسكر عبد الرحمن
فلنرجع إلى ما كان في معسكر عبد الرحمن بعد طول سكوتنا عنه وانشغالنا بحديث سالمة تركناهم قرب مضيق دردون بعد أن فر الإفرنج من وجوههم، فمكثوا هناك ينتظرون رجوع سالمة من مهمتها، وقد رأيت ما كان من مقتل بسطام وفشل ميمونة، وعرف القارئ أنها لمباجة بنت الدوق أود، وكانت بارعة الجمال والدهاء كما رأيت، وقد وضعت نفسها موضع السبية خدمة لوالدها فانطلت حيلتها على عبد الرحمن ورجاله، ولولا سالمة لظل أمرها مكتوما، وكانت سالمة قد عرفتها منذ قابلتها في الخباء، ولكنها خشيت أن يكتشف سرها هي فأجلت الأمر حتى تعود، ولو علمت حقيقة مهمتها ما صبرت عن أمرها فظلت ميمونة بعد ذهاب سالمة والكل يعتقدون أنها من وصيفات لمباجة وهي لا تدخر وسعا في عرقلة مساعي العرب بكل سبيل، فلما فرغت يدها من وقعة دردون وتخلصت من التهمة، عمدت إلى أحد شياطينها فبعثت معه إلى والدها كتابا أنبأته فيه عن مهمة سالمة والغرض الذي ذهبت من أجله إلى بوردو وبواتيه وغيرهما، وحرضته على القبض عليها؛ لأنه إذا حبسها فكأنه حبس نصف جيش المسلمين، فلم تدركها المكيدة إلا على أبواب بواتيه كما رأيت، وكانت ميمونة قد تحققت من عجز والدها عن دفع ذلك الجند من العرب بعد ما شاهدته في الوقعتين الأخيرتين بفضل اتحاد القبائل وعجزها عن تفريق كلمتها، فعمدت إلى شيطانها الأحول وبعثت معه إلى والدها تستحثه على الاستنجاد بشارل لعلمها أن أباها لا قبل له بذلك وحده، ومن غريب دهائها واحتيالها أنها كانت شديدة التأثير على والدها لا تكاد تشير عليه بأمر إلا حققه لإيمانه بحكمتها وسعة اطلاعها، وخاصة على أحوال العرب بعد الإقامة بينهم أعواما، ولما جاءه كتابها، كان قد يئس من الفوز وخاف على نفسه، فوافق رأيها مصلحته فبادر إلى الاستنجاد بشارل دوق أوستراسيا، فلبى هذه الدعوة لعلمه أنه إذا انتصر على المسلمين انتصر على أود وملك فرنسا كلها.
أما عبد الرحمن فلما طال غياب سالمة مل الانتظار، وبعث يبحث عنها في بوردو فعلم أنها خرجت منها منذ أيام، وكانت مريم مع تعلقها بهانئ واستغراقها في لجج العواطف أشد الجميع قلقا على والدتها، وكان هانئ يختلس الفرص في أثناء الإقامة هناك ويجتمع بمريم، إما في الخباء أو في الصحراء، ويتحادثان ويتشاكيان في غفلة من الرقباء، وعبد الرحمن يغض النظر، حتى تمكنت المحبة بينهما وكادا يتناسيان الحرب وأسبابها لو لم يكن زواجهما متوقفا عليها وعلى اختراق أكيتانيا إلى نهر لوار، ولذلك فإن هانئا لم يكن يفتر عن تحريض عبد الرحمن على السير قبل فوات الفرصة واستعداء الأعداء، وعبد الرحمن يأخذ الأمر بالتؤدة والتأني حتى جاءهم الجواسيس ذات يوم بخبر استنجاد أود بشارل، فعقد عبد الرحمن مجلسا من الأمراء حضره هانئ وأطلعهم على الخبر، فقال هانئ: «وهذا ما كنت أخشاه، ولذلك كنت أستعجل الأمير في التقدم.»
فقال عبد الرحمن: «فالذي أراه أن نبادر حالا إلى المسير.»
قال هانئ: «هذا هو رأيي.»
ولبث عبد الرحمن ساكتا ليسمع آراء سائر الأمراء وفيهم أمراء البربر فلم يفه أحد منهم بكلمة، فتخوف من ذلك السكوت وأدرك هانئ خوفه، وعلم أن مطامع البرابرة متعلقة بالغنائم والسبايا، وأنهم لما علموا باتحاد جيشي أكيتانيا وأوستراسيا خافوا على أنفسهم فوقف هانئ وهو يبتسم وقال: «لا حاجة بنا إلى طول البحث في هذا الشأن، فإن الله قد ضم جيش أوستراسيا إلى جيش أكيتانيا غنيمة لنا؛ لأن عند أولئك من الأموال والتحف ما لا تقاس به تحف هذه البلاد، وإذا انتصرنا على الجيشين مرة واحدة ملكنا هذه الأرض الكبيرة كلها، وقطعناها حتى نذهب إلى رومية والقسطنطينية فنتم فتح العالم كله ، وننشر الإسلام بين الناس كافة، ويكون الفضل في ذلك لسيوفكم وخيولكم.» قال ذلك وقد مزج طلب الغنائم بالجهاد حتى لا يفتر طالب الغنائم عن تلبية دعوته وما أتم كلامه حتى صاح الجميع بصوت واحد: «الخيل! الخيل!»
فقال عبد الرحمن: «بارك الله فيكم ونفع الإسلام بكم.» ثم أمر بالاستعداد للرحيل، ولما انصرف الأمراء بقي هانئ وعبد الرحمن ولاحظ هانئ على عبد الرحمن انقباضا، فقال: «ما بالك منقبض النفس وقد أطاعنا هؤلاء على المسير؟»
قال: «أنت تعلم يا هانئ أنهم لا يحاربون إلا طمعا في الأموال وقد تجمعت الغنائم عندهم حتى كادوا ينوءون تحت أثقالها فالرجل منهم لا يكاد يستطيع حمل طعامه وغنائمه، فبماذا يقاتلون؟»
قال هانئ: «لقد نبهتني أيها الأمير إلى أمر ذي بال: إن تعلق هؤلاء البرابرة بالغنائم ضربة ثقيلة على هذا الجيش ليس لاستئثارهم بها دون سواهم، ولكن لأنها تشغلهم عن الحرب، فإذا حملوها أثقلتهم وأعاقت حركتهم، وإذا تركوها خلفوا قلوبهم معها، فلا بد من حيلة نحتالها عليهم في ذلك.»
فأطرق عبد الرحمن ثم وقف، فوقف هانئ معه وتشاغل عبد الرحمن بإصلاح عمامته وهانئ بإصلاح حسامه، ثم التف عبد الرحمن بعباءته وهو يقول: «لا بد لنا من النظر في هذا الأمر، وفي اعتقادي أن ترك هذه الغنائم الثقيلة والذهاب إلى الحرب بدونها أربح لنا جميعا، ولكن من يجسر أن يقول لهؤلاء البرابرة: تخلو عن غنائمكم! ونحن إنما رغبناهم في الحرب بذكر الغنائم والأموال.»
فضحك هانئ وقال: «أظنك لاحظت ذلك من عبارتي في هذا الشأن وقد كان في نفسي أن أرغبهم في سرعة المسير إلى تورس بذكر ديرها الغني؛ لأن بقربها ديرا يقال له دير القديس مرتين هو من أغنى الأديرة الإفرنجية ولكنني خشيت إن أنا قلت لهم ذلك أن يشتغلوا بنهبه عن الحرب، فنكسب عداوة الأهالي والكهنة فضلا عن عداوة الجند.»
قال عبد الرحمن: «لقد أحسنت بالسكوت عن ذلك والذي أراه أننا متى وصلنا إلى ساحة الحرب ندبر تدبيرا لا يغضب أحدا فنجعل هذه الغنائم في مكان خاص فيكون أصحابها في اطمئنان لا يخافون عليها بأسا أو نجعلها وراء الأخبية، أو بينها وبين الجند.» فمشى هانئ وهو يقول: «سننظر في ذلك في حينه.» وخرجا لإعداد معدات السفر.
أما مريم فقد كانت لا تزال على اعتقادها في إخلاص ميمونة، وهذه لم تكن تدخر وسعا ولا تضيع فرصة لا تجتذب فيها قلب مريم بالإطراء والإعجاب، ومريم - لسلامة نيتها وصدق محبتها - كانت تثق بميمونة ثقة تامة، ولم يكن ذلك عن جهل أو بله ولكن حر الضمير يصدق الناس ويعتقد أنهم يصدقونه، فإذا سمع قولا صدقه لسلامة نيته وصدق لهجته، وفي جملة ما استخدمته ميمونة من أسباب الخداع لمريم أنها كانت تحدثها بحوادث وقعت لها مع عبد الرحمن أو غيره، تزعم أنها مما لا يفشى لغير الأصدقاء الأخصاء وتتوقع أن تفشي لها مريم شيئا من سرها مع هانئ، ولكن مريم كانت شديدة الحرص على أسرار الحب وميمونة تسايرها في كتمانه فيزيدها ذلك استسلاما لها، فلما تمكنت ميمونة من مريم وكسبت ثقتها أصبحت مريم لا تفارقها إلا ساعة النوم، أو عندما تلتقي بهانئ أو لأسباب قاهرة.
الفصل الخامس والستون
ساحة القتال
وفي صباح الغد قوضوا الخيام ووضعوا الأحمال على الجمال والبغال وسار الجند على نسق خاص المشاة حسب قبائلهم وأمام كل قبيلة راية خاصة بها يحملها أحد فرسانها، وقد يكون للقبيلة عدة رايات تخفق في الهواء حتى إذا نظر ناظر إلى ذلك الجند وراياته عن بعد ظن الرايات أشرعة وظن حامليها سفنا، والناس بحرا ومسيرهم موجا يتلاطم، وكأن عمائمهم البيضاء وبجوانبها رءوس الأسنة تكسر الموج على سطح البحر، وكان من جملة المشاة رجال البربر بحسب قبائلهم ومعهم سائر الموالي من غير العرب كالنبط والشوام وغيرهم، وهم سائرون بإزاء العرب، وملابسهم تختلف عن ملابس العرب بعض الشيء، وأما الفرسان فقد اصطفوا فرقة على حدة تتقدمها الرايات بحسب الأمراء، وراية هانئ أكبرها جميعا وأكثر الفرسان بالدروع المتينة وعلى رءوسهم الخوذات الفولاذية، وكان عبد الرحمن يسير تارة بجانب هانئ أمام الأمراء أصحاب الأخبية ومعهم النساء والأطفال في هوادج، إلا مريم فكانت على جواد كأحد الفرسان، وكانت ميمونة تتظاهر بالرغبة في ملازمتها فتركب جوادا إلى جانبها، ويجيء وراء تلك الحملة ساقة الجند وأمامهم الأحمال والأثقال، وكان عبد الرحمن وهانئ إذا دارا حول ذلك الجيش أو نظرا إليه من أكمة اطمأنا لكثرته وتوسما النصر به.
وكان المسلمون يسيرون ولا يلاقون في طريقهم إلا حقولا مهجورة وأدوات متروكة وبيوتا خالية، فيأخذون ما شاءوا ويتركون ما شاءوا، حتى إذا أمسى عليهم المساء يحطون رحالهم فيأكلون وينامون ثم ينهضون، فلما وصلوا بواتيه، لم يلاقوا منها مقاومة كبيرة؛ لأن معسكر أود كان قد بعد عنها، وقليل من الجند من دخل المدينة؛ لأن مقصدهم كان مدينة تورس قاعدة تلك الناحية وعندها جند الإفرنج.
وأنبأهم الخبراء ذات الصباح أنهم أصبحوا على مرحلة من نهر لوار، فاستراحوا وأصلحوا شئونهم وساروا - وعبد الرحمن وهانئ يتقدمان الجند - نحو ميل ومعهما كبير الخبراء لاستكشاف مواقع العدو قبل النزول، وليختاروا مكانا يعسكرون فيه، وفي أصيل ذلك اليوم صعدا على رابية على ضفة نهر شير ووليا وجهيهما نحو الشرق فكان نهر لوار إلى يسارهما عن بعد والشمس وراءهما فنظرا إلى ما بين أيديهما شرقا، فأشرفا على سهل واسع مثلث الشكل قاعدته ضفة نهر لورا إلى يسارهما ورأس المثلث في الجنوب وشاهدا عنده خياما وأعلاما، فعرفا أنه معسكر الدوق أود، وبين هذا المعسكر وضفة نهر لوار سهل واسع، طوله نحو ميلين، يصلح ميدانا للقتال لخلوه من الأغوار، حتى ينتهي عند قاعدة المثلث بالأبنية على ضفة النهر وأقربها إليها مدينة تورس ثم محلة دير القديس مرتين، ومع بعدها عنهما فإنهما عرفاها من فخامة ديرها وقبة كنيستها، وشاهدا وراء تلك المحلة مما يلي النهر حركة وغبارا عرفا مما يتخلل ذلك من الأعلام والخيول أنها حركة جند قادم من جهة النهر فأمر عبد الرحمن رجلا في ركابه أن يمضي إلى جند المسلمين فيأمرهم بالوقوف حيث هم ريثما يعود من هذا الاستكشاف، ثم التفت إلى الخبير وكان من الإفرنج وقد تعلم العربية وقال: «أليس هذا دير القديس مرتين؟»
قال الخبير: «بلى، يا مولاي، هذا هو أغنى الأديرة النصرانية في هذه البلاد.»
قال: «وما الذي تراه وراءه؟»
قال: «أرى جند الدوق شارل يعبر النهر من ضفته الشمالية إلى الضفة الجنوبية، وقد علمت من رجل لقيته في هذا الصباح قادما من محلة هذا الدير أن الدوق المذكور أخذ منذ بضعة أيام في نقل رجاله على جسور من السفن، ولم يفرغ بعد لكثرة ما بها من الرجال والأحمال.»
قال: «ألا يعرفون عدد جنده؟»
قال الخبير: «لم يحصوه، ولكن لا ريب عندي أن الدوق شارل جرد كل ما يستطيع تجريده من قبائل الإفرنج في أوستراسيا وما وراءها لعلمه بشدة بأس المسلمين وقوتهم، ولأن على حربه هذه يتوقف إما امتداد سلطانه على فرنسا كلها أو خروج أوستراسيا من يده.»
فقال هانئ: «وسيتحقق الأمر الثاني بإذن الله.»
فاعترض عبد الرحمن كلامه قائلا: «أليس ما نراه إلى يميننا في الجنوب معسكر الدوق أود شريد مضيق دردون؟»
فضحك الخبير وقال: «بلى يا سيدي، وهو شريد على كل حال؛ لأنه سواء انتصر عبد الرحمن أو شارل فإن سلطانه على أكيتانيا سيخرج من يده إما لكم وإما لشارل، فحاله تستوجب الشفقة.»
فاكتفى عبد الرحمن بما سمعه، وفكر في اختيار مكان يعسكرون فيه فقال هانئ: «لا أرى لنا مكانا نعسكر فيه خيرا من النقطة التي نحن فيها، فنقطع هذا النهر الصغير (شير) ونعسكر وراءه فنكون على بعد واحد تقريبا من هذين الجيشين، وإذا تضاما فنكون متقابلين ويكون هذا الماء وراءنا فإذا قضت الحرب أن نقهر - لا سمح الله - قطعنا النهر وجعلناه خندقا بيننا وبينهم.»
فأعجب عبد الرحمن برأي هانئ وابتسم له ابتسام والد سمع من ابنه عبارة تدل على الذكاء، وقال: «لقد رأيت الصواب وأزيد على ذلك أن نترك أثقالنا وأحمالنا ونساءنا هنا ولا يقطع النهر إلا الرجال المحاربون فنكون في اطمئنان على أموالنا وأعراضنا، وأرى أن نترك هنا أيضا الغنائم التي أثقلت رجالنا فيذهبون إلى الحرب خفافا، وقد أخبرتك بأن أمر هذه الغنائم أقلق راحتي، فإذا لم نقنع رجالنا وخصوصا البرابرة بالتخلي عنها يوم الحرب كانت سببا في فشلنا، وأنت تعلم أن الرجل إنما يغلب بخفة حركته.»
الفصل السادس والستون
مشكلة الغنائم
قال هانئ: «لنعقد مجلسا - إذا أمرت - نحدث الأمراء فيه ونقنعهم بوجوب التخلي عن الغنائم ونبين لهم ما يترتب على حملها من الأضرار ونرى ماذا يكون.» وكان في ركاب عبد الرحمن أيضا صاحب النفير (البوق) فأمره أن يذهب إلى المعسكر فيخبر الأمراء بمبيت الجند هذه الليلة حيث هم، ثم يدعو الأمراء إلى تلك الأكمة حيث كانا واقفين للبحث في موضوع المكان الذي سيعسكرون فيه فأسرع الرسول، ولم تمض هنيهة حتى تقاطر الأمراء على جيادهم، فلما وصلوا نزل عبد الرحمن عن جواده وهانئ عن أدهمه، فنزل سائر الأمراء وسلموا جيادهم إلى الخدم، ووقفوا على تلك الرابية فأطلوا على سهل تحف به تورس ومحلة القديس مرتين من الشمال إلى يسارهم، ومعسكر أود من الجنوب إلى يمينهم فقص عليهم عبد الرحمن ما خطر له بشأن المكان الذي يعسكرون فيه بحيث يكون الماء وراءهم إلى أن قال: «وأستشيركم في أمر هام أظن أن فيه خيرا لنا، وهو ألا يعبر هذا النهر منا غير الرجال المحاربين، وأن نترك النساء والأحمال هنا ومعهم من يحميهم فما رأيكم؟»
فقال اثنان من أمراء القيسية: «لقد رأى الأمير صوابا.» فوافق سائر الأمراء على ذلك.
فقال عبد الرحمن: «وهناك أمر ذو بال طالما خشيته على هذا الجند، وذلك أن جندنا قد أصبح من كثرة ما أفاء الله على المسلمين من الغنائم مثقلا بالتحف والأموال، حتى لقد يتعذر على الرجل أن يحمل غنائمه فكيف يستطيع القتال بها؟ فالذي أراه أن نجعل الغنائم المذكورة في مكان أمين في جملة ما سنخلفه هنا عند ذهابنا في الغد، فنجعل تلك الذخائر والتحف في خيمة خاصة يحرسها من تثقون به من رجالكم، كما فعلنا بقرب بوردو.»
فلم يتم عبد الرحمن كلامه حتى اعترضه شاب من أمراء البربر قائلا: «أما نحن فلا نوافق على هذا الرأي، ولا تذكرونا بما أصابنا في بوردو على أثر مثل هذا العمل، فقد احتفظنا بالغنائم هناك حسب أمركم فكانت النتيجة أننا خسرنا أكبر أمرائنا وأشجع رجال هذا الجند.»
فلما سمع عبد الرحمن تلك العبارة، وما تنطوي عليه من التعريض بمقتل بسطام مع ما تدل عليه من الضغينة والحقد خشي الانقسام إذا هو اعترض عليه أو وبخه لعلمه أنه لم يجسر على هذا القول إلا وهو مدفوع من جماعة، فتظاهر عبد الرحمن بالسذاجة والأسف وقال: «في الحقيقة إننا خسرنا في تلك الوقعة خسارة يصعب تعويضها؛ لأن الأمير بسطاما يندر أن يجود الزمن بمثله ولكنني لا أرى علاقة بين مقتله والغنائم.» ثم التفت إلى جمهور الأمراء وقال: «أظنكم توافقونني على تناسي ذلك الحادث والاشتغال بما هو أهم منه، وقد عرضت عليكم رأيا فإذا كنتم ترون فيه خطأ فبينوه؛ لأن الهدف واحد، والمصلحة واحدة.»
فتهامس الأمراء وتداولوا مليا ثم قال أحد أمراء اليمنية: «أرى الأمير على صواب في رأيه؛ لأن الرجل منا لا يستطيع الحرب وهو مثقل بالأحمال، وإذا خسر الإنسان غنيمته وانتصر في حربه عوض أضعافها.»
فوافق على ذلك كثيرون ولحظ هانئ أن البربر لا يزالون يلوذون بالصمت، فخشي الفشل فقال: «وأزيد على ما قاله الأمير أننا إذا انتصرنا في هذه الوقعة كانت غنائمنا فوق ما تدركه العقول؛ لأن الدوق قارله (شارل) صاحب هذا الجند وأشار إلى جند شارل قد حمل معه كل ما في بلاده من التحف وكل ما في الأديرة والكنائس والقصور، فإذا انتصرتم عليه ظفرتم بالغنى والفخر والسعادة.» قال ذلك بلهجة تحمل كل معاني الإخلاص، وهو يبتسم ويتفرس في وجوه الأمراء.
فلم يجد أمراء البربر ما يدفعون به قوله، فتكلم شيخ من أمرائهم قائلا: «لا ريب في أن الجندي لا يستطيع الحرب إلا إذا كان خفيفا، ولكن من لنا بمن يقنع أفراد الجند بأن يتركوا غنائمهم التي ظفروا بها بعد شق الأنفس وهم لا يطمعون في إمارة أو قضاء وإنما ربحهم من هذه الحرب ما يرجعون به من الغنائم، فعندي أننا بدلا من أن نترك الغنائم هنا نحملها معنا في صباح الغد ونجعل لها مكانا بجانب معسكرنا ، فإن ذلك أيسر على أصحابها من أن يتركوها في مكان يحول بينهم وبينه نهر.»
الفصل السابع والستون
رسول أمين
فلم ير عبد الرحمن بدا من الموافقة فعادوا إلى المعسكر وباتوا تلك الليلة هناك، وأصبحوا في اليوم التالي وأخذوا في عبور النهر إما خوضا أو سيرا على قوارب نصبوها عرضا، وكان ذلك النهر جدولا صغيرا لا يعد شيئا بالنسبة إلى نهر لوار وهو يصب فيه فعبر أولا عبد الرحمن وهانئ ليعينا أماكن الخيام فوقفا على مرتفع أطلا منه على ذلك السهل، وأخذا في تعيين الأماكن والجند يشتغلون في نصب الخيام وغرس الأعلام إلى قرب الأصيل فلاحت من هانئ التفاتة وهو ينظر إلى الأفق فرأى شبحا يعدو نحوهما عدوا سريعا، فتعلق ذهنه به وجعل يتفرس فيه فرأى عليه ملابس الرهبان فازداد استغرابا، ثم رآه قد سقط على الأرض وهو يشير بيديه نحو هانئ، فركض هانئ فرسه حتى وقف عنده فإذا هو حسان خادم سالمة وقد استلقى على ظهره وقبض بإحدى يديه على جنبه كأنه يشكوا ألما هناك وأمسك بيده الأخرى شيئا أومأ به نحو هانئ.
فترجل هانئ، وأراد أن يساعد حسانا على الجلوس، فأشار له بعينيه أن يتركه، فسأله عن أمره فقال بصوت متقطع وهو يلهث وقد ضغط بكفه على جنبه من شدة الألم: «أرسلتني مولاتي سالمة برسالة إلى الأمير عبد الرحمن من دير القديس مرتين فحملتها (وأشار بيده والرسالة فيها) حتى إذا خرجت من الدير ورأيت أعلامكم عن بعد أسرعت نحوكم، فما شعرت إلا ونبل أصابني في جنبي من خائن أظنه عدلان الأحول فأيقنت أني ميت فأسرعت حتى أدرككم بهذه الرسالة؛ لأنها في غاية الأهمية فسقطت قبل أن أصل إليكم وهذه هي الرسالة.»
ثم انقطع صوته وتزايد ألمه وأغمض عينيه وأرخى يديه، فناداه هانئ فلم يجب، وكان عبد الرحمن قد شاهدهما فأسرع إليهما وسمع كلام حسان، فلما رآه على تلك الحال أسف لحاله أسفا شديدا وكذلك هانئ، وترجح عنده أنه ميت، ولكن الأمل لا ينقطع من الحياة طالما بقي نفس يتردد ، فأشار عبد الرحمن إلى هانئ أن يستقدم أحد الأطباء.
فركب بنفسه على أدهمه وركض نحو الجند، وصاح: «هاتوا طبيبا.» وبعد قليل جاء الطبيب وهو من نصارى الأندلس وقد قضى في خدمة العرب زمنا طويلا، فأسرع إلى حسان وجس نبضه فإذا هو ميت لا حراك به، فطلب إليهم أن يدبروا أمر غسله ودفنه، فحملوه إلى خيمة خاصة بذلك.
أما عبد الرحمن فتناول الكتاب وفضه وأخذ يتلوه وهانئ يسمع، فإذا فيه:
إلى الأمير عبد الرحمن الغافقي
أكتب إليك من دير القديس مرتين وقد وصلت إليه بعد مشقات يطول شرحها سأقصها عند اللقاء القريب إن شاء الله، وإنما بعثت هذه الرسالة لأخبرك بأمر هام، اطلعت عليه في أثناء سياحتي هذه وهو أن المرأة التي تسمي نفسها ميمونة إنما هي لمباجة بنت الدوق أود وقد نصبت لي الحبائل الكثيرة في أثناء هذه الرحلة، وهي التي حرضت أباها على استنجاد صاحب أوستراسيا بكتاب أرسلته مع خادمها الأحول، فاحذروها وافعلوا بها ما شئتم، ثم إني أبشركم بأن رئيس هذا الدير ناقم على شارل وقد وعدني بالمساعدة ولكنه استبقاني عنده رهينة، وأنا في أمن وإكرام، أطلب لكم النصر، وأوصيك بفلذة كبدي مريم، والسلام.
سالمة
فما جاء على آخر الكتاب حتى بغت، فنظر إلى هانئ ثم أعاد النظر إلى الكتاب، وقد أخذت منه الدهشة مأخذا عظيما، فقال هانئ: «لم أكن أعتقد في هذه الملعونة خيرا، وكنت مع فرط جمالها أشعر بنفور من منظرها لسبب لا أعلمه، فكأن قلبي دلني على حقيقتها وكثيرا ما كنت أستغرب إكرامك لها.»
فقطع عبد الرحمن كلامه قائلا: «كنت أراعيها على حذر ولم أثق بها قط، ولكنني كنت أتوقع منها نفعا في أثناء حروبنا؛ لأنها من أهل هذه البلاد وقد قضي الأمر الآن، فيجب أن نتدبر في شأنها، فما الذي ترى أن نفعله؟»
قال: «أرى أن نقتلها حالا ونريح أنفسنا منها.»
قال: «سننظر في ذلك بعد الفراغ من ترتيب هذا المعسكر.»
قال ذلك وركب جواده وتحول نحو الجند لإتمام ترتيبهم، فجعل معسكره في نحو ثلث الضلع الممتد بين تورس ومعسكر أود وجعل فسطاطه في وسط المعسكر نحو الأمام وبجانبه خيمة هانئ، يليها بالترتيب مضارب القبائل كل قبيلة على حدة وخيمة أميرها في وسط خيامها، وراية الأمير مغروسة في باب خيمته، وقد يكون للقبيلة الواحدة عدة أمراء وعدة رايات باعتبار البطون والأفخاذ وجمع بين القبائل المتقاربة في النسب المضرية في جانب واليمنية في جانب، وجعل البرابرة في جانب آخر جنوبي المعسكر ببقعة اختاروها هم، وعبد الرحمن يسايرهم؛ لأنهم أكثر فئات الجند عددا فترتبوا باعتبار قبائلهم وبطونهم، وكذلك الأمم الأخرى من الأنباط والشوام وهم أقل سائر الفئات ثم أمر بالغنائم أن توضع في خيام نصبوها لها بجانب المعسكر من جهة الجنوب، وقد طلب البرابرة ذلك لتكون غنائمهم أقرب إلى مضاربهم، كأنهم خافوا أن يسطوا عليها العرب ويأخذوها منهم، ونصبوا مرابط الخيل وراء المعسكر مما يلي النهر الصغير.
وكان هانئ في أثناء ذلك الترتيب يطوف المعسكر لمساعدة عبد الرحمن، وهو يفكر فيما قرأه عن ميمونة وسالمة، وخطر له أن مريم إذا عرفت بمقام والدتها في ذلك الدير ربما طلبت الذهاب إليها، فارتاح إلى ذلك الخاطر لاعتقاده أنها تكون هناك في مأمن على حياتها لو قضي على العرب بالهزيمة، على أنه ترك الاختيار لها وإن كان لا يقوى على فراقها.
الفصل الثامن والستون
لمباجة
قضوا ذلك اليوم واليوم التالي في الانتقال والترتيب، حتى لم يبق في الضفة الأخرى غير الأخبية والأحمال الثقيلة ونحوها، وفي أصيل اليوم التالي، سار عبد الرحمن وهانئ معا إلى الأخبية لمحاكمة ميمونة سرا، وكان هانئ لا يرى باعثا على المحاكمة ولو ترك الأمر له لقطع رأسها بسيفه بغير سؤال ولا جواب، أما عبد الرحمن فأراد أن يتصرف بحكمة وتؤدة فلما وصلا إلى الخباء الأكبر ترجلا ودخلا القاعة، وبعث عبد الرحمن إلى القهرمانة فجاءته بخلاخلها ودمالجها وهي تترجرج في مشيتها كأنها في أحد قصور طليطلة، فلما وصلت إلى عبد الرحمن حيته، فقال: «أين ميمونة؟»
قالت: «لم أشاهدها منذ مساء الأمس وأظنها مع مريم في غرفتها .»
قال: «ابعثي إليها أن تأتينا وحدها.»
فصفقت القهرمانة فجاءها أحد الصقالبة الخصيان فقالت: «اذهب إلى السيدة ميمونة، وقل لها إن الأمير عبد الرحمن يحتاج إليها.» وقد كلمته بألفاظ عربية مشوشة على نحو ما ينطق بها الغرباء عن اللغة إذا تعلموها التقاطا من أفواه الناس، شأن أولئك الصقالبة والإفرنج وأمثالهم ممن كانوا في خدمة العرب في تلك الأيام.
فأشار الصقلبي برأسه إشارة الطاعة، وخرج ولبثوا في انتظاره، وهانئ يود الانصراف ليرى مريم ويخبرها عن والدتها ويكون هو أول من يخبرها بذلك - وفي هذا السبق لذة يشعر بها كل إنسان وخصوصا بين المحبين - فإن الرجل إذا سمع خبرا جديدا وهو بعيد عن زوجته أو حبيبته، فإنه يشعر بميل شديد إلى إطلاعها عليه، وإذا كان ما سمعه من قبيل السر كان أشد رغبة في مكاشفتها به، وكلما بالغوا في تحريضه على كتمانه ازداد رغبة في كشفه، وهو لا يعد ذلك إفشاء للسر؛ لأنه يكاشفها به سرا ويوصيها بأن تكتمه، وربما كان السبب في لذة المكاشفة شعور الحبيبين بالامتزاج قلبا وروحا، بحيث لا يليق التكتم مع ذلك الامتزاج وزد على ذلك أن المساواة تزيد في توثيق عرى المودة، فإذا تواد اثنان تزداد الرابطة بينهما وثوقا إذا اطلعا على سر لا يعلم به سواهما، ولهذا السبب كانت المحافظة على الأسرار الماسونية من أقوى أسباب ثباتها وإن لم تكن تلك الأسرار مهمة، فما بالك إذا سمع المحب خبرا يتعلق بشخص حبيبه كما كان الحال مع هانئ، فإن الخبر متعلق بمريم نفسها فلا غرو إذا رأيناه شديد الميل إلى مكاشفتها.
على أنه كان من ناحية أخرى يريد البقاء مع عبد الرحمن بعد مجيء ميمونة ليحرضه على قتلها، وقد طال غياب الرسول، فبعثت القهرمانة رسولا آخر وآخر، وبعد برهة عاد الرسول الأول وحده وهو يقول: «بحثت عن السيدة ميمونة في كل مكان، فلم أقف لها على أثر.»
فبغت عبد الرحمن وهانئ أكثر من بغتة القهرمانة لعلمهما بما لم تعلمه، فقال عبد الرحمن: «وأين ميمونة يا خالة؟»
قالت: «ربما كانت في شغل وستعود منه قريبا.»
قال: «إني أريد مقابلتها الساعة، اذهبي أنت للبحث عنها.»
فنهضت وهي تقول: «لم أرها منذ غروب شمس الأمس وليس أحد أعلم برواحها وغدوها من مريم.» ثم خرجت وهي تتمايل وتتدحرج، وطال غيابها ثم عادت ومريم معها وهي تقول: «لم أجدها في أي مكان فهي بلا شك في غير هذه الأخبية.»
ولما دخلت مريم فاحت رائحة طيبها، وابتسم لها عبد الرحمن رغم غضبه من ميمونة وخوفه من فرارها بعد أن عرفت حقيقتها وكان في وجه مريم من المعاني والملامح ما لا يستطيع معها الناظر غير الإعجاب بها والانشراح لرؤيتها، فكيف بهانئ بعد أن ملكت فؤاده واستولت على عواطفه حتى أصبح يغار عليها من النسيم، فأصبح عند دخولها كله آذان وعيون يرقب ما يبدو منها أو من عبد الرحمن عند المقابلة، ولا مسوغ لتلك الغيرة غير الحب الشديد؛ لأن الحب يدعو إلى الغيرة حتى من أقرب الناس نسبا وأبعدهم شبهة، وهاك لسان حال المحب الغيور يخاطب حبيبته:
أغار عليك من نظري ومني
ومنك ومن خيالك والزمان
ولو أني وضعتك في عيوني
إلى يوم القيامة ما كفاني
أما عبد الرحمن فما لبث أن ابتسم لمريم وأمرها بالجلوس، ثم ابتدرها بالسؤال عن ميمونة فقالت: «لم أشاهدها منذ مساء الأمس، وقد قضيت كل ما مضى من هذا النهار وأنا أبحث عنها؛ لأنها رفيقتي ومعزيتي على غياب والدتي.»
فقال: «وهل عرفت سببا يدعو إلى خروجها؟»
قالت: «لم أعرف شيئا من هذا القبيل، ولكنني رأيت منها ما يدل على الاضطراب والقلق منذ أصيل الأمس، فلم أعبأ بذلك ولا سألتها عن سببه.»
قال: «هل رأيت أحدا جاءها بكتاب أو خطاب في صباح الأمس؟»
قالت: «لم أشاهد غير بعض الخدم ممن تعودوا خدمتها.»
قال: «هل كان بينهم عدلان الأحول؟»
قالت: «نعم وكان قد مضى علي مدة لم أشاهده.»
فلما قالت ذلك تبادل عبد الرحمن وهانئ نظرتين تفاهما بهما، فتحققا أن عدلان ، بعد أن رمى حسانا بالنبال، جاء إلى ميمونة وحرضها على الذهاب إلى أبيها خوفا من انكشاف أمرها.
الفصل التاسع والستون
هانئ ومريم
وكانت مريم تنظر إلى هانئ وتتوسم في وجهه خبرا، وخاصة بعد تلك الأسئلة، وكانت القهرمانة قد خرجت ولم يبق هناك غير مريم والأميرين فنظرت مريم إلى هانئ نظرة فيها غنى عن كل حديث ففهم أنها تسأله عما يكتمانه، فالتفت إلى عبد الرحمن، فرآه مستغرقا في التفكير فقال له: «الأرجح أن تلك الخائنة علمت بافتضاح أمرها ففرت إلى أبيها، ولكنها لن تنجو من حد هذا السيف بإذن الله.»
فبغتت مريم لما سمعته؛ لأنه يناقض اعتقادها في ميمونة وظهرت البغتة على وجهها بما تصاعد إليه من الدم، وأبرقت عيناها والتفتت إلى هانئ وسألته قائلة: «وما الذي حدث حتى استوجبت هذه المسكينة غضب الأمير، وعهدي أنها من أشد الناس غيرة وأصفاهم سريرة؟»
فالتفت هانئ إلى عبد الرحمن وقال: «هل تأذن لي بذلك الكتاب؟»
فاستاء عبد الرحمن من تسرع هانئ في طلب الكتاب؛ لأنه لم يكن ينوي إطلاع مريم عليه خوفا من قلقها على والدتها، ولم يبد استياءه مراعاة لإحساس هانئ، ولكنه أنكر الكتاب وتظاهر أنه لا يعرف مكانه فازدادت مريم قلقا واضطرابا، وسبق إلى خاطرها أن لذلك التكتم سببا يسوءها ذكره، ولم يخطر ببالها شيء غير والدتها، فصاحت بلغتها المعهودة ولم تستطع إمساك عواطفها: «ما الذي تكتمانه عني؟ هل أصاب والدتي شغ (شر)؟ أين هي؟» قالت ذلك وأجهشت بالبكاء.
فأثر منظرها في هانئ، فقال: «أطمئنك يا مريم إن والدتك في خير وأمان.»
قالت: «وأين هي؟»
قال: «هي في هذا الدير.» وأشار إلى دير القديس مرتين.
قالت: «ولماذا لم تأت إلى هنا، لعلها مريضة أو مسجونة أو ماذا؟»
فتظاهر عبد الرحمن عند ذلك بالبحث عن الكتاب حتى وجده فدفعه إليها وهو يقول: «هذا هو كتابها، وفي قراءته جواب كاف.»
فتناولته بلهفة، فلم تستطع رؤية الأحرف مما غشي عينيها من دموع البغتة والخوف والأمل والفرح معا، فمسحت عينيها بكمها وقرأت الكتاب حتى أتت على آخره، ولما وصلت إلى قولها: «وأوصيك بفلذة كبدي مريم.» صاحت: «أماه !» وقد خنقتها العبرات، ثم أعادت النظر إلى ما ذكرته عن ميمونة فبغتت وحسبت نفسها في حلم، ثم رفعت رأسها إلى عبد الرحمن وقد تحول حنانها النسائي إلى غضب وقالت: «قبح الله تلك الخائنة قد فهمت الآن سبب اختلائها بذلك البربري الأحول في مساء الأمس ولكنها ستذوق جزاء تلك الخيانة إن شاء الله.» ثم سألته عمن حمل ذلك الكتاب لكي تقابله وتستزيده من أخبار والدتها، فقص عليها هانئ ما كان من أمره وأنه مات ودفنوه، فأسفت عليه كثيرا حتى بكت، ولولا انشغال خاطرها بخيانة ميمونة والشوق إلى والدتها لندبته كثيرا؛ لأنه رباها منذ طفولتها، وكان ضنينا بها حريصا على راحتها وراحة والدتها، ولكنها كانت في قلق عظيم على والدتها، وأصبحت لا تصبر عن رؤيتها فنظرت إلى عبد الرحمن بعينين يغشاهما الدمع، وتوسلت إليه بصوت يمازجه ذلك السؤال قائلة: «ألا يسمح لي الأمير بالمسير إلى والدتي لأشاهدها وأقبل يدها ثم أعود؟»
فتأثر عبد الرحمن لسؤالها ولم يسعه إلا الإجابة فقال: «لا أمنعك من الذهاب إليها ولكنني أحب أن أحافظ على وصيتها، وقد رأيت أنها ختمت هذا الكتاب بك.»
فقالت: «لا بأس علي بإذن الله، والطريق سهل والمكان قريب وكأني أرى الدير من هنا.»
فقال هانئ: «لا نخاف عليك بأسا بعدما شاهدناه منك في مضيق دردون، ولكنني أرى أن أسير في ركابك حتى تبلغي باب الدير وأعود.» قال ذلك بنغمة التصميم القاطع، فاستحسن عبد الرحمن رأيه فقال: «إذا كان لا بد من الذهاب فانهضا الآن حتى تصلا قبل الغروب، هل يحتاج هانئ إلى أن أستحثه لسرعة الرجوع؟ أما مريم فلا بأس من بقائها هناك، بل إن الدير أكثر أمانا عليها.»
ففرح هانئ بتلك المهمة فنهض وأمر بفرس لمريم، فلبست ثوبها والتفت بعباءتها وركبت وركب هانئ والتف بعباءته وأصلح عمامته وساقا الجوادين سوقا حثيثا، وقطعا النهر الصغير على جسر مما نصبوه بالأمس، وسارا نحو الشمال الشرقي يلتمسان دير مرتين فبعد أن ركضا جواديهما برهة أمسكاهما ومشيا متحاذيين وقد حلت لهما تلك الخلوة فأراد هانئ مداعبة مريم، فقال لها: «أتعلمين ما وراء هذه الأبنية؟»
قالت: «النهغ الكبير (النهر الكبير) و...
قال: «وما اسمه؟»
قالت: «نهر لوار.» بلفظ الراء غينا، ولم تكد تنطق بهذين اللفظين حتى فطنت للموعد المضروب لاقترانهما هناك، فخجلت وحولت وجهها إلى عرض البر وأرادت تغيير الحديث فقالت: «وكأني أرى جند الدوق شارل آتيا نحونا.»
فبغت هانئ وتفرس في الغبار المتصاعد وراء محلة الدير وقال: «لا أشك أنك ترين معسكر الدوق شارل أما الغبار المتصاعد فوقه فليس نتيجة السير، ولكنهم يلاعبون خيولهم على سبيل التمرين.» قال ذلك وأخذ يفكر فيما يتوقعه من القتال الهائل في تلك الساحة، ولكنه كان شديد العزم قوي القلب؛ لأنه لم يصادف هزيمة في قتال بعد، ولذلك فأول ما يسبق إلى ذهنه عز الانتصار.
الفصل السبعون
سالمة في الدير
وبينما هو يفكر في ذلك إذ سمع جرسا يقرع، فأصاخ بسمعه فابتدرته مريم قائلة: «هذا جرس الدير؛ لأننا على مقربة منه.» وكانت الشمس قد دنت من المغيب ولو التفتا إليها لرأيا شكلها يتجسم، وجرمها يتعاظم، وحدتها تنفثئ حتى يخيل لهما إذا لمساها أنها لا تلدغ ولكنهما كانا في شغل عن ذلك بغبار رأوه يتصاعد في بعض السهول من جهة الجنوب قرب معسكر أود كأن خيالة يسوقون أفراسهم، فحملا ذلك على ما شاهداه من معسكر شارل، ووصلا في الغروب تماما إلى باب الدير فقرعه هانئ فأطل الراهب البواب، فقالت له مريم بالإفرنجية إنها تسأل عن ضيفة هناك، فنزل وفتح الباب ورحب بها واستغرب ملابس هانئ، وخصوصا عمامته؛ لأنه لم يكن رأى عربيا قط، وإن كان قد سمع بمجيء العرب للحرب فترجلت مريم وهم هانئ بوداعها للرجوع، وقلبه لا يطاوعه على ذلك الفراق، وكانت هي في مثل حاله فلما أراد وداعها نظرت إليه نظرة نفذت إلى قرارة قلبه فتحول عن جواده، وهو يقول: «أرى أن أوصلك إلى والدتك، وأطمئن عليها وعليك، ثم أعود.» فاستحسنت رأيه، وابتسمت، ومشت فمشى هو بعد أن أشار إلى أحد خدم الدير أن يمسك الجوادين، فأخذهما البواب إلى الإسطبل، ولما دخلا من الباب الثاني استقبلهما راهب آخر وسألهما عما يطلبانه فقالت مريم: «عندكم نزيلة اسمها سالمة؟»
فابتسم الراهب وقال: «نعم» وأشار إليهما فتبعاه حتى دخلا الدير وصعد بهما إلى علية سالمة، وكانت سالمة لا تزال بعد إرسال حسان منفردة في تلك العلية، تارة تطل منها إلى النهر، وطورا تجلس على الأرض تفكر في مريم، وقد ذاب قلبها لفراقها، وكانت لم تفارقها قبل هذه المرة قط، ثم تنتقل بأفكارها إلى ما تكتمه في صدرها ولم يحن وقت كشفه، وتخشى أن يطول وقته أو تحول الأقدار دون ذلك فتذهب مساعيها أدراج الرياح، ونهضت في صباح ذلك اليوم منقبضة النفس، فنزلت إلى الكنيسة لاستماع الصلاة، وتخشعت في صلاتها كثيرا، ودعت لابنتها بالسلامة ثم صعدت إلى عليتها فأحست كأنها في سجن، مع أنها في أحسن غرف الدير وأكثرها انطلاقا ولكن السجن سجن الإرادة، فقد يحبس الإنسان نفسه بإرادته أياما في مكان مظلم وهو يعد نفسه مطلقا، فإذا حكم عليه بالحبس يوما واحدا ولو في أفخم القصور فإنه يعد نفسه سجينا.
ولما عادت من الصلاة وصعدت السلم، حدثتها نفسها أن تطل على سهل تورس لعلها ترى رسولا قادما، أو تتنسم ريح ابنتها حتى ترى معسكر العرب عن بعد فمشت حتى أطلت من سطح الدير على ذلك السهل، وعرفت مكان كل من العرب والإفرنج فخفق قلبها لما تتوقعه من القتال هناك، ثم عادت إلى عليتها، وقد أخذت هواجسها تتزايد فلما كان الغروب أحست بزيادة الانقباض وشعرت بضيق وقنوط - وساعة الغروب أثقل ساعات اليوم على الإنسان، وهو حر طليق فكيف إذا كان سجينا - فهمت بالخروج للصلاة، فسمعت وقع أقدام على السطح، فخفق قلبها ووقفت لترى ماذا يكون، فلما سمعت الخطوات تقترب نحوها تزايد خفقان قلبها، وأخيرا سمعت قرع الباب وكأنهم قرعوا صدرها، فنهضت وركبتاها ترتجفان وفتحت الباب، فاستقبلها الراهب وأشار بيده إلى رفيقيه، فلما رأت ابنتها صاحت: «مريم» وألقت بنفسها عليها وجعلت تقبلها وتتحسس جسمها، والدموع تتساقط من عينيها، حتى كاد يغمى عليها، ومريم تقبلها وتقبل يدها ودموعها تتساقط بهدوء ثم دخلتا العلية وهانئ لا يزال بالباب فقالت مريم: «هذا هو الأمير هانئ جاء ليوصلني ويراك ثم يعود.»
فرحبت به وأثنت عليه ودعته للدخول فقال: «لا بد لي من سرعة الرجوع؛ لأننا في حال يدعو إلى التيقظ كيف أنت؟ لقد وصلنا كتابك وشكرنا فضلك واهتمامك.»
قالت: «وماذا فعلتم بتلك الخائنة؟»
قال: «لم نجدها في المعسكر مع أنها كانت فيه إلى الأمس يبدو أنها علمت بكتابك ففرت إلى أبيها.»
فضربت سالمة كفا بكف وصاحت: «نجت الملعونة! الظاهر أن شيطانها الأحول أخبرها بخبرنا، فأيقنت باكتشاف أمرها فهربت.»
فقالت مريم: «قبح الله ذلك الأحول فإنه السبب في شرور كثيرة ولو علمت ما فعله هذا الشيطان لحزنت.»
قالت سالمة: «وما الذي فعله؟»
قالت مريم: «إنه رمى حسانا بالنبال، وهو ذاهب من عندك فأصاب جنبه، فقاوم ذلك المسكين آلامه وأسرع حتى أدرك معسكر العرب وهو في آخر رمق من الحياة، فبلغ الرسالة ومات.»
فصاحت سالمة: «مات؟ حسان مات؟»
قالت مريم: «نعم يا أماه مات أشرف ميتة مات شريفا أمينا صادقا وقد قاموا بواجب غسله ودفنه رحمه الله.»
فأطرقت سالمة وسكتت ثم هزت رأسها وهي تقول بصوت خفيض: «مسكين حسان مات ولم يشاهد حفيده بعد أن علم ببقائه حيا، ولا شاهد نتيجة انتظارنا الطويل لهذه الوقعة الهائلة.»
الفصل الحادي والسبعون
دعوة خطرة
وكان هانئ قد دخل الغرفة وذهب الراهب فأتاهم بالشمع فأضاءوه وغرسوه في مشمعة ناتئة من الحائط وعاد الراهب، وكانت مريم تفكر في صلتها بهانئ؛ لأنها أحبته ووالدتها لا تعلم، وقد أوصلها إلى أمها وسيرجع قريبا ولا طاقة لها بفراقه، وهي تريد أن تستطلع رأي والدتها بشأنه، فإذا لم توافقها على حبه كانت المصيبة كبيرة عليها، وأرادت من ناحية أخرى أن تشغلها عن حديث حسان، فقالت: «ألا تعرفين الأمير هانئا يا أماه؟»
فابتسمت وقالت: «كيف لا أعرفه؟ أليس هو الذي أنقذنا من ذلك الأمير البربري؟»
قالت: «بلى وهو أكبر أمراء جند العرب بعد الأمير عبد الرحمن، والأمير عبد الرحمن يحبه ويعتمد عليه؛ لأنه أمير الفرسان ويده اليمنى في تدبير الجيش.»
فخجل هانئ من هذا الإطراء وأحب أن يعترض ليخفي خجله، فلم تمهله سالمة فقالت: «لم يخف علي شيء من شأن هذا الأمير وقد صحبته في مهمة إلى أسقف بوردو ألا تذكرين ذلك؟»
فانشرح صدر مريم واطمأن بالها وهمت بالانتقال إلى ما وراء ذلك فسمعت دبدبة وضوضاء فتوقفت، وأنصتوا جميعا ثم سمع هانئ جواده يصهل صهيلا متواصلا كأنه يطلب النزال فوقف هانئ وهو يقول: «أرى جوادي يدعوني إلى النزال وهو ينبهني إلى سرعة الرجوع.»
وما أتم كلامه حتى سمعوا خطوات قادم على السطح، ثم فتح الباب ودخل الراهب رفيق حسان، وكانت سالمة تحسب أنه قد سافر معه فلما دخل رحبت به ودعته للجلوس، فإذا هو يهم بالكلام والبغتة ظاهرة في وجهه وكأنه أراد أن يتكلم فارتج عليه فظنته أمسك حياء من الحاضرين، فقالت له بالإفرنجية: «تفضل يا حضرة الأب، أخبرنا بما عندك وليس هنا أحد غريب.»
فقال ولسانه يتلجلج: «كلفني رئيس هذا الدير أن أبلغك أمرا يعز علي أن أنقله إليك.»
فخفق قلب سالمة ومريم، أما هانئ فلم يفهم شيئا؛ لأنه لا يعرف الإفرنجية ولكنه لاحظ من تغيير الوجوه ما أقلقه، فقالت سالمة: «قل يا حضرة الأب.»
قال: «إن الدوق أود بعث بكوكبة من الفرسان بالعدة والسلاح وقد وصلوا إلى الدير ومعهم رسول يحمل كتابا إلى حضرة الرئيس يطلب منه فيه أن يبعث بك إليه، ولما يعلمه الرئيس من دالتي عليك فقد بعث إلي وأطلعني على ذلك الكتاب وتشاور معي في شأنه، فأشرت عليه أن يمتنع عن تسليمك فأظهر أنه يرغب في ذلك من صميم فؤاده ولكنه يخشى العاقبة، وهو لا يدري لمن تكون الغلبة في الحرب القادمة، وواجباته تقضي عليه أن يكون نصيرا للإفرنج، ثم كلفني أن أكون أنا برفقتك من قبله لأوصي الدوق أود برعايتك، وإذا شئت أخذنا من الرئيس كتاب توصية بشأنك أيضا.»
وكان الراهب يتكلم ولسانه يكاد يتلعثم، والتأثر باد في كل حركة من حركاته، وكانت سالمة ومريم تصغيان وقد شخص بصرهما في الراهب كأنهما أصيبتا بالجمود، فلما فرغ من قوله وقف شعرهما وخصوصا مريم، وكان هانئ ينظر إليهما ويقرأ تلك العواطف في وجهيهما، فلما فرغ الراهب من الكلام قال هانئ: «ما الخبر؟»
قالت مريم: «إن الدوق أود بعث إلى رئيس هذا الدير يطلب والدتي منه.»
قال هانئ: «وماذا يريد منها؟»
قالت: «يطلبها لغرض لا نعلمه.»
قال هانئ: «لا تذهب.»
فقالت سالمة: «بل أرى أن أذهب؛ لأني لو أبيت الذهاب لأخذوني قهرا.»
فصاح هانئ: «قهرا؟ يأخذونك قهرا وهانئ معك؟ ذلك لا يكون أبدا.»
ووقف ويده على قبضة حسامه، وقد أخذ الغضب منه مأخذا عظيما.
ففرحت مريم بما أبداه هانئ من الحمية بشأن والدتها، ولم تكن هي أقل حمية منه فقالت: «كيف نسمح يا أماه أن يأخذوك أسيرة ولو كانوا ألوفا إننا سندافع عنك إلى الموت.»
فقالت: «أعلم ذلك ولكن شروط الحرب تقضي علينا ألا نعرض أمير فرسان العرب وعمدة أمرائهم لشرذمة من الإفرنج فربما أصابه أحدهم بنبل، كما أصابوا حسانا بالأمس، فيذهب الأمير هانئ رخيصا - لا سمح الله - وهو عميد جند العرب وقائدهم ووساطة عقدهم فكأننا عرضنا الجند للخطر فإذا كنتما تحبانني فأطيعاني فيما أقول ولا تخافا علي بأسا؛ لأني سأسير مكرمة، وسيكون معي حضرة الراهب، وسأحمل من رئيس الدير كتاب توصية أو نحوه بحيث لا أخشى ضررا، بل أرجو أن أخدم العرب وأنا هناك خدمة لا أستطيعها وأنا معكم ومع ذلك فلا حيلة في قضاء الله.»
فقال هانئ: «إنك تحاولين محالا هل أكون حاضرا وتساقين أنت أسيرة؟ لا يكون ذلك أبدا والله لأعملن السيف في الإفرنج ولو كانوا ألوفا.»
فقطعت سالمة كلامه قائلة: «إذا فعلت غير ما أقوله فإنك تكدرني وأنا أعلم إنك لا تريد ذلك إن الدوق أود يعرف عني أكثر مما تعرف أنت أو تعرفه ابنتي هذه وهو لا يطلبني إليه ليسوءني، ولو كان غرضه ذلك لفعله وأنا سجينة عنده إلى الأمس ، دعنا الآن من هذا البحث، وأرغب إليك بشرف العرب وعز الإسلام أن تطيعني في ذلك، وقد آن لي الأوان أن أطلعكما على شيء جديد حفظته سرا منذ أعوام.» ثم التفتت إلى الراهب وقالت: «قل لحضرة الرئيس إني أتأهب للخروج حسب أمره بعد ساعة أو ساعتين لغرض لي مع ابنتي هذه قبل سفري.»
فحنى الراهب رأسه وخرج.
الفصل الثاني والسبعون
سر جديد
وبعد خروجه نهضت سالمة وأصلحت رداءها كأنها تستعد للخروج، وجعلت تخطر في أرض الغرفة ذهابا وإيابا ثم وقفت إلى النافذة وأطلت على النهر، ولبثت صامتة ومريم وهانئ ينتظران ما تقول ويعجبان لتلك الحركة وذلك السكوت، ثم تحولت عن النافذة، وأقبلت إليهما وقد تغيرت ملامحها وتقطبت أساريرها، وظهر الاهتمام في عينيها، وذهب ما كان يبدو على محياها من الابتسام وقد تحول إلى هيبة وغضب فلما رآها هانئ على تلك الحال تهيب والتفت إلى مريم فرآها أكثر اهتماما منه، ولكنهما ألجما عن الكلام وأصابهما ذهول، وأما سالمة فنظرت إلى مريم وخاطبتها قائلة: «أتعرفين من هو والدك يا مريم؟»
قالت: «لا يا أماه.» وتوردت وجنتاها من الخجل، وبغتت لذلك السؤال على غير انتظار، ولم يكن هانئ أقل استغرابا منها، ولكنه ظل صامتا ليرى ما يكون.
قالت سالمة: «أتعرفين من هي والدتك؟»
ثم التفتت سالمة إلى هانئ وقالت: «اعلم يا بني أني اؤتمنت على هذا السر منذ نحو عشرين سنة، على ألا أبوح به إلا لقائد جند العرب بعد عبور هذا النهر، ولكن قضت الأحوال أن أبوح ببعضه قبل ذلك الحين لأمير هو على ما أعلم يتلو القائد الأكبر، وللضرورة أحكام لقد ضاق صدري عن كتمان هذا السر بعد هذا الزمن الطويل وقد استخرت روح ذلك العزيز صاحب هذا السر أن أكشفه في هذه الساعة لابنتي ولك يا هانئ، على شرط أن تحتفظا به حتى تبلغاه إلى الأمير عبد الرحمن بعد هذه الوقعة، وليس قبلها فأصغيا إلي.»
وكانت تتكلم وهانئ شاخص ببصره، ومريم يكاد الدم يجمد في عروقها لفرط تأثرها من منظر أمها ، وما شاهدته في وجهها من المعاني التي لم تلمسها من قبل.
فجلست سالمة وأصلحت ثوبها وأخذت تقص حديثها فقالت وهي توجه خطابها لمريم: «أنت تعلمين يا مريم أن والدتك سالمة ولكنك لا تعرفين من هي سالمة هذه، وقد سألتك عن والدك فقلت إنك لا تعرفينه؛ لأنه توفي وأنت طفلة ولم أذكره لك قط، ولم يكن أحد يعرف نسبك غير ذلك الشيخ المسكين حسان وقد قتل، ولو أصبت أنا بنبلة لذهب هذا السر أدراج الرياح ولذلك عجلت في كشفه لصاحبه، فاعلمي يا مريم أن أمك التي تسمينها سالمة هي أجيلا زوجة رودريك ملك الإسبان الذي قتله العرب في وقعة فحص شريش منذ بضع وعشرين سنة عندما جاء طارق لفتحها.
وبعد أن قتل رودريك المسكين جاء موسى بن نصير فأتم الفتح حتى بلغ طليطلة، عاصمة إسبانيا في ذلك الحين، وكنت أنا هناك فانطويت على نفسي بعد وفاة زوجي وأقمت مكرمة وعشت في هناء ورغد كما كنت في أيامه، وكانوا يسمونني أم عاصم ولم يمسني أحد بسوء؛ لأن موسى - رحمه الله - كان عادلا رفيقا يعلم كيف يفتح البلاد ولكن مدة حكمه لم تزد على بضع سنين إذ وشى به الواشون، فاستقدمه الخليفة إلى الشام وسجنه، وكان نصب عيني موسى بعد أن فتح الأندلس وجمع غنائمها أن يواصل بالفتح فيما وراءها حتى يبلغ القسطنطينية ويتقدم منها إلى الشام، ويفتح ما في طريقه من البلاد حتى يصير البحر الأبيض محاطا بالمسلمين من كل جهة، ولو فعل ذلك يومئذ لكان هينا على المسلمين؛ لأن البلاد كانت ضعيفة مفككة والحكام في انقسام.
فلما أخذ موسى إلى الشام استخلف على الأندلس ابنه عبد العزيز بن موسى (قالت ذلك وتنهدت) وكان عاقلا حكيما عادلا، وقد أطلعه أبوه على ما كان في عزمه من فتح هذه البلاد التي يسميها العرب الأرض الكبيرة، وكنت أنا لا أزال في طليطلة فلما تولى عبد العزيز ورآني ورأيته أحبني وأحببته فطلب الزواج مني، ولم أكن أطمع في رجل أرفع منه مقاما، فقبلت على أن أبقى على النصرانية، فرضي ولكنه علمني الإسلام فوجدته كثير الشبه بمذهب أجدادنا القوط (الأريوسية) ثم انتقل بي إلى إشبيلية فأقمنا هناك بضع سنوات كان في أثنائها مثال العقل والحزم، وقد أسر إلي أمورا كثيرة كان عازما على القيام بها خدمة العرب والمسلمين، أهمها فتح هذه الأرض الكبيرة (أوروبا) وقد كان ذلك هينا كما قدمت، وخصوصا لعبد العزيز؛ لأنه - رحمه الله - كان يعامل أهل البلاد بالعدل والحسنى والرفق، فأصبح الناس على اختلاف طوائفهم يحبونه، وشاع ذلك عنه إلى أقصى بلاد النصرانية، ولو طال مقامه لفتح هذه البلاد في غير عناء؛ لأن أهلها كانوا ينتظرون من يمكنهم من حقوقهم وحريتهم، ولا عبرة بمذهبه عندهم وكثيرا ما كان عبد العزيز يحدثني عن رغبته في ذلك الفتح، وأنا أحثه على إكرام الأهالي والإحسان إليهم وهو يطيعني لما يترتب على ذلك الإحسان من الكسب العظيم، وقد بذل جهده من الجهة الأخرى في جمع كلمة المسلمين من العرب والبربر وغيرهم؛ لأنه بغير هذا الاتحاد لا يستطيع عملا.
وإنه لفي هذه الآمال إذ وشى به الحساد كما وشوا بأبيه واتهموه بأنه طامع في الملك لنفسه، وقد بنوا أدلتهم على محاسنته أهل البلاد، وقالوا إني سيطرت على عقله حتى حملته على أن يرغم أصحابه ورعيته على السجود له إذا دخلوا عليه، كما كان يفعل زوجي رودريك على زعمهم، ومن مفترياتهم أني جعلته يفتح بابا قصيرا في مجلسه الذي يجلس فيه حتى إذا دخل أحدهم منه طأطأ رأسه كالراكع، والله يعلم إنهم افتروا علي ذلك الافتراء ولم يفقهوا سر الأمر، ولما نفذت الوشاية به عند الخليفة لم يوفدوه إليه كما فعلوا بأبيه ولكنهم دسوا له من قتله وهو في المسجد وا لهفي عليه.»
وتوقفت عن الكلام برهة، ثم شرقت بريقها وهانئ ومريم كأنهما في حلم لا يجرؤ أحدهما على التلفظ لئلا يقطع كلامها، فقالت وهي تنظر إلى مريم وتحاول الابتسام: «وكنت قد ولدت منه وقد بلغت السنة الثالثة، وكان يحبك حبا لا مزيد عليه خلافا لمن ولد له من النساء الأخريات، وكان لا يهنأ له عيش إلا إذا قبلك وضمك إلى صدره صباحا ومساء، وإذا رجع من مجلسه وأتى قصره جعل يلاعبك ويبذل جهده فيما يرضيك حتى نسيني من أجلك، فلما علم بما نصبوه له من الحبائل وتحقق من وقوع القضاء دعاني ليلة مقتله قبل نزوله إلى المسجد، فأتيته وأنت على ذراعي فتناولك وجعلك في حجره وطفق يقبلك ويبكي بكاء مرا وهو يشهق شهيق الطفل، فانخرطت في البكاء معه؛ لأني أحببته حبا كثيرا لما رأيته من صدق محبته وكبر نفسه وحسن قصده، وبعد أن بكى وودعك نادى حسانا وأوصاه بي وبك ثم التفت إلي وقال: لقد أبى هؤلاء القوم إلا أن يضيعوا تعبي ويفسدوا ما هيأته لدولتهم مما لم يكونوا يحلمون به، أما موتي فبقضاء الله وقدره فلا اعتراض لي عليه، ولكنني أشفق على ما أضاعوه وسيضيعونه بقتلي مما دبرته لهم؛ لأني لا أظنهم سيوفقون إلى رجل آخر يغار على الإسلام غيرتي ويهيئ له مثل ما هيأت من الظروف المساعدة على الفتح وهي إرضاء الأهالي وجمع كلمة المسلمين وتوفر الأسباب الأخرى المؤدية إلى ذلك.» ثم أشار إليك وقال: لو كانت هذه الحبيبة غلاما لأوصيتك بتربيته لهذه الغاية، سأموت في الغد أسفا على الفرصة التي أضاعوها بجهالتهم، ولكنني أوصيك أن تربي ابنتنا هذه تربية عربية، وتعلميها ركوب الخيل، ولا تخبريها من هو أبوها، ولا تجعلي عربيا يعرف سرها إلا من توسمت فيه الغرض الذي ذكرته وتوفرت فيه الصفات المساعدة على تحقيقه، فإذا رأيت قائدا عربيا نهض للفتح وقد أدرك العوامل المساعدة على ذلك، فإن هذه الفتاة تكون له زوجة أو ابنة كما يشاء.»
ولما قال ذلك أخرج من جيبه هذه المحفظة (وأخرجت هي المحفظة من جيبها) ودفعها إلي وهو يقول: «وإذا وفق المسلمون إلى ذلك الرجل، فإنه فاتح هذه البلاد لا محالة، فإذا تمكن من الفتح حتى بلغ نهر لوار فقصي عليه خبري وأطلعيه على وصيتي وسلمي هذه الابنة له ومعها هذه المحفظة فإن فيها ما ينفعه وينفع المسلمين.» فأخذت المحفظة وحفظتها معي من ذلك الحين، ولم تفارقني يوما واحدا ولا ساعة واحدة وأنا لا أعلم ما فيها، فلما قتلوه تلك القتلة الشنيعة - سامحهم الله - لم يبق لي عيش في الأندلس، فغادرتها ومعي حسان وعنده كل أسراري، وقد كان خادم الأمير مخلصا له رحمه الله.
وقد تولى الأندلس بعد عبد العزيز عدة أمراء وأكثرهم تحفزوا للفتح، ولكنهم لم يظفروا به لطيشهم وتهورهم وطمعهم، حتى إذا سمعت بعبد الرحمن وما أتاه قبل النهوض للفتح من طوافه بإسبانيا وتعهده حكامها وعزل الضعفاء وأهل المطامع، ومحاسنة أهلها وسعيه في جمع كلمة الجند من العرب والموالي، قلت: هذا هو الرجل المنتظر وصبرت حتى أتى إلى بوردو وفتحها وكان ما كان مما تعرفينه.» ثم وجهت كلامها إلى هانئ وقالت: «فالذي أراه أن الأمير عبد الرحمن هو الرجل الذي عناه الأمير عبد العزيز، فمريم له وهذه المحفظة (ودفعتها إلى مريم) معها أيضا.
ولكن بالطبع لا يكون له شيء من ذلك إلا بعد قطع النهر.» فتناولت مريم المحفظة وخبأتها بين ثيابها.
الفصل الثالث والسبعون
الوداع
وكانت سالمة تتكلم والعرق يتصبب من جبينها ويتسرب على خديها حتى يقطر على ثيابها، وقد احمرت عيناها وتوردت وجنتاها من شدة التأثر، أما مريم فإنها نهضت مبهوتة وقبلت والدتها وهي تقول: «أنت والدتي الحمد لله، لقد أقلقت بالي بسؤالك إذا كنت أعرف والدتي، فخشيت أن أكون ابنة سواك فإذن أنا عربية ووالدي أمير عربي وأمي ملكة الإسبان ...»
فقطع هانئ كلامها، وقد غلب عليه الحب وسره تفويض أمر مريم إلى عبد الرحمن لسهولة الظفر بها على يده، وقال: «لا شك أنك عربية الأصل عريقة في الحسب والنسب.» والتفت إلى سالمة وقال لها: «إن حديثك يا سيدتي قد نقش على صفحات قلبي، وأراك فقت العرب بحفظ الوداد ووفاء العهود، وتفضلت عليهم بالحب العميق لزوجك، ونصرتهم بسعيك وفديتهم بنفسك فبورك فيك، والله لو كان في رجالنا عشرة مثلك أو مثل ابنتك هذه لفتحنا العالم لا محالة، ولكننا محاطون بجماعة لا يجمعهم إلا الجشع، وقل فيهم من يفهم معنى الفتح والنصر، وإنما يفهمون الغنائم والسبايا، ونحن في كل يوم نقاسي العذاب في سبيل التوفيق بين قبائلهم وشعوبهم ولو كان أميرنا غير عبد الرحمن ما استطعنا الوصول إلى هنا، فنطلب إليه تعالى أن يأخذ بناصرنا حتى نقطع هذا النهر، وإذا قطعناه هان علينا كل عسير.» والتفت إلى مريم وضحك ففهمت أنه يشير إلى زواجهما، ولكن قلقها لفراق والدتها شغلها عن الخجل.
وكانت سالمة في أثناء ذلك مشتغلة بمسح العرق عن وجهها وكأنها أحست بحمل أزيح عن صدرها بعد أن كشفت ذلك السر، لكنها انتبهت للمحفظة فقالت لمريم: «أوصيك بتلك المحفظة، اعتني بها ولا تسلميها لعبد الرحمن الغافقي بعد عبور هذا النهر.»
فقالت مريم: «والآن لا بد من ذهابك إلى الدوق أود؟»
قالت: «نعم ولا بأس علي منه اطمئني واعلمي أنك في كفالة الأمير عبد الرحمن فقد أوصيته بذلك من قبل.»
فتنسمت من هذه التوصية أن والدتها لا ترجو اللقاء بعد هذا الفراق، وأحست سالمة أنها تريد مراجعتها فنهضت وهي تقول: «لقد آن لي إجابة طلب الدوق.» قالت ذلك وضمت مريم إلى صدرها وأخذت في تقبيلها تكرارا، وكلاهما تبكي وهما متعانقتان متماسكتان كأنهما لا تريدان الفراق، فأثر منظرهما في هانئ حتى كاد يبكي، ثم خاف عليها فتقدم وفرق بينهما فرأى عيني سالمة حمراوين من شدة البكاء، وهي مع ذلك تنظر إلى ابنتها وتبتسم ومريم تقول لها: «قلت إن هانئا لا يجب التفريط فيه لحاجة الجند إليه وأنا ما الفائدة مني؟ دعيني أسير حيثما تسيرين.»
فقطع هانئ كلامها قائلا: «إن الجند لا ينفع شيئا بدونك.»
ففهمت أن هانئا لا يريد فراقها وتذكرت شدة حبه لها فهان عليها فراق والدتها، وسمعته سالمة يقول ذلك فأدركت أنه يحبها، ولكنها كانت تثق في شهامته وتعلم منزلته عند عبد الرحمن، وازدادت ثقة به حينما رأت عبد الرحمن قد أذن له أن يرافق مريم إلى هذا الدير.
ولما استعدت للخروج قالت لهانئ: «اذهب أيها الأمير بمريم قبل ذهابي.»
قال: «العفو أيتها الملكة الجليلة إني لا أخطو خطوة قبل أن أراك ذاهبة بإكرام ورعاية، وإلا فإنهم لن يأخذوك وفي عرق ينبض.»
قالت: «ثق بأني سأذهب مكرمة، وسأقيم هناك لا أقول مكرمة ولكني لا أخاف بأسا؛ لأن أود يعرف من أنا، وأرجو أن يكون بقائي في معسكر أود هذه المرة مثمرا مثل بقائي المرة الماضية، فقد كشفت فيه سرا أبعد عنا شرا عظيما.»
قال: «ربما كان ذلك، ولكنني أستحي من نفسي أن أخرج من هذا الدير وحوله الجند يطلبونك فإذا كنت لا تسمحين أن أمنعهم من أخذك أفلا تأذنين لي أن أراك ذاهبة معهم؟»
قالت مريم: «إن هانئا مصيب في رأيه.»
قالت سالمة: «فلأذهب إذن لرئيس الدير لأودعه، فانتظراني في الحديقة.» قالت ذلك وخرجت فتبعاها فتحولت هي إلى غرفة الرئيس، ونزلا هما إلى الحديقة وكانت مضيئة بالأقباس، وطلب هانئ من البواب أن يحضر الجوادين، فأمر فجيء بهما فدفع هانئ إليه صرة فيها دنانير فاستأنس البواب بذلك الكرم وأمر الخادم أن يحسن العناية بالجوادين، فوقف بهما وجواد هانئ يتجلى كالعروس بما عليه من العدة المتقنة وما في عنقه من القلائد والعقود، وما على عدته من الأحجار الكريمة، وخصوصا اللؤلؤة الكبيرة المصاغة على شكل النجمة فوق جبهته، ناهيك بلجامه المذهب وما على صدره من سلاسل الفضة، وهو أدهم شديد السواد فأصبح كأنه ليل تتلألأ فيه النجوم، وكان هانئ واقفا إلى جانبه ينظر إليه نظرة وإلى مريم نظرة أخرى، ولم يبق أحد من أهل الدير في تلك الحديقة أو بالقرب من الباب إلا وقد جاء ينظر إلى الأدهم وإلى صاحبه، وكلاهما غريب في نظرهم، وكأن الأدهم أدرك إعجاب الناس فازداد دلالا وأخذ يضرب الأرض بيمناه ويصهل ويشخر، كأنه يطلب النزال، أو كأنه فهم من صهيل الخيول حول سور الدير أنهم أعداء صاحبه فأخذ يهددهم به.
أما مريم فقد كادت تنسى فراق والدتها قبل ذهابها لانشغال خاطرها بحب هانئ وخاصة بعد هذه السفرة، وقد تحققت من أنها عربية الأب ملوكية الحسب فتذكرت المحفظة فافتقدتها وعادت إلى هواجسها.
وبعد قليل سمعوا ضوضاء داخل الدير، ثم خرج بعض الخدم يحملون الشموع ووراءهم جماعة من الرهبان يسيرون بين يدي سالمة ورفيقها الراهب، وساروا بهما إلى السور فمروا بهانئ ومريم فحيتهما سالمة، ومشت حتى خرجت من الباب وكانوا قد أعدوا لها جوادا ركبته وركب الراهب جوادا آخر، ونفخ في البوق فاجتمع الفرسان الإفرنج ومشوا إلى جانبها وبعضهم إلى ورائها برعاية وإكرام، وهانئ ومريم ينظران، وأحست مريم في تلك اللحظة أن أمها اقتلعت من قلبها، فغلب عليها البكاء ولكنها كتمت بكاءها.
الفصل الرابع والسبعون
ضوء القمر
أما هانئ فبعد أن سار الركب بسالمة ركب جواده، وأشار إلى مريم فركبت جوادها فخرجا وتحولا نحو المعسكر، فلما بعدا عن الدير أحسا بالانفراد، وكان الليل مقمرا وقد صفا الجو وهدأت الحياة وسكن الهواء كأن الطبيعة قد شاركتهما في التهيب والاعتبار، فلم يسمعا إلا وقع حوافر الجوادين على التراب، وكأن الجوادين قد أحسا بما يتقد على ظهريهما من لواعج الغرام فاعتبرا وطأطآ ومشيا مشية الاحترام - والحب سلطان تطأطئ له الرءوس - وظل الحبيبان مدة صامتين تهيبا من منظر الطبيعة وتفكيرا فيما رأياه وسمعاه تلك الليلة من الأمور الهامة، وقد سرهما الاطلاع على ذلك السر، فأصبح ارتباطهما بعده من الأمور الهامة، وقد علما أنهما أقرب نسبا وأوثق عهدا، وأحست مريم أنها مطالبة بنصرة العرب عملا بوصية والدها.
فلما اقتربا من المعسكر رأيا نيرانه، ولم تكد تظهر لهما عن بعد لتغلب ضوء القمر فأسف هانئ لوصوله إلى المعسكر قبل أن يخاطب مريم في شيء بعد ما عرفه من أمرها، فأمسك شكيمة جواده ليسير الهوينا فاقتدت به مريم وهي تتوقع أن تسمع منه شيئا فإذا هو يقول على سبيل المداعبة: «أراك صامتة يا مريم ألعل ما علمته من شرف أصلك خفف شيئا من حبك؟»
فأوقفت جوادها بغتة ونظرت إليه كأنها تستطلع قصده من تلك العبارة، فلما رأته يبتسم علمت أنه يمازحها ولكنها قالت: «إذا علمت بشرف أصلي فلا فضل لي في شرف ورثته من الأجداد، وإنما الشريف من نال الشرف بحد حسامه كما ناله الأمير هانئ.» فقال وقد هاجت عواطفه وهو يمسك الجواد عن المسير والجواد لا يطيعه: «فأنت إذن صاحبة الشرف طارفا وتليدا فقد رأيت منك في وقعة دردون ما تعجز عنه أعاظم الفرسان، فسبحان من جمع فيك شجاعة الرجال ورقة النساء.»
فقطعت كلامه قائلة: «إني لم أفعل شيئا يا هانئ، وإذا ساعدتني الأقدار سأتفانى في تحقيق وصية أبي، ولو لم أكن رجلا كما قال، فإن الشجاعة ليست وقفا على الذكور دون الإناث آه يا هانئ.» وسكتت كأنها تكتم أمرا.
فنظر إليها هانئ والقمر تجاه وجهها، وقد وقعت أشعته على محياها وحول النقاب الأسود، ولو رآها شاعر عربي لقال: تقابل القمران، والحقيقة أن القمر ليس له ما في وجوه الملاح من المعاني الجاذبة والخالبة، وبخاصة فتاتنا العربية سلالة الملكيين، فقد كان في وجهها فضلا عن الجمال ملامح الهيبة والذكاء، وجاءهما الحب فزادهما رونقا وزاد المحب افتتانا، فنظر هانئ إلى وجهها وقد أطرقت، كأنها تكتم أمرا يمنعها الحياء من إفشائه، وتشاغلت بإصلاح الشعر على عنق جوادها، والجواد مستأنس بمرور أناملها على عنقه، وأراد هانئ أن يسألها عما تكتمه فإذا هو بفارس قادم عليهما من جهة دير مرتين ينهب الأرض نهبا، فأمسك هانئ جواده وتفرس في القادم فما لبث أن عرف من زيه أنه إفرنجي، ورأى معه علما أبيض فتحقق أنه رسول من شارل، ولم يكن هانئ يعرف الإفرنجية، فلما دنا الفارس منهما أمسك شكيمة جواده ومشى الهوينا فخاطبته مريم بالإفرنجية قائلة: «من الرجل؟»
فقال: «إني رسول من الدوق شارل إلى الأمير عبد الرحمن فأين هي خيمته.»
فأفهمت هانئا ما قاله فقال: «إنها رسالة ذات بال والأحسن أن نسير به لنرى ما سيكون.»
فقالت مريم للرسول: «نحن ذاهبان إليه فتعال في أثرنا.» ومشيا وقد انصرف خاطرهما إلى ما يهدد هذا الجند من الأمر العظيم، وتذكرت مريم حسانا؛ لأنها كثيرا ما كانت تراه قادما بمثل هذه المهمة، فما تمالكت أن قالت «مسكين يا حسان!» وكان هانئ كله آذان لسماع أية كلمة تخرج من فم مريم ، فلما سمعها تذكر حسانا تذكر عبارة قالتها سالمة في ذلك النهار عندما سمعت بمقتل حسان، فقال هانئ: «سمعت والدتك تقول لما علمت بمقتل حسان أنه مات ولم ير حفيده فمن هو حفيده؟»
قالت: «علمت من بعض ما كان يدور قديما بين حسان ووالدتي أنه كان له ابن سار في حرب لا أدري ما هي، وكان لابنه غلام فقده في تلك الحرب ضياعا - وهو حفيده - وكان حسان كثيرا ما يتحسر لضياع ذلك الغلام ولأنه لا يعرف مقره، فلما قالت والدتي تلك العبارة ظلت في خاطري وسألتها تفسيرها بعدئذ، فقالت إنها عثرت على الغلام المذكور في معسكر أود وقد صار شابا والإفرنج يحسبونه منهم ويسمونه رودريك، وإنها تركته في معسكر أود عند فرارها ولم تعلم بمقره.» وكان هانئ قد أراد مباسطتها للتلذذ بألفاظها ولثغتها، ولم يكن يهمه أمر حسان كثيرا لكنه عندما سمع حكايته أسف لفقده.
فلما اقتربوا من المعسكر، أمسك هانئ شكيمة جواده ونظر إلى مريم، فأدركت أنه يريد أن تنصرف إلى الأخبية حيث تقيم النساء فقالت: «هل أذهب إلى الخباء؟»
قال: «نعم يا حبيبتي لتكوني هناك في مأمن حتى يقضي لنا الله بالنصر ونذهب معا إلى نهر لوار، وأرجو أن يكون ذلك قريبا.»
قالت: «أما إذا خيرتني فإني أفضل البقاء هنا لأمر أراني مسئولة عنه مثل مسئوليتك، أو مسئولية الأمير الكبير، ولكن الطاعة واجبة، فالآن لا ينبغي أن ننسى السر الذي عهد إلينا بحفظه ولا بد من كتمانه إلى حينه.» قالت ذلك وافتقدت المحفظة فوجدتها.
فقال هانئ: «هل أرسل معك بعض الحراس، لا أقول لحراستك؛ لأنك في غنى عن ذلك وإنما أرسلهم لخدمتك.»
فقطعت كلامه قائلة: «لا حاجة لي بالخدم يا هانئ، وأنا سائرة في ظلك وأنت معي أينما توجهت.» قالت ذلك وأومأت برأسها للوداع، وأدارت شكيمة الجواد وانصرفت نحو الأخبية، فلما توارت عنه عاد إلى الفارس وسارا معا حتى دخلا المعسكر ولم يعترضهما الحرس؛ لأنهم عرفوا الأمير هانئا من أدهمه حتى إذا وصلا فسطاط الأمير ترجل هانئ وهو يستفسر من الحاجب: «هل عند الأمير أحد؟» فقال: «كان الأمراء عنده منذ هنيهة وانصرفوا.»
الفصل الخامس والسبعون
رسالة من شارل
فدخل هانئ وأشار إلى الرسول بالبقاء خارجا، وكان عبد الرحمن جالسا وقد سمع صوت هانئ قبل دخوله، فصاح فيه صيحة الوالد بولده: «ما الذي أخرك يا هانئ؟ لقد شغلت بالنا!»
فقص عليه ما حدث بعد وصولهما إلى الدير، وكيف بعث أود جندا أخذوا سالمة إليه، وكيف أراد إنقاذها وهي لم ترض، ولكنه لم يذكر شيئا عن السر، وأخبره أن مريم رجعت معه وقد توجهت إلى الأخبية إلى أن قال: «وقد أتيتك برسول من قارله (شارل) قائد جند الإفرنج أظنه يحمل إليك كتابا وهو بالباب الآن هل يدخل؟»
فصفق عبد الرحمن فدخل أحد الحجاب من غلمانه فقال له: «ادع لنا أحد المترجمين فإذا جاء فأدخله مع الرسول.» فخرج الغلام وظل عبد الرحمن صامتا كأنه بغت لخبر جديد، ولم يكن هناك شيء جديد، ولكنه تنسم رائحة القتال، وتمثل له عظم الأمر الذي هو قادم عليه، وأدرك هانئ اهتمامه فتهيب وظل ساكتا حتى عاد الغلام ومعه الترجمان، وهو من يهود إشبيلية وكان يعرف عدة لغات، وللمسلمين ثقة كبرى فيه مثل ثقتهم في سائر يهود الأندلس؛ لأنهم كانوا عونا كبيرا لهم في فتح تلك البلاد، ثم دخل الرسول وتأدب في موقفه فسأله عبد الرحمن بواسطة الترجمان عن غرضه فقال: «إنه قادم برسالة من الدوق شارل صاحب أوستراسيا.» فقال عبد الرحمن: «وأين الرسالة؟»
فمد الرسول يده إلى شبه خرج معلق تحت أبطه وأخرج منه لوحا ملفوفا بمنديل من الحرير الأحمر، وقد شد حول المنديل شريط من الحرير الأزرق، فتناول عبد الرحمن الرسالة وأشار إلى الرسول فخرج، ثم حل الشريط وفتح المنديل وأخرج ما فيه وهو عبارة عن لوح من الخشب الرقيق مكسو بالشمع، وقد كتب عليه حفرا في ذلك الشمع على عادتهم في مكاتبات تلك الأيام في أوروبا فلما ظهر اللوح، علم عبد الرحمن - قبل أن يقرأها - أنها رسالة إفرنجية لعلمه أن العرب يكتبون على الجلد أو القرطاس أو النسيج فدفع اللوح إلى الترجمان فقرأه، وهاك ترجمته:
بسم الآب والابن والروح القدس
من الدوق شارل قائد جند الإفرنج وصاحب أوستراسيا إلى الأمير عبد الرحمن قائد جند العرب أما بعد، فإن أخي الدوق أود صاحب أكيتانيا أخبرني بما تعمدتموه من الإيغال في بلاده لغير سبب يدعو إلى الحرب بيننا وبينكم، فأنتم إنما تطلبون الفتح التماسا للكسب، وقد أطمعكم في ذلك ما رأيتموه من ضعف الذين حاربتم من جند هذه البلاد إلى اليوم، وقد بلغني ما أنت عليه من الشجاعة والتعقل وعلو الهمة فرأيت أن أنصحك لترجع عن قصدك بدون سفك الدماء، ولا أكلفك تسليما بل أطلب إليك الانسحاب من هذه البلاد بما تحمله من الغنائم إلى حدود إسبانيا على الأقل إذ لا قبل لكم بالوقوف أمامنا، هذه نصيحتي لكم وإذا لم تقبلوها فموعدنا في النزال قريب والسلام.
فلما فهم عبد الرحمن فحوى الكتاب بما فيه من التهديد ظهر الغضب في وجهه لكنه أمسك نفسه، ونظر إلى هانئ كأنه يستشيره فقال هانئ: «يظهر أن الرجل مغرور بنفسه فأرى أن يكون جوابنا السيف.»
فتبسم عبد الرحمن وصفق فجاء الغلام فقال له: «ادع الأمراء للمفاوضة.» فأدرك هانئ أنه لا يقضي أمرا إلا بالشورى خوفا من العتاب أو الفشل، وبعد ساعة جاء الأمراء فتلى الكتاب عليهم، ففوضوا عبد الرحمن أن يجيب عليه فأشار إلى الترجمان أن يكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن الغافقي قائد جند المسلمين في أكيتانيا إلى الدوق قارله قائد جند الإفرنج، أما بعد، فقد قرأت كتابك وساءني اغترارك بنفسك مع ما بلغني من علو همتك وبسالتك، أيها الدوق، إننا لم نجرد هذا الجند لفتح أكيتانيا وحدها ولكننا نهضنا لفتح هذه الأرض الكبيرة ولو لم تأت أنت للقائنا هنا لالتقينا في بلدك ثم نحمل على رومية فالقسطنطينية حتى يدين لنا العالم كله كما وعدنا نبينا، فننصح لك أن تعتبر بما أصاب أخاك صاحب أكيتانيا وإلا فلا تلومن إلا نفسك والسلام.
ولف الكتاب وختمه وأعاده إلى الرسول فحمله وعاد، وانصرف الأمراء إلا هانئا فظل عند عبد الرحمن وقد انتصف الليل ، فقضيا ساعة في المداولة ثم انصرفا إلى النوم.
وقضيا اليوم التالي في التأهب وتدبير الشئون، وكانا في أصيل اليوم الثالث يطوفان بفرسيهما جناح الجند الأيسر إذ جاءهما أحد الطلائع يقول إنه شاهد غبارا يتصاعد في عرض الأفق بجوار دير القديس مرتين، فأدركا أن شارل لما وصله الجواب زحف بجنده للقتال، فصعدا إلى أكمة أطلا منها فرأيا غبارا يتصاعد أيضا من جهة الجنوب حيث معسكر أود، فعلما أن الجيشين متحدان عليهم، فقال عبد الرحمن: «لقد آن وقت العمل يا هانئ وهذه جنود الإفرنج قادمة، فينبغي لنا أن نتيقظ ونتأهب لئلا يهاجموننا على غرة، فامض إلى فرسانك واجعلهم على أهبة النهوض وأنا ماض إلى تنبيه سائر الأمراء.» قال ذلك وتحول، فمضى هانئ في أثره ونفسه تشتاق إلى النزال.
على أن الجيشين لم يواصلا الزحف على العرب، ولكنهما عسكرا تجاه معسكرهم، وما بينهما وبينه إلا ساحة القتال، فلما رأى عبد الرحمن نزول الإفرنج علم أنهم لا ينوون الهجوم في ذلك اليوم فبعث إلى هانئ سرا، وبعد صلاة العشاء خرجا من المعسكر ماشيين إلى أكمة قريبة كان عبد الرحمن قد عاينها بنفسه في الأمس، فصعدا إليها ونظرا إلى ما بين أيديهما، وقد طلع القمر وأرسل أشعته في الفضاء فوق ذلك السهل، فكشفت عن معسكرين: معسكر شارل في الشرق، ومعسكر أود نحو الجنوب، تجاه معسكر العرب، ونظر عبد الرحمن إلى مضارب ذينك الجيشين وأمعن في النظر ليقدر عددهم فوجدهم كثيرين يزيدون على جند المسلمين، وود لو أنه يلتقي بمن ينبئه عن قوة الجيشين ومعداتهما وسائر أحوالهما.
وكان يفكر في ذلك ويمشط لحيته بأنامله وهانئ واقف بجانبه يفكر في مثل ذلك الأمر، وقد تبادر إلى ذهنه أن حسانا لو كان حيا لكان أفضل من يقوم بالاستطلاع؛ لأنه يعرف لغة البلاد وعادات أهلها وهو حسن الأسلوب ذكي مخلص، فأراد أن يخاطب عبد الرحمن في هذا الشأن على سبيل فتح الحديث فرآه يتفرس في عرض الأفق كأنه يرى شيئا جديدا، فالتفت هو إلى هناك فرأى شبحا كأنه رجل يعدو من جهة معسكر الدوق شارل وعليه ملابس الإفرنج، ولكنه لا يحمل راية ولا يبدو من مظهره أنه رسول، فقال هانئ: «ما رأيك في هذا القادم أيها الأمير؟»
قال: «لا أظنه رسولا فربما كان جاسوسا أو صديقا.»
وما أتم كلامه حتى أصبح الرجل على بضعة عشر مترا منهما فتباطأ في مشيته حتى اقترب وهما لا يكلمانه، فلما دنا منهما قال بلفظ عربي مكسر: «أين الأمير عبد الرحمن؟»
فقال له هانئ: «وما الذي تريده منه؟»
فأومأ بإصبعه إلى لسانه مع إشارة النفي، أي أنه لا يعرف العربية، ثم أومأ أنه قادم من معسكر أود لأمر خاص بالأمير.
الفصل السادس والسبعون
معسكر شارل
فالتفت عبد الرحمن إلى هانئ وقال: «لو قلنا له إني الأمير عبد الرحمن لا يصدقنا، فالأفضل أن ندله على خيمتي ثم ندخلها من باب آخر ونوهمه أننا كنا هناك.» فأشار هانئ بيده إلى فسطاط الأمير وأمامه النار ومشى وتبعه الرجل، ومضى عبد الرحمن من جهة أخرى حتى دخل خيمته من باب سري ثم دخل هانئ، وبعد قليل جاءه الحاجب يقول: «إن شابا إفرنجيا بالباب.» فأمره عبد الرحمن بإدخاله فأدخله، وعاد لاستقدام الترجمان وخيمته بقرب خيمة الأمير، فلما دخل الشاب نظر إليه عبد الرحمن فإذا هو في مقتبل العمر عليه قيافة الإفرنج وملامح العرب، أسمر البشرة، خفيف اللحية، صغير العارضين لحداثته، فلما جاء الترجمان أمره عبد الرحمن أن يسأله عن غرضه، فسأله فقال الشاب: «أنا لا أخاطب أحدا غير الأمير عبد الرحمن، وإذا كان غائبا فالأمير هانئ.»
فلما سمع هانئ اسمه تعجب، فقال عبد الرحمن بواسطة الترجمان: «إنك في حضرة الأميرين معا.»
قال: «إني رسول من سالمة.»
فلما سمعا ذلك الاسم توسما خيرا فقال عبد الرحمن: «وأين هي الآن؟ ومن أنت.»
قال: «هي في معسكر الدوق أود، وأما أنا فإني رجل عربي الأصل، وانتهى بي الأمر إلى الانتظام في جند الدوق أود، ولي حديث طويل قصته علي سالمة منذ برهة وجيزة، وقد قبض علينا أود وسجن كلا منا في مكان ، ثم افترقنا ففرت هي من سجنها وظللت أنا في المعسكر، ثم أطلق الدوق سراحي وأحسن الظن بي وأعادني إلى خدمته، ثم علم أود من عدلان الأحول أنها في دير مرتين فبعث فرسانا لاستقدامها كنت أنا في جملتهم.»
فقال هانئ: «لعلك رودريك؟»
فبغت الشاب، والتفت إلى هانئ وابتسم، وقد استأنس بذلك السؤال وقال: «نعم يا سيدي هذا هو اسمي.»
وكان عبد الرحمن يسمع ذلك ويتعجب، ونظر إلى هانئ نظرة استفهام فقال هانئ بصوت منخفض: «إن هذا المسكين حفيد حسان وله قصة تعرفها مريم.»
فالتفت عبد الرحمن إلى رودريك وقال: «اقصص علينا سبب مجيئك.»
قال: «عندما رجعنا من الدير المذكور ومعنا سالمة ذهبنا بها إلى خيمة باتت فيها تلك الليلة، وفي الصباح التالي جاءوا بها إلى مجلس الدوق وكنت في جملة الحرس الواقفين ببابه، ورأيت عنده امرأة جميلة كانت جالسة بجانبه عرفت بعد ذلك أنها ابنته لمباجة، وأنها كانت في معسكر العرب وفرت إلى أبيها في تلك الليلة، فلما دخلت سالمة خفت عليها من غضب الدوق، ولكنني رأيت من إجلاله إياها واحترامه لها ما كاد يذهب برشدي، وسمعتها تخاطبه بجرأة وقوة وهو يتحمل منها ويستعطفها كما يستعطف المحب حبيبته، وقد سمعته يسميها بغير اسمها ويعاتبها وأخيرا أمر بإرجاعها إلى خيمتها، وكانت قد لاحت منها التفاتة وهي خارجة فرأتني وعرفتني، فأومأت إلي خلسة أن أقابلها، فاحتلت في مقابلتها تلك الليلة فلما رأتني قالت: «إنك عربي وأولى بنصرة العرب مني فامض إلى معسكر الدوق شارل واستطلع أحواله، وأخبر أمير جند العرب بذلك؛ لأنهم إذا عرفوا قوة عدوهم هان عليهم أن يحاربوه.» وألحت علي بسرعة الذهاب فخرجت في تلك الساعة والمعسكران متقابلان، وبت في معسكر شارل وقضيت طول الأمس واليوم في الاستقصاء، ولما أمسى المساء فررت إليكم كما رأيتموني.»
فأعجب الأميران بشهامة سالمة، وتذكر هانئ قولها إنها ستكون في معسكر أود أنفع لهم مما في معسكر العرب، فقال عبد الرحمن: «ما الذي عرفته من أحوال الجند؟»
فقال: «اعلم يا مولاي أن قائد هذا الجند رجل شديد اسمه شارل (قارله) بن ببين وهو رئيس حاشية ملك نوستريا من العائلة الميروفيجيانية، ونظرا لضعف ذلك الملك كان حظ شارل من تلك المملكة دوقية أوستراسيا وراء نهر لوار لكنه لم يقنع بالدوقية بل طمع في لبس التاج، ولذلك كان أود هذا من أكبر منافسيه ولم يستنجد به على العرب إلا بعد اليأس الشديد، فلما استعان به، جرد ما يستطيع جمعه من قبائل الإفرنج وما يمكن حمله من العدة والسلاح واستقر في هذا المعسكر ...»
فقطع عبد الرحمن كلامه قائلا: «كم عدد جنده؟»
قال: «لم أستطع معرفة عدده تماما ولكنني علمت أنه كثير، وربما زاد على ضعفي عدد جيشكم، على أنني تحققت أنه مؤلف من عدة قبائل تختلف لغاتها وعاداتها وأخلاقها، وإن كانت تعد في الجملة من الإفرنج، أو الأوروبيين ولكنها على التخصيص مؤلفة من شعوب عديدة من جملتهم الأوستراسيون أهل البلاد الأصليون، والأتوريون، والبروكتيون، والطورنجيون، والهيميون، وغيرهم، وعليهم دروع من الجلد وعلى صدور خيولهم دروع من الحديد الثقيل أسلحتهم السيوف الطويلة المعتدلة ذات الحدين والفئوس الحادة، والرماح المستطيلة، والدبابيس الثقيلة في رءوسها حسك الحديد، والجند مؤلف من المشاة والفرسان، أما الفرسان فإنهم قليلون وهم وحدهم يرمون النبال.»
وكان رودريك يتكلم باهتمام، وعبد الرحمن وهانئ يصغيان لكل كلمة يقولها، فلما بلغ إلى هنا ابتسم هانئ والتفت إلى عبد الرحمن وقال: «نحن بلا ريب غالبون؛ لأن فرساننا كثيرون وقد عرفت بسالتهم وخبرت مهارتهم، وفيهم الرماة وحملة السيوف والفارس العربي يفوق ثلاثة من الفرسان الإفرنج، ولأن مشاتنا فيهم الرماحة والرماة، والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء.»
والتفت عبد الرحمن إلى رودريك فرآه يتحفز للنهوض، فقال له: «وهل عندك خبر آخر؟»
قال: «كلا يا مولاي ولكنني عائد إلى معسكر أود بأمر السيدة سالمة فهل من رسالة؟»
قال عبد الرحمن: «هل أمرتك بالرجوع؟»
قال: «نعم لعلها تطلع على أمر يهمكم من هذا القبيل فتبعثني به.»
فقال عبد الرحمن: «بلغها سلامنا وقل لها إننا حافظون لها هذا الفضل.»
فنهض رودريك واستأذن وخرج، ثم خرج الترجمان ومكث عبد الرحمن وهانئ برهة يتداولان في أمر الجيش، فقررا الإسراع في الهجوم ما أمكن قبل أن يستعد الإفرنج للدفاع وفي اليوم التالي بعد صلاة الفجر نفخ في النفير فاجتمعت جيوش المسلمين، فجعل عبد الرحمن المشاة في الوسط والفرسان في الجناحين، وجمع الأمراء على اختلاف قبائلهم، فجاءوا على خيولهم وعلى رءوسهم العمائم مكان الخوذ وقد تقلدوا السيوف، فوقف عبد الرحمن أمامهم موقف الخطيب وقال: «اعلموا أيها الأمراء أننا قطعنا أكيتانيا كلها والظفر حليفنا، ولما يئس عدونا من الفوز استنجد بعدوه صاحب أوستراسيا وقد جاءنا بجنده وكفانا مئونة الذهاب إليه وهذا معسكره وفيه كل قواته، والذي نصرنا على صاحب أكيتانيا سينصرنا عليه، وقد علمنا أنه أضعف منا عددا وعدة والنصر موقوف على الصبر، فاصبروا وتكاتفوا ينصركم الله، فتفتحون بلادا طالما تشوق المسلمون لفتحها، ويتم على يدكم ما وعد الله نبيه من فتح العالم، فيكون لكم الفخر ويخلد لكم الذكر مدى الدهر، وأنا واثق من أنكم فاعلون بإذن الله، والله مع الصابرين.»
ولما فرغ من كلامه تقدم هانئ على أدهمه وعلى وجهه أمارات البشر وقال وهو يبتسم: «إن هذا اليوم يوم الموعد العظيم سنناله بالصبر والجلد، يكفينا سعادة أننا وقفنا إلى أمر طالما تحسر أسلافنا لعدم الوصول إليه وسيحسدنا عليه الذين سيخلفوننا ويتمنون لو شاركونا فيه بدمائهم وأعناقهم، وسترونني وأنا أضعفكم عزيمة وأقلكم بسالة باذلا نفسي في سبيل الله، فإذا فزنا فتحنا عالما جديدا وإذا استشهدنا في الجهاد، فذلك خير لنا عند الله.» قال ذلك والعرق يتصبب من تحت عمامته والحماس باد في كل جارحة من جوارحه.
ثم قال عبد الرحمن: «فعليكم أيها الأمراء أن تستحثوا رجالكم وتوصوهم بالصبر والثبات، وأخبروهم بالفخر الذي سينالونه بحد سيوفهم فضلا عن الغنائم فإنها أضعاف ما نالوه حتى الآن.» ثم تلا من آيات القرآن ما يزيدهم حماسا وشجاعة، فتقدم كبير أمراء البرابرة وقد تحمس خصوصا بعد أن سمع بكثرة الغنائم وقال: «لا يخفى على مولانا الأمير أن جند البربر من أشد جنود المسلمين بطشا وأكثرهم ثباتا في ساحة الحرب، وكلهم من الرماة الماهرين فاجعلوهم في المقدمة.»
فأراد عبد الرحمن تشجيعهم فقال: «نفعل ذلك.» وأمر أن يتقدم البربر بأقواسهم، وبعدهم العرب والفرسان في الجناحين. •••
وكان شارل من الجهة الثانية يتأهب لمهاجمة المسلمين، والمخابرات جارية بينه وبين أود، في كيفية التعاون على ذلك، ولكنه لم يكن يتوقع هذه السرعة فلما أخبرته الطلائع باصطفاف المسلمين للحرب رتب جنوده صفوفا متلاصقة بشكل الكتائب، فأصبحوا كأنهم سور من الرجال وأكثرهم من الجنود المحنكة، وقد حاربوا تحت راية شارل غير مرة، فوقفوا موقف الدفاع، والرماح ناتئة من بينهم صفوفا بعضها فوق بعض لتمنع العرب من اختراق ذلك السور المتين.
الفصل السابع والسبعون
الحرب
قف معي هنيهة قبل الهجوم، وانظر إلى ذينك الجيشين وهما يختلفان جنسا ولغة ودينا، ويتباينان مطعما ومشربا وملبسا ويتباعدان خلقا وأدبا، اجتمع أحدهما من أقاصي آسيا وأفريقيا من أمم شتى لا يجمعهم غير الإسلام إلى بلاد لم يطئوها من قبل، وإقليم لم يتعودوا برده ومطره، وقد رأوا أمامهم رجالا دروعهم من الجلود وعلى رءوسهم خوذات من الجلد وراياتهم مستطيلة وعليها شارات النصرانية، وجاء الآخرون من شمال أوروبا وهم قبائل مختلفة اجتمعوا الآن لدفع عدو غريب جاءهم بدين جديد وشكل جديد، وقد دهشوا لغرابة ما بدا لهم من اصطفاف تلك العمائم المتراصة في تلك الساحة الرحبة كأنها بحر يتلاطم بالأمواج، تظهر من بينها رايات متشابهة عليها كتابة لا يستطيعون قراءتها، ولو تفصحت ما يجول في خواطر ذينك الجيشين لرأيتهما متضاغنين متشاحنين، يتضرع كل منهما إلى ربه أن ينصره على الآخر تأييدا للحق، فإذا استعرضت الأسباب التي دعت إلى ذلك القتال لما رأيت سببا غير الجشع الذي انفرد به الإنسان من دون سائر المخلوقات، فإننا لم نسمع بسرب من الحيوان يجتمع لقتال سرب آخر من نوعه، وإذا تنازع حيوانان فإنهما يتنازعان على لقمة، يلتمس كل منهما أن يسد بها جوعه، فلهما العذر في ذلك الخصام وأما الإنسان فإنه يقتل أخاه على شيء لا يعبر عنه بغير الوهم، بل هو لا يقدم على قتله إلا على شبع، وإنما يطلب وهما يعبر عنه بالسيادة أو الشهرة، وكلاهما لا تسدان جوعا ولا ترويان عطشا.
طلعت شمس ذلك النهار وهو على تقديرهم يوم سبت من شهر أكتوبر عام 732 للميلاد، فبدأ العرب بالهجوم وأمطروا الإفرنج بالنبال، وانقضوا عليهم بجيادهم انقضاض الصاعقة فتلقاهم هؤلاء بالثبات والحزم ولم يتزحزحوا عن أماكنهم، فانقضى النهار ولم يلتحم الفريقان إلا سطحيا وقد تقابلا وتناديا وتصايحا، ولكنهما لم يتفاهما؛ لأن كلا منهما يعد لغة الآخر رطانة وألغازا وربما كان التفاهم أقرب فيما بين خيولهم مما بينهم، ولكنهم تعارفوا بالوجوه ولم ينفعهم التعارف؛ لأنه لم يزدهم إلا ضغينة وحقدا، ثم افترقوا على أن يعيدوا الكرة في غد.
رجع هانئ وهو منقبض النفس، وأمر فرسانه أن يعودوا إلى مضاربهم، وتحول بأدهمه مجانبا الساحة ليطل عليها من أكمة، وإذا هو بفارس ملتف بعباءة قد ساق جواده نحوه فأمسك شكيمة الأدهم وتفرس فيه ولا تسل عن دهشته حين رأى مريم على ذلك الجواد فخفق قلبه وصاح فيها: «مريم؟ ما الذي جاء بك إلى هنا؟»
فقالت: «لأشاهد حبيبي هانئا يبدد الكتائب ويفل الجيوش ...»
فأحس عند سماعه قولها كأنها طعنته بحربة في صدره، وحمل كلامها محمل التوبيخ لرجوعه بلا طائل، وبدا التأثر على وجهه وأدركت مريم ذلك فاستدركت قائلة: «لقد رأيتك تصول صولة الأسد، ولكن الحرب سجال على أني كنت أتوقع النصر لكم لو لم تجعلوا أولئك البرابرة في مقدمة الجند، فهم لا يستطيعون اختراق صفوف الإفرنج ولن يستطيع اختراقها إلا الفرسان، فلو تقدمت فرسانك وأنت معهم لبددتم شملهم؛ لأن خيالة الإفرنج ضعيفة.»
فرأى في قولها حكمة؛ لأنه كان يرى رأيها وقد هم بعرضه على عبد الرحمن، فابتسم ونظر إليها نظرة الحب والإعجاب وقال: «بورك فيك، فقد عهدت فيك لطف النساء وبسالة الرجال، ولكنني لم أكن أعرف فيك مهارة القواد إننا عاملون برأيك في غد بإذن الله وهو رأيي أيضا، ولكننا قدمنا البرابرة مسايرة لهم، كما تعلمين حالنا معهم ولكن لماذا عرضت نفسك للنبال؟ لقد كنت أنا أجول في ساحة الوغى أتصورك في الخباء تتوقعين رجوعي ظافرا، فلما رجعنا كما ترين انقبضت نفسي ولو رأيتك بجانبي لكانت النتيجة غير ذلك.»
فأدركت أن علمه بوجودها يزيده بسالة ونشاطا فقالت: «فموعدنا غدا.»
فقال: «لا لا تعرضي نفسك للخطر فإني أخاف عليك من الهواء، فكيف بالنبال؟»
فقالت: «لعلي لا أخاف عليك من ذلك؟ ولكن هل إذا أصيب هانئ بسوء أبقى أنا؟ دعنا من هذا الآن، وإن غدا لناظره قريب.» وكانا يتكلمان وفرساهما يسيران حتى أصبحا بجانب المعسكر فهمزت جوادها نحو الخباء وهي تقول: «أستودعك الله إلى الغد.»
فما زال ينظر إليها وهي تسوق فرسها حتى توارت والظلام يتكاثف، فتحول حتى بلغ خيمة عبد الرحمن، وأطلعه على رأيه فوافقه عليه وبعث إلى الأمراء ففاوضهم في الأمر فوافقوه على هذا الرأي.
قضى عبد الرحمن ليلته قلقا وهو يقدر العواقب ويحسب المخاوف تجنبا للفشل، وأزمع أخيرا أنه إذا خشي على جنده من التقهقر طلب قائد الإفرنج للنزال، فإذا غلبه تشدد العرب وإذا غلب فالموت خير من الحياة، وأما هانئ فقد كان أوسع أملا وأعظم ثقة بالنصر، مع أنه لم يكن يجهل شأنا من شئون الجند يعرفه عبد الرحمن ولكن للشبيبة آمالا تسهل الصعاب.
وأصبح الصباح فاجتمع المسلمون للصلاة وتلاوة آيات القرآن ورتبوا الجند، فجعلوا الفرسان في المقدمة والمشاة في الجناحين: البربر في الجناح الأيمن، والعرب في الجناح الأيسر، وعبد الرحمن وهانئ وسائر الحاشية في القلب، ومشت تلك الحامية نحو الإفرنج، وكانوا قد اصطفوا اصطفاف الأمس وفرسانهم في الجناحين، وأخذوا في رمي النبال على العرب بسرعة وكثرة حتى كادت تحجب أشعة الشمس، ولكن العرب ظلوا سائرين وهم لا يبالون حتى إذا دنوا من صفوف الإفرنج صاح هانئ في فرسانه، فأطلقوا الأعنة لخيولهم واستحثوها وهو على أدهمه في مقدمتهم وقد شرع سيفه، فلم يستطع الإفرنج الوقوف في وجه السيل فتضعضعوا وأمراؤهم يحرضونهم ويستحثونهم، والتحم الجيشان وقد رجحت كفة النصر للعرب، وهانئ يزداد حماسا وبسالة حتى خيل له لما آنسه من ضعف الإفرنج وتقهقرهم أنه يطارد أغناما .
وبينما هو في ذلك، إذ سمع صوتا خرق أحشاءه واستلفت كل جوارحه، وقائلا يقول: «لله درك أيها الأمير.» فعلم من غنة الصوت واللثغة أنه صوت مريم، فالتفت فرآها على جوادها وقد التفت بعباءتها واعتمت على رأسها فوق الخمار ولم يبق ظاهرا من وجهها غير عينيها وحاجبيها وأنفها وفمها، وقد تجلت الحماسة في تينك العينين فأبرقتا، وأخرجت يمناها من العباءة وفيها سيف مسلول، وأخرجت يسارها وفيها درقة لطيفة من الجلد، وأغارت بجانب هانئ وخلفه والناس يفرون من بين يديها كأنها قضاء نازل، فأحس هانئ لما رآه في تلك الحال أن قوته تضاعفت وأيقن بالفوز، ولكنه خاف على مريم من نبل تصيبها في مقتل على أنه أصبح بعد ما شاهده من بشائر النصر لا يخشى خطرا - والإنسان إذا سالمته الحوادث يظن أن الأقدار قد أبرمت معه عهدا ألا ترميه بسوء - وظل هانئ هاجما وهو يستحث رجاله ويمنيهم بالظفر وكأن أدهمه أحس بالنصر فتحمس وازداد صهيلا وهو يشخر ويلهث والعرق يتصبب من عنقه على صدره وقد تحلب الرغاء من فمه وتساقط على العرق تحت ضرام صدره، وهانئ كلما سمع صهيل جواده ازداد حماسا، ثم رأى أن يختم أسباب النصر بمبارزة شارل، فطلبه بين يديه فلم يجده فجعل يتلفت للبحث عنه وهو يمتاز عن سائر الجند بزيه ورايته والصليب على خوذته، فلمحه عن بعد كأنه بجانب الأمير عبد الرحمن، فأراد أن يحول شكيمة الأدهم إلى هناك فسمع مريم تصيح فيه: «احذر أيها الأمير! احذر! التفت!»
فالتفت وهو يحسبها تحذره من فارس يحاول اغتياله من الخلف، فلم ير أحدا غير بعض العبيد أو الخدم من سعاة العرب الذين يطوفون ساحة القتال في أثناء المعركة، لالتقاط النبال المتساقطة وإعطائها إلى الرماة، أو لإسعاف فارس سقط سيفه أو قوسه يلتقطونه له، وقد تعودوا المرور بين قوائم الخيل مرور السهام فالتفت هانئ إلى مريم ليستطلع سبب ندائها، فرآها تسوق جوادها في أثر أحد أولئك السعاة وهو يعدو أمامها وفي يده خنجر يقطر دما، وما عتمت أن أدركته خارج المعركة فأطارت رأسه بحسامها فوقع يتخبط في دمه، ورجعت وهانئ مندهش مما يراه فسمعها تقول له: «تحول عن جوادك فإنه مقتول، وخذ هذا الجواد.» قالت ذلك وهي تتحول عن جوادها.
فلم يفهم هانئ قصدها، ولكنه التفت إلى فرسه فرأى الدم ينسكب من أحشائه انسكاب الماء من القربة، فانقبضت نفسه فتحول عنه، وجاءه أحد فرسانه بفرس ركبه وأشار إلى مريم أن تعود إلى فرسها وعادت وهي تقول: «قبح الله ذلك الأحول فقد تخلصنا منه.» ففهم هانئ أن الأحول تزيا بزي السعاة واغتال الجواد، ثم التفت هانئ إلى الأدهم فرآه قد سقط فأسف على موته أسفا شديدا وتشاءم من سقوطه، على أن أمله في النصر أنساه الجواد فعاد إلى الهجوم لئلا يضعف رجاله.
أما عبد الرحمن فكان يراقب الجند من القلب، فلما رأى تغلب الفرسان انشرح صدره وأخذ يتنقل بفرسه على أمراء القبائل يستحثهم ويحرضهم ويبشرهم ويمنيهم وخصوصا قبائل البربر، لعلمه بشدتهم وشجاعتهم، إذا هجموا لا يقف في طريقهم سور ولا خندق ولا سيل.
وكان شارل قد أسر في ضميره مثل ما أسره عبد الرحمن، فلما رأى ضعف جنده، وقد مالت الشمس إلى الأصيل، أخذ يبحث عن أمير جند العرب ليبارزه، فلما رآه عبد الرحمن عرفه من الراية التي كانت إلى جانبه فأقبل شارل على جواده كأنه جبل، وعليه درع من الفولاذ بشكل الحراشف المتراكمة تغطي صدره وكتفيه وذراعيه، وتسترسل على فخديه ومقدم ساقيه إلى المقدمين حتى الركابين وعلى رأسه خوذة في قمتها صليب، وقد استرسل من جانبي الخوذة وقفاها نسيج من زرد الفولاذ يغطي خديه وقفاه، وعلى صدر جواده غطاء من الحديد بشكل الدرع معلق بمقدم السرج، وقد رفع بيمناه دبوسا من حديد على شكل الصليب، وأمسك بيسراه راية عليها رسم الصليب رسم السيد المسيح مصلوبا وقد أسند قناة الراية إلى الركاب الأيسر.
وأما عبد الرحمن فكانت خوذته العمامة مثل سائر العرب، وهي مع خفتها ولينها تقي الرأس كما تقيه الخوذة، وعلى صدره الدرع تحت العباءة وقد تقلد السيف والخنجر، وكان بالإجمال أخف حملا وأسرع حركة من شارل وقلما كان يختلف في زيه ومظهره عن سائر فرسانه أما شارل فقد كان يمتاز عنهم بخوذته ودرعه ورايته وجواده، فعرفه عبد الرحمن عن بعد فصاح فيه صيحة أجفل لها جواده، وأغار عليه وسيفه مسلول بيده، فتلقى شارل الضربة بدبوسه وأخلى نفسه منها وتقهقر لا عن فرار، فتبعه عبد الرحمن ثم خشي أن يكون في ذلك التقهقر مكيدة، فتراجع على أن يتأهب لطعنه إذا عاد إليه، وإذا هو بالصياح قد علا في الجناح الأيمن من معسكره بين البرابرة وعلت الضوضاء، وهم يصيحون: «ذهبت غنائمنا ضاعت جهودنا هباء.» فالتفت فرآهم يتقهقرون ويتحولون إلى الوراء فرسانا ومشاة، ورأى جيش أود هاجما على مخازن الغنائم في الخيام فاستعاذ بالله وجعل يصيح في البرابرة أن يثبتوا في مواقفهم وأن غنائمهم لا تغني عنهم شيئا، فلم يلتفت أحد إلى قوله، وبعد أن كان جند العرب فائزا تخاذل واغتنم الإفرنج فرصة ذلك التخاذل فأعادوا الكرة، ولولا هانئ وفرسانه لانكسر العرب شر كسرة. •••
ولكن هانئا لما علم بما أصاب البرابرة، بذل جهده في تثبيت رجاله ومريم معه، وقد نزعت العمامة والخمار عن رأسها وألقت العباءة عنها وظهرت بثوبها النسائي الأسود، وقد استرسل شعرها على كتفيها وخديها وهجمت والسيف مشهر بيدها، وقد انحسر كمها عن زندها وهي تقول: «عار على العرب أن يفروا كما فر البربر إن هؤلاء يطلبون الغنائم، وأما أنتم فتطلبون الجهاد وغنيمتكم الفخر والنصر والحسنى في الدنيا والآخرة.»
وكان الفرسان يحسبونها رجلا، فلما تبينوا أنها فتاة وشاهدوا جمالها وهيبتها مع تلك البسالة والغيرة، خيل لهم أنها ملاك نزل من السماء لنصرتهم، فتحمسوا وثبتوا في هجومهم، وصمموا على التفاني تحقيقا لندائها ونداء هانئ، ولكن الظلام فصل بين الجيشين فنفخ في الأبواق فتراجع كل منهما إلى معسكره.
الفصل الثامن والسبعون
بعد المعركة
فلما تراجع الجيشان تحول هانئ إلى مكان عبد الرحمن فلم يجده، فسأل عنه فلم ينبئه أحد بخبره ، فأركض فرسه للبحث عنه هنا وهناك فلم يقف له على أثر، فأمر فرسانه بالرجوع إلى أماكنهم وترجل هو ومريم عن فرسيهما وجعلا يطوفان ميدان المعركة يتفحصان القتلى على نور الشفق، ثم طلع القمر فأضاء تلك البقعة المغطاة بجثث الناس وفيهم الميت والجريح والعاجز، وبينهم الأفراس في نحو ذلك بين صهيل وشخير وأنين وزفير، فتفقدا كل مكان فلم يجدا عبد الرحمن، وإذا هما بصهيل يشبه صهيل فرسه عن بعد فأجفلا واستبشرا، فالتفتا إلى أطراف تلك الساحة، فرأيا في أحد جوانبها مما يلي الجنوب فرسا واقفا وهو يصهل ويفحص الأرض، فصاح هانئ: «هذا فرس الأمير.» وأسرع إليه ومريم تتبعه حتى وصل إلى الجواد فرآه واقفا وأمامه شبح ملقى، عرفا أنه عبد الرحمن، فأسرع هانئ إلى يده يجسها فإذا هو جثة هامدة، وقد استلقى على ظهره وبسط ذراعيه وعيناه شاخصتان نحو الشرق كأنهما تستقبلان نور القمر عند طلوعه، وشاهدا سهما مغروسا في عنقه فعلما أنه سبب وفاته، فجثا هانئ عند رأسه وصاح: «وا أسفاه عليك يا أميري ووالدي ويا أخي ويا نصيري، بل يا نصير المسلمين، ولكنك فزت بجنات النعيم؛ لأنك قتلت مجاهدا فعسى أن ألحق بك عاجلا.»
وكانت مريم واقفة تنظر إلى تلك الجثة وتأسف لقتل ذلك القائد، لكنها كانت تتعزى ببقاء هانئ حيا وترجو له النصر، فإذا فاز بالفتح أصبح أكبر قواد ذلك الجند، وقد نفر سمعها من تمنيه اللحاق عاجلا بعبد الرحمن، فقالت: «دعنا من الندب فإنه يليق بالنساء، وهلم بنا إلى المعسكر ندبر شئون الجند قبل الفشل، وإذا فزنا في الغد - ونحن الفائزون إن شاء الله - ففي ذلك تعزية عن كل خسارة.» فاستصوب هانئ قولها وقال: «فلا بد لنا من دفنه.»
قالت: «متى وصلنا إلى المعسكر أرسلنا من يأتي بالجثة ثم تصلون عليها وتدفنونها.» قالت ذلك ومشت وهي لا تزال مسترسلة الشعر مكشوفة الذراعين لا تبالي بما في صفاء ذلك الليل من برد الخريف، ومشى هانئ والسيف يجر وراءه وقلبه في شغل تتنازعه عوامل الفشل والأسف والأمل، وتظلله غياهب الحب والوجد، ومريم تسير إلى جانبه وهي في مثل حاله، وقد وليا وجهيهما نحو المعسكر وساحة المعركة إلى يمينهما ومعسكر أود إلى يسارهما وليس في تلك الساحة أنيس، ولا يسمعان فيها غير الأنين والزفير، وربما شاهدا بعض العبيد يبحثون في الجثث يلتقطون ما بينها من سلاح أو آنية أو حلي، ولاحت من هانئ لفتة إلى جثة بين يديه عليها ملابس الإفرنج كاد يتعثر بها فأراد أن يعرج عنها فرأى في وجهها شيئا يعرفه، فتفرس فيها فإذا هي جثة رودريك، فبغت وقال: «ألا تعرفين هذا الوجه يا مريم؟»
فنظرت إليه وقالت: «كلا.»
قال: «هذا رودريك حفيد حسان، وكان قد حمل إلينا بالأمس رسالة من والدتك أنبأتنا فيها بأمور كثيرة عن أحوال هذا الجند ساعدتنا على حربهم اليوم، وأخبرنا أنها عند أود في خير وإكرام، ثم عاد مسرعا إليها لعلها تحتاج إليه في مهمة أخرى، فما الذي جاء به إلى هنا يا ترى حتى قتل؟»
فصاحت مريم: «أرى في يده شيئا كالكتاب أظنه رسالة من والدتي.»
قالت ذلك ومدت يدها لإخراج الكتاب من قبضته، فلم تستطع كأنه قابض عليه بقوة، فارتعشت جوارحها؛ لأنها تصورت الرجل حيا، فتقدم هانئ ونزع الكتاب بعنف وهو يقول: «يظهر أنه مات منذ هذا الصباح.» وناول الكتاب لمريم وهو لفافة من جلد فصاحت: «رسالة! رسالة من والدتي فلنقرأها!»
فوقف هانئ إلى جانبها، وأخذت تقرأ في ضوء القمر:
إلى الأمير عبد الرحمن سلام - أما بعد - فإني أكتب هذا الكتاب إليك عند الفجر والناس نيام، وقد بت بالأمس قريرة العين بما شاهدته من شجاعة العرب وتجددت آمالي بالنصر، ثم بلغني تدبير دبرته تلك المرأة المسماة ميمونة إذا وفقت إلى إتمامه كانت العاقبة وخيمة - لا سمح الله - وذلك أنها اجتمعت في هذا الليل بوالدها وأخبرته بما عليه رجال البربر من ضعف الإسلام والتعلق بالغنائم، وأشارت عليه إذا نشبت الحرب في هذا اليوم وخشي تقهقر الإفرنج أن يبعث بشرذمة من رجاله يسطون على مستودعات الغنائم في معسكركم، وأن يبعث أناسا عليهم ملابس العرب يصيحون في جندكم، أن الغنائم قد أخذت، وسيتولى ذلك عدلان البربري الأحول؛ لأنه يستطيع التنكر في مظهر عربي، وتكفل - قبحه الله - بقتل أدهم الأمير هانئ لتضعف الفرسان وهم أقوى جنودكم علمت بهذا التدبير من الشاب رودريك وسأرسل هذا الكتاب معه، ولكني أتوجس خيفة عليه من عدلان لئلا يفعل به كما فعل بجده، أو ربما أصابه نبل في أثناء ذهابه، ولا حيلة لي في تلافي ذلك إذ لا بد من إبلاغ هذا التدبير إليكم بالوسائل الممكنة فإذا أدرككم كتابي هذا في حينه ونفعكم ما فيه فإني ضامنة لكم النصر بإذن الله، وإلا فإني أخاف عليكم العاقبة، وإذا أخفق هذا المسعى - لا سمح الله - وقدر النصر للإفرنج فلن تقوم للعرب قائمة في هذه البلاد، أما أنا فقد أتممت المهمة التي انتدبت لها، ولا حاجة لأن أوصيك بمريم فإنها في رعايتك وإن كنت لا أرضى لها البقاء إذا انكسر العرب، ولا هي ترضاه لنفسها، وإذا فشل العرب ولم يقطعوا نهر لوار فلا قيمة للحياة، ولذلك فلا تطلبوني فإنكم لن تجدوني في أي مكان والملتقى في الدار الآخرة فإنها تجمع شتات المحبين والسلام.
وما أتت مريم على آخر الكتاب حتى وقف شعرها وارتعشت أناملها وغشى الدمع عينيها والتفتت إلى هانئ، فإذا هو مطرق يفكر، ثم رفع بصره إليها وقال: «قد علمت الآن سر الانقلاب الذي أصاب جندنا بعد أن كدنا نهزم الأعداء.»
فقالت: «لعن الله لمباجة وعدلان خادمها إذ لولاهما لكنا الآن في معسكر شارل وفي الصباح نقطع ذلك النهر.»
فقال: «العيب يا مريم مرجعه إلى جندنا فإنه متفرق الكلمة متباين الأغراض، وخصوصا أولئك البربر فإنهم لا يفهمون من الحرب غير السلب والنهب، ولولا دراية الأمير عبد الرحمن - رحمه الله - وحسن أسلوبه وسعة صدره ما استطعنا الوصول إلى هنا، وقد مات عبد الرحمن الآن ولا نعلم ما يصير إليه أمرنا بعد.»
فقالت: «نعم إن مقتل هذا الأمير خسارة كبرى، ولكننا لا ينبغي أن ننوء تحت هذا العبء، وإني أقدم نفسي لما تنتدبني إليه في هذه الحرب.»
قال: «يكفي منك تحريض الأمراء على الاتحاد والصبر، فقد رأيت من تأثير أقوالك في وقعة اليوم ما أدهشني.»
قالت: «لك علي ذلك؛ لأني إن لم يفز هذا الجند فلن يكون لي بقاء تلك هي وصية والدتي في هذا الكتاب.»
فقال: «وأنا هل أبقى وحدي؟ ولكني أرجو ألا نتعرض لهذه الأخطار، هلم بنا إلى المعسكر.» قال ذلك ومشى، فمشت مريم وهي لا تزال حاسرة الرأس مسترسلة الشعر لا تنتبه لنفسها حتى إذا اقتربا من المعسكر، لم يسمعا جعير الجمال ولا صهيل الخيل، ولا رأيا نارا ولا حركة ولا شيئا يدل على الجند مع أن الخيام كانت لا تزال باقية كما هي، فأسرع إلى فسطاط الأمير الكبير فإذا هو خال خاو، فخرجا منه إلى ما يجاوره وطلبا خيمة الأمير هانئ فوجداها خالية، وبالجملة فقد كان معسكر العرب كأنه خيام منصوبة في الصحراء لا إنسان فيها ولا دابة حتى ولا حشرة.
فقضيا برهة يتمشيان وهما صامتان من الدهشة والاستغراب ثم تكلم هانئ قائلا: «ما الذي أراه؟ أين ذهب الجند؟ أين الخدم؟ أتظنينهم ذهبوا نحو الأخبية ليجعلوا هذا النهر الصغير ترسا لهم في الدفاع؟»
قالت: «ربما فعلوا ذلك هل نذهب إلى الأخبية؟»
قال: «نذهب» وخرجا من بين الخيام كأنهما خارجان من مكان خرب حتى عبرا النهر الصغير إلى الأخبية فلم يجدا فيها أنيسا، فقال هانئ: «إذا فرضنا أن البربر جبنوا وفروا، فأين العرب؟ بل أين النساء والأولاد؟ ما أسرع نهوضهم وفرارهم يظهر أن وجود عبد الرحمن وحده كان جامعا لهم فلما مات، ماتت قلوبهم.»
ثم أطرق حينا لا يتكلم، وقلبه يكاد ينقطع حنقا ويأسا، لا يدري ماذا يقول، وقد حدثته نفسه بأمور كثيرة أكبر أن يذكرها، وكانت مريم تسير بجانبه لا تقول شيئا، وهي تكتم أمرا أجلت التصريح به حتى تسمع رأيه فيه، وبعد المسير مدة على مثل هذه الصورة بين الأخبية والخيام وكل منهما غارق في أفكاره يتعثر بالأطناب والأوتاد، قال هانئ: «يجب علينا قبل كل شيء أن نواري جثة أميرنا - رحمه الله - لئلا تذهب فريسة العقبان أو يمثل بها الأعداء.» قال ذلك وتحولا نحو ساحة المعركة فعرفا مكان الجثة من صهيل الجواد، فتعاونا في حملها على الفرس إلى حفرة في مكان منفرد، وضعاها فيه وأهالا عليها التراب ولم ينبس أحد منهما ببنت شفة، فكان لذلك الدفن على بساطته هيبة ووقار بما كان يضطرم في قلبيهما من نيران الحزن والأسف المريرين، فضلا عما كان يضطرم من نيران الحب ولواعج الغرام.
الفصل التاسع والسبعون
اللقاء الدائم
فرغا من الدفن وهما صامتان، وكان القمر قد تكبد السماء وأصبح نوره مثل نور النهار فقالت مريم: «وما العمل يا هانئ؟»
فتنهد هانئ وقال: «لو كان معي خمسون رجلا لهاجمت بهم هذين المعسكرين، على أن وحدتي لا تمنعني من الهجوم ولو كان فيه فنائي، ولكنني أخاف على مريم إذا أنا قتلت أن يلحق بها عار أو إهانة.»
فالتفتت إليه وقالت: «وهل تبقى مريم بعدك؟ ذلك لا يكون وقد قرأت وصية والدتي (وتنهدت) فإنها تحبب إلي اللقاء بها في الدار الآخرة، ولا أشك في أنها هناك الآن، فإذا كنت تحب مريم وتريد أن تطمئن على حياتها وعزها، فاسمح لي أن ألحق بوالدتي إذ لا فائدة من بقائي، وأما أنت فإن الإسلام يحتاج إليك والجهاد يفتقر إلى سيفك وذراعك.»
فلما سمع كلامها هاج غرامه حتى أنساه موقفه فقال: «إن الإسلام مفتقر إلى مثلك أكثر من افتقاره إلى مثلي إنك ابنة الملكين فقد حزت فضائل الجنسين والله لو صبر أولئك الجبناء وكنت أنت رائدهم في حومة الوغى لفازوا وقطعنا نهر لوار آه من هذا النهر لقد امتنع علينا عبوره فامتنع اجتماعنا أتطيعيني يا مريم؟»
قالت: «إني أطوع لك من بنانك إلا إذا أردت بقائي بعدك.»
قال: «لقد فشل جندنا، وفر من بقي منا حيا وفي الفرار بقاء ترتاح له نفس الجبان، وقد اجتمعنا الآن ولا رقيب علينا وكل منا يريد البقاء، ولا بقاء إلا بالفرار، ونفسي تأبى ذلك، ولا يخفى عليك يا منيتي أن فؤادينا قد ذابا تطلعا إلى اليوم الذي نقطع فيه ذلك النهر؛ لأن في قطعه اجتماعنا فما الذي يمنعنا من الاجتماع فيه الآن؟»
فقطعت كلامه قائلة: «في جوفه؟»
فقال: «بل في قاعه وإذا كنا معا فلا أبالي أين نكون ولا كيف نكون.» قال ذلك ووثب حتى ركب جواد عبد الرحمن وأمسك بيدها فأردفها وراءه وأركض الفرس وهي ممسكة بعباءته، واتجها نحو نهر لوار خارج مدينة تورس حتى وصلا إلى ضفة من الرمال تنكسر عليها مياه النهر بعد تموج ضعيف، وسطح النهر يتلألأ في ضوء القمر ويتلون، فترجلا عن الفرس وأطلقا له العنان فعاد إلى المعسكر، وظلا هناك منفردين والجو هادئ ساكن لا يسمع فيه غير خرير الماء ونقيق الضفادع، فخلعا نعالهما ومشيا على الرمل المرطب بالماء، ونزع هانئ عمامته وعباءته فأصبح حاسر الرأس والذراعين مثل مريم، وله ضفيرة كانت العمامة تغطيها فاسترسلت مثل ضفائر مريم، فمشيا على الرمل حتى أصبح تكسر المياه يصيب كعبيهما فوقفا هناك ومد هانئ يديه إلى مريم، قبض بهما على يمناها فأحس ببرودتها ولينها، ولم يشعر بقشعريرتها لانشغاله بقشعريرته، فضغط على يدها بكلتا يديه فارتعدت فرائصها جميعا، ولم تعد مريم تستطيع الوقوف لاصطكاك ركبتيها، فأسندت رأسها بيسراها على كتف هانئ، فأسكرتها رائحة عرقه كما أسكرته رائحة طيبها ولمس شعرها وجهه واشتبك بشعر لحيته، فأحس بقشعريرة دبت في جسمه دبيب النمل بين اللحم والعظم وخشي لشدة تأثره أن تخونه قدماه فيقع فأبقى يسراه قابضة على يمناها، وأدار يمناه إلى كتفها وتساندا وهما صامتان والهوى يتكلم، ثم رفعت رأسها عن كتفه ونظرت في وجهه، وعيناها ذابلتان من شدة التأثر وقد غشيهما الدمع وقالت بصوت مختنق: «أتحبني يا هانئ؟»
فأعاد يده الأخرى فأمسك يمناها بيديه وأدناها إلى صدره، وقد غلب عليه الحب ونسي مواقف القتال وقال: «نعم أحبك! أحبك!» قالت: «آه، ما ألطف الحب وما ألذه!» قال: «لا لذة بغير الاجتماع هل في الدنيا اثنان يتمتعان بألذ مما نحن فيه الآن؟ ضميني يا مريم يا حبيبتي ضميني إلى صدرك ألا تشعرين بخفقان قلبي؟ إني أشعر بدقات قلبك.» قال ذلك وإحدى يديه فوق كتفها والأخرى قابضة على يدها.
أما هي فرفعت بصرها إلى السماء فرأت القمر مشرقا إشراقا باهرا، وعلى وجهه رسم يشبه رأسين متقاربين كأنهما حبيبان يتعانقان فقالت: «إني أرى صورتنا قد ارتسمت على وجه القمر انظر يا هانئ، ألا ترى وجهين مثل وجهينا؟»
قال: «لا أرى في الدنيا من يشبهنا، ولا من حال تشبه حالنا.» وكانت مريم قد جفت دموعها فلما سمعت قوله تذكرت حالها فقالت وهي تغص بريقها: «إن حالنا عجيبة يا هانئ تمنينا الاجتماع وسعينا إليه فامتنع علينا، فلما التقينا ساءنا الاجتماع خوفا من الفراق.»
فأجابها وبصره شاخص في وجهها قائلا: «إني لا أرى ما يشفي غليلي بعد طول التحسر إلا أن نجتمع اجتماعا متواصلا لا يتخلله فراق ولا يكون ذلك إلا بالموت معا، هل تموتين معي يا مريم؟»
فالتفتت إليه ويدها ملتفة بيده إلى الكتف وعيناها ذابلتان ولو لم تتكلم هي لتكلمتا، ثم قالت: «الموت معك حياة يا حبيبي يا حبيبي آه ما ألذ هذا اللفظ، وكم كنت أتلذذ بتكراره في خلوتي وأتحسر على سماعه من فمك.»
قال: «صدقت ولا يعرف لذة هذا اللفظ غير المحبين، وقد كفانا من حبنا المتبادل التمتع بهذا اللفظ؛ لأننا مقيدان بعهود لا تجيز لنا ما وراءه، ولو كتب لنا النصر وقطعنا هذا النهر لكان اجتماعنا أطول وملذاتنا أكبر على أننا لم نكن مع ذلك نأمن الفراق ونكد العيش، والدنيا تأتي بالعجب العجاب أما الآن فإذا متنا متعانقين فكأننا عشنا الدهر معا ولم ينغص عيشنا فراق.»
قالت: «عجل إذن ولا تطل بنا الوقوف لئلا يحدث ما يحرمنا هذه السعادة.» قالت ذلك ومدت يدها إلى جيبها وأخرجت المحفظة ونظرت إليها لحظة ثم قبلتها وضمتها إلى صدرها وبكت وهي تقول: «أماه يا أماه وا لهفي عليك ما كان أشقاك قضيت العمر في التكتم والتستر والحذر ثم ذهبت قتيلة ذلك السر محافظة على عهد حبيبك وإكراما لوصيته، ولو عرفت ذلك من قبل لاستغربت منك هذا التعلق وأما الآن فقد ذقت طعم الحب فلا ألومك، بل أنا فاعلة مثل فعلك وها أنا ذا أتبع وصيتك.» ثم أعادت المحفظة إلى جيبها وهي تقول: «هذا سرك ذاهب معنا إلى غياهب الأبدية.»
وكان هانئ يسمع كلامها وهو يرقب حركات شفتيها وعينيها ويشاركها بكل جارحة من جوارحه، فلما فرغت من قولها أشار بعينيه إلى جسمها الغض وقال لها: «أليس غبنا أن تذهب هذه الأعضاء طعاما لأسماك البحر؟»
فقطعت كلامه قائلة: «ذلك خير لها من أن يفترسها وحوش البر الذين يسمون أنفسهم بنى الإنسان عجل يا هانئ قبل أن يغلب علينا حب البقاء.»
فمد يديه ومدت يديها، وتخاصرا من جانب وتماسكا من الجانب الآخر ومشيا على الرمل حتى غرقت أقدامهما في الماء فأحسا ببرده وبانزلاق الرمل تحت الأخمصين، وكانا كلما انغمرا في الماء ازدادا تعانقا وازدادا تجاذبا حتى أصبحا جسما واحدا، وغطسا في الماء وكل منهما يتلذذ بذكر اسم الآخر وبعد دقيقة بدا بعض الرأسين، والشعر سابح على سطح الماء، ثم غطسا إلى قاع النهر ولم يعد يعلم مصيرهما إلا الله.
أما جيش الإفرنج فإنهم أصبحوا في اليوم التالي وهم يتوقعون هجوم العرب عليهم، فرأوا الأرض قفرا والخيام خالية، فاستولوا على ما كان باقيا فيها من الغنائم وكان ذلك آخر عهدهم بالعرب هناك على ما دونه التاريخ.
صفحة غير معروفة